مسيرة تلميذي عماوس (3) – التنقية
بعد عملية التهيئة وتوافر الاشتياق لعمل علاقة مع الله وذلك بالقرع على بابه بمداومة ولجاجة. في اللقاء السابق توقفنا على أن أفضل بداية للدخول إلى العمق، هو ترديد كلمة أو جملة حب موجهة إلى أحد أشخاص الثالوث أو الثالوث في وحدته. نبدأ الآن في المرحلة الثانية للدخول إلى العمق، وهي الخطوة الأولى بأقدامنا العارية في المياه.
العمق الثاني: المياه إلى الركبتين (حزقيال 47: 3)
هي مرحلة تنقية لدواخل الإنسان من كل تلك الانشغالات التي تمنعه من معرفة الله معرفةً حقيقة. هي مرحلة التنقية لأنها تستلزم أن ينقي الإنسان نفسه ويفرغها من كل الإنشغالات والأعمال لعمل علاقة جادة مع الله.
في النص الإنجيلي الذي قرأناه نجد وصفًا ليوم عملي ليسوع يظهر فيه إنشغاله التام (يوم مدير المدرسة، الراعي في الرعية، المعلم والمدرس بالمعاهدالإكليريكية). الإضافة إلى ذلك، فبما أنه كان سيبقي في الجليل حتى اليوم التالي، وحيث إن خبره كان قد ذاع في المدن المحيطة، فنستطيع أن نتوقع أن اليوم التالي كان سيصبح مشغولاً أيضًا، تمامًا مثل الذي قبله إن لم يكن أكثر منه. هذا ما حدث في الآيات 36 و37.
“إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ”. كان الجميع يطلبونه، علم يسوع أن يومه سيكون مشغولاً، فماذا فعل؟ استيقط مبكرًا ليصلي: ” وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ”.
لا يمكن للإنسان الدخول إلى عمق ذاته واكتشاف ملكوت الله داخله إلا إذا ترك أولاً إنشغالاته واهتماماته، حتى الرسولية والتبشرية كما فعل يسوع. هي مرحلة الصمت والوحَدة مع الله. كان المسيح يعزل نفسه عن الجموع، ويُخصص وقتًا ليصمت ويتوحد مع أبيه.
هكذا كان القديس فرنسيس، نقرأ في السيرة الثانية لشيلانو 50: “كان دائم البحث عن أماكن منعزلة، حيث يمكنه أن يتّحد مع إلهه لا بالروح وحسب بل وبكل عضو من أعضاء جسده. وإذا أحسّ فجأة أنّ الربّ يزوره كان يصنع من ردائه صومعة صغيرة فلا يظلّ مكشوفا في العراء. وإذا لم يتوفّر له ذلك كان يغطّي وجهه بثوبه حتّى لا يكشف النقاب عن المنّ الخفي. كان يضع دائما شيئا ما بينه وبين الحاضرين حتّى لا يشعروا باللقاء مع العريس. وهكذا كان بوسعه أن يصلّي دون أن يشعر به أحد. حتّى وإن كان مزحوما في وسط ألف شخص يكون كالمنعزل في ركن سفينة. وحينما كان يستغرق في التأمّل في اللّه كان ينسى نفسه حتّى إنّه لم يكن يتنهّد ولا يسعل ولم يكن لنَفَسِهِ صوت تكدّر أو تأوّه بل وكانت تختفي كلّ علامة خارجيّة.
من أراد أن يدخل في علاقة عميقة مع الله، لا بّد له أن يدخل إلى عمق ذاته، وينعزل عن اهتماماته اليومية، ويدخل في مرحلة سكون. هكذا طلب تلميذي عماوس بإلحاح من يسوع أن يمكث معهما: “فتَمَسَّكا بِه وقالا: «أقِمْ مَعَنا، لأنَّ المَساءَ اَقتَرَبَ ومالَ النَّهارُ! » فدخَلَ ليُقيمَ مَعَهُما”. إذا تمسكَ بالله ورغبَ في الإقامة معه فإن عليك أن تنعزلَ وحدك معه في داخل كيانك. أن تبقى وحدك معه في صمتٍ وسكون لتسمع ماذا يود أن يقول لك. تشمل المرحلة الثانية (التنقية) ثلاث خطوات متتابعة: الصمت والسكون والإصغاء.
