الجمعة العظيمة 2019
حدث مأسوي كبير نقلته لنا الأخبار العالمية في أغسطس 2015، في زمن أحداث الثورات العربية الدامية. كانت هناك هجرات مستمرة للاجئين من سوريا والعراق إلى أوربا. اكتشفت السلطات النمساوية سيارة ثلاجة ضمت حوالي 70 جثة للمجموعة لاجئيين حاولت عبور الحدود، فتركهم المهربين وهربوا خوفًا من المسائلة القانونية. الحادث المأساوي دفع الكثيرين إلى السؤال، لماذا لم يدقوا جدران السيارة طلبًا للنجدة. لماذا استسلموا للموت عطشًا واختناقًا دون أن يصرخوا، دون أن يدقوا جدران السيارة ليسمعهم الناس. أم هل صرخ هؤلاء ولم يسمعهم أحد في الطرق السريعة لأن الجميع مشغولون بحياتهم وأعمالهم فلم ينتبهوا لآخرين.
على الصليب نطق الرب يسوع بكلمات سبع ولكن اسمحوا لي أتوقف عند كلمة واحدة فقط وهي الكلمة الخامسة “أنا عطشان”. عندما نطق بها يسوع جاء إليه واحد من العسكر فملئ اسفنجة بالخل ولما ذاق قال قد أكمل وأسلم الروح. سنتوقف عند توقيت الكلمة ومدلوها وما تفرضه من واجب مسيحي لنا اليوم:
أولا: توقيت الكلمة
قال الرب يسوع هذه الكلمة بعدما نطق بالغفران لقاتليه، بعد أن قَبِل اللص اليمين التائب في الفردوس. بعد أن صرخ إلى أبيه قائلا: “إيلي إيلي لماذا تركتني”. بعد أن أطمئن على أمه واستودعها رعاية يوحنا الحبيب.
يسوع لم يعطش في اللحظات الأخيرة فقد بدأ عطشه في بستان الزيتون، يقول الكتاب أن عرقه كان يتصبب كقطرات الدم، والاطباء يعرفون أنه عندما يخسر الإنسان كمية كبيرة من العرق فإنه يعطش. كان عطشان وسيق إلى مجمع السنهدريم، وكان يتحدث ويناقش. ثم في الصباح إلى دار الولاية، ثم إلى بيت هيرودس، ثم دار الولاية، ثم يُجلد، ويحمل الصليب، ويمشي درب الصليب الطويل حاملا صليبه الثقيل ولعله وقع أكثر من مرة حتى طلبوا من سمعان القيرواني أن يساعده. ثم ثقبت يداه ورجلاه وبدأت الدماء تسيل وهذه خسارة إضافية لسؤئل الجسم وهذا يعني عطش إضافي لكنه لم يطلب ماء، إلا في اللحظات الأخيرة.
مازالت أمامه مهمات أخرى، صلي لأجل أعدائه، أهتم باللص التائب عن يمينه، أهتم بامه وهي تبكي وتلميذه يوحنا الذي يحبه، كان مشغول عن عطشه، مشغول عن تعبه، بأي شيء بالناس، بالخطاة، بالأعداء، بالأقرباء. لم يسمح لحاجته الملحة إلى الماء أن تشغله عن مهمته العظمة التي هي الآخرين. الآخرين أولا، الغير أولا، الأعداء أولا، التائبين أولا، الأقرباء أولا. وأخيرًا في أخر لحظة يقول أنا عطشان.
هناك من يدق جدران الباب طالبًا المعونة، هناك من يتألم ولا يصرخ. هل اسمع ألام الآخرين، هل أنتبه للأصوات الخافتة والضعيفة والواهنة التي تطلب المساعدة. لقد عبر المسيح عن محبته الفائقة الوصف للآخرين، فكر بهم وهو في أَمَس الحاجة أن يفكر في نفسه ويروي عطشه. اهتم بالآخرين، بالأعداء واللص وأمه قبل أن يفكر في نفسه. أنا مسيحي إذن أنا مدعو لكي أتمثل المسيح في حياتي. هناك رسالة عليَّ بتمامتها، أن أهتم بالآخرين قبل أن أهتم باحتياجاتي الملحة والضرورية، على مثال ربي ومعلمي.
