إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

ها أنا أمة للرب

0 1٬070

فى أحد أقسى سجون الأشغال الشاقة على وجه الأرض قررت الإدارة شراء حصان ليساعد فى بعض المهام الخاصة كنقل المؤن والمياه، وكان ضمن السجناء كثيرون ممن يفهمون فى أمور الخيل، أوكلت لهم الإدارة وهم فى الأغلال مهمة اختيار الحصان الأفضل من بين عشرات الخيول التى أخذت تتوافد إلى ساحة المعتقل مع بائعيها، وكان السجناء حول زملائهم خبراء الخيول ينتظرون بفارغ الصبر وصول كل حصان جديد ويستقبلونه بفرح كفرح الأطفال. وبرز من بين الجميع خبيران تُركت لهما المهمة وتجمَّع حول كل منهما حزب من المتحمسين للآراء التى يبديها فى كل حصان يفحصه.

تعالت أصوات الجدل بين الفريقين وكان هناك دائما ميل للتصالح والوصول إلى قرار مشترك. ومن بين ثلاثة خيول وصلت لتصفية السجناء الحماسية النهائية تم اختيار حصان جميل صغير السن قوى البنية، ثم بدأت المساومة على السعر مع صاحب الحصان والتى شارك فيها كل السجناء بالتلويح والتصايح، وطالت المساومة واحتدمت حتى بدأ السجناء يضحكون من أنفسهم ويقول كل منهم للآخر: «كأننا سندفع من جيوبنا». كأننا نريد أن نوفر لخزينة السجن»!

لا لم يكونوا سيدفعون من جيوبهم ولا كانوا يفكرون فى تحقيق وفر لخزينة السجن، «فلماذا إذن يهتم سجين مبهوت ومقهور ولا يجرؤ على رفع صوته فى أبسط الأمور، لماذا يهتم بشراء هذا الحصان أو ذاك كأنما هو يشتريه لنفسه؟» هذا السؤال طرحه دوستويفسكى فى كتابه بالغ الإيلام وسحر التعبير «ذكريات من منزل الأموات»، وأجاب عنه بقوله: «لقد كانوا ممتلئين بسرور عارم لأنهم يستطيعون أن يشتروا حصانا كما يفعل أحرار الناس، فكأنهم يشترون لأنفسهم وكأن ثمن الحصان سيدفعونه من جيوبهم الخاصة»، هذه هى المسألة: أن يختاروا.. أن يتمتعوا بالحق فى الاختيار، فحق الاختيار لا يستمتع به إلا إنسان حر.

فأول وصية قالها الله للإنسان هي الحق في الاختيار نجدها في أول صفحات الكتاب المقدس في سفر التكوين: “واوصى الرب الاله ادم قائلا من جميع شجر الجنة تاكل اكلا و اما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تاكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت”. الوصية الأولي الحق في الاختيار، تأكل من جميع شجر الجنة، لكن إذا أكلت من شجرة معرفة الخير والشر موتا تموت. لقد خلق الله الإنسان، رجلاً وأمرأة، على صورته ومثاله خلقهما. لقد خلق الله الإنسان لتكون له ملء السعادة لكونه إنساناً وابناً لله. لقد كانت رغبة الله أن يجعل الإنسان شريكاً في الحياة الإلهيّة، أن يدخل في علاقة حبّ وبنوّة مع الله الخالق، وأن يحقّق الرغبة الموجودة في أعماقه بأن يبلغ غاية الفرح الإلهيّ والأبديّ. لذلك جعل اللهُ الخليقة كلّها بتصرّف الإنسان، ليحميها ويحافظ على جمال الله الموجود فيها. وصيّة واحدة أٌعطيت للإنسان: ألاّ يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، وهي صورة رمزيّة، معناها أن الإنسان لا يجب أن يصل بكبريائه الى الرغبة بأن يكون منفصلاً عن الله، لا يجب أن يدفعه جهله وكبريائه للتفتيش على جعل نفسه مكان الله.

لكن الإنسان اختار الإنفصال، فضّل السماع لكلمات الشرّير ورفض وصيّة الله، لقد أراد أن يكون “مثل الله”، لا أبن الله. أراد أن يضع الله على هامش حياته، أراد أن يلغي الله ويضع نفسه محوراً للخليقة. أكل الإنسان من ثمرة المعرفة فطُرد من الجنّة، أي انفصل عن الحياة الإلهيّة. ونتيجة لهذا الإنفصال كان الموت. هذه هي الخطيئة الأصليّة التي يشترك فيها الجنس البشريّ بأسره، لأنّ رفض الله والرغبة بالإنفصال عنه بسبب كبريائنا دخل الى صميم طبيعتنا البشريّة.

منذ آدم يجد الإنسان نفسه دومًا أمام الأختيار، أختيار أن يبقي مع الله أو ينفصل عنه. في سفر التثنية يؤكد الرب حرية اختيار الإنسان بأن يعيش معه أو ينفصل عنه إذ قال: “انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر … أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك” (تثنية٣٠: ١٥ـ٢٠).