أولا: الصمت
الصمت وحده يقود الإنسان نحو الله. فالصمت هو طبيعة الله، ولهذا يُشدد العهد القديم على ضرورة صمت الإنسان لكي يدخل في عمق سرّ الله” اِسمع يا اسرائيل: الرّبُّ إلهُنا ربًّ واحدٌ” (التثنية 6: 4).
الصمت ليس كيانًا سلبيًا ولا فراغًا، ولا حتى غيابًا للحديث أو الكلمات لكنّه صوت إيجابيّ وحيويّ يُغذّي العقل، والتفكير، بحيث كلماتنا اللاحقة تكون أفضل. إنّه في الصمت الذي يمكن أن يكون انعكاسه بناء على الذات، على القيَم وعلى معنى الحياة. فالكلام المتواصل يتركنا بحالة من الجهل لذواتنا. وكثيرًا ما نخاف من الصمت، نخاف من تلك الفرصة أن نكون فيها مع أنفسنا ومن الدخول إلى عالمنا الداخلي. كلّ مَن يتطلّع إلى نموّ روحيّ يحتاج إلى إدراك قيمة الصمت كتمرين للروح. طريق الحكمة هو الصمت، كما قال لنا سليمان المَلِك: “من ضبط شفتيه فهو عاقل” (سفر الأمثال 10: 19).
الصمت سحابة تخبّىء سر علاقتنا بالرب
في الصمت وحده يكشف الله عن نفسه للإنسان. ففي البشارة قال الملاك لمريم: “إن الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ علَيكِ، وقُدرَةُ العليِّ تُظَلِّـلُكِ”، فكما حمى الله اليهود في الصحراء وظللهم بسحابة. : يولي الله دائمًا عناية خاصة بسرّ علاقته بالإنسان ويستره. أنّ الله يعمل في قلوبنا وروحنا وهو السحابة والقوة ونمط الروح القدس الذي يخفي سرّنا. وهذه السحابة الموجودة فينا هي الصمت: إنّ الصمت ليس سوى سحابة تخبّىء سر علاقتنا بالرب، قداستنا وخطيئتنا. لا يمكن تفسير هذا السر ولكن عندما نفقد الصمت في حياتنا يختفي هذا السر. حافظوا على سر الصمت! إنه السحابة وقوة الله لنا، إنه قوة الروح القدس (البابا فرنسيس).
مريم هي الأيقونة الكاملة للصمت: كم من المرات حافظت على الصمت ولم تتفوّه بما كانت تشعر به حتى تحتفظ بسر علاقتها مع ابنها. إنّ الانجيل لا يخبرنا سوى عن أربع مرات تكلمت فيها مريم، في البشارة، عند إليصابات، عند فقدان يسوع في الهيكل، وفي عُرس قانا الجليل. كانت مريم صامتةٌ وتحفظُ كلّ شيء في قلبها. حفظ سر علاقتها بالله بالصمت، وبصمتها جعلت هذا السر ينمو مترافقًا مع الرجاء (إذا أعلن العذراء سر علاقتها مع الله كان من الممكن أن ترجم هي وطفلها، هكذا كل علاقة مع الله هي علاقة سرية، إذا فقدت الصمت في حياتنا يختفي سر الله منها، تنقشع تلك السحابة، الروح الذي يُظللني، وأفقد قوة العليّ).
كذلك صمت زكريا هو درس بليغ مفاده أن صمت اللسان هو أولى الخطوات لكي يفتح القلب أبوابه للاستقبال نعمة الإيمان. ينظر كثير من الناس إلى صمت زكريا كعقاب له من الله لأنه شك في كلام الملاك.. وهذا ما يتبين فعلا… ولكن هذا العقاب أصبح فرصة لزكريا لكي يتأمل في كلام الله…. لم يكن قصاص انتقامي بل قصاص تعليمي وتربوي…. يدعونا للدخول إلى مدرسة الصمت والتأمل التي تخرج منها زكريا…. زكريا الإنسان الذي أنهكته الطقوس والصلوات والكلام الكثير في الهيكل، الله يقول له قف، ليس عليَّ أن أسمعك وحدك، عليك انت أيضًا أن تسمعني، فيسكت ويصمت ويتأمل بعمق ويرى حقيقة ما يجري…. زكريا يريد ان يكون هو الأول في الكلام والله دائما مستمعًا، ولكن الله كاب يعلم زكريا كيف يجب عليه كابن أن يسمع أولاً، ان يسمع لله أبيه.
