الأبوة في الحياة المكرسة
كانت تعاليم يسوع خلال سنوات حياته العلانية تصب في مجملها في تعريف التلاميذ والجموع من هو الآب، أن يكشف وجهه الآب:
- “ألا تُؤمِنُ بأنِّي في الآبِ وأنَّ الآبَ فيَّ؟ الكلامُ الذي أقولُهُ لا أقولُهُ مِنْ عِندي، والأعمالُ التي أعمَلُها يَعمَلُها الآبُ الذي هوَ فيَّ”(يوحنا 14: 10)؛
- “طعامي أنْ أعمَلَ بِمَشيئَةِ الذي أرْسَلني وأُتمِّمَ عَمَلهُ” (يوحنا 4: 34)؛
- «نزَلْتُ مِنَ السَّماءِ لأعمَلَ ما أُريدُهُ أنا، بل ما يُريدُهُ الذي أرسَلَني» (يو 6: 38).
- “أظهَرتُ اَسمَكَ لِمَنْ وهَبتَهُم لي مِنَ العالَمِ” (يوحنا 17: 6)؛
كانت مهة يسوع الأساسية هي أن يُعلن حقيقة الله كأب، الذي منه تأخذ كل أبوّة اسمها (أفسس 3: 15). جاء هذا الإعلان ليُصحح الصورة التي أُخذت عن الله في العهد القديم، كإله بعيد عن البشر، يأتي حضوره ليزلزل جبل سيناء، ويسمع صوته سط البروق والرعد. كان من الصعب على الإنسان أن تكون له علاقة شخصية مع الله البعيد في علياء سمائه. ارتبط الإنسان بالله من خلال وسيط وهي شريعة الناموس التي أعلنت عن محبة الله ورحمته تجاه البشر، لكن بقيت المسافة التي تفصل بينه وبين الله شاسعة. جاء يسوع ليعلن من هو الآب، من خلال حياته وتعاليمه وأمثاله. لذا كانت إجابته على فيلبُّسُ عندما سأله: «يا سيِّدُ، أرِنا الآبَ وكَفانا». فقالَ لَه يَسوعُ: «أنا مَعكُم كُلَ هذا الوَقتِ، وما عَرَفتَني بَعدُ يا فيلبُّسُ؟ مَنْ رآني رأى الآبَ، فكيفَ تَقولُ: أرِنا الآبَ؟ ألا تُؤمِنُ بأنِّي في الآبِ وأنَّ الآبَ فيَّ؟ الكلامُ الذي أقولُهُ لا أقولُهُ مِنْ عِندي، والأعمالُ التي أعمَلُها يَعمَلُها الآبُ الذي هوَ فيَّ. صدِّقوني إذا قُلتُ: أنا في الآبِ والآبُ فيَّ، أو صدِّقوني مِنْ أجلِ أعمالي»” (يوحنا 14: 8- 11). الكشف عن حقيقة الله كأب كانت مهمة يسوع الأساسية: “كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الابْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أَيْضًا، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالابْنِ فَلَهُ الآبُ أَيْضًا” (1 يوحنا 2: 23).
عندما يصلي الكاهن القداس وبعد أن ينتهي من فعل التوبة وليتورجية الكلمة والعظة، فإن أول كلمة يقولها في صلاة الإفخارستيا هي أيها الأب الرؤوف، Padre Clementissmo كما في القانون الروماني، أو Padre veramente Santo أي يتوجه مباشرة للآب، بعد أن خُصص الجزء الأول للحديث مع المؤمنين. قديما كان الكاهن يبقي صامتًا لدقائق قبل أن يُكمل صلاته بعد أن يوجهها للآب. يتوقف وقتها عن مخاطبة الناس ليوجه خطابه إلى الآب الرؤوف. يدخل جموع المؤمنين في صمت تام، ويرفع الكاهن ابتهالات الشعب جميعًا مخاطبًا الآب. الكاهن لديه في تلك اللحظات سلطة رب الأسرة في العقلية اليهودية الذي كان يرفع الصلاة عن نفسه وعن جميع أهل بيته. في طقس الفصح كان آب الأسرة يأخذ الخبز ويباركه ثم يوزعه على أفراد عائلته بصفته رب الأسرة. يتحدث الكاهن إلى الله الآب ويطلب منه أن يبارك ويُقسم الخبز على الشعب. في هذه اللحظات يُظهر الكاهن الله الآب للشعب ويقدمه لهم.
