إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

أكرم أباك وأمك (5): هل تتبع المسيح أم الوالدين؟

1٬376

“أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ، تِلكَ أوَّلُ وَصيَّةٍ يَرتَبِطُ بِها وَعدٌ وهوَ: لِتنالَ خَيرًا وتَطولَ أيَّامُكَ في الأرضِ” (أفسس 6: 2- 3). متى تُكرم أباك وأمكَ ستكون سعيدًا في حياتك، تنال خيرًا وتطول حياتك على الأرض. الإكرام هو اعطاء الوزن الحقيقي لوالديك، دون مبالغة أو تقليل، تعطى حكمًا متوازنًا، لأن شكل العلاقة مع الوالدين ستحمله مدى حياتك على الأرض، لأنك مهما ذهبت بعيدًا ستحمل معك خبرات الماضي. تنادى الوصية بإكرام الأب والأم، لأن الأمر يتعلق بقرارك الشخصي، إذا نظرت باحتقار إلى والديك لسبب خطأ وقعا فيه، فأنت تجعل من تصرفهما “عقدة” ما تؤلمك في كل وقت. أزمات يمكن أن تحملها طيلة حياتك: كالتفرقة في المعاملة، عدم الاحتواء، الاحتياج العاطفي، التسلط، العنف وغيرها من الأزمات التي نعاني من توابعها اليوم. لذا تدعوك الوصية إلى التصالح مع أخطاء الوالدين، حتى تستطيع أن تجد السعادة في حياتك.

المشكلة إننا نشعر أن كلَّ ما نحن عليه وما نعانيه هو نتيجة لما اختبرناه وعشناه في مرحلة طفولتنا. نحن نتألم ونعاني من بعض المواقف التي تعرضنا لها في الطفولة ولم نكن نحن مسئولون، بل تقع المسئولية على عاتق الوالدين. من ينظر إلى المرآه ويري إنه ليس جميل كما يرغب بُرجع الأمر إلى والديه ويقول” “لو كان والدي حسنا المظهر لكنت الآن ورثت عنهما شيئًا مختلفًا، العيب فيهما”. آخر قد يكون مريض بالسكر فيعش أيام حياته يلعن جذوره لأنه يعلم أن مرض السكر من الأمراض الوراثية. نعيش حياة طويلة نبحث عن سبب لما نحن عليه، عن شخص نضع على عاتقه سبب مشكلاتنا، ونبدأ عادة من الوالدين.

السؤال هنا: لماذا تتعقد الحياة إلى هذه الدرجة في حالة وجود مشكلة ما مع الوالدين؟ لماذا يمثل الأمر أهمية كبيرة في حياة كلٍ منا متى كانت الأزمة تأتي من الطفولة؟ هل لأن الطفل تكون ذاكرته بيضاء يُخرن فيها كل شيء ويكبر معه!!

في اللقاءين السابقين أشرنا إلى تعاليم يسوع التي توضح لنا لماذا تكون الأزمة مع الوالدين مؤثرة لهذه الدرجة. في اللقاء الأول أشرنا إلى قول يسوع إلى: “ما مِنْ شيءٍ يَدخُلُ الإنسانَ مِنَ الخارِجِ يُنجِّسُهُ. ولكن ما يخرُجُ مِنَ الإنسانِ هوَ الذي يُنَجِّسُ الإنسانَ”. هناك يُشير الرب إلى قاعدة في غاية الأهمية للتخلص من كافة الأزمات التي تؤثر علينا إلى اليوم منذ مرحلة الطفولة. لا نقصد بالطبع التقليل من عمق المشكلة التي يعانيها البعض نتيجة مواقف محددة في فترة النمو الأولى. إلا إن المسيح يقدم لنا تفسيرًا لسبب تراكم الأزمات. فالمشكلة حدثت بالفعل، لكن الحياة ممئلة من المواقف  السلبية، لكن هذه هي حياتك، فكيف تتعامل معها. فإذا كنت تعاني من مشكلة مع السلطة، خجول، مشكلات أعقد من تلك، فحياتك بين يديك الآن، كيف ستعيشها؟ كيف ستتعامل مع المشكلة الآن؟

