لا تزني (2): الهوية الجنسية
الجنس هو كل شيء اليوم. فكل إعلان تلفزيوني مُغلق بالاثارة الجنسية، هناك دائما اشارات للجزء الأسفل من الجسد. كل صورة لرجل أو امرأة تسند على البعد الجنسي والغرائزي وتبحث عن الاثارة. ففي العمق هناك فكرة موحدة: لدي طاقة وليس هناك قانون يمنعني عن اشباعها.
أحاول أن أشرح لماذا أصبحنا متمركزين جنسيا، عالقين بالجنس، نتحدث باستمرار عنه،نتلقي رسائل جنسية صريحة في كل شيء، لم يعد لدينا حماية من الغرائز دون ضابط. هناك صعوبة من التعامل مع حياتنا الجنسية بسبب تلك الضغوط المستمرة. وعلى الجانب الآخر فإن التحرر الجنسي لا يجلب السعادة.
إذا أردت أن تبحث عن الجوهر في حياتك والمعنى من وجودك حاول أن تعيش هذه الكلمة الموجهة لك: “لا تزنِ”. إذا أردت أن تُحسن التعامل مع حياتك الجنسية وتعيش في سعادة دون ضعوط نفسية فعش هذه الكلمة “لا تزنِ”.
لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ
أهم كلمة من الكلمات العشر لانها تعالج واحد من أهم المشاكلات لدينا وهي مشكلة الوحدة. فأكبر مشاكل البشر على الإطلاق: هي الوحدة؟ مشكلة توجع القلب. من أين تأتي الوحدة؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟
ليس جيدًا أن يكون آدم وحده… كلمة الله محيية قوية وفعالة، عندما قال الله “كن” فتم الخلق: “ليكن نور فكان نور”. تحولت الفوضى إلى كون بديع، إلى أرض وسماء ومخلوقات. “جيدًا، مثل “كن” كلمة ذات معنى عميق جدًا، فهي ليست كلمة عابرة، ليس حسنًا أن يكون الإنسان وحده.. فالوحدة قاتلة، مدمرة للإنسان. الشعور بالوحدة شعور قاسي، وحدي أشعر إني منعزل، لا أحد يشعر بي، يهتم بي، يحبني. أشعر بعدم الرضى، بالانعزال، بالوحدة.. لماذا؟
فما هو الجسد؟ ظاهريا وككل الأشياء الجسد محدود، يمكن أن يوصف كيميائيا وبيولوجيا.. لكن أهم ما يميزه هو الجلد الذي يُعد الكيس الذي يحتويني بالداخل. هذا الكيس يعزل الجسد مع كل ما ليس أنا. أنا نفسي، وأنت نفسك. هناك مسافة لا يمكن اجتيازها ما بين اجسادنا. كل شخص بنوع ما منغلق بجسده على ذاته. ماذا يختبئ وراء هذا الوجه؟ ما وراء هذه الكلمة او تلك الحركة؟
أشعر إني منغلق على نفسي. خارج جسدي لا وجود لي في العالم. يشعرني جسدي بأن وحيد وأشعر بحاجة إلى التواصل مع الآخرين، الحاجة إلى علاقة اجتماعية وعاطفية للخروج من تلك الحالة.
بالرغم من أن جسدي يعزلني عن الأخرين، إلا إنه هو وسيلة اتصالي بهم، هو يوصلني بالآخر. يمتاز الجسد بأنه يستطيع أن يُعبر عن حالة الإنسان الباطنية والداخلية، فما يعيشه الإنسان في تفكيره وفي شعوره وفي نواياه يسعى إلى إظهاره في الخارج بواسطة جسده… يحتوي الجسد على تعقيدات عجيبة، وهو بمثابة أعجوبة مستمرة لنفس متجسدة. لأنني أحقق ذاتي في عينيَّ، في صوتي، في يديَّ، فأنا بنوع ما أكون جسدي. فلا نقول أبداً: “جسدي يلتهب حرارة”، بل: “أنا التهب حرارة”. فبواسطة جسدي أتصل بالعالم، مع الآخرين. فبمجرد هزة رأس، أو ابتسامة تشجيع، أو غمزة عين، أو ضربة جامدة لليد، أو تحسس شيء ناعم، فالجسد يتكلم. بالصوت طبعاً، أي باللغة المَنْطوقِ بها، ولكن أيضا بكل الجسد، فهنالك لغة جسدي. يُعد الجنس أهم وسائل الاتصال الجسدي بالآخرين.