عندما ينزل الكاهن من المذبح يُكمل حياته كأب للآخرين، مستمدًا أبوته من الله الآب ومعينًا منه لقيادة الشعب. لذا فإن مهمة الكاهن الأساسية هو أن يكون أب. سلطة الكاهن هي أداة أعطاها الله لقيادة الشعب. دعوة الكاهن الأولى هو أن يُظهر أبوة الله. وكثيرًا ما يقوده هذا الإعلان، كما قاد يسوع، إلى العشاء الأخير، بأن يقتسم جسده الآخرين. قداسة الكاهن هي قداسة موضوعية، قداسة الله ذاته، التي تُعلن في الأسرار المقدسة. فالله هو الغافر للخطايا، وموزع جسده ودمه على جموع المؤمنين. فالقداسة ليس قداسة الشخص، لكن قداسة الله الموضوعية التي تُعلن في ممارسات الكاهن التقوية.
الكاهن هو عنوان حضور الله وسط شعبه، مكانه المُختار الذي يُظهر عناية واهتمامه من خلال تكريس الكاهن له كمرسله الخاص. لذا يعيش الكاهن حياةً إنجيلية، ليس بمعنى الطهارة، لكن بمعنى حياةً سماوية، يكون علامة حضور الله، فعلامة تكريسه تُظهر حياة الملائكة الإنجيلية فلا وقت لديه للزواج ليتفرغ تمامًا لرسالته بأن يكون حضور لله ومرسله وسط الشعب. هو يتبع الحمل أينما ذهب في حياته ويُعلن عن أبوه الله: “المِئةُ والأربعةُ والأربعونَ ألفًا المُفتَدونَ مِنَ الأرضِ. هَؤُلاءِ هُمُ الذينَ ما تَدَنَّسوا بِالنِّساءِ، فهُم أبكارٌ. هَؤُلاءِ هُمُ الذينَ يَتبَعونَ الحَمَلَ أينما سارَ” (رؤيا 14: 3- 4).
الكهنة كتابعين للمسيح هم حضور الله العفيف بين شعبه المُتفرغين تمامًا له في هذه الحياة. يصبحون كالملائكة الحراس في السماء. لا يرتاحون أبدًا، كما قال أشعيا، لأنهم مُتفرغون دائمًا للرب. هم المسئولون عن رائحة المسيح الذكية وسط شعبه: “فكما يتَزوَّج الشابُّ بِكرًا، كذلِكَ بنوكِ يتَزوَّجونَكِ. وكسُرورِ العريسِ بالعروسِ يفرَحُ بكِ الرّبُّ إلهُكِ. على أسوارِكِ يا أورُشليمُ أقامَ الرّبُّ حُرَّاسًا لا يبتَعِدونَ نهارًا ولا ليلاً (إشعيا 62: 6). يا لفرح الشعب متى كان الكاهن مُدركًا رسالته كالحارس الذي لا ينام ولا يرتاح ولا يتعب من أجل شعبه. ثم يُكمل إشعيا: “أُذكُروا الرّبَّ لا تهدَأُوا، ولا تَدعوا الرّبَّ يهدأُ إلى أنْ يُثَبِّتَ دَعائِمَ إِسرائيلَ ويجعَلَها تَسبيحةً في الأرضِ” (إشعيا 62- 7). الكاهن هو الذي لا يرتاح أبدًا لأجل شعبه فيجعل الله لا يهدأ إلى أن يُعلن ملكوته، فالشيطان يجول ليبتلع الشعب، على أن الكاهن لا ينام، فالراحة هي فقط في الله. فالكاهن هو حضور الله ليس فقط للذين يأتوا إلى الكنيسة بل للجميع.