ليس ما يدخل الفم يُحدد شخصية الإنسان بطريقة نهائية، سيؤثر بلا شك في شخصيته ومستقلبه، فإذا كان الكلام قليل جدًا وغاب الحوار عن عائلتك فأنت تجد صعوبة في العلاقات الاجتماعية وتميل إلى الصمت. لكن ليس لهذه المواقف الكلمة النهائية في حياتك. الكلمة النهائية هي ما تؤمن به أنت في قلبك. فما يخرج من داخلك هو الذي يُحدد حياتك وتصرفاتك. يسوع المسيح يقول ليس ما يدخل على الإنسان وينصب عليه من الخارج ينجسه. أي يكونه تكوين نهائي ويشكله (لأنه يعتمد على اجابتك واستعداك الداخلي، وكيف تتعامل معه. مثال: اذ ولدت وانت يتيم الأب. فهذا حدث خارجي، فالمهم هو تعامل الإنسان الداخلي مع الحدث).

إذن كافة الأحداث التي مررت بها، أنت الذي تعطيها المعنى وتتركها تتحكم في حياتك وتُشكل توجهاتك الآن. بالرغم من الصعوبات التي مَررت بها فأنت قادر على تجاوزها.

في اللقاء السابق تناولنا إن سبب الأزمات الكثيرة التي نواجهها في علاقتنا مع الوالدين وتؤثر كثيرًا على حياة كلٍ منا، يَرجع إلى إن البعض يعتقد إن الحياة مستمدة من الوالدين، اللذين يُحددان حياة أبنائهم سعيدة كانت أو سيئة. إذا كان الشخص مُتعلق بهم إلى الدرجة لا يستطيع فيها الاستغناء عنهما، بالرغم من تجاوزه الثلاثين. لا يستطيع أن ينفصل عن والديه. يفكر دائمًا في إرضاء والديه، وينازل عن قراراته وسعادته لصالحهما على حساب صالحه هو كشخص فريد. فإن هذا الشخص للأسف يعتقد إن والديه آلهة يستمد منهم الحياة وهما الضمانة الحقيقية لحياته. كذلك في حالة الشخص الذي يرى إن والديه هو أساس كل مشكلاته في الحياة، فإن أيضًا يشعر إنه والديه آلهة، يستمد منهم الحياة، لذا فحياته قلقة مرتبكة لأن والديه أهملها أو أخطأ في حقه فحكما عليه بالتعاسة طيلة حياته.

الحالة الأولى هي حالة شخص صنع آلهة في حياته: الحياة مستمدة من الوالدين. استمد الحياة ويتمسك بها وليس لديه الاستعداد للانفصال عنها. الثاني لديه نفس الإله، فقط لأن والديه لم يعطياه الحياة، كما يعتقد ويتمنى. يؤمن الأخير بأن الحياة هي فقط مستمدة من الوالدين، وحيث كانا أولئك سيئين معه، جهلة وأغبياء لم يفطنا إلى نتيجة تصرفاتهما في المستقبل، فإنه يحملهما معه طوال الحياة كالآلهة. لماذا أعطوني هذا النوع من الحياة؟ لماذا مانعوا عنى عطفتهم، كمثل الآخرين؟ لماذا لم يتركوا شيئًا جميلاً للحياة؟ هو مثل الشخص الأول الذي لا يستطيع الانفصال عن والديه، هو لا يستطيع أن ينفصل عن الصورة التي رسمها عما كان يجب أن يكون. هي ذات المشكلة: الحياة مستمدة من الوالدين.

رأينا في اللقاء السابق قوله يسوع في متى 10: “لا تَظُنّوا أنيَّ جِئتُ لأحمِلَ السَّلامَ إلى العالَمِ، ما جِئتُ لأحْمِلَ سَلامًا بَلْ سَيفًا”. جِئتُ لأُفرَّقَ بَينَ الاَبنِ وأبـيهِ، والبِنتِ وأمَّها، والكَنَّةِ وحماتِها. ويكونُ أعداءَ الإنسانِ أهلُ بـيتِهِ”. مَنْ أحبَّ أباهُ أو أمَّهُ أكثرَ ممّا يُحِبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. ومَنْ أحبَّ اَبنَهُ أو بِنتَهُ أكثرَ ممّا يُحبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. ومَنْ لا يَحمِلُ صليبَهُ ويَتْبعُني، فلا يَسْتحِقٌّني. مَنْ حَفِظَ حياتَهُ يَخسَرُها، ومَنْ خَسِرَ حياتَهُ مِنْ أجلي يَحفَظُها”.

