تاريخ الحياة المكرسة (12): أغسطينوس
القديس أغسطينوس
لقد أُعلِنَ القديس أغسطينوس (354- 430) أبّا اللاهوت الغربي، وأعظم معلّم في الكنيسة قاطبة. فدراساته اللاهوتية مازلت إلى اليوم مستودعًا اللاهوت الذي يغرف منه الشرق والغرب على السواء. تم قبول تعاليمه اللاهوتية في مجالات عدة كتعليم نهائية وجامعة للكنيسة: كلاهوت الخليقة، ومشكلة الشر، وعلم الكنيسة، وفضيلة الإيمان، والإسكاتولوجيا، والثالوث الأقدس، ولاهوت النعمة.
ولد فى تاغست (سوف أهراس بالجزائر)، كان طالبًا ثم استاذًا بقرطاج. إرتبط بسيدة وأنجب ولدًا غير شرعي. عندما كان ابن ثمان عشرة سنة، اكتشف ميولهُ الفلسفية عن طريق قراءته لشيشيرون؛ بعدها بوقت قصير صار مانوياً، وهي ديانة من أصل فارسي انتشرت في شمال افريقيا.
منذ عام 373 عمل مدرّساً للقواعد والبلاغة في تاغست ثم في قرطاجة. سافر إلى روما العام 383م حيث كان يأمل بحظ أوفر في عملهِ. في عام 384 ذهب إلى ميلانو حيث نال بفضل مساعدة بعض الأصدقاء المانويين، منصب المدّرس الأول لعلم البلاغة. بحث هناك عن الحقيقة من خلال الفلسفات المختلفة، خاصة المانوية. كانت هذه الخبرة في ميلانو أحدى أهم خبرات أغسطينوس، حيث التقى بأسقف المدينة أمبروسيوس، و تعلَّم منهُ التفسير المجازي للكتاب المقدس واكتشف كتابات الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد، وخاصة أفلوطين. كل هذا أسهم في اهتدائه إلى المسيحية. وهكذا صار أغسطينوس موعوظاً عام 385 ونال سر المعمودية عن يدي أمبروسيوس عام 387.
تأسيس أغسطينوس لنمط رهباني جديد
كانت لدي أغسطينوس فكرة مسبقة عن الحياة الرهبانية نتيجة لقراءته لسيرة القديس أنطونيوس وبعد إهتدائه تعرف على الأنماط الحياتية للنساك الرومان فى أنحاء روما وعلى روح المحبة التى تعم أفرادها، كما تعرف على الحياة الرهبانية في ميلانو في صيف 386م. تخلى عن ممتلكاته بعد عودته إلى الوطن وإنزوى مع مجموعة من الأصدقاء (كذلك ابنه أديودات) في عزلةٍ نسكيّةٍ مركزها يسوع المسيح ودراسة الكتاب المقدس فى نمط حياة قريبة من الشركة الباخومية. استمرت هذه الخبرة الثلاث سنوات وكانت هذه هى أولى خبراته الرهبانية. سُيم كاهنًا بعدها فى مدينة هيبونا Ippona بناء على رغبة أسقفها، وهناك أنشاء ديره الأول وكان أعضاء الجماعة يُسمَّون: “خدام الله”، وقد جعلوا كل ممتلكاتهم مشتركة، مطبقًا بذلك حياة الرُسل الأوائل. أسس أيضًا أغسطينوس ديرًا للنساء واضعًا لهن نفس القانون الذى كتبة لرهبانه.
عندما صار أسقفًا في العام 395م، حول بيته الأسقفي إلى ديرٍ، وألح على الحياة الجماعية والتخلي عن كل الممتلكات الشخصية. وجعل هذا الأمر شرطًا لرسامة الكهنة في إيبارشيته. يُعد هذا الدير هو الأول في تاريخ الحياة الرهبانية للكهنة القانونيين. وكانت إحدى دوافع القديس أغسطينوس في الإلحاح على الحياة الجماعية هي الفقر الشخصي وعدم الزواج، اللذان يعودان بالنفع على الدعم المتبادل لرجال الإكليروس لعيش نذر البتولية والتفرغ للدراسة والتعمق مما يعود بالفائدة في مجال الكرازة. ومع ذلك، كما يشير بويّيه: “تركت هذه الحياة المشتركة تدريجيًا غايتها لتتوجه نحو مثاليةٍ راعوية في الخدمة”.
