أكرم أباك وأمك (4): الخروج من رحم العائلة
مقدمة:
واجهنا حتى الآن المشكلة المعقدة في العلاقات مع الوالدين، وما نتج عنها من أزمات وعقد نفسية نعاني منها اليوم. ففي حياة كل منا ترك الوالدين، بحسن نية أو غيرها، أثارهم على الشخصية بصورة واضحة. تحدثنا في اللقاءات السابقة عن ضرورة التعامل بإيجابية مع تلك الجروح التي نحملها من فترة الطفولة، فكل منا مسئول تمامًا عن حياته اليوم، عن كيف يتفاعل اليوم مع موقف والديه. ليس ما يأتي من الخارج ينجس الإنسان، بل ما يحمله الإنسان داخل قلبه. فليس المواقف السلبية هي التي تحدد شخصية الإنسان بطريقة نهائية، لأن المواقف تعتمد اجابة واستعداد الداخلي للإنسان. فالإعاقة تحدث من الداخل وكيفية التعامل هو الذي يحدد شخصية الإنسان. كلٍ منا يبني نفسه بنفسه.
جميع الأحداث التي مررنا بها لها هدف بأن يصير الإنسان أكثر نضوجًا. فعند النظرة إلى الماضي لا يفيد أن نحمل الآخرين عبء مشكلاتنا، ونكف عن البحث عن الأسباب الحقيقة لما نعانيه. النظرة الإيجابية تعنى أن نبحث عن الهدف من الأحداث التي مررنا بها. كل خبرة في الحياة تهدف بنا إلى الوصول إلى شيء أعمق، إلى هدف عظيم لحياتي الشخصية.
أين الله من كل هذا؟ أين تواجد الله عندما مررتُ بهذه الأحداث الصعبة والمأسوية. أين كان الله عندما كان والدي يعاقبني بشدة، يفرق في المعاملة بين وبين أخوتي؟ أين كان الله عندما كانت أمي تتكلم دائمًا بصورة سلبية عن أبي؟ كان ينظر من السماء وتركني أتألم بهذا الشكل، تنفيذا لخطة حياتي التي لا أجد لها معنى؟ أين كان الله؟ كيف سمح الله بذلك؟
الكثير من الآباء والآمهات، بالرغم من محاولاتهم المستميتة في التعامل الجيد، إلا إنهم لا يمكن أن يمنعوا الأخطاء مع أبنائهم. لماذا لم يتدخل الله تدخلاً فوريًا لأجل أن يقف أياديهم عن الحاق الضرر بأبنائهم؟ هناك أمرٌ ما يستعصى علينا فيه، لماذا أخافتي أمي عندما كنتُ طفلاً، لماذا ترك أبي أحساسًا بالذنب داخلي حتى اليوم، بالرغم من كل منهما كانت لديه نيات طيبة بأن أضحى أفضل إنسان في الدنيا. فليس هناك شخص يريد الحاق ضرر بأخر عن قصد.
نتسأل ماذا يقول يسوع في هذا الأمر؟ ماذا يقول العهد الجديد في الوصية الرابعة؟ ماذا يقدم لنا يسوع، من خلال الأناجيل، كحلاً لهذه المشكلة المعقدة، العلاقة مع الوالدين؟ لدينا مشكلاتنا في العلاقات، ماذا يُقدم يسوع لنا؟ فلنقرأ..
متى 10: 34- 39
كيف نفهم هذا النص؟ ننتظر من يسوع أن يحثُنا على العلاقات الطيبة مع الوالدين، إلا إنه يقول:
“لا تَظُنّوا أنيَّ جِئتُ لأحمِلَ السَّلامَ إلى العالَمِ، ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا”. ما المقصود بالسيف؟ ” جِئتُ لأُفرَّقَ”، سيف يقطع، سيف لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها، والكَنَّةِ وحماتِها. ويكونُ أعداءَ الإنسانِ أهلُ بـيتِهِ”. مَنْ أحبَّ أباهُ أو أمَّهُ أكثرَ ممّا يُحِبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. ومَنْ أحبَّ اَبنَهُ أو بِنتَهُ أكثرَ ممّا يُحبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. ومَنْ لا يَحمِلُ صليبَهُ ويَتْبعُني، فلا يَسْتحِقٌّني.