يعلن المسيح هنا إن الحياة ليست مستمدة من الوالدين. الحياة الناضجة الحقيقة لا تكون إلا إذا خرج الإنسان من مخطط والديه واستقلَ عنهما: “يترك الرجل آباه وأمه ويتحد بامرأته ويصير الاثنين جسدًا واحدًا”. أنت غير مدعوا لأن تعيش حياتك كلها في الإنشغال بحل مشاكل والديك أو تضيع عمرك في التفكير فيهم وكيف تتعامل معهم وكيف ترضيهم، أنت مدعو لأن تنطلق لتعيش حياة أخرى. عليك أن تؤمن بأن هناك حياة أخرى تختلف عن الحياة التي تعتقد إن والديك أعطاك إياها.

يقدم لك دعوة بحياة جديدة، مختلفة عن تلك الحياة التي تعتقد إنك استلمتها من والديك. الخطوة الإولى في هذه الحياة الجديدة أن تخرج من مخطط والديك، تنفصل عن المشكلات التي تقضي كل وقتك تفكر فيها، لكن انتبه، دون أن تحتقرهم: اِكرم أباك وأمك، أي أعطيهم وزنهم الحقيقي في الحياة.

جاء المسيح، لا لكي يحل مشكلاتك مع والديك، بل لأن يعطيك حياة جديدة.

هل تعلم لماذا مررت بالمشكلات في الصغر؟ لماذا تحمل في داخلك أزمات وعقد نفسية؟ لأنه ليس واجب والديك بأن يعطوك الحياة، هما فقط مرحلة تأسيسية لحياتك، مهمة ولكن هناك ضرورة أن تتخطاها لتصبح ناضجًا. حياة ناضجة لا نصل إليها إلا إذا خرجنا من الرحم العائلي، وقطعنا الحبل السري، للنتطلق إلى حياة أخرى جديدة. يمر يسوع بحياتك ويدعوك قائلا: اترك أباك وأمك، أترك حياتك، التي تعتقد إنها كل شيء، أنت مدعو لحياة أخرى، تعال واتبعني. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ (يوحنا 1: 12).

منذ اللحظة التي قطعوا فيها الحبل السري، والإنسان يحبث عن حبل سري آخر يتعلق به، يستمد منه الحياة، من الأصدقاء، من الزواج فيجدون هويتهم في طرف آخر. المشكلة إننا لا نعترف بالفشل، فنتعلق بأشياء وأشخاص نعتقد إنهم سيعطونا الحياة، لكن الحياة تعطي فقط من مانح الحياة ذاتها، الله وحده.

إذ مازلت تبحث عن ارضاء والديك أو العكس، اإ مازلت تعاند معهم وتعيش لتحل المشاكل، فأقول لك إنك ولدت ليس لهذا او ذاك، أنت ولدت لتتبع المسيح، أنت ولدت كي من جديد بحرية تولد مرة أخرى من فوق . فرنسيس لأسيزي يخاطب أبيه قائلا: من اليوم أنت لست أبي، لا عيش على حسبب مخططتك، لدي أب واحد في السماء.

حياة جديدة أين هي وكيف أعيشها هذا ما سنراه بالمحاضرة التالية؟ أنت ولدت كي تعيش حياة جديدة أن تصبح مخلوق جديد، لا تعتقد أن كبر سنك عائق أو تفكر في نفسك بأن كل شئ انتهي. لله يدعوا إبراهيم وهو في الثمانيين من عمرة ويقول له : أخرج من ارضك ومن عشيرتك. هذة العبارة اليوم لكل منكم؛ اخرج وأترك ارضك والديك ومخططهم لحياة جديدة.

اللقاء الخامس

ننتقل الآن إلى نص لوقا 9: 57- 62 “وبَينَما هُم سائرون، قالَ لَه رَجُلٌ في الطَّريق: «أَتبَعُكَ حيثُ تَمْضي». 58فقالَ لَه يسوع: «إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرَة ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه».