لكن الاتصال يظل قاصرًا لا يكفي للتغلب على شعوري بالوحدة التي وصفها الله بأنه ليس “جيدًا” أن يكون الإنسان وحده. كل مظاهر الاتصال بالآخرين، الكلام، النظرات، لغة الجسد، الحميمية، لا تكفي في التغلب على شعور الوحدة الذي يملء كيان الإنسان.
متى تنكسر القوقعة التي تفصلنا عن الآخرين: أعد الله منذ البداية الحل للمشكلة الأزلية للوحدة، وهي رسالة الإنسان الأساسية في الوجود. الحالة الوحيدة هي التي أسسها الله لمعالجة الألم الناشء من الوحدة هي الزواج. ففي الزواج تنكسر هذه القوقعة التي تفصلنا عن الآخرين، التي تسجن ذاتك وتشعر أنك تنطلق وتتحد بالفعل بالآخر. يسقط الجدار العازل بينهما: لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً.
تبدأ الرحلة من الانفصال عن الأبوين: “يترك الرجل” والديه عاطفيًا وفكريًا. يترك أمه وأبوه، لقاء بين جروحات الماضي وصدمات الطفولة.
ثم تأتي مرحلة الاتصال: “يلتصق بامرأته”.. فبعد الترك ياتي الالتصاق. والفعل “يلتصق” معناه يلتصق كما بمادة لاصقة إشارة إلى متانة الرباط المقدس بين الزوج والزوجة كما إلى ديمومة الزواج مدى الحياة، لا يفرق بين الزوجين إلا الموت. يسقط الجدار العازل بين الرجل والمرأة، وهذا هو عمل الله في حياة كل منا! لا يمكنك أن تفعل ذلك وحدك. “فما جمعه الله” هي خطة الله للاتحاد معًا، فالله الذي يعطيك القدرة على الخروج من العزلة والوحدة الحقيقية واللقاء بالأخر. لا يكفي فقط الزواج لكي تضمن أن تخرج من وحدتك، ما لم يكن الله دورًا مهم في حياة الزوجين. الزواج الذي يوافق عليه الله هو ذلك الزواج الذي يستهلك كامل الوقت مدى الحياة بكل أمانة وصدق وإخلاص.
ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة القبول المشترك، الاتحاد. وكان هذا الاتحاد نموذجاً إلهياً رسمه الرب الإله، ورآه حسناً جداً إذ كان يعكس سر الحب والوحدة الكائنين في الحياة الإلهية، ويكشف عنهما منطبعين في عمق الحياة الإنسانية.
لا يفهم الاتحاد هنا فقط بالبعد الجنسي، لكن شركة الحياة القائمة بينهم على قبول كل منهم للأخر. كل منهم لديه جسد وعقل وعاطفة مختلفة تمامًا، يقبلاً بعضهم لبعض بالرغم من الفوارق المتابينة. كان كلاهما عريانيين ولا يخجلان، أي لا شيء يستر ضعفاتهما، خصائصهما. ليس هناك ما يخبأنه عن بعضهم لبعض فالانكشاف كامل، والشركة بينهم كاملة، والاتحاد كامل: “فما جمعه الله لا يفرقه إنسان”. لنتصور معا آدم وحواء يمسك كل منهما بيد الأخر وهم عريانيين ولا يخجلان، يقبل منهما اختلاف الآخر عنه، يقبل ضعفاته، نقائصه، اختلاف عاداته وطرق التعبير عن ذاته عن مشاعره عن أفكاره.
ما هو الزواج؟ لدينا الكثير من الأفكار، أليس كذلك؟ هناك الأفلام والروايات تعكس قصص مختلفة. المشكلة هل لدينا فكرة؟ تنحصر فكر الشباب في الزواج كحياة سعيدة هانئة يتمتع فيها بكل ما يتمناه. سيتزوج امرأة جميلة لكنه لن يدرك إن البثور والترهلات ستظهر بسرعة. موسيقى أحلام رحلات لكن هذا فقط في الأفلام. في الواقع لا توجد روائح في الأفلام، فأنت ستتحمل رائحة قدمين الآخر، ستذهب إلى الحمام وستجد الجو خانق وثقيل. الحياة هي أيضًا هذه الأشياء. الزواج من اثنين من لحم ودم، لدي كل منهما ضعفات وحدود. أين المشكلة هي خطأ التوقعات.