الأبوة الروحية لرئيس الدير
انطلاقًا من الأبوة الروحية الشاملة للكاهن في قيادة شعبه، تمثل أبوة رئيس الدير لأخوته الرهبان صورة مصغرة لعلاقة الأبوة تلك والتي يمكن أجملها في النقاط التالية:-
- أول مهام رئيس الدير إذن هو أن يكون “أب” يعمل على نمو أخوته الرهبان نموًا إنسانيًا وروحيًا سليمًا. كل إنسان لديه أب طبيعي، لكن رئيس الدير يحتفظ بهذه المهمة المُستمدة من سلطة الله ذاته بأن يكون أب يري فيه الرهبان التابعين له تجسد أبوة الله. فخلال صلاة الإفخارستيا وكافة الأسرار يتجسد الله ذاته في شخص الكاهن بالرغم من ضعفه وخطاياه، التي لا تحول دون استخدام الله له لتجسد من خلاله. إن إدراك رئيس الدير لهذه الحقيقة تجعله يحتضن الآخرين بمشاعر أبوة تنطلق من أبوة الآب وتكشف عن حقيقة الله كأب. يرافق أبناءه كما يرافق الأب أطفاله في مراحل نموهم المختلفة مشجعًا إياهم في مسيرة حياتهم الإنسانية والروحية. هكذا يطلب فرنسيس من المسئول إذا كان خادمًا إقليميًا أو رئيسًا للدير: “عَلى جَميعِ الإِخْوَةِ الَّذيْنَ أُقيمُوا خُدَّاماً وَخَدَماً لِسائِرِ الإِخْوَةِ، أَنْ يُوَزِّعوا إِخْوَتَهُم عَلى الأَقاليمِ، وَالأَمكِنَةِ الَّتي يُقيمُونَ فيها، وَلْيَزورُوهُم غالِباً، وَلْيُنبِّهوهُم روحِيّاً، وَيُشَدِّدُوهُم” (ق. غير مصدق 4/ 2)
التشديد يعنى الرعاية والتعضيد والمساندة والتشجيع. تظهر أبوة رئيس الدير بصورة أساسية في تنشئة أخوته الرهبان ومرافقتهم في مسيرة النمو حتى يصل كل منهم إلى كمال دعوته. هو مثل الأب الطبيعي الذي يعمل على تنشئة ابنه يومًا بعد يوم حتى مرحلة النضوج، لا يعطي نصائحه مرةً واحدة، بل بصورة متدرجة تتناسب مع المرحلة التي يمر بها الآبناء، فالتعليم وطرق التربية التي تتناسب مع مرحلة الطفولة تصبح غير مناسبة في مرحلة الشباب. ينقل الأب خبراته وما تعلمه من الحياة، الإنسانية والروحية، إلى أخوته المسئول عنهم حتى يصلوا إلى كمال النضج بمعرفة الذات. نجد أفضل تحـديد للأبوة الروحية في قـول باخوميوس إلى أحد الرهبان الذي كان يريد أن يتّخذه تلميذًا: “إنّي مستعدّ على قدر ما يسمحه ضعفي، لأن أجاهد معك إلى أن تصل إلى معرفة ذاتك” (حياة باخوميوس القبطيّة 10).