يدعونا الله في هذه الخلوة، مع تلميذي عماوس، أن نقيم معه، أن نصمتَ لنسمعهُ، يُريد أن يكشف ذاته لنا، أن يتكلم معنا، فكلام الله معنا يبدأ دائما بطلبه أن نصمت: ” اِسمع يا اسرائيل..”
ثانيًا: السكون
لا يدعونا الله فقط أن نصمت، بل وأيضًا أن نستكين، يدعونا إلى السكون: “اسْتَكِينُوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ، أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ وَأَتَعَالَى فِي الأَرْضِ” (مزمور 45: 10). لا يمكن أن أدخل إلى عمق ذاتي وألتقي مع الله إلا إذا وصلتَ إلى مرحلة السكون، أو الوَحدة معه. “وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّيَ وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ” (متى 14: 23). المقصود بالسكون والوَحدَة أن نكون وحدنا، لا شيء آخر معنا، لا شيء يشغلنا، لا اهتمامات آخرى، كمريم أخت لعازر عند قدمي يسوع.
هي مرحلة صعبة تتطلب السيطرة على الحواس والأفكار. في هذه المرحلة المياهُ حتى الركبتين، هناك تيار المياه يقاوم الجسد، يحاول أن يقذفه فيعود إلى الشاطئ. كذلك الوصول إلى الذات واكتشاف الله وملكوت الله الساكن فينا، علينا أن يتغلب على صعوبات متنوعة. ففي سفر الأعمال، أخذا بولس وبرنابا في تشجيع التلاميذ على الثبات فكان يقولان لهم: “لا بُدَ مِنْ أنْ نَجتازَ كثيرًا مِنَ المَصاعبِ لنَدخُلَ مَلكوتَ الله” (أعمال 14: 22). لا دخول إلى ملكوتك الداخلي دون أن تصل إلى مرحلة السكون وَحدك مع الله.
لقد أصاب دوستويفسكي عندما قال أن قلب الإنسان هو ميدان حرب بين الله والشيطان. فقلب الإنسان فسحة حية. القلب يرفض الفراغ. بكلمات أخرى، لا يمكنه أن يعيش دون خيار: فإما أن يختار الخير وإما أن يختار الشر. أما أن يختار الله ليملء كيانه أو يملئه بذاته. من هنا تأتي الصعوبة في العلاقة مع الله. إذا أردنا أن نُقيم معه، علينا أن نستكين وَحدنا، أن نجتهد في أن لا ننشغلا بشيء آخر.
نصل إلى “السكون الصافي” في تلك الحجرة الداخلية، القلب. هذا المعنى للانطلاق كان معروفًا في الأدب النسكي لآباء الصحراء المصريين. فالراهب ليس شخصًا رجل جسديًا وخارجيًا إلى البرية، بل هو شخص قد بدأ الرحلة داخليًا، إلى داخل قلبه. ليس هو من قطع نفسه جسديًا من العلاقة بالآخرين بإغلاق باب قلايته، أو داخل أسوار ديره، بل هو هو ذلك الذي “يرجع إلى نفسه” بإغلاق باب ذهنه وأفكاره. لقد قيلت عبارة “رجع إلى نفسه” عن الابن المسرف (لو17:15)، وهذا ما يفعله الراهب الذي يحيا في “السكون”. وكما يقول القديس باسيليوس، “هو يرجع إلى نفسه؛ وهكذا برجوعه إلى الداخل، فإنه يصعد إلى الله”، وبهذه الطريقة فإن راهب الصمت هو شخص يستجيب لكلمات المسيح، ” ملكوت الله داخلكم” (لو21:17)، وهو يسعى أيضًا أن “يحفظ قلبه بكل يقظة وسهر” (انظر أم23:4). ”فيغوص داخل نفسه، ويكتشف في داخل نفسه، السلم الذي يؤدى إلى الملكوت”. فالعزلة هي حالة خاصة بالنفس، وليست مسألة مكان جغرافي، وأن البرية الحقيقية توجد داخل النفس.