بالرغم من أن الجسد يفصلني على الآخرين ويُشعرني بالوحدة، إلا أن خطة الله منذ البدء (قبل السقوط) أن يكسر الإنسان قوقعته ويخرج من عزلته ليلتقي بآخر مختلف، ويصيراً الأثنين جسدًا واحدًا كاملاً. كلاهما عريانين ولا يخجلان. لماذا لا يخجلان؟. فالجسد خلقه الله مقدس، طاهر. ولكي نفهم هذا نسلط الضوء على آية من الكتاب المقدس (مت 7: 6):
“لا تُعطُوا الكِلابَ ما هَو مُقدَّس، ولا تُلْقوا لُؤلُؤَكُم إِلى الخَنازير، لِئَلاَّ تَدوسَه بِأَرْجُلِها، ثُمَّ تَرْتَدَّ إِلَيكُم فتُمَزِّقَكُم”.
لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس؟ ما هو الشيء المقدس هنا؟ متى نستطيع أن نقول إن هذا الشيء مقدس؟ الشيء المقدس هو المتعلق بالله. فالله هو القدوس وكل ما يتعلق به مقدس. فما هو الشيء المقدس؟ هل الكتاب المقدس. هل كلام المسيح هنا بأن لا نعطي الكتاب المقدس للكلاب؟ هل لا يجب ان نعطي القربان إلى القطط، ما معنى هذا؟
لكن ما هو الشيء الذي يحمل صورة القداسة؟ الإنسان، الشخص البشري. فالشيء المقدس هو الإنسان. من يحمل صورة الله؟ يقول الرب يسوع عندما سألوه عن الضريبة: أعطوني درهما: لمن الصورة والكتابة. قالوا لقيصر. قال: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ماذا يحمل الدرهم؟ صورة لقيصر؟ أعطوا المال إذن لقيصر. ماذا يحمل صورة الله: الإنسان. الصورة والمثال، الصورة والكتابة. نحن الشيء المقدس، أنا الشيء المقدس.
يكرر بولس هذه الفكرة في رسالته الأولى إلى كورنثوس: “أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ مَن هَدَمَ هَيكَلَ اللهِ هَدَمَه الله، لأَنَّ هَيكَلَ اللهِ مُقدَّس، وهذا الهَيكَلُ هو أَنتُم.” (1كو 3: 16-17). سبق أن أعلن يسوع أن الهيكل هو جسده «اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام !» فقالَ اليَهود: «بُنِيَ هذا الهَيكَلُ في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، وَأَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟» أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَلَ” جسده (يو 2: 20- 21). فالجسد هو الشيء المقدس، هو هيكل الله، هو المكان الذي يظهر فيه الله. لأجل أن يظهر الله وسط العالم أرسلني إلى هذه الأرض. جميعنا صورة الله. أنت لؤلؤة جوهرة ثمينة.
تأتي كلمة مقدس في الإنجيل هنا بصيغة الجمع. في اللغة العبرية كلمة مقدس كمفرد “قودش”، في حين الجمع هو “قدوشهيم” الذي يعنى الزواج. فالزواج ما هو مقدس، تبعا للغة العبرية. فالشركة التي تجمع الرجل والمرأة هي الشيء المقدس، تجعل الإنسان الكامل، الناتج من اتحاد الرجل والمرأة “جسدًا واحدًا” صورة الله ومثاله. اتحاد يخلق الحياة وفي خدمتها. ليس فقط الحياة، بل بداية الأبدية.
تنكسر القوقعة التي تسجن ذاتك فقط عندما تصل إلى هذه المرحلة، مرحلة الاتحاد للأشياء المقدسة: “ويكونان جسدًا واحدًا”.
هناك فراغ نُخلق به، يظل موجودًا داخلنا، نشعر إننا وَّحدين، بالرغم من وجود الأسرة والأخوات والأصدقاء، لا يملء هذا الفراغ إلا آخر، من جنس آخر. يتوق كل منا للخروج من شرنقة ذاته للقاء هذا “الآخر” وعندما يجده يشعر بالامتلاء، والرضي. فكلام الله: “ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده” يتحقق عندما يتحدا في شركة واحدة ويصبحا الأثنين كائنًا كاملاً واحدًا.
إذا أردت أن تتغلب على الوحدة وتكسر القشرة التي تغلف ذاتك عليك أن تبحث عن “معين نظير”. ليس جيد أن تكون وحدك، هذا مصير الإنسان عندما لا يكسر تلك القشرة.. لا تكسر مع آخر مختلف تمامًا.