هناك ثلاث أشخاص يتوجهون ليسوع ويطلبوا منه أن يتبعوه في حياة جديدة. الأول غلب عليه الحماس، يتقدم ليسوع ويقول له: ” أتبَعُكَ أينَما تَذهَبُ”. يبدو إنه شخصٌ صالحٌ. كثيرون يريدون أن يتبعوا المسيح في حياةٍ جديدة. بماذا أجاب يسوع، لنقرأ: «لِلثَعالِبِ أوجِرَةِ، ولِطُيورِ السَّماءِ أعشاشٌ، وأمَّا اَبنُ الإنسانِ فما لَهُ مَوضِعٌ يُسنِدُ إليهِ رأسَهُ».

فكل المخلوقات لديها “بيوتها” الخاصة، فالعصافيرُ أعشاشها، والضِّباعُ أوجارها (جُحْرُ الضَّبعُ)، لديها “رحم ثانيٍ، رحم عائلي). جميع المخلوقات لديها “الجُحرُ” الذي تلجأ إليه، لكن ابن الإنسان ليس لديه جُحرٌ أو عرينٌ، لأن المسيح إنسانٌ ناضجُ ليس في حاجة إلى العودة مرة أخرى إلى الرحم الذي خرج منه، هو لا يستمد الحياة من والديه، هو يملك سلطانٌ على حياته وقادر على أن يبذل حياته ويعطيها لمن أراد. قطع الحبل السري الذي يربطه بكائن بشري، يمكن أن يعيش دون كهف أو جُحر، يعيش حرٌ، ليس لديه شيء يخفيه عن أحد، ليس لديه صندوق أسود لا يحب أن يراه أحد.

هل تعلمون لماذا تفشل بعض الزوجات؟ لأن كل طرف لديه جُحره الخاص، فلا يكشف ذاته تمامًا، بل يحتفظ بجُحر خاص لا يسمح للطرف الأخر بدخوله أبدًا. ذكريات ومواقف نحملها بداخلنا. لهذا لا يستطيع الزوج أو الزوجة أن يقول إنه يُحب الطرف الأخر تمامًا، ليس الاثنين جسدًا واحدًا بعد. ابن الإنسان لا يملك جُحرًا خاص به، لديه طريقة مختلفة في الحياة!!!

ما هو جُحرك الذي تلجأ إليه؟ الذي يعكس حاجتك إلى الرحم من جديد؟

الحالة الثانية:

59 وقالَ يَسوعُ لِرَجُلٍ آخَرَ: «اَتبَعْني!» فأجابَهُ الرَّجُلُ: «يا سيِّدُ دَعْني أذهَبُ أوَّلاً وأدفِنُ أبـي».

60 فقالَ لَهُ يَسوعُ: «أُتركِ المَوتى يَدفُنونَ مَوتاهُم. وأمَّا أنتَ، فاَذهَبْ وبَشِّرْ بِمَلكوتِ الله».

ماذا يعنى قول يسوع؟ يطلب يسوع في البداية من الرجل أن يتعبه، يجاوبه الأخير: “دعني يا سيد أن أذهب أولاً وأدفن أبي”. يظهر من العبارة إن الرجل لا يتكلم عن موت فعلي لأبيه، بل عن أبيه الذي يحتضر. دعني أدفن أبي: يمكن أن تُشير إلى فعلي للأب، كذلك إلى أن الأب مازال على قيد الحياة، عجوز يحتضر. لدي واجب أخير تجاه والدي. أنت تدعوني يا يسوع الآن، لكني لا أستطيع لأن هناك شيء أخير يجب أن أصنعه مع أبي. يجب أن أضعه في قبره، يجب أن أنهي مسيرتي معه كأبن. يجب أن أضعه في قبره ثم أتي وأتبعك. أي لم أحل كل مشكلاتي مع أبي، أنا مازلت في قلب الأحداث معه، يجب أن أدفنه، يجب أن أضع سلام بيني وبينه.

ماذا يُجب يسوع؟ لن ينتهي دفن أبيك أبدًا، لن يأتي أبدًا الوقت الذي فيه تنتهي تمامًا من دفن أبيك، كما قال أحدكم: “منذ سبعة سنوات مات أبي، لكن لم أنتهي إلى اليوم من دفنه”. ماذا يقول يسوع: “دع الموتى يدفنون موتاهم، أذهب وبشر بملكوت الله”. الموتى يدفنون الموتى!!