هناك كلمة هي مفتاح فهم النص. كلمة “حياة”: مَنْ حَفِظَ حياتَهُ يَخسَرُها، ومَنْ خَسِرَ حياتَهُ مِنْ أجلي يَحفَظُها. ما هي الحياة؟ أنت تستمد الحياة من والديك. يقول المسيح “حياة تخسرها وحياة تجدها وتحفظها. ما هي هذه الحياة؟ عن أي شيء نتكلم؟
يجب أن نرجع إلى الخلف، إلى الوصية الأولى: إلى الآلهة، هل تذكرونها؟ لدينا جميعًا هذا التوجه إلى أن نستمد الحياة من إله، من شيء، التي نعتقد إنها الحل في كل مشكلاتنا، ولكننا نكتشف إنه وهم كبير، وإننا نفقد حياتنا. يقول يسوع: هناك حياة تبحث عنها وتعتقد فيها لكنك تخسرها.
لقد نشأت في أسرة طبيعة، من أب وأم، أخذت منهم الحياة، تعلقت حياتك بهم وفي علاقة حميمة معهم. لا تستطيع الاستغناء عنهم، تعتمد عليهم في كل شيء، غير قادر على الانفصال عنهم أبدًا. رغم كبر سنك لكنك مازلت طفلا لا تستطيع أن تنفصل عن والديك. نقول (ابن أمه)، يتحرك ويسير في نطاق كيف أرضاء أبي وأمي. يفكر، مثل هذا الشخص، كألهة، كأنهم الله، عليه فقط أن ينفذ ما يقولونه، يبتغي رضاهم دوما، على حسابه الشخصي، هم مصدر راحته. يعتقد إنهم مصدر الحياة، منهم استلم الحياة التي لا يمكن أن يتنازل عنها، لأنها هي الشيء الوحيد المرئي الضامن الوحيد له.
هناك العكس تمامًا والذي يتمثل في الشخص الذي لا يطيق ويكره والديه، لأن والديه أخطأ، لأنهم كانا غير عادلين. هناك شيء ما يحمله داخله يُشعل غضبه وثورته ضدهم. تكون سلوكياته جيدة جدًا مع الجميع، لكن مع والديه، فهو يحمل غضب كبير لا يستطيع السيطرة عليه، فتنطلق ثورته من الجرح الذي ما زال يشعر به.
الحالة الأولى هي حالة شخص صنع آلهة في حياته: الحياة مستمدة من الوالدين. استمد الحياة ويتمسك بها وليس لديه الاستعداد للانفصال عنها. الثاني لديه نفس الإله، فقط لأن والديه لم يعطياه الحياة، كما يعتقد ويتمنى. يؤمن الأخير بأن الحياة هي فقط مستمدة من الوالدين، وحيث كانا أولئك سيئين معه، جهلة وأغبياء لم يفطنا إلى نتيجة تصرفاتهما في المستقبل، فإنه يحملهما معه طوال الحياة كالآلهة. لماذا أعطوني هذا النوع من الحياة؟ لماذا مانعوا عنى عطفتهم، كمثل الآخرين؟ لماذا لم يتركوا شيئًا جميلاً للحياة؟ هو مثل الشخص الأول الذي لا يستطيع الانفصال عن والديه، هو لا يستطيع أن ينفصل عن الصورة التي رسمها عما كان يجب أن يكون. هي ذات المشكلة: الحياة مستمدة من الوالدين.
هل الحياة حقًا مستمدة من الوالدين؟
يعلن المسيح إن هذا غير صحيح! يضع يسوع نفسه في المنتصف حيث يقول من يجب أباه أو أمه أكثر مني لي يستحق ان يكون لي تلميذ. عليك أن تختار وتعرف من هو الذي يكون مصدر الحياة؟ من هو الذي يعطيك الحياة الحقيقية؟ ماذا تكون تلك الحياة؟
هل تعلمون أين تظهر كلمة أب وأم في الكتاب المقدس: في الإصحاح الثاني من سفر التكوين. يترك الرجل أباه وأمه ويتحد بإمراته ويصير الاثنين جسدًا واحدًا. ليس هناك حياة ناضجة ناجحة دون هذه الخطوة. دون أن تخرج من مخطط والديك وتستقل عنهم. أنت غير مدعوا لأن تعيش حياتك كلها في الإنشغال بحل مشاكل والديك أو تضيع عمرك في التفكير فيهم وكيف تتعامل معهم وكيف ترضيهم، أنت مدعو لأن تنطلق لتعيش حياة أخرى. عليك أن تؤمن بأن هناك حياة أخرى تختلف عن الحياة التي تعتقد إن والديك أعطاك إياها.