هذه الرحلة بين ما الذات والآخر هي أجمل ما يقوم به الإنسان (الأفخارستيا)، بل هي دعوته الأساسية التي خُلق من أجلها. الكلمة اليونانية كينونيا التي تعنى الوصول إلى أن تكون قلب واحد وروح واحدة مع آخر. أنت خُلقت لأجل أن يسقط الحاجز الذي يفصلك عن الآخرين، لكي تتغلب على الوحدة التي تملء كيانك، هذا هو عمل الله في حياتك. أنت لا تستطيع أن تفعل ذلك وحدك، لأنه عمل إلهي. لهذا مات المسيح وقام من بين الأموات. لأجل ان يكسر هذا الحاجز الذي يغلق على أنانية كل إنسان، ويتوجه إلى الآخرين ليصير معهم جسدًا واحدًا معهم. مخطط الله من البدء للحياة البشرية، للخلاص. مخطط أن يتحد أثنين معًا في وحدة واحدة. أن يكون على صورته ومثاله، أب يُحب الابن، وابن يُحب الآب، والروح القدس علامة المحبة بينهما. زوج يُحب الزوجة، وزوجة تُحب الزوج، وعلاقة المحبة بينهما تتجسد في صورة الطفل محصلة علاقاتهما.
كيف هو زواجك؟ هل بالفعل شركة حياة، وحدة كيانية مع آخر. يقول سفر التكوين عندما خلق الله المرأة: ليس جيدًا أن يكون الرجل وحده”. فإذا كنت وحيدًا فأنت في حاجة إلى الخروج من ذاتك، من قوقعة الآنا.
إذا أردت أن تجد شريكًا لتصبح معه إنسانًا كاملاً (النصف الثاني) يجب أن يكون مختلفًا عنك، لهذا يترك الرجل أباه وأمه ليجد شخصًا مختلفًا. المشكلة في أن كل الطرفين يرتبطا دون أن ينضجا، يرتبطا بمشاعر طفولية ترغب في الاشباع. تفشل الكثير من الزواجات لاكتشاف الطرفين إن الطرف الأخر مازال طفلاً، يبنى حياته على الأوهام ويرغب في الاستمرار فيها.
الزواج ليس فكرة رومانسية وأحلام وردية عن السعادة الدائمة، بل هي حياة بما تشمل من صعوبات وآلام، تحتمل وتقبل فيها كل شيء حتى رائحة الآخر، ليس هناك طقس ربيعي دائم، بل أوقات تسقط فيها الأمطار بغزارة. الزواج هو تلك الأشياء الصغيرة، الحقائق الصغيرة والتافهة والمشكلة أنه لم نعتاد الحقائق والواقع، بل نجري وراء الأحلام، ولهذا تسمع الشاب يقول بعد زواجه: اتخدعت، انا اجوزت شخص تاني! ويدخل في أزمة مع الواقع والحقيقة. يصرخ بأن هناك خطأ ما. الخطأ لا وجود له في الواقع، الخطأ كامن في تصورك أنت، أو في ما تنتظره عن الواقع. الخطأ في ما تعتقده عن الواقع، فيما تنتظره من زواجك.
تنادي الوصية السادس من الوصايا العشر بأن “لا تزني”، هي وصية الله لنكون سعداء، هي وصية ضد كل خطيئة في الزواج والعائلة. ما هي العائلة: هي ساحة للمعركة التي يسقط فيها الجرحى والقتلة، يشعر فيها الإنسان بالألم، التي فيها يتم سطر آلام في النفس لا تمحى مع الزمن.
العائلة كما يصورها سفر التكوين هي صورة الله، وجهه الفاعل في العالم (تك 1: 27- 28).
فخلَقَ اللهُ الإنسانَ على صورَتِه، على صورةِ اللهِ خلَقَ البشَرَ، ذَكَرًا وأُنثى خلَقَهُم.
وبارَكَهُمُ اللهُ، فقالَ لهُم: «أُنْمُوا واَكْثُروا واَمْلأوا الأرضَ، وأَخضِعوها وتَسلَّطوا على سمَكِ البحرِ وطَيرِ السَّماءِ وجميعِ الحيوانِ الذي يَدِبُّ على الأرضِ».