ثانيًا معنى الكلمة
لماذا صرخ الرب قائلا “أنا عطشان” بعد يومين من شعوره بالعطش الشديد. في يوم من الأيام عطش يسوع وطلب من السامرية قائلا: “أعطني لأشرب”، فجادلته المرأة في أمور كثيرة، لكن المسيح أستطاع أن يقودها لتشرب من الماء الحي. تركت جرتها، لأنها ارتوت من المياة الأبدية، ولا هو شرب ماء، لأنه أرتوى بتوبة هذه المرأة الخاطئة. عندما جاء التلاميذ احضروا له طعام فقال لهم “لي طعام أخر أنت لا تعرفونه، «طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه.”. طعامي وشرابي أن أراي أن الناس ترجع من عبودية الخطيئة إلى الله وتتصالح معه، هذا ما يروي قلبي.
هل فكرت يوم أن تروي الرب، قال أنا عطشان، حتى المراة بحسن نيتها لم تعطيه يشرب، والجنود بسوء نية لم يروه بماء. هل فكرت أن تريح الرب، تعطي الرب ما يريحه. هل الرب بيتعب؟ فعلا! الرب تعبان كثير، ولو بدت هذه غريبة لكنها كتابية. يقول الكتاب المقدس إننا أتعبنا الرب: “رُؤُوسُ شُهورِكم وأَعياكم كَرِهَتها نَفْسي صارَت عَلَيَّ حِملاً وقد سَئِمتُ آحتِمالَها” (أشعيا 1: 14). وفي مكان آخر: “لقِد اسْتَخْدَمْتَنِي بِخَطَايَاكَ وَأَتْعَبْتَنِي بِآثَامِكَ” (أشعيا 43: 24). في سفر ملاخي: “لَقَدْ أَتْعَبْتُمُ الرَّبَّ بِكَلاَمِكُمْ” (ملاخي 2: 17). كلامنا تعبت الرب، حياتنا وأفعالنا تعبت الرب، تعبان من أعمالنا أفكارنا من صلواتنا من ترانيمنا لأننا لا نرنم من القلب. ولأننا نصلى من القلب “يكرمني بشفتيه أما قلبه فبعيد عنه” تعبان الرب من عبادتنا الشكلية الفارغة. كيف نستطيع أن نريح الرب، أن نبل حلق الرب الجاف، بالتوبة.
ثالثًا: ما تفرضه الكلمة من واجب مسيحي لنا اليوم
كان عطش الرب ليس إلى الماء فحسب، بل أيضا إلى أن يعطينا حبه! انه لا يزال متعطشاً أن يعطينا ملكوته: “يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد”(يو 24:17). إنه يعطش لكي يعطينا ماء الحياة. يقول القديس غريغوريوس النزينزي. فإن لم نعطش إلى الله كما عطش الرب يسوع لاجلنا فلن نجده، وما اجمل قول المرتل: “كما يشْتاقُ الأيَلُ إِلى مَجاري المِياه كذلِكَ تَشْتاقُ نَفْسي إِلَيكَ يا أَلله. 3 ظَمِئَت نَفْسي إِلى الله، إِلى الإِلهِ الحَيّ ” (مز 1:42 و2)!
الذين يقرءون كلمة الله أو يسمعون الوعظ، إن لم يوجد ذلك العطش في نفوسهم فباطلٌ هو كل ما يقرءونه أو يسمعونه، والروح القدس هو الوحيد الذي يمكنه أن يخلق فينا هذا العطش، ومن يعوزه ذلك فليطلب من الله الذي يُعطي بسخاء. والواعظ الناجح هو الذي يُصلي لكي يعطش سامعوه إلى الله.
كما أن الرب لا يزال عطشاناً إلى خلاصنا، لانه حاضر سراً في كل محتاج إلى معونة ويصرخ فيهم دائماً: أنا عطشان! كانت آخر كلمات سجلها الرب يسوع في رؤيا يوحنا اللاهوتي هي: “ومَن كانَ عَطْشانَ فلْيَأتِ، ومَن شاءَ فلْيَستَقِ ماءَ الحَياةِ مَجَّانًا. (رؤ 17:22).