المرأة الأولى أخطات في الاختيار، أرادت أن تلغى الله من حياتها، أن تكون هي محور الخليقة. أما مريم فهي أحسنت الاختيار، قبلت قول الله وخضعت لقصده، وأتاحت لكلمة الله أن يتجسد منها. انفتحت مريم على نعمة الله وردت بإيجاب على خلاص الله قائلة: “ها أنا أمة للرب، فليكن لي حسب قولك” (لو ١: ٣٨). نندهش عند التأمل في قبول مريم لكلام الملاك، كيف أنّ إلهنا، بمجيئه إلى هذا العالم، أراد أن يعتمد على القبول الحُرّ لإحدى خلائقه. ولم يتمّ ذلك إلّا عندما أجابت العذراء الملاك: “ها أنا أمةٌ للربّ. فليكن لي بحسب قولك”، فبدأت مذاك حياة كلمة الله الأبديّة في التاريخ البشري. إنّه لمؤثّر رؤية كيف أنّ الله لم يحترم حريّة الانسان في الاختيار فحسب، بل كان بحاجة إليها أيضاً.

إنه الجواب الذي كان العالم بأسره ينتظره. جاء في إحدى عظات القديس برنردُس ما يلي: “الملاك ينتظر الجواب… نحن أيضاً، أيتها السيدة، نحن المنسحقين بالحُكمِ الصادر علينا، ننتظر منك كلمة الرأفة. إن قلتِ ((نعم)) كان لنا التحرُّر فوراً… إنّ آدم المسكين المنفيّ من الفردوس يتوسّل إليك، أيتها العذراء، هو وعائلته البائسة. وكذلك إبراهيم وداود وسائر ألآباء القديسين. وجدودُك أنتِ هم الجالسون في أرضِ ظلالِ الموت، يتوسّلون إليك أيضاً بإلحاح. في الواقع، إنّ العالم بأسره يجثو أمام رُكبتيكِ، منتظِراً الجواب… فعلى جوابك يتوقّف انتعاش المعذَّبين، وفداءُ المأسورين، وتحريرُ جنسٍ بشريٍّ محكومٍ عليه بالموت. وقُصارى القول، إنّ خلاص بني آدم، خلاص الجنس البشريّ بأكمله، متعلّقٌ بجوابك. “فأسرعي وأجيبي، أيتها العذراء! قولي الكلمة التي ينتظرها جميع ما على الأرض وفي الأسافل والأعالي… الرب أيضاً يتلهّف لمعرفة جوابك… ها هو من تبتغيه الأُمم حاضرٌ هنا يقرع الباب… فانهضي، وأسرعي، وافتحي له!”

ماذا لو رفضت العذراء، أو حتى لزمت الصمت.. لابتعد الملاك خائبا، عاد كل شيءٍ كما كان.. لفشلت خطة الخلاص التي أعدها الله منذ البدء، أو تأجلت لحين العثور على متبرع، يقبل مخطط الله. كان خضوع العذراء مع دعوة الله لها، هو الطريق الذي هيأ به الله جسداً له ليدخل منه إلى العالم (عبرانيين ١٠/٥). تميزت العذراء عن ساره، المرأة المتزوجة، العاقر، حين سمعت رسالة الله بولادة ابن لها في شيخوختها، ضحكت، لأنها أعتبرت أن الوقت فات لحدوث مثل هذا الأمر (تكوين ١٨: ٩-١٥)، وزكريا الكاهن حين ظَهر له ملاك الرب، خاف واضطرب، حتى بعدما بشَّره الملاك بأن الله قد سَمِع لطلبته وسوف يُعطى ابناً، لم يُصدِق، فكيف وهو شيخ، وامـرأته متقدمة في الأيام أن يكون له ولدٍ؟. (لوقا ١: ١٢-١٨). أما العذراء مريم فحين سمعت البشرى السارة، لم تَخف، ولم تضطرب، ولم تشك، بل قبلت رسالة الله لها حتى وهي في ظروف بشرية مستحيلة.

نتعرض يوميا لتجربة الاختيار.. لاستخدام لحريتنا بصورة صحيحة كما فعلت العذراء. نتخبط يوميا بين ما هو خير وما هو شر، أصبحنا مستبعدين للشر، كما يقول بولس الرسول: الخير الّذي أريده لا أصنعه، والشرّ الّذي لا أريد، إيّاه أفعل” (روم ٧، ١٥). علينا الاختيار بين الخير والشر.. بين النور والظلمة. فالله نورُ لا ظلام فيه، وعندما يختار الإنسان أن يبعد عنه يبقي في الظلام، لذلك قال عن نفسه: “أنا نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة (يو ٨/١٢). “ان كان احد يمشي في النهار لا يعثر لانه ينظر نور هذا العالم و لكن ان كان احد يمشي في الليل يعثر لان النور ليس فيه” (يو ١١/٩-١٠). الإنسان الذي يمشي في النور لا يعثر ولا يسقط لأن عيناه مبصرتان، أما الإنسان البعيد عن الله فأنه يمشي في الظلام، فيسقط ويتعثر.

يقول البعض إنه سبق وأن أخترنا أن نكون مع الله بالعماد، بالصلاة، بالمواظبة على الكنيسة وغيرها من أساليب العبادة، لكن يوحنا ينبهنا في رسالته الأولى: “من قال انه في النور و هو يبغض اخاه فهو الى الان في الظلمة، من يحب اخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة، واما من يبغض اخاه فهو في الظلمة و في الظلمة يسلك و لا يعلم اين يمضي لان الظلمة اعمت عينيه” (١يو ٢/٧-٨).

قد يعجبك ايضا
اترك رد