تاريخ الحياة المكرسة (21): المُكرسات في القرن الثامن عشر
تطور الحياة المكرسة النسائية
كان للنساء دومًا دورًا مكملاً للرجال في نشأة وتطور الحياة المكرسة. فالظروف الاجتماعية والثقافية لم تسمح للنساء بحرية التعبير عن تكريسهن في أنماط خاصة بهن. فقد كانت المهمة مفوضة فقط للرجال فقد أسس باخميوس وباسيليوس وبندكتوس أديرة للنساء طبقوا فيها قوانينهم المعدة أساسًا للرهبان. وهذا لم يمنع من ظهور قديسات كان لهن أعظم الأثر في تطور الحياة المكرسة مثل ماكرينا أخت باسيليوس ومريم أخت باخميوس وسكولاستيكا أخت بندكتوس وأخيرًا كلارا الأسيزية. أتاحت أخيرًا النهضة الثقافية في أوربا للمرأة حرية التعبير عن أفكارها ورغباتها فظهرت بذلك العديد من النساء اللواتى كان لهنَّ تأثيرًا واضحًا فى استقلال أديرة النساء عن أديرة الرجال، وأسّسنَّ أنماطا خاصة بهنَّ بمعزل عن أديرة وقوانيين الرجال. إلا الخبرة الروحية للمرأة ظلت دائمًا أسيرة أسوار الأديرة ولم تخرج إلى العالم إلا في وقت متأخر فقد كان هناك اعتقاد شائع بأن المرأة تحتاج “أما إلى دير وأما إلى زوج”، ولذلك أضطرت الراهبات الأرسولينيات Ursaulines اللواتى أسستهن أنجيلا دى ميرتشي Angele de Merici وراهبات الزيارة اللواتى أسّستهن فرانسوا دى سال وجان دى شتنتال إلى الاعتكاف أديرة محصنة[1].
أ) أنجيلا دى ميرتشي والراهبات الأرسوليات
“رفيقات القديسة أورسولا” compagnia di s. Orsola والتي أسستهن القديسة آنجيلا دى ميرتشي، كنَّ أول أشكال الحياة المكرسة النسائية المستقلة عن الرجال. ففى وسط أجواء الحرب بين فرنسا وإيطاليا وما حملتة من فساد عام في الأخلاق والحياة المسحية ظهرت آنجيلا دى ميرتشي († 1474- 1540) وعملت على مساعدة الفتيات فى نوال تربية مسيحية لائقة. أنشأت أنجيلا في مدينة “بريشا” بيتًا للمُكَرَّسات كانت مهمته هي رعاية الفتيات وخدمتهن خدمات روحـــيـــة وتـــكــويــنــيــة، أي أن يكون بيت لمُكرسات خدمة التكوين الديني. كان الهدف هو تعليم الفتيات للارتقاء بمستواهنَّ الروحي والتكويني وإعدادهنَّ لدعوات الزواج والأمومة والحفاظ عليهنَّ بعيدًا عن الرزيلة وعيش حياةٍ مسيحيةٍ لائقة.
شاركت مع مجموعة من العذارى واتفقت معهنَّ على اتخاذ اسم القديسة “أورسولا”، شفيعة الأيتام وشفيعتها الخاصة، اسمًا للجماعة الوليدة التي أهتمت أيضًا بالخدمة ورعاية المرضى والمتألمين. القائمات على الخدمة مُكَرَّسات يعيشن في منازلهن (في العالم)، وينتظمن في اجتماعات الصلاة والتأمل والرياضات الروحية والاسترشاد الروحي بنفسٍ واحدة من أجل تنمية قدراتهن على الخدمة. بعد أربع سنوات من تأسيس جماعة القديسة أورسولا صار عدد المكرسات 28. قدمّنَّ أولئك العذارى نمطًا جديدًا للفتاة المكرسة لله وسط العالم، ولذا حافظنَّ الأرسوليات على نذر العفة فقط، دون أن يتخذنَّ ثوبًا رهبانيًا مميزًا في بداية الآمر.