أن أكون أبًا روحيًا لمجموعة من الرهبان هي أن أهتمَ اهتمامًا فعّالاً بحياة والنمو الروحي والإنساني للاخوة المسئول عنه. إذا نقص الاهتمام الفعال بحياة الأخر ونموه الروحي والإنساني انتفت صفة الأبوة من المسئول. اهتمام يُترجم إلى “أعمال ملموسة” من أجل الشخص في “أن أجعله ينمو”. لذا فعلاقة رئيس الدير بالرهبان ليس سلطة أو سيادة شخص ما على الآخرين، بل هو مهمة ومسئولية تفترض الاهتمام بالآخرين وبنموهم الروحي والإنساني. هكذا يُعلم القديس فرنسيس: “كَذَلِكَ لا يَكونَنَّ للإِخْوَةِ، أيَّةُ سُلْطَةٍ، أَوْ سِيادَةٍ، وَخصوصاً فيما بَيْنَهم. فَعَلى حَدِّ ما يَقولُ الرَّبُّ في الإِنجيل: “إِنَّ أُمَراءَ الأُمَمِ يَسودُونَها، وَالأَكابِرَ فيهِم يَتَسَلَّطونَ عَلَيْه”، وَهَذا ما لا يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ بَيْنَ الإِخْوَة. وَمَنْ شاءَ أَنْ يُصْبِحَ فيهِم الأَكبَرَ، فَلْيَكُنْ لَهُمُ الخادِمَ الَّذي يَقومُ بِخدمَتِهِم. وَمَنْ كانَ أَكبَرُهُم، فَلْيُصبِحْ كـالأَصْغَر (ق. غير مصدق 5/ 9).
أن أكون أبًا روحيًا لمجموعة من الرهبان هي أن أكون مسئولاً عن الأخوة: المسئولية اليوم تعني في الغالِب الإشارة إلى الواجِب، الإشارة إلى شيء مفروض على الإنسان من الخارج. ولكن المسئولية في معناها الحقيقي هي فعل إرادي تمامًا. إنها استجابتي لاحتياجات إنسان آخَر سواء عبَّر عنها أم لم يعبِّر. أن تكون “مسئولاً” يعني أن تكون قادرًا ومستعدًا لأن “تستجيب“. هي أن “تصنع شيئًا جيدًا للآخر”، سلوكيات إيجابية نحو الآخرين. أن تستجيب لاحتياجاتهم التي يُعبرون عنها والتي لا يفصحون عنها. السلوكيات الإيجابية تجاه الآخرين، حتى لو المشاعر كانت سلبية، ستتغير المشاعر بصورة تدريجية وتصبح إيجابية. الحب هو قرار ينبع من إرادة الإنسان، الحب الحقيقي هو إن تذهب إلى الآخر الذي مشاعرك سلبية تجاه وتعمل سلوك إيجابي. من هو قريبي أعطى المسيح مثل السامري الصالح. إذهب وأصنع هكذا، لأن الأمر ليس متعلق بالمشاعر، بل بالإرادة والفعل، ومتى صنعت السلوك الإيجابي سوف تتغير مشاعرك تجاه. تتطلب الرعاية والمسئولية القيام بمجهود لكي يستطيع الفرد أن يُحِبّ الآخرين. يأتي أحد الأشخاص لأب بيو ويقول له: “أبت أريد أن تعدني ابنك الروحي”، فكانت إجابة الأب بيو: “لقد سلمك الله لي قبل أن تولد”.