يقول السيد المسيح: ” ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا”. ما المقصود بالسيف؟ ” جِئتُ لأُفرَّقَ”، سيف يقطع، سيف لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها”. لم يجئ المسيح ليقدم لك حلول للمشاكل مع والديك، ولكنه جاء يقدم لك دعوة بحياة جديدة، مختلفة عن تلك الحياة التي تعتقد إنك استلمتها من والديك. الخطوة الإولى في هذه الحياة الجديدة أن تخرج من مخطط والديك، تنفصل عن المشكلات التي تقضي كل وقتك تفكر فيها، لكن انتبه، دون أن تحتقرهم: اِكرم أباك وأمك، أي أعطيهم وزنهم الحقيقي في الحياة.
جاء المسيح، لا لكي يحل مشكلاتك مع والديك، بل لأن يعطيك حياة جديدة.
هل تعلم لماذا مررت بالمشكلات في الصغر؟ لماذا تحمل في داخلك أزمات وعقد نفسية؟ لأنه ليس واجب والديك بأن يعطوك الحياة، هما فقط مرحلة تأسيسية لحياتك، مهمة ولكن هناك ضرورة أن تتخطاها لتصبح ناضجًا.
هناك نوعين من الناس، كما يعلمنا بولس الرسول (1كور 2: 15: 3: 1- 4)، الإنسان الجسدي والإنسان الروحي، الأول يولد بحسب الجسد والثاني يولد بحسب الروح. من الممكن أن يكون والديك قد تسبب في إحباطك، لأنهما لا يستطيعان أكثر من ذلك، لا يمكنهم أن يفعلا ما لا يستطيعان. أنتم أيها الآباء لن تنجحا في عدم احباط أبنائكم، لكن لا تسطيعان أن تمنحاه الحياة الحقيقية، فهم أبناء الله. فأبيك ليس هو أبوك الجسدي، فالله هو الأب الحقيقي. لديك أب سماوي، أنت مولد لكي تولد من جديد من فوق.
يمكن ايضاح هذه النقطة بتخيل حورا بين طفلين مازالا في الرحم. لنتخيل الحوار، بأن إنسان ناضج يجرى حوار مع نفسه وهو مازال جنين في بطن أمه. لنجرى الحوار بيني، الأب مراد، وبين مراد الجنين في بطن أمه. سأقول لمراد الجنين: “هيا مراد لتخرج، تنتظرك حياة رائعة في الخارج،أم أنك تريد أن تبقي هناك طوال حياتك. فيأتي الرد من الجنين: أريد البقاء هنا! كل شيء هنا متوفر بسهولة، الغذاء، الدفء، أعوم في حوض سباحة طوال اليوم! فكيف أترك كل هذا وأخرج لشيء غامض أجهله. هل لا يكون الطفل بكل خير في الرحم؟ بالطبع لا، لكن عندما يكتمل نموه فإن المكان يضيع به، فإذا لم يُولد في ميعاده فإن سيتعرض للخطر، وتصبح حياته مهددة!! من الممكن أن أكلم الجنين وأطالبه بالخروج، فيجاوبني: لماذا؟ فأنا بخير هنا!!
سأحاول اقناعه: أنت تملك عينين أليس كذلك؟ ما فائدتهما؟ العين هي جهاز مخصص للرؤية، فماذا ترى في هذا الظلام الحالك؟ هنا في الخارج ستجد طبيعة رائعة ومناظر خلابة ستراها بعينيك. تملك رئتين؟ وهما مخصصتين للتنفس. هنا في الخارج الهواء الطلق والنسيم عليل. فالعالم الذي يمكن أن تراه في الخارج، فمك هذا لأكل الطعام، للكلام، للتنذوق، هذا ستجده في الخارج. أنت مخلوق لتعيش هنا في الخارج، فالرحم مناسب الآن لكنه لن يبقي كذلك بعد فترة زمنية بسيطة. الرحم سيضيق عليك، فأنت غير مخلوق لتعيش في الرحم.