كان لهنَّ تأثير قويًا في أوساط الفتيات والعائلات. فقدمنَّ شهادة لعيش حياةٍ مسيحيةٍ حقيقية وسط العالم. كانت هذه هي البذرة الأولى لظهور الفتاة العلمانية المكرسة لله وسط العالم. إلا أن محاولاتهنَّ هذه اصطدمت بمعارضة الأساقفة، ففُرِضَتْ عليهنَّ، زيًا موحدًا لتميزهنَّ؛ حياةً جماعيةً فى أديرةٍ محصنةٍ. فقد كان من غير المتصور وقتئد عيش نذر العذرية وسط العالم “فأما الزواج أو الدير”. أجهضت بذلك فكرة وجود مكرسات يعشنَّ في وسط العالم، تلك الفكرة التي ستتحقق في القرن العشرين.
وضعت الأخت آنجيلا ميرتشي قواعداً لجماعة الأورسولينيّات، حيث نذر الفقر والطاعة والعفّة, كما توسّع نشاط الجماعة مع زيادة عدد المكرسات وافتتاح مدارس ودر أيتام جديدة تقوم بالتكوين الروحي للفتيات.
في عام 1537م انتخبت بالإجماع أمًّا لجماعة الأورسولينيّات مدى الحياة، وأضافت قواعد أخرى لحياة عضوات الجماعة. وقد أقرّ البابا بولس الثالث قواعد جماعتها الرسولية عام 1544م (بعد وفاتها بأربع سنوات)، وأصبحت جماعة مُعتَرَف بها كنسيًا عام 1546م. انتشرت حاليًا أفرع جماعتها الخدمية لتشمل الأميركتين الشمالية والجنوبية. أعلن البابا كليمنت الثامن آنجيلا ميرتشي طوباوية عام 1768م. وتم إعلان قداستها عن يد البابا بيوس السابع عام 1807م. تعتبرها الكنيسة شفيعة الأيتام والمرضى والمُعاقين وخُدّام التكوين الديني.
ب) مارى ورد
تعد مارى ورد أول مكرسة تخرج خارج أسوار الدير للقيام بأعمال المحبة ومساعدة الفقراء. كان هدف مارى ورد هو مساعدة بنات جنسها في عيش الإنجيل المقدس، فكرست حياتها لأعمال المحبة. كان هذه النوعية من الخدمات قاصرة على الرهبان الرجال. جمعت مارى ورد، وهي في سن الرابعة والعشرين، جماعة من المُكرسات تجولنَّ في كلِ مكان، داعيات الناس إلى الإهتداء والعودة إلى القيم الإنجيلية، يعظنَّ الجميع، حتى رجال الأكليروس والأساقفة بضرورة العودة إلى الينابيع الإنجيلية. في مرحلة تالية، رافقهنَّ أحيانًا رجالاً يؤمنون برسالهنَّ. لم تتقيد المكرسات بثوب رهباني مميز، بل أرتدينَّ ثياب النبيلات والفقيرات وفقًا لمتطلبات الرسالة والعمل الرعوي.
في العام 1609 أسسوا لأنفسهنَّ جماعة في سانت اومير وفتحنَّ مدارس للبنات. وبالرغم من النجاح الكبير، أثارت الجماعة الوليدة جدلاً حادًا، لأن حقل الخدمة كان قاصرًا على الرجال، مثلما تعرضت آنجيلا ميرتشي سابقًا. في ذلك الوقت، وكان يقتصر عمل المكرسات، في حقل التعليم والعناية بالمرضى، على تلك المدارس والمستشفيات التابعة للأديرة.
أصدر البابا بيوس الخامس (1566- 1572) مرسومًا يُحدد الشروط التي يجب توافرها في الجماعات الرهبانية النسائية التي أهمها: إبراز النذور الرهبانية والحصن الديري. وقَفَ هذا المرسوم عائقًا أمام حصول مارى ورد على مصادقة الكرسي الرسولي على جماعتها الناشئة. أسّست مارى العديد من المدارس المجانية للفقراء وملاجئ الأيتام بلندن، ثم سافرت إلى نيويورك حيث توفيت في العام 1645. لم يعترف الكرسي الرسولي بما قامت به مارى ورد إلا في العام 1909.