أن أكون أبًا روحيًا لمجموعة من الرهبان هي أن أعملَ على تشجيعهم. أن يعمل على إتاحة الفرصة لهم للتعبير عن ذواتهم دون خوف أو قلق. التعبير عن خبراتهم الماضية ومشكلاتهم دون خوف. يخلق القائد حالة من الطمأنينة والأمان التي تسمح لكل فرد في الجماعة الرهبانية بتذكر خبراته الماضية دون خوف أو خجل. يُقدم رئيس الدير نفسه لأخوته كالمتعافي من مرضٍ ليدلهم على الطريق الصائب في الحياة الرهبانية. يُقدم لهم خبراته وما تعلمه في الحياة بصورة تجعل الآخرين يدخلون في عالمه ليكتشفوا لحياتهم المنهج والأدوات المناسبة التي تساعدهم ليعيشوا أبناء لله الآب، كما أصبح هو ابن لله الآب، أن يتغيروا تحت قيادة الروح القدس. لا يعلّم الأب الروحيّ شيئًا لم يحقّقه هو، كما يقول كاسيانوس: “لم أعلّمك قطّ شيئًا لم أفعله قبلاً”. هكذا يعلم القديس فرنسيس الخُدَّام قائلاً: “بَلْ عَلَيْهِم أَنْ يُساعِدوا، روحِيّاً، بِأَحْسَنَ ما يَستَطيعونَ، مَنْ أَخطَأَ، إِذْ لَيْسَ الأَصِحَّاءُ هُمُ الَّذيْنَ يَحتاجونَ إِلى الطَّبيبِ، بَلِ المُبْتَلُونَ بِعِلَّـة” (ق. غير مصدق: 5/ 7).
ثاني مهام رئيس الدير، لكي يكون أبًا روحيًا، هي أن يتعلمَ الرحمة: أقيمَ الكاهنَ ليكون صورة الله لشعبه. وأهمَ صفات أبوة الله هي الرحمة: “كونوا رُحماءَ كما أنَّ الله أباكُم رحيمٌ” (لوقا 6: 36). الكاهن الذي اُقيم أمام المذبح لينوب عن الشعب، ليس سيد على الآخرين بل العكس تمامًا، هو فقط عنوان إعلان عن رحمة الله. عندما يرى الناس الكاهن فإن لا يرون قوة الله وجبروته، بل رحمته، ومدى الجمال في أن يتبعوا لله الذي لا يفرض شيئًا بالقوة عليهم، بل يقف على الباب ويقرع. يُظهر الكاهن الله الآب ثم ينسحب ولا يفرض نفسه على أحد. فالظهور الحقيقي لله كان فوق الصليب الذي يطلب فيها يسوع آباه الذي يتركه وحده.
خصائص الأب الأساسية إنه يعيش ويعمل ويجتهد لأجل الأبناء، وليس لذاته. عمله أن يقف إلى جانب ابنه من دون أن يدّعي أنّه أستاذ له، بل يكون مستعدًّا ليشاركه آلامه وتعبه. يعطي ذاته للجميع ولكلّ واحد من أبنائه، وبخاصّة للمتألّمين منهم، والذين يحتاجون بإلحاح إلى مساعدة، والمنكسرين في عزلة خانقة، والمرضى والذين يرزحون تحت وطأة عمل يفوق قواهم أو ضعفاتهم. إلى هؤلاء جميعًا أوّلاً يوجّه قلبه وانتباه. عمله كأب إذن صعبٌ ومتشعّب لأنّ الذين يأتون إليه يأملون أن يكون منتبهًا إلى كلّ مشاكلهم وأن يشاركهم أحزانهم. يمكن لأقلّ تغافل وإهمال من قبله أن يجرح ابنه عميقًا ويجعله يدخل طويلاً في تجارب صعبة.
المهمة الثانية إذن تتلخص في قبول الضعفات والنقائص البشرية للآخرين ومساعدتهم في إيجاد معنى للحياة. وهذا يتم من خلال الاحترام والمعرفة:
- أن أكون أبًا روحيًا لمجموعة من الرهبان هي أن أحترمَ الآخرين. إن المسئولية يمكن أن تتدهور إلى الهيمنة والتملك إذا لم تتألف من عنصر لا غنى عنه وهو الاحترام. ليس الاحترام خوفًا وخشية، أنه يشير، تمشيًا مع جذر الكلمة (Respicere تعني التطلُّع إلى)، إلى القدرة على رؤية شخص كما هو وإدراك فردانيته الخاصة. الاحترام يعنى الاهتمام بأن الشخص الأخر إنما ينمو على نحو ما هو عليه. وهكذا يتضمن الاحترام عدم الاستغلال. إني أريد الشخص أن ينمو تلقائيًا في ذاته، وبطريقته وليس وفقًا لطريقتي. فإذا أحببت شخصًا آخر فإنني أشعر أنني صرت معه شخصًا واحدًا، ولكنني صرت معه شخصًا واحدًا على نحو ما هو عليه لا على نحو ما أنا محتاج إليه ليكون موضوعًا لفائدتي. الاحترام لا يوجد إلا على أساس الحرية، فالحب وليد الحرية وليس إطلاقًا وليد الهيمنة.