هناك ميت يدفن ميت. هذا ما يعنيه يسوع. من هو الميت الذي يدفن ميت؟ جميعًا لدينا مخاوف، مناطق مظلمة، عُقد نفسية، احتياجات غير معلنة، إلى تطلعات غير محققة، إلى قلق وإحباطات. كل هذا نتذكره، نتعامل معها وما تخلفه من مشاعر، وسلوكيات وخوف من الفشل، إلى حقيقة لم تعاش أبدًا، إلى نفسك التي لم تفهمها أبدًا. لماذا أشعر إني غريب عمن حولي؟ لماذا أرغب في أشياء لا يجب أن أرغب فيها؟ الحياة التي أنميتها في مواجهة أبيك وأمك، في مواجهة طفولتك، في مواجهة رحيل أحد والديك وأنت طفل صغير، في مواجهة تشكيل هويتك “الأنا” الخاص بك.

تظهر كميت لأنك مازلت تطلب باستمرار الحياة من الماضي، لم ترضى أبدًا عن حياتك التي تشبه الثقب الأسود. فالثقوب السوداء التي تبتلع كل شيء من حولها. بقلقك تغذي موتك ولن تقوم أبدًا. ماذا يقول يسوع: أمام مشكلاتك، أمام خوفك، يقول.. كفا فالأموات يدفنون الأموات. يجب أن نتعلم شيئًا بالغ الأهمية: هناك حواجز في الحياة، إذا لم نتجاوزهم، يجب أن نغير توجهنا في الحياة.

لنعيد الجملة الشائكة، لأنها تحمل سرُ الحياة الحقيقية. ذكريات الماضي هي متاهة من يدخلها يصُعب عليه الخروج منها، من الممكن أن يقضي الحياة بأكملها داخلها. لم تروا أشخاصًا قضوا حياتهم منكفئين على مشكلاتهم ولم يخرجوا منها أبدًا. يلعقون جراحهم طوال الحياة. إذا كان والدي نعتي يومًا بأني معتوه (فاشل، الخ)، فما أتذكره دومًا إني معتوه، أنا معتوه اليوم لأني أبي قال لي ذلك يومًا. عندما تتزوج فأنت تطلب من زوجتك أن تقول العكس، أنت ذكي جدًا، عبقري. إذا لم تقل لي في يوما ما فأنت تعاني من قلق، فكل ما قالته الزوجة ليس له قيمة لأنك تشعر في قرارة نفسك إنك معتوه، كما قال والدك. ذكرت مثلاً ساذجًا لكنه يعكس الوضع تمامًا. طوال الحياة تفكر في لماذا تجاهلك واحتقرك أبيك؟ تغلق حياتك على ظلم والديك لك، لكن هل تسجن حياتك كلها في إطار هذا الأمر؟

جميعًا متعلقون بمشكلاتنا إلى الدرجة التي تطغي على هويتنا الحقيقية ونحمل الآخرين دومًا أسباب هذه المشكلات. نبني كل حياتنا على تلك المشكلات. نغذي ميت، نضع أشياء في ذلك الثقب الأسود الذي لا يشبع أبدًا. بهذه الطريقة أنت لا تنمو لأنك تضع هذا العائق أمامك كل يوم. كل الآباء والأمهات يخطئون، فلماذا تقف أنت على هذا الخطأ كانه فريد ولم يتكرر مع أحد. لماذا ترغب في أن تكون مركز الاهتمام، ولا تقبل أن آخر قد صنع بك شرًا. يؤكد بولس الرسول إن الإنسان الجديد لا يعيش حسب الجسد، أما علم النفس فيؤكد إن الإنسان هو تشكيل لخبراته في الطفولة. الحقيقة لا يصل بك المفهوم الأخير إلى الحياة الجديدة أبدًا.

الخبرات السابقة كالثوب المهترئ القديم فلماذا تتعلق به؟ لقد طرح برتلماوس الأعمي رداءه عندما سمع صوت يسوع يدعوه للشفاء. طرح ردائه وهو ما زال أعمي، فلماذا؟ لأنه لم يعد في حاجة إلى رداء أعمي، فقد كان على يقين بأنه سيبصر بعد قليل، ستتغير حياته تمامًا. الاستمرار في تغذية تلك الثقوب السوداء لن تأتي بشيء، ولن ينتهي هذا الأمر أبدًا، ستصبح الحياة الداخلية ممتلئة بالصعوبات والحواجز. يجب أن نتعلم أن نجتاز هذه الحواجز، وتغير اتجاه الحياة.