أحيانًا عندما ننجح في الصمت لدقائق نُسرع في الصلاة لنملء الفراغ الذي نشعر به. ننسى إن الصلاة ليس كلام، فالله روحٌ، هي أساسًا ليست شيئًا أعمله أنا بل هي شئ يعمله الله في”، “… لا أنا، بل المسيح” (غلا20:2). يكف الإنسان عن نشاطه الذاتي، لا لكي يكون كسولًا متراخيًا، بل لكي يدخل في فاعلية الله. فسكونه وصمته ليس فارغًا وسلبيًا. وليس فترة توقف غير مثمرة بين الكلمات، أو راحة قصيرة قبل استئناف الكلام ـ بل سكونه إيجابي بقوة: فهو موقف انتباه يقظ، هو موقف سهر، وفوق كل شئ هو موقف “استعداد”.
تنشأ الصعوبات من الخوف من الصمت ذاته، الخوف من البقاء وحدنا، الخوف من الشعور بالفراغ، فنحاول أن نملئه بكثير من الكلمات والصلوات والابتهالات، في حين إن لغة الله هي الصمت، الذي من خلاله وحده يخاطب الإنسان.
إن اضطراب أفكارنا يمكن مقارنته بالعاصفة التي هزّت مركب التلاميذ في بحر الجليل بينما يسوع كان نائمًا. قد نكون بلا سند مثلهم ممتلئين من القلق وغير قادرين على تهدئة نفوسنا. لكن المسيح يمكنه أن يأتي إلينا ليعضدنا ويهدّئ قلوبنا عندما تموج بالخوف والقلق كما انتهر الريح والبحر، وبعدها “كان هدوءًا عظيمًا” ( مرقص 4).
لنبقى ساكنين وواضعين رجاءنا في الله. في أحد المزامير يظهر الصمت على أنه أحد أشكال التسبيح. لقد اعتدنا على قراءة مزمور 65: “ينبغي لك التسبيح يا الله” بحسب ترجمة النص من اللغة اليونانية، لكن في النص العبري نقرأ: “الصمت هو تسبيح لك يا الله”. عندما تنتهي كلماتنا وأفكارنا، فإن تسبيح الله يكون في صمت ودهشة وإعجاب.
فبالعودة إلى المزامير نكتشف نوع من الصلاة الصامتة، دون طلبات، أو حتى تسبيح. على سبيل المثال المزمور 131 لا يوجد فيه غير الهدوء والثقة: بل أُهَدِّئْ نفْسي وأُسكِتُها مِثلَ مَفطومِ في حِضْنِ أُمِّهِ، مِثلَ مَفطومِ أُهَدِّئْ نفْسي”.
أحيانًا تتحول الصلاة إلى صمت لأن الشركة والسلام مع الله يمكنهما الاستغناء عن الكلمات. “لقد هَدَّأتُ وسكَّنتُ نفسي كالطفل الفطيم مع أمه”. كالطفل الذي يشعر بالاكتفاء فيكف عن البكاء بين يدي أمه، هكذا نفسي في حضرة الله. حينئذ لا تحتاج الصلاة إلى كلمات، وربما لا تحتاج حتى إلى أفكار. فالطفل الذي لم يتعلم الكلام، يكون سعيد فقط بالنظر إلى أمه. لا نحتاج إلى الكلام، بل أن نهدئ النفس ونسكتها، نسعى إلى حالة السكون، وننظر فقط إلى الله كمفطوم في حجر أمه.
حضور الله يكون في أوقات صمت، ففي نسمات الصمت كان حاضرًا لإيليا. عندما يصبح صوت الله “صوت من السكون المطبق”، فهو يصبح أكثر تأثيرًا في تغيير قلوبنا. السكون المفاجئ كان على أغلب الظن أكثر مهابة من العاصفة والرعد. إن استعلان الله في مجد عظمته وقوة جبروته كان مألوفًا بالنسبة لإيليا نوعًا ما، ولكن صمت الله كان مربكًا لأنه كان مختلفًا تمامًا عما عرفه قبلًا.