للاحترام دورٌ مهم في نمو المحبة الجماعية، فمتى تم احترم رئيس الدير فرادة الآخرين، ولم يستغلهم، سيزيل العوائق الأساسية أمام تجاوب الآخرين معه في محبته وسيبدلونه المحبة. يقوم المحبة الناضجة على مبدأ “إني احتاج إليك” فأنا في احتياج نفسي قوي للآخر لأن صحتى النفسية تتوقف على أن أحب الآخرين وأكون محبوبًا منهم، لذا فاحترام فرادة الأفراد المحيطين بي يفتح الباب واسعًا أمام التمتع بالصحة والسلامة النفسية والعيش بتوافق مع البيئة الخارجية.
لذا على رئيس الدير أن لا يحتقر الآخرين ولا يُقلل من أي مشكلة أو مشاعر يشعر بها الآخر، بل يفتح آفاق أمامهم ليتعرفوا على أنفسهم وأن يجدوا معنى لحياتهم. هو لا يُقدم إجابات عن كل شيء في الحياة، بل يتحلى بالشجاعة في أن يبقي مع المريض حتى يتعافى، مع الفقير في فقره، أن يبقي مع الشخص في مشكلته يُصغى إلى أنينه ومعاناته، يكفي حضوره بالقرب منه. على رئيس الدير أن يساعد رهبان ديره على إدراك إن في مثل تلك الصعوبات وأوقات الظلمة الشديدة والأزمات التي يتسأل فيها الشخص عن معنى حياته ودعوته الرهبانية هي أوقات ثمينة يبحث الله عنه أيضًا. يساعد رئيس الدير الشخص لكي لا يكون سؤاله: “كيف يجد الله”، ولكن كيف يترك نفسه ليجده الله. ليس السؤال في أن يعرف الله، بل يترك نفسه ليعرفه الله. ليس كيف يحب الله، بل يترك الله يحبه. ليس من هو الله بالنسبة له، بل مَن هو بالنسبة لله.
- أن أكون أبًا روحيًا لمجموعة من الرهبان هي أن أجتهد لأعرف الآخرين عن قُرب. لا يكون احترام الشخص ممكنًا بدون معرفته، ستكون الرعاية والمسئولية عاجزتين إذا لم يسترشدا بالمعرفة وستكون المعرفة فارغة إذا لم يصاحبها الاهتمام. هناك مستويات من المعرفة، والمستوى المطلوب من المعرفة هو المستوى الأكثر عمقًا الذي يتعدى المظهر إلى الجوهر. وهي لا تكون ممكنة إلا عندما يتجاوز رئيس الدير الاهتمام بنفسه ويرى الشخص الأخر في إطاره. فمثلا، يستطيع أن يعرف أن شخصًا ما غاضب منه حتى لو لم يبين هذا صراحة متى عرفه عن قُرب وبصورة أعمق من المعرفة السطحية. يعرف قلقه واضرابه، شعوره بالوحدة أو الذنب. فالغضب لا يكون إلا تجليًا لشيء أعمق على رئيس الدير معرفته بصورة أعمق.
لكي يصل الإنسان إلى حب الآخرين جميعًا من الضروري أن ينفذ إلى معرفة جوهر الإنسان. فإذا لم يدرك في الآخرين سوى الفروق المختلفة عنه فإنه لا يرى إلا السطح فقط. فإذا نفذ إلى جوهر هوية الإنسان وهي: إن كل فرد في حاجة إلى محبة الآخرين لكي يتمتع بالصحة النفسية. جميع البشر في حاجة إلى المساعدة. اليوم أنا وغدًا أنت. لكن هذه الحاجة إلى المساعدة لا تعنى أن الواحد عاجز والآخر قوي، رئيس ومرؤوس.