يمر يسوع بحياة كل منا ويطلب أن نخرج من تلك المشكلات، أن نتحرر من العبودية، أن تترك أبيك وأمك وأخيك، عمك، عائلتك. لا يجب أن تعيش حياتك هكذا، في حالة تعلق شديد بمشكلاتك وأزماتك. من غير الممكن أن تكون هذه هي الحياة. ليس هناك فائدة من حل المشكلات النفسية، ستجد غيرها في أعماقك أكثر تعقيدًا.

أنت مدعو للحرية، يمر يسوع في الوقت الذي تحمل فيه مشكلاتك، يمر بك وأنت سجين مشكلاتك. فماذا سيقول يسوع؟ لن يأتي ليضع لك تلفزيونا في غرفة سجنك، لن يأتي ليُحسن حياتك في الطفولة. سيقول كل لا: أخرج من السجن، أبدأ في الحياة الحقيقية. البعض منا مثل ذلك الرجل الذي يمر به يسوع ويدعوه لإتباعه. دعني أولا أدفن أبي. هل ستبقي طول حياتك تدفن، طول حياتك غارق في مشكلات الطفولة، لا يجب عليك أن تحل مشكلاتك، يجب أن تولد من جديد، يجب أن تختار حياة جديدة، لا يجب أن تحل مشكلاتك مع أبيك أو أمك أو إحباطاتك. أخرج.. أخرج.

أخرج من بيت أبيك، هكذا طلب الله من آبرام، أخرج من بيتك وعشيرتك. ماذا كان يجب أن يقول آبرام إلى أهل بيته؟ موسى الذي عاش كل طفولته في بيت فرعون، يُحرر الشعب فيخرج من بيت فرعون الذي تربى فيه أولاً. أكرم أباك وأمك يعنى أخرج وتحرر من طفولتك، وأدخل في مشيئة الله لك ورسالتك في الحياة. سيصبح أباك وأمك أعزاء جدًا لديك، ستسامحهم على كل شيء فعلوه لك، ستنظر لحياتك من خلال رسالتك وفي خدمتها. كل المشكلات تصبح دون فائدة أو تأثير عليك، ستصبح خبرات تفيدك في خدمة الآخرين.

يقول يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، اشغل نفسك بما يحقق خلاصك. ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ ابحث عن الحياة الأبدية، اعلان مجئ الملكوت. هنا الجزء الإيجابي فالرب يدعوك لتغير حياتك: من شخص غارق في مشكلاته الخاصة إلى شخص يهتم بأمور الحياة الأبدية ونشر الملكوت. يقول بولس: على أن أنسى ما ورائي وأجاهد للأمام (فيلبي 3: 13). فالمسيح لديه مشكلات طفولة كثيرة وخوف مترسب في النفس. لهذا يقول له أهل الناصرة: يا طبيب طبب نفسك أولاً، نحن نعلم من أنت. هل ظل يسوع يبكي حقيقته كمولود من فتاه غير متزوجة؟ سمع يسوع نداء الله وقت العماد: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. تنطبق هذه الجملة علينا جميعًا اليوم، نولد من جديد بواسطة الروح القدس متى قبلنا الله في حياتنا.

 في اللقاء السابق كشف لنا يسوع عن السبب الحقيقي لوجود الإنسان على الأرض: كل إنسان وُلِدَ لكي يكون قديسًا على مثال الآب، لم يولد ليعيش في حضن عائلة يقضي حياته في حل مشكلاتهم ويكتفي بها، فهو مدعو لمحبة أعمق، مدعو ليبذل حياته الأولى ليكتسب حياة جديدة.

أنت مدعو لأن تتركَ كل شئ، تتركَ مخطط والديك وأن تتبع يسوع، أن تترك الشباك التي تعتمد عليها لتعيش، أن تثق في أن الله يقدم لك حياة أفضل. أنت لم توجد هنا لتعيش هذة الحياة الروتنية، أنت مدعوا لتعيش حياة مختلفة عن تلك الحياة التي أعطها لك والديك. يسوع آتي حامل سيف لقطع تمسكك بالحياة الأرضية وتعلقك بوالديك جاء حامل سيفٌ ليقطع الحبل السري الذي يربطك بوالديك وبعائلتك جاء ليخرجك لحياة أخرى، حياة حقيقية.