ثالثًا: الله صامت ولكنه يتكلم.. واجب الإنسان هو الإصغاء
يروى لنا توما الشيلاني خبرة المغارة التي كان يلجأ إليها فرنسيس في المراحل الأولى لدعوته: “إنسحب بعد ذلك من الاحتفالات والتجارة الدنيويّة، وسعى إلى أن يجعل يسوع المسيح يُقيم فيه… وكانت هناك مغارة بالقرب من المدينة… وحين خرج منها وعاد إلى رفاقه، كان مرهقًا تعبًا لدرجة الاعتقاد بأنّ شخصًا دخلها وآخر خرج منها”. عندما صمتَ فرنسيس ووصل إلى الوَحدة مع الله، كلمه مصلوب سان دميانو. عندما ندخل في حالة السكون اللطيف وننتظر بترقب سيحادثنا الله، عندها يجب أن نصغي.
في حبقوق 2: 1- 2: ” أقِفُ على مَرصَدي وأنتَصِبُ على حِصْني وأرقُبُ لأرى ماذا يقولُ ليَ الرّبُّ، وماذا يُجيبُ عَنْ شكوايَ. 2فأجابَني الرّبُّ: «أُكتُبْ هذِهِ الرُّؤْيا واَنْقُشْها على الألواحِ حتى تَسهُلُ قِراءَتُها”
اسم حبقوق يعنى: “عِنَاق”. يعاتب الله الذي لا يسمعه وهو في حضنه، كالطفل في حضن والده، “إلى متى يا ربُّ أستَغيثُ ولا تَسمعُ؟ إلى متى أصرخُ إليكَ مِنَ الجورِ ولا تُخلِّصُ؟”. تكلم وصرخ إلى الله في شكواه من الظلم، لكنه لم يسمع صوت الله إلا عندما سَّكَنَ في حضنه.
في الصمت والسكون يترقب الإنسان صوت الله الذي يُسمع في القلوب، كما لو كان تدفق من الأفكار التلقائية. لقد تعلم حبقوق انه لكى يسمع في السكون الصوت الإلهى من أفكار تلقائية ومشاعر داخلية. يجب عليه أولا ان يذهب الى مكان ساكن وهادىء ليسكن افكاره و انفعالاته. وهذا ما تكلمنا عنه في النقاط السابقة. يراقب الإنسان تلك الأفكار المتدفقة التي تأتي من الله. لأن الأفكار التلقائية تأتي من مصدر تركيز الإنسان. فإذا ركز على بعض الرغبات، ستأتي الأفكار من تلك الرغبات. وإذا تم تركيزها على المسيح، ستأتي الأفكار متدفقة منه، يسمعها الإنسان ويعمل بها. ترديد الإسم الإلهي في هذه المرحلة يساعد على تدفق الأفكار التلقائية. لهذا يلوم أحد تلميذي عماوس نفسه، قائلًا: “فقالَ أحدُهُما للآخَرِ: «أما كانَ قَلبُنا مُتَّقِدًا في صَدْرِنا، حينَ حَدَّثَنا في الطَّريقِ وشرَحَ لنا الكُتُبَ المُقدَّسَةَ؟ (لوقا 24: 32).
أرى ماذا يقولُ ليَ الرّبُّ”: يفتح الله عيون قلب الإنسان ليري رؤى، ليكشف له عما يريد منه أن يفعل. فبعد أن صلى حبقوق يجاوبه الرب قائلا: “فأجابَني الرّبُّ: «أُكتُبْ هذِهِ الرُّؤْيا”. والمسيح أظهر ذلك من خلال صلاته الصامتة في أوقات أختلائه مع الآب: “لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الابنَ ويُريه جَميعَ ما يَفعَل وسيُرِيه أَعْمالًا أَعظَمَ فتَعجَبون” (يوحنا 5: 20). هكذا كشف الله لفرنسيس عن إرادته في حلم أو رؤية: “وفي إحدى الليالي وبينما كان نائما سمع صوتا كان يلحّ عليه بالسؤال عن وجهته. فعرض عليه فرنسيس نيّته في الرحيل إلى پوليا ليشارك في المعركة. وإذا بالصوت يزيد إلحاحا ويسأله عمّن بوسعه أن يكون ذا فائدة أكبر له السيّد أم العبد. فأجاب فرنسيس: «السيّد». فسأله الصوت: «لمَ إذن تبحث عن العبد عوض السيّد؟«
أجاب فرنسيس: «ماذا تريدني أن أفعل يا رب؟».