ج) لويزا دى مارياك وبنات المحبة
أَسّس القديس منصور دى ﭘول بالاشتراك مع لويزا دى مارياك (1591-1669) جمعية بنات المحبة لخدمة الفقراء. كن يتجولنَّ في القرى وضواحي المُدن، مثل رفيقات مارى ورد، بعيدأ عن الأديرة المُحصنة، لتدريس الفتيات الفقيرات القراءة والخياطة وحسن التصرف والسلوك، وانقاذ اللقطاء من الشوارع، وخدمة المرضى في المستشفيات. لأجل الوصول إلى هذا الهدف تّخلينَّ الأخوات عن الحالة الرهبانية وبقينَّ علمانيات يقمنَّ بالخدمة ويعظنَّ بملكوت الله وينشرنَّ المحبة المسيحية. هذا ما أكده القديس منصور دى ﭘول بقوله: “من الخطأ إعتبارمن راهبات لان مكان الراهبات هو الآديرة المحصنة ولكن بنات المحبة يذهبن حيثما يوجد الفقراء ، بيحثن بأنقسهم عن الخروف الضال”[2]. أقمن أعضاء الجمعية فى منازل مؤجرة وسط الفقراء وكن يذهبنَّ إلى أقرب كنيسة ويكرسنَّ وقتُهنَّ لخدمة الفقراء والمحتاجين.
د) الجمعيات الرهبانية فى القرن الثامن عشر
حملت شمس العقد الأول من القرن الثامن عشر تطورًا جديدًا في نظام الحياة المكرسة فتأسّس الكثير من الجمعيات الرهبانية ذات النذور الرهبانية البسيطة، والتي لايعد ناذرها راهبًا بالمعنى المتعارف عليه في الرهبانيات القديمة، والتي تشترط إبرازه للنذور الدائمة. ففي أواخر القرن السادس عشر ظهر نظام الأوراتوريو(Oratorio) على يد القديس ﭬيليب نيرى (1551-1585) والذي جمع فيه، علمانيين وكهنة معًا، يصلون ويرتلون ويفسرون الكتاب المقدس ويدرسون تاريخ الكنيسة. وفى ذات الوقت يتفانون في خدمة المرض والفقراء. أتاح هذا النوع من التكريس حصول العلمانيين ـــ لأول مرة ـــ على نفس التكوين الروحى والثقافي الخاص بالكهنة مما أتاح لهم أمكانية الاشتراك في العمل الرسولى جنبًا إلى الكهنة وتأديته على نحو صحيح.
أسّس بطرس دى بيرول Bérulle (1575-1629) في فرنسا، بتشجيع من فيليب نيري، نظام الأوراتوريو (المتعبدين) ليسوع. هدفها إكرام كهنوت يسوع وتحسين أوضاع الاكليروس. أهتم بطرس دى بيرول بالتثقيف الروحى واللاهوتي للعمانيين من أجل اعدادهم لحقل الرسالة ووضع أعضاء هذه الجمعية أنفسهم تحت تصرف الأساقفة.
كذلك أسس القديس منصور دى جمعية الرسالة “العازريين” لتبشير عامة الشعب عام 1625 وأسس جان جاك أولييه (1608-1657) جمعية كهنة سان سوبليس وأهتموا بتكوين الكهنة وإعدادهم لنوال سر الدرجة الكهنوتية. نشاة جميع هذه الجمعيات تلبية لمتطلبات الرسالة، ولم ترغب في أن تكون رهبانيات على غرار الرهبانيات الكبرى والتى ينظمها قانون موحد وتستلزم الإقامة في أديرة. وهذا يفسر اهتمام مؤسسى تلك الجمعيات بالجمع بين الكهنة والعلمانيين واشترك العلمانيين في حقل الرسالة عن طريق تلك الجمعيات، التي كانت حكرًا قبل ذلك على رجال الإكليروس والرهبان. لم تلتزم تلك الجمعيات بالنذور الرهبانية المميزة للحالة الرهبانية ولا بالأقامة في الأديرة أو ارتداء ثوبٍ رهباني مُمّيز، ويصل هذا الاتجاه إلى ذروته مع يوحنا دى لاسال الذي يؤسس جمعية رهبانية علمانية هدفها التعليم والتثقيف المجاني للفقراء وهكذا امتذت مظلة التكريس لتشمل لأول مرة العلمانيين والذين يكر سون حياتهم لأعمل المجة وللرسالة بصرف النظر عن الإلتزام بالنذور الرهبانية.
[1] F. CIARDI, I Fondatori. Uomini dello Spirito. Per una teologia del carisma di Fondatore, Roma 1982, p. 169.
[2] A. VERNASCHI, Una istituzione originale: le Figlie della Carità di S. Vincenzo de’ Paoli. Roma 1967, p. 20.