خرج الطفل من رحم الأم ليدخل في رحم أخر، العائلة، وهذه النقطة الأساسية. فالإنسان هو الكائن الذي يحتاج إلى أطول فترات نمو بين الكائنات جميعًا. متى تنتهي فترة طفولة الإنسان؟ عندما يترك الرجل أباه وأمه. في الوقت الذي فيه واقعيًا وجديًا ينقطع فيه الحبل السري بين الألم وإبنها. متي تنتهي فترة طفولة الإنسان في الوقت الذي يكون فيه قادر على انجاب حياة أخرى؟
فالعائلة تعمل لتأهيلك لمرحلة تالية. فإذا رغبت في البقاء فيها، فهي الذي أعطتك الحياة، هي التي أثرت عليك ومستقبلك وسلوكياتك. فلماذا تريد أن تبقي في الرحم العائلي؟ فإذا قلت إنهم أعطوك الحياة، فقد أعطوك الحياة الجسدية، كما يقول القديس بولس، إلا أنك مدعو إلى حياة أخرى.
هل نؤمن إننا بالفعل أبناء الله؟ ليس حقيقي، فليس الجميع أبناء الله. فالجميع خلائق الله، لكن ليس الجميع أبناء الله؟ فلنقرأ، مقدمة إنجيل يوحنا: “كانَ في العالَمِ، وبِه كانَ العالَمُ، وما عَرَفَهُ العالَمُ”.
إذا لم تعرفه فإنك تكتفي بالحياة التي أعطاك إياها والديك، حياة مضطربة، تشعر فيها بالطبع بالإحباط من والديك، ورسالتهم. فرسالة كل أب وأم هي فعل كل شيء ممكن. أنت تقول لدي كثير من المشاكل مع والدي لا استطيع أن أتفاهم معهم، أشعر بالاختناق. في حقيقة الأمر تشعر بهذا لأنك مازلت تعيش في الداخل لم تستطيع أن تقطع الحبل السري الذي يربطك بأحشاء أمك. أنت مازلت تعيش في الداخل لم تكبر ولم تنضج لم تستطيع الخروج والانفصال عنهم، مازلت تبحث عن كيف ترضيهم. أنت غير قادر على الخروج للعيش حياه جديدة. أنت كما يقول القديس بولس ولدت على حسب الجسد ومازلت تعيش كما ولدت تنقصك الحياة الجديدة التي يقدمها لك المسيح، أن تولد من فوق، أن تولد من الروح. لا تضيع حياتك ووقتك في فالتفكير في الحياه على حسب الجسد والانشغال في حل المشاكل مع والديك ولكن عليك أن تفكر في الولادة الجديدة من الروح. عليك أن تترك “رحم العائلة” إلى الحياة الحقيقية، الحياة في المسيح، حياة تعرف عنها القليل جدًا، تخاف منها. كم حياة تملك؟ أعطاك الوالدين الحياة الجسدية، لكن هناك حياة أخرى، تحتاج فيها إلى أب جديد، إلى أم جديدة. أنظروا ماذا تحملنا لنا كلمات الكتاب المقدس، التي نظن إنها مفهومة بالنسبة لنا!! فلنُكمل قراءة مقدمة يوحنا:
“إلى بَيتِهِ جاءَ، فما قَبِلَه أهلُ بَيتِه- إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ” (يوحنا 1: 11).
من لديه الاستعداد لتغير الحياة بصورة حقيقية؟ فمن أحب حياته في هذا العالم يفقدها، لأنه سيموت، فإذا خفت على حياتك كل يوم ستفقدها، ستحمل معك الأزمات والمشكلات والجروح. نخاف أن نتحمل مسئولية قرارنا بالتغيير. “مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا”. يمر يسوع بحياتك ويدعوك قائلا: اترك أباك وأمك، أترك حياتك، التي تعتقد إنها كل شيء، أنت مدعو لحياة أخرى، تعال واتبعني.
وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ (يوحنا 1: 12)
يعطي القوة بأن نصير أبنا الله. أنت ليست ابنا لله؟ فجرو الكلب ينبح كوالده، وشبل الأسد يفترس كوالده، وابن الله يقول: “يا ابتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”. إذ كنت ابن الله فمن المؤكد إنك تشبه والدك. من أنت؟ هل ابن لوالدك؟ إذا كانت لديك حياة ضعيفة، هشة وهزيلة، فأنت ليس ابن لله. ابن الله لديه نفس صفات الأب خالق الحياة والعالم. ابن الله، المخلوق على ذات صورة الله ومثاله هو أيضًا يعطي الحياة. ابن الله يعطي حياة، لأن لديه حياة حقيقية، ومن ليس لديه حياة، فكيف يعطي حياة للآخرين.
نسمع كثيرًا هذا القول: “هذا الإنسان أعطي حياته إلى الله”، كيف يعطي حياته إلى الله؟ ماذا يفعل الله بحياة إنسان؟ حياة مليئة بالأزمات والمشكلات والرغبات الدفينة والعقد النفسية. نخاف في الحقيقة أن يسألنا الله الحياة. الله يطلب شيئًا ما؟ ماذا تملكون لتعطوه إياه؟ ” مَنْ حَفِظَ حياتَهُ يَخسَرُها، ومَنْ خَسِرَ حياتَهُ مِنْ أجلي يَحفَظُها”، فمن يحتفظ بحياته الحالية سيخسر كل شيء، لكن من يخسر حياته من أجل محبتي، هناك حياة أخرى، مرحلة أخرى ينتقل إليها، يُولد من فوق.
وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ،
أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ،
منذ اللحظة التي قطعوا فيها الحبل السري، والإنسان يحبث عن حبل سري آخر يتعلق به، يستمد منه الحياة، من الأصدقاء، من الزواج فيجدون هويتهم في طرف آخر. المشكلة إننا لا نعترف بالفشل، فنتعلق بأشياء وأشخاص نعتقد إنهم سيعطونا الحياة، لكن الحياة تعطي فقط من مانح الحياة ذاتها.
وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ،
بل مِنَ اللهِ وُلِدوا.
الذين قبلوه أعطاهم السلطان ليصيروا أبناء الله: هؤلاء الذين يؤمنون باسمه، هؤلاء الذين ولدوا الولادة الثانية الوالدة حسب الروح. انت مدعوا بأن تتنازل عن هذه الحياة وكل مخططاتها، كي تُولد مرة أخرى، ولادة بحسب الروح، أنت مدعو لأن تبذل حياتك وتعطيها كي تجد حياه أخرى.
في انجيل القديس يوحنا الإصحاح الثالث، يسأل نيقوديموس يسوع: «راِّبي، نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً، فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه».فأَجابَهُ يسوع: «الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لَكَ: ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَرى مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِن عَلُ».
هناك حياة أخرى مدعوون إليها، مدعوون لولادة جديدة.
يسأله نيقوديموس: ” كَيفَ يُمكِنُ الإِنسانَ أَن يُولَدَ وهوَ شَيخٌ كَبير؟ أَيَستَطيعُ أَن يَعودَ إِلى بَطنِ أُمِّهِ ويُولَد؟». ما أطرحه الآن عليكم ليس حوار تخيلي، كما سبق أن أعلنت، بل يقوله نيقوديموس منذ ألفي عام: أَيستَطيع الإنسان أن يعود من جديد إلى رحم أمه ويولد؟ يعبر عن رغبة الإنسان الحقيقية في أن يعود من جديد إلى الرحم.
يجبيه يسوع: «الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح. فَمَولودُ الجَسدِ يَكونُ جَسداً ومَولودُ الرُّوحِ يَكونُ روحاً. فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء فتَسمَعُ صَوتَها ولكنَّكَ لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي وإِلى أَينَ تَذهَب. تِلكَ حاَلةُ كُلِّ مَولودٍ لِلُّروح”.
يتحدث السيد المسيح هنا على إن هناك ولادة ثانية تعقب الولادة الأولى الطبيعية. تختلف الحياة الجديدة عن تلك الحياة الأولى، مع والديك. حياة تكون فيها ابن الله، تملك داخلك حياة جديدة وطبيعة جديدة، حياة وطبيعة الله، كشبيه له. جاء المسيح يحمل سيفًا، ليقطع الحبل السري الذي يربط الإنسان “برحم العائلة”، يحمله إلى واقع آخر مختلف تمامًا عن واقعه الحالي.