إذ كنت ما تزال تبحث عن إرضاء والديك أو العكس، إذا كنت في صراع مع والديك، فأقول لك إنك لم تُولد لهذا، أنت وُلدتَ في هذه الحياة لأجل أن أن تتبع المسيح في حياة جديدة، تُولد من فوق، أن تعيش وفقا لمخطط الله لك، مثلما فعل القديس فرنسيس الذي خاطب أبيه يومًا: من اليوم أنت لست أبي، لن عيش على حسبب مخططتك، لدي أب واحد في السماء.

الحالة الثالثة:

61 وقالَ لَهُ آخرُ: «أتبَعُكَ يا سيِّدُ، ولكِنْ دَعْني أوَّلاً أوَدِّعُ أَهلي».

60 فقالَ لَه يَسوعُ: «ما مِنْ أحدٍ يَضَعُ يدَهُ على المِحراثِ ويَلتَفِتُ إلى الوَراءِ، يَصلُحُ لِمَلكوتِ الله».

نفهم هنا أن الله يُريد أن يحافظ على حياتنا من التعلق الشديد بالماضي، العيش بألم من جراء مشكلاتنا وعُقدنا التي نحملها منذ فترة الطفولة. فمن يتعلق بالمشكلات ويسمح لها أن تسيطر على حياته يُشبه من يقود محراثًا لكنه ينظر إلى الوراء. فالزوجة لم تكن موجودة في حياتك عندما تعرضت لتلك المشكلات، اليوم هو اليوم، والأمس هو الأمس، وتحميل اليوم بكل مشكلات الماضي، بما لم يمنحك إياه والديك، فأنت تظلم شريك حياتك. يغرق الإنسان في مآسي الماضي وذكرياته وتبعاته وليس في الحياة التي يعيشها الآن وما يجب أن يفعله.

مَن وضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء (لم ينظر أليشع إلى الوراء) لا يستحق ملكوت السموات. من ينظر إلى إن الحياة المناسبة له هي التي اِستمدها من والديه لا يستحق ملكوت السموات، لا يستحقني، هكذا يقول يسوع. من أحب أبيه أو أمه أكثر مني لا يستحقني.

دعوة أليشع (1ملوك الأول 19: 19- 21)

19فَانْطَلَقَ إِيلِيَّا مِنْ هُنَاكَ فَوَجَدَ أَلِيشَعَ بْنَ شَافَاطَ يَحْرُثُ حَقْلاً، وَأَمَامَهُ أَحَدَ عَشَرَ زَوْجاً مِنَ الْبَقَرِ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ الزَّوْجِ الثَّانِي عَشَرَ.

لنلاحظ إن أليشع كان يرعى 24 بقرة. كان يسير خلف زوج البقر الثاني عشر؛ هادئًا، سعيدًا في عمله متنعمًا بما يملك من أرض وماشية.

فَمَرَّ بِهِ إِيلِيَّا وَطَرَحَ عَلَيْهِ رِدَاءَهُ، 20فَتَرَكَ الْبَقَرَ وَرَكَضَ وَرَاءَ إِيلِيَّا وَقَالَ: «دَعْنِي أُوَدِّعْ أَبِي وَأُمِّي وَأَتْبَعَكَ». فَقَالَ لَهُ: «ارْجِعْ، فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلْتُهُ لَكَ؟» 21فَرَجَعَ أَلِيشَعُ وَأَخَذَ زَوْجَ بَقَرٍ ذَبَحَهُمَا وَسَلَقَ لَحْمَهُمَا عَلَى خَشَبِ الْمِحْرَاثِ وَوَزَّعَهُ عَلَى الشَّعْبِ فَأَكَلُوا، ثُمَّ قَامَ وَلَحِقَ بِإِيلِيَّا وَوَاظَبَ عَلَى خِدْمَتِهِ.