- ثالث مهام رئيس الدير، لكي يكون أبًا روحيًا، هي مرافقة رهبانه روحيًا: عندما يقوم رئيس الدير بمهمته الأولى وهي الأبوة الجسدية يكون هناك دورًا روحيًا للأب رئيس الدير الذي يتلخص في دورين أساسين: كطبيب ومعلم. يقول القدّيس أنطونيوس الكبير: “الآباء القدامى ذهبوا إلى الصحراء فنالوا الشفاء وصاروا أطبّاء فساعدوا آخرين على الشفاء. أمّا نحن الذين نخرج من العالم قبل الحصول على الشفاء، ونريد معالجة آخرين، وإذ بنا نسقط، فتكون الحالة الأخيرة أسوأ من الأولى، ونسمع الربّ يقول لنا: “يا طبيب طبّب نفسك” (لوقا 4: 23)” (أقوال أنطونيوس 3،6). يصبح الإنسان طبيبًا بعد أن يتمرس على الجهاد القاسي ومصاعبه فينال الشفاء هو أولاً فيمكنه مساعدة الآخرين. خبرة الشفاء هي التي تسمح له أن يكون معلمًا للآخرين، فالتمرس على محاربة الأهواء ورغبات القلب البشري المتنوعة تتيح له معرفة عميقة بالطبيعة البشرية تمكنه من مرافقة الآخرين في مسيرتهم الروحية ودعوتهم الخاصة.
المرافقة الروحية، إذن هي تدريب الأشخاص على التجاوب مع عمل الله في حياته. يرافق الشخص ليرى ذاته بالصورة التي يراه الله بها، ويسعى لمساعدته ليجعل كيانه الداخلي ينفتح لعمل النعمة في حياته. يتطلب هذا مساعدتة على أساليب مختلفة للصلاة والتنبه للأحاسيس والمشاعر التي تنتاب النفس في أثناء الصلاة، كي يختبر الشخص حضور الله في حياته اختبارًا شخصيًا. في أثناء تلك الخبرة ينبه المرافق نظر الشخص إلى عمل الروح فيه، ويعينه بتوجهاته كي يتخطى مختلف أنواع العوائق التي قد تعترضه فتعطل مسيرته نحو الله. هذا ما فعله الشيخ عالى الكاهن مع الصبي صموئيل فساعده لينتبه لصوت الله في حياته وكيفية التجاوب معه.
الأمر يبدو صعبًا تحقيقه بصورة كاملة، إلا أهم ما يمكن أن يقدمه رئيس الدير لرهبانه، في لبداية عمله كمرافق روحيًا لهم وقبل قيامه بمهمتيه الأساستين: الطبيب والمعلم، هو الصلاة من أجلهم، إذا لم يتمكن من القيام بالمرافقة كما يجب. هكذا يقول الكاردينال نومين عندما لم يجد مرشده الروحي، الذي كان غائبًا للصلاة: “شعرت بتعضيد بتعزية عندما عرفت بأنه يرفع جميع مخاوف كل المسترشدين لديه في علاقته الشخصية مع الله، في تلك اللحظات شعرت بقربه أكثر من أي وقت مضى”. الصلاة الحارّة من أجل الأبناء. يقول أحد الشيوخ، مبتهلاً إلى اللَّه: “اجعل أن يدخل أولادي معي إلى الملكوت، أو احذف اسمي من كتابك” (الرسالة 187). بدون هذا الاختفاء للتفرغ للصلاة لأجل الآخرين لا يستطيع الكاهن أن يكون أبًا لآخرين، مرافقًا لمسيرتهم في الحياة.