السيد المسيح يقول: ان لم تولد من الماء والروح لا تقدر أن تدخل ملكوت الله. الماء هي حقا ماء العماد بهذا كلنا نؤمن. ولكن هذا كان في سياق طقس، طقس العماد ليس له تاثير سحري بمجرد تغطيسك بالماء تستلم كل نعم السر. أين والدة الروح؟ في سفر التكوين نري الله يخلق آدم وحواء ويشكلهم من التراب ثم ينفخ فيهم، فيعطيهم ويقدم لهم الوالدة الثانيه يعطيهم سر الحياة، هكذا نحن نقبل من الله الولادة الجديدة، نفحة الروح تلك، سر الحياة الجديدة. يعطينا هذه الحياة، بعد الولادة الطبيعية، من خلال الأسرار فيؤهلنا الحياة الجديدة. فقط من خلال الولاة الثانية نستطيع أن نقيم علاقة مع الله، نكون مؤهليين للتحاور معه. أنت ولدت والدة ثانية لتعيش حياه جديدة في علاقة مع الله لا ترجع للخلف وتتمسك بالحياة القديمة اي الحياة الأرضية.
لا نندهش عندما نؤكد على إنه يجب أن تنفصل تمامًا عن الماضي. هذه هي التجربة الأساسية للإنسان، يستسلم لذلك السيف الذي يقطعه عن “رحم حياته الأرضية”. أما إذا تمسك بها فيظل مرتبط بماضيه، بمشكلاته وأزماته ولن ينضج أبدًا، لن يولد في تلك الحياة الجديدة. ماذا تعتقد؟ هل تعتقد إنه تكفيك الولادة الأولى من والديك لكي تكون سعيدًا. هل هم قادرون على أن يعطوك الحياة الأبدية؟ هم غير خالديين على الأرض. عجلاً أم آجلاً سيموتون، كذلك أنت. أنت ليس مخلوق على أن تعيش سبعون سنة مثلا فقط، بل حياة أخرى، رحم ثالث سيقبلك، حياة أبدية لا نهاية لها أبدًا. لقد ولدت ليس لكي تعيش أو تنفذ مخطط والديك ورغباتهم ولكنك ولدت ثانية لكي تكون ابن لله، وشبيهًا ليسوع المسيح. تهب الحب وتعطي حياتك ونفسك للآخرين. جميعكم مدعوون لأجل أن تبغضوا آبائكم وأمهاتكم، أي تنفصلوا عنهم، تولدوا من جديد ولادة أخرى.
المولود من الجسد فهو جسد والمولود من الروح فهو روح. الريح يهبط حيث يشاء تسمع صوته ولكن لا تعلم من أين ياتي وإلى أين يذهب. هكذا كل انسان يولد من الروح، كل إنسان يولد الولادة الثانية ولادة الروح، لا يعلم أين يذهب، لأنه يقطع كل علاقة بالماضي ويضع حياته بأكملها بين يدي الله. فهل تريد أن تعيش في الماضي أم أن تضع حياتك بين يدي الله؟ اِفعل ما تريد ولكن عليك أن تحذر بأنك ستواجه مشكلاتك دومًا ولن تنتهي أبدًا.
رسالة القديس بطرس الأولي: “وإِذا كُنتُم تَدْعونَ أَبًا لَكم ذاكَ الَّذي يَدينُ مِن غَيرِ مُحاباةٍ كُلَّ واحِدٍ على قَدْرِ عَمَلِه، فسِيروا مُدَّةَ غُربَتِكم على خَوف، وقَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح” (ا بطرس 1: 17- 19).
يقول القديس بطرس: سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم. ماذا ورثت عن أبيك وأمك؟ ماذا يمكنك أن تعطي أبنك؟ قليل جدًا لأنك تملك القليل. اِبدأ في الصلاة لابنك حتى يُولد من فوق، ليرعاه الله، يكون أبيه الحقيقي. توقف عن الإدعاء أمام أبنك بأنك شخص طيب تقدم له الحياة المثالية التي يرغبها والتي ستجعله سعيد. أنت أيضًا في حاجة إلى ولادة ثانية لحياة آخرى جديدة.