يُحادث الله الإنسان بهذه الطريقة، على مثال يوسف خطيب مريم: “وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: «يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابنًا فسَمِّهِ يسوع” (متى 1: 20). وفي أحيان أخرى يفتح الرب بصائر (عيون) القلب ليكشف إرادته للإنسان: وأنْ يُنيرَ بَصائِرَ قُلوبِكُم لِتُدرِكوا إلى أيِّ رَجاءٍ دعاكُم وأيَ كُنوزِ مَجدٍ جَعَلَها لكُم ميراثًا بَينَ القِدِّيسينَ (أفسس 1: 18).
“واَنْقُشْها على الألواحِ حتى تَسهُلُ قِراءَتُها”: طلب الرب من حبقوق أن يسجل الروية وينقشها على لوح. فكل الكتاب المقدس تم بهذه الطريقة، كالمزامير مثلا. عملية التسجيل اليومي هي لا غنى عنها لتمييز صوت الرب بوضوح. وكتابة الخبرة الروحية، كالقديس تريزا للطفل يسوع، لا تأتي مباشرة، بل بعد فترة طويلة من الوقت، بعد أن يتم تمييزها، واختبارها إنها متوافقة مع كلمة الله. مع ملاحظة إن الأمر يأتي تلقائيًا، فلا نأخذ الأمر جديًا فوق المعتاد، لئلا نكون مشدودين وسيفتقد الإنسان روح الألهام.
كل علم أو فن يتطلب شروطًا صعبة وجادة لإكتسابه، فالفنان يخضع لساعات طوال للتدريب المستمر والمتكرر لأجل أن يكتسب تقنيه أو مهارة أو صناعة خاصة لفنه. هكذا الصمت والصلاة تتطلب الجدية للحصول على مهارة تسمح للشخص بامتلاك فن الصمت في الصلاة لسماع صوت الله. فالصلاة الصامتة تحتاج الى الجدية عن طريق أعمال مناسبة وموافقة حتى يتسنى للإنسان الوصول الى أن يكون أبنًا للصلاة الصامتة، وأن يجيد فنها.
علينا أن نتواضع وأن نقر بصعوبة الدخول فى حياة الصمت والأصغاء الحقيقي، وأن كان ليست بمستحيل. فالإقرار بالصعوبة لايعنى استحالتها كما أنه لايترك مجالًا للتساهل أو التهاون. ومما يزيد من صعوبة الدخول فى حياة الإصغاء هو صعوبة المشاغل والمشغوليات المتراكمة والمتزاحمة الموجودة فى كيان الإنسان على عقله أثناء صمته في الصلاة، وبالتالى يتطلب مجهودًا كبيرًا من المصلى لكى يتجاوز هذه التجربة ويركز فيها بإمعان. فإذا ضعف الإنسان المصلى أمام هجوم مجموعة الأفكار عليه أثناء الإصغاء في صلاته، ولم يستطيع أن يتصدى لها، عليه أن يقدم مثل هذه الافكار كمادة صلاة إلى الآب السماوى، باسم الابن الحبيب يسوع المسيح. وسوف نرى أن الروح القدس يتقبل هذه الصلاة كهدية من المؤمن، ويعمل على تحقيقها، فإذا كانت هناك أفكارًا للنجاسة أو للشر، قام الروح القدس بعمليه تطهير للذهن وللقلب من هذا الشر، واذا كانت رغبات مقدسة وطموحات تبغى الفائدة العامة، ينهض الروح القدس لمساعدة المصلى على تحقيقها. “التأمل هو حوار صداقة… نجريه غالبًا على انفراد مع مَن نعرف أنه يحبنا” (القديسة تريز الآفيلية(
في التأمل يصبح الحديث صامتًا ويتحوّل إلى نوع من الانتباه الودّي نحو يسوع، ذلك الانتباه الودّي الذي يجب أن يتروحن دومًا وأن يصبح إرادة هادئة وعازمة على الحياة والتألم من أجله” (من كتاب مع يوحنا للصليب، ص64).
إذا تأملنا في صلاة حبقوق “معانق الله” نجد إن الله لم يحل مشكلاته، لم يزهر التين، والكروم، والحظائر فارغة دون غنم وبقر. الذي تغير هو حبقوق. الدخول إلى العمق في العلاقة مع الله، لن تغير الظروف التي من الممكن أن تتعقد، ستغيرك أنت من الداخل.
هل تريد أن تدخل إلى العمق: هَدِّئْ نفْسك وأُسكِتُها بين يدي الله