ماذا نفهم من النص؟ مفتاح التّفسير كامنٌ في مبدأ “صورة الله” و”مثاله”، الذي يبرزهُ النص الكتابي إبرازاً شديد الوضوح (تك 1 : 2). لقد خلق الله بقوة كلمته “ليكن”! (مثلاً تك 1 : 3). ومن مقتضى البيان أن تكمّل كلمة الربّ هذه، في موضوع خلق الإنسان، بهذه الكلمات الأخرى: “لنصنع الإنسان على صورتنا، كمثالنا” (تك 1 : 26). ، ومُذ ذاك ظهر ذلك السرّ ولد الكائن البشريّ عن طريق الخلق: “خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم” (تك 1 : 27). خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، خلقه كأسرة، على مثال حياته الثالوثي. الـ “نحن” الإلهي هو المثال الأزلي للـ “نحن البشري” المكون من الرجل والمرأة المخلوقين على صورة الله وكمثاله. الإنسان منذ البدء “ذكرًا وأنثى”، الإنسان منذ البدء أسرة، عائلة موسومة بسمة الثنائية الأصيلة التي تميز الأب والأبن، ويجمعهما روح المحبة.
قال الله لخليقته الجديدة مباركاً: “أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها” (تك 1 : 28). فيستعمل سفر التكوين تعبيراً استعمل قبلاً في نصّ خلق الكائنات الحية الأخرى، أي “اكثري”، إلا أن المفهوم التشبيهيّ فيه واضح. أليس هنالك، إذا ما تقرّينا كامل النص في ضوء قرائنه، تشبيه بالولادة والأبوة والأمومة؟ لا أحد من الكائنات الحيّة خلق “على صورة الله، كمثاله” ما عدا الإنسان. وإن لم يكن هنالك فرقٌ بيولوجي في الأبوة والأمومة عند الإنسان وسائر كائنات الطبيعة، فإن لهم عند الإنسان إلى ذلك، وعلى نحوٍ جوهريٍ وانفراديٍّ، “شبهاً” مع الله، تقوم عليه الأسرة في كونها شركة حياة بشريّة، شركة أشخاصٍ يوجدهم الحبّ (Communio personarum) .
ماذا نعنى بأن العائلة هي صورة الله؟ كيف تُحقق هذه الصورة في الواقع، في الحياة؟ ها هي الصورة الكاملة لله التي يمكن أن تحققها العائلة؟ الإجابة في مقدمة الرسالة إلى العبرانيين (عبر1: 1-3):
“كلَّمَ الله آباءَنا مِنْ قَديمِ الزَّمانِ بِلِسانِ الأنبياءِ مَرّاتٍ كَثيرةً وبِمُختَلفِ الوَسائِلِ، ولكنَّهُ في هذِهِ الأيّامِ الأخيرَةِ كَلَّمَنا باَبنِهِ الذي جَعَلَهُ وارِثًا لِكُلِّ شيءٍ وبِه خلَقَ العالَمَ. هُوَ بَهاءُ مَجدِ الله وصُورَةُ جَوهَرِهِ، يَحفَظُ الكَونَ بِقُوَّةِ كلِمَتِهِ. ولمَّا طَهَّرَنا مِنْ خَطايانا جَلَسَ عَنْ يَمينِ إلهِ المَجدِ في العُلى”.
نفهم الآن ما هي الصورة التي على أسسها خُلقت العائلة، ما هو النموذج التي دُعيت العائلة إلى تحقيقه في الحياة؟. يكشف صليب المسيح سر العائلة الخاص، النموذج الذي شُكلت العائلة على أساسه. بالنظر إلى الصليب نملك خريطة العائلة، سرها الخاص. ماذا ترى في الصليب؟ ترى نموذج للإنسان المحب، الذي يُعطى ذاته للآخر، حب لامتناهي الذي لا يَّضن بالحياة من أجل المحبوب. فالعائلة هي مكان مُعطي من الله، مُبارك من الله، حيث يَّظهر حب يسوع المسيح، حيث يُعطى الحب للآخر دون حدود.
تأتي الوصية الخامسة، لا تقتل، لتُظهر شريعة الحب تجاه القريب، لتجد عمق معناها في الوصية السادسة لا تزني. فالعائلة هي مكان المسيحي الذي يُحّب إلى درجة عطاء الذات. من الخطأ تصور الزواج كمكان أخذ منه شيء ما، كالسعادة أو المتعة، سأشبع فيه نزواتي الأنانية. لهذا هناك عائلات تعاني كثيرًا اليوم. لكنه عطاء الذات للآخر شيء ليس سهلاً أبدًا.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.