أسلوب الترجمة صعبًا ويعكس لغطًا غير مفهوم، لا يفسره إلى الرجوع إلى اللغة الأصلية التي كُتب بها، اللغة العبرية. يمر إيليا على الشاب الذي يعمل في حقله، فيخلع رداءه ويطرحه عليه وهنا نتوقف أمام هذا الفعل لما يحمل من معاني كثيرة في العقلية اليهودية. هناك شريعة تنص على إن إذا كان لديك دينًا على  فقير فخذ كل ما يملك، عدا ردائه!! لماذا؟ لأن الرداء هو غطائه الوحيد الذي يقيه برد الشتاء. هناك نص يؤكد فيه يسوع هذا المفهوم في العقلية اليهودية:

“ومَنْ أرادَ أنْ يُخاصِمَكَ ليأخُذَ ثَوبَكَ، فاَتْرُكْ لَه رِداءَكَ أيضًا” (متى 5: 40). لماذا لا يطلب الرداء أولاً، فهو الشيء الخارجي، ثم يطلب بعد ذلك ما هو داخلي، الثوب الذي يكون تحت الرداء. ذلك لأنه في المناطق الصحراوية البدوية يمثل الرداء الخارجي يعني كل شيء بالنسبة للقائم في الصحراء، يعنى حياته بكل مجملها.

في سفر الرؤيا هناك الذين يتبعون الحمل وقد غسلوا ردائهم بدم الحمل، أي أعطيت لهم حياة جديدة وهوية جديدة. فكل رابي كان لديه الرداء الخاص به. فالرداء كان يعكس الشخص ورسالته وهويته الخاصة. فماذا يعنى أن يعطي إيليا رداءه إلى أليشع، يعنى أنه يعهد له برسالته، بهويته الخاصة.

يمر إيليا ويغطي أليشع بردائه الخاص دون أن يتكلم. يفهم أليشع المعنى الكامن وراء تصرف إيليا، فيتصرف بطريقة غريبة يقول: أتركني أودع والدي! لكن إيليا ذكره بالمعنى وراء ما فعله من وضع الرداء عليه. ماذا كان سيحدث إذا عاد أليشع إلى بيته ووالديه مرة أخرى، وهو الشاب الغني الذي تعب والده في تربيته ورعايته لأجل أن يصل إلى تلك المكانة الاجتماعية والمالية. أليشع يرعى ميراثه من والديه، 24 بقرة وهذا يعبر عن مستوى مادي مرتفع. هو مثل الشاب الغني الذي طالبه يسوع بأن “يبع كل ما يملك” ليتبعه. ماذا فعل أليشع؟ حطم محراثه، وهو تصرف مجنون، ففي هذا الوقت كان هناك القليل من المزارعين لديهم محراث خاص بهم، والذي لا يملك يقوم بتأجير المحراث من آخر. يحطم أليشع محراثه ويستخدمه في طهي بقرتين ثم قام بتوزيعهم للفقراء.

لم يذهب أليشع إلى والديه لأن إيليا ذكره بما صنع، بالفرصة التي أتاحها لها فتصرف أليشع بالطريقة التي أعلن من خلالها قطع الروابط مع حياته القديمة ويبدأ حياته الجديدة، هو مدعو ليكون نبيًا يحمل رداء إيليا فوق كتفيه، ويحمل روحه داخله، مدعو ليصنع معجزات كثيرة لم يصنعها نبي من قبله: أن يقيم الموتى، ويكثر الخبر كيسوع المسيح. لم يُظهر أليشع قدرات خاصة، فهو يعمل في الزراعة مثل أقرانه، يعيش حياة هادئة، لم يُعد لهذه الحياة الجديدة لكن الله يدعوه لها ويعطيه القدرة على التلائم معها. لم تكن لديه مهارات خاصة، فأول شيء فكر فيه، بعد أن دعاه إيليا، أن يذهب ليودع أمه وأبيه!

هل نتبع المسيح، أم الوالدين؟

دخل أليشع في مصير إلهي في ذلك اليوم، وأصبح شخصًا مهمًا للتاريخ البشري. فإذا تصورنا رفض أليشع عرض إيليا، فضل أن يكمل حياته متنعمًا بثروته، مرتبطًا بوالديه برباط وثيق، أن يبقي داخل “الرحم العائلي” متنعمًا به.

لكننا لم نخلق لهذا الحياة، هناك شيء أكبر في انتظارنا، حياة جديدة لا نعلم عنها شيء غير أن يسوع أشار إليها. هل تذكرون اللقاء الأول، إلقاء الشباك على يمين القارب، جميعنا في حاجة إلى تعلم أسلوب جديد للحياة الجديدة مختلف كليًا عما أعتدناه في هذه الحياة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.