قامت أديرة القديس أغسطينوس على المحبة والوحدة الجماعية بين أفرادها. وتعكس أول سطور قانونه الموجه لرهبانه هذه الحقيقة حيث يقول: “السبب الأساسي لإجتماعكم معا في وحدة كاملة فى الدير هو العيش بروحً واحدة وقلبًا واحدًا فى المسيح”. إذا كان قانون باسيليوس يركز على العمل بوصيتى المحبة تجاه الله وتجاه القريب، فإن قانون أغسطينوس يركز على الوحدة بين أعضاء الكنيسة خاصة أعضاء جماعتة الرهبانية. وإذا كان باسيليوس يرغب فى أن تكون جماعتة جزءًا من الكنيسة وأن تعمل في إطارها ، فإن أغسطينوس ربط جماعته الرهبانية بسر الثالوث مباشرة. فالروح الواحد هو ثمرة الحب المتبادل الذي يوحد المجموعة هذا الحب الذي يمكنها من الولوج إلى عمق أعماق الثالوث.
فكر أغسطينوس النسكي
تُنسب إلى القديس أغسطينوس ثلاثة مقالاتٍ عن الحياة النسكية: الأوامر، والتكريس، والنظام الديري. الأوامر، أو قواعد خدمة الله، كُتِبَ لأجل جماعة الرهبانية في هيبون في العام 397. التكريس موجّه إلى جماعة عذارى في هيبون. أما النظام الديري فهي قوانين القديس المُنظمة للحياة الرهبانية.
يرتبط مفهوم القديس أغسطينوس للحياة النسكية بنظام الحياة الرسولية الذي نجده في أعمال الرسل 4: 32- 35. فهو يحثُ أعضاء جماعته على أن يكونوا قلبًا واحدًا وفكرًا واحدًا في الله، لأن غاية قدومهم معًا هو عَيش المحبة الأخوية. ويستفيض معطيًا تفسيرًا خاص للكلمة اليونانية مونوس، التي تعني واحّد أو وحيد أو متوحِّد: فالكلمة لا تشير إلى “واحدًا وحده”، أكثر من الوحدة التي لا تتحقق إلا بالذي يعيشون معا فيشكلون شخصًا واحدًا، ويملكون حقًا ما تقوله النصوص المقدسة: “قلبًا واحدًا وفكرًا واحدًا”، يستحقون بجدارة أن يُسمّوا مونوس، أي واحدًا وحيدًا.
في معالجته مسألة الحياة العملية والتأملية موضحًا إنهم قوتان موضوعتان أمام النفس البشرية. تتعلق الأولى بحياة الإنسان الفانية على الأرض، التي يعيشها بالإيمان. أما الحياة التأملية فمخصصة للأبدية، حيث تتمتع إرادة الإنسان بالتأمل الأبدي لله. يُعلم بأن ما من إنسانٍ يستطيع أن يكون عمليًا بشكل كامل أو تأمليًا بشكلٍ كامل، بل إن هذين النمطين من العمليات يتناوبان في حياة الأفراد.
يحقق الإنسان من خلال الأولى تقدمًا في حياته الروحية، ويبلغ من خلال الثانية هدفه من الحياة. بالقوة العملية يكدّ لينقّي قلبه من أجل رؤية الله، وبالقوة التأملية يكون في راحةٍ ينظر إلى الله. لذلك تقوم الأولى على حفظ الوصايا التي علينا بموجبها أن نكافح في هذه الحياة الزمنية، في حين تملأنا الأخرى بالحقائق في شأن الحياة الأبدية القادمة. تدخل القوة العملية في صراع، بينما تتمتع القوة التأملية بالراحة.
حين يقارن القديس أغسطينوس الحياة العملية مع الحياة التأملية، كما يفعل حين يتكلم على مرتا ومريم، لا يتردد في إعطاء الأفضلية للحياة التأملية. يقصر أغسطينوس حياة التأمل على دراسة الحقيقة، أما الحياة العملية فهي المُكرسة للشؤون البشرية. ويحذر أغسطينوس من إنه لا يحق للإنسان أن يعيش حياة تأملٍ تجعله ينسى واجبه في خدمة قريبه، ولا يحق لإنسانٍ أن يغوص في الحياة العملية فيهمل تأمل الله. لذا استبط القديس نمطًا ثالثًا يجمع بين الحياتين معًا وهو النمط الذي اختاره لرهبانه.