هناك رحم آخر دخلت فيه وهو رحم العائلة. نعود لتخيل حوار بين اثنين واحد من داخل العائله، مازال متسمك بأن العائلة هي سبب كل مشكلاته وأزماته التي تُحدد شخصيته اليوم، والآخر استطاع فك رباطته مع العائلة. الذي من الخارج يقول: هلم وأخرج من هذا الرحم، فك رباطاتك مع العائلة، واتبع يسوع المسيح. لا معنى لحياتك وأنت تقضي كل الوقت لأجل أن تبحث عن حل لمشاكل عائلتك وإلى افراد اسرتك، أنت لم تدعى كي تعيش بين مشاكل والديك وعائلتك، هلم وأخرج أنت ولدت كي تتشبه فعليا بالمسيح.
فيجيب الذي من داخل العائله ويقول: لا أريد ان أخرج، بالرغم من وجود المشكلات والأزمات، أشعر بالراحة بجوار عائلتي. الذي بالخارج: اذا اخبرني لماذا قلبك هكذا صغير تحب فقط من يحبك، تعيش وتسعد نفسك فقط عندما ترضي والديك، في الحقيقة عزيزي أنت تعيش فقط كي تسعد والديك وعائلتك ولكن انت غير سعيد. من بالداخل: لا أريد أن أخاطر بحياتي.
من الخارج :انت لم تولد لم توجد كي تعيش كل حياتك باحثا عن كيف ترضئ والديك وعائلتك، أنت لم تولد لتنفذ خططهم في الحياه، لن بهذا حياتك فقيرة جدًا، حياة مريضة وستنتهي سريعًا. يسوع يدعو لشخص آخر، أنت مدعو لحياة آخرى، حياة جديدة.
يكشف يسوع عن السبب الحقيقي لوجود الإنسان على الأرض: جميعًا ولدنا على الأرض لكي نكون قديسين مثله، لم نولد لنعيش في حضن عائلة تقضي حياتك في حل مشكلاتهم ونكتفي بها، مدعوين لمحبة أعمق، تعطي حياتك لمن تسميهم أعداء، أنت مدعو لتعطي حياتك الأولى لكي تكون لك حياة ثانية، جديدة.
اٍترك كل شئ، اِترك مخطط والديك واتبع يسوع، اِترك الشباك التي تعتمد عليها لتعيش، ثق في ان الله يقدم لك حياة افضل. أنت لم توجد هنا لتعيش هذة الحياة الروتنية، أنت مدعوا لتعيش حياة مختلفة عن تلك الحياة التي أعطها لك والديك. يسوع آتي حامل سيف لقطع تمسكك بالحياة الأرضية وتعلقك بوالديك جاء حامل سيف ليقطع الحبل السري الذي يربطك والدتك وبعائلتك جاء ليخرجك لحياة أخرى، حياة حقيقية.
من يولد مرة ثانية من خلال الأسرار هو أنسان جديد، إنسان آخر، لن يجد السعادة الحقيقية إلا بالقرب من يسوع، بقوة روحة القدوس. الإنسان يصل إلى الراحة الحقيقية. بالخبرة تعلمنا وتفيدنا ان الغني وكثرة المال ليس هم مصدر السعادة الإنسان.
إذ مازلت تبحث عن ارضاء والديك أو العكس، اإ مازلت تعاند معهم وتعيش لتحل المشاكل، فأقول لك إنك ولدت ليس لهذا او ذاك، أنت ولدت لتتبع المسيح، أنت ولدت كي من جديد بحرية تولد مرة أخرى من فوق . فرنسيس لأسيزي يخاطب أبيه قائلا: من اليوم أنت لست أبي، لا عيش على حسبب مخططتك، لدي أب واحد في السماء.
حياة جديدة أين هي وكيف أعيشها هذا ما سنراه بالمحاضرة التالية؟ أنت ولدت كي تعيش حياة جديدة أن تصبح مخلوق جديد، لا تعتقد أن كبر سنك عائق أو تفكر في نفسك بأن كل شئ انتهي. لله يدعوا إبراهيم وهو في الثمانيين من عمرة ويقول له : أخرج من ارضك ومن عشيرتك. هذة العبارة اليوم لكل منكم؛ اخرج وأترك ارضك والديك ومخططهم لحياة جديدة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.