فكر أغسطينوس اللاهوتي
طور أغسطينوس لاهوت حياة روحية متأصِّلا في المحبة، ومكتمِلاً بالحكمة، ومتّحِدًا بالمسيح والكنيسة. ولفهم تعليمه، من المفيد أن نعرض بإيجازٍ عقيدة الخطيئة الأصلية ضد بلاجيوس، لأهميتها في فهم فكر القديس وأثره على الحياة النسكية.
نادي بيلاجيوس باستقلال الحرة البشرية، فالإنسان وُلِدَ حرًّا، هي هبة من الله ولا يوجد الإنسان بدونها. وبالرغم من منح الله الإنسان هذه الحرية، فإنه لا يستطيع أن يتدخل من دون أن يدمرها. فالإنسان هو سيد نفسه، وحريته هي العامل الحاسم الوحيد لأفعاله، فسواء اختار الخير أو الشر، فإنّ الفعل ينبع كلّيّةً من حرية اختياره. لهذا فإن الإنسان صالح في تكوينه، وإرادته وحدها تكفي لتحفظه بدون خطيئة. فالنعمة بالنسبة إلى البيلاجيّين ليست مبدأً للحياة الإلهية داخل النفس ولا قوّةً تؤثر في قدرات الإنسان، فالمشيئة والفعل هما كلية بين يدي الإنسان. فالقداسة هي في متناول الإنسان متى أراد.
قدمَ أغسطينوس لاهوتًا متكاملاً عن النعمة والخطيئة الأصلية، واعتنقت الكنيسة بشرقها وغربه فكره الذي يمكن أن نلخصه فيما يلي: خلق الله الإنسان في حالة البراءة الكاملة، وزوده بهباتٍ فائقة الطبيعة وهي الخلود، وعدم التعرض للمرض والموت، والصلاح الكامل. كانت حالتهما مع الخطيئة هي امتلاك عدم الخطيئة. على الرغم من تلك الهبات ارتكب الإنسان الخطيئة لأنه مخلوق، مُعّرّضٌ للتغيير، وبالتالي قادر على الابتعاد عن خيره الحقيقي. إن جذور الخطيئة كانت الكبرياء: لقد أراد أن يكون سيد نفسه. ونتيجة لسقطته، وضِعَ آدم في حالة الاستعداد للخطيئة. لقد تغير حبه لله إلى حبه إلى نفسه ومالت إرادته نحو الشرّ.
بعد الخطيئة الأصلية، صار بقلب الإنسان توقٌ لا ينتهي إلى الله وإلى الخير، لكن حريته لعمل الخير فُقِدَت. لذلك، وبدون معونة الله، يستطيع الإنسان أن يخطئ فقط. فالتبرير والخلاص هما عمل الله حصرًا. يأتي التبرير بالإيمان بيسوع المسيح وفيض الروح القدس. هناك تأتي مسئولية الإنسان: فالاستجابة لفيض الروح القدس لا يأتي إلا من خلال التواضع وممارسة الصلاة والإيمان. والتجاوب مع عمل النعمة يأتي من خلال الالتزام بالمحبة التي تثمر أعمالاً صالحة. فالمحبة هي جوهر الكمال المسيحي التي تتلخص في محبة الله لأجل ذاته، ومحبة الذات والقريب لأنهما من الله.
تأثير أغسطينوس في الحياة الرهبانية
كان تأثير القديس أغسطينوس في النسك واسعًا، خصوصًا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. فقوانين القديس بندكتوس تحوي آثارًا للعقيدة الأغسطينية. كما تُظهر القوانين اللاحقة لقانون بندكتوس قد تأثرت بفكر القديس أغسطينوس، ليس فقط من قانونه، لكن من مؤلفاته الغزيرة أيضًا.
ساهم اهتمام القديس أغسطينوس بالعلاقات الأخوية، بصفة خاصة، في بلورت فكر القديس بندكتوس عن نظام الحياة الجماعية. لذلك قيل صوابًا إن الحياة النسكية الغربية دخلت مع قوانين القديس أغسطينوس في الطريق الذي سلكه مبارك[1]
[1] جوردان أومان، دليل إلى قراءة تاريخ الرُّوحانية….، ص 91.