إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

رسالة الفرنسيكاني العلماني اليوم

0 1٬160

يوصي فرنسيس تلاميذه بقوله: “وَبَعْدَ أَنْ أَعطاني الرَّبُّ إِخْوَةً، لَمْ يَدُلَّني أَحَدٌ إِلى ما يَتَوَجَّبُ عَلَيَّ عَمَلُهُ، لَكِنَّ العَلِيَّ نَفْسَهُ أَوْحى إِلَيَّ بِأَنَّ عَلَيَّ العَيْشَ وَفْقاً لِنَهْجِ الإِنجيلِ المُقَدَّس” (وصية ق. فرنسيس: 14).

الرب أعطاني أخوة.. تلك هي خلاصة الروحانية الفرنسيسكانية وفكر القديس فرنسيس. فالآخرين هم إخوة. تشتق كلمة أخ أو أخت في اللغة اليوناينة (a-delphos/a-delphē) من كلمة delphus التي تعني الرحم. فالإخوة والأخوات متحدين ومرتبطين لأنهم ولدوا من “رحم” واحد. فهم متحدين في الكرامة، متحدين في الحقوق، مع الإقرار بالاختلافات الطبيعية.  

فالأساس الذي تقوم عليه الروحانية الفرنسيسكانية هو الوعي بالانتماء المشترك: جميعنا ولدنا من ذات الرحم، من ذات الأم. نحن جميعنا، على الأقل وفقًا للكتاب المقدس، من نفس الأصل الواحد. بالرغم من كوننا مختلفين، فإننا جميعًا أخوة لأننا خرجنا من رحم واحد وهي أمنا الأرض، لذا دعى فرنسيس الجميع أخوة كل الكائنات: الشمس والقمر والأرض والحيوانات لأنها خرجت من أصل واحد وهو الله الخالق.

يفكر الجميع اليوم بطريقة فردية، فليس هناك معنى لكلمة “أخوية” فكل شخص يتهم بحياته الخاصة. ننظر للآخر على أنه مختلف عني، فالذين لا يشاركني نفس الرأي أو المعتقد لا أنظر إليهم على أنهم “أخوة” بل آخرين، في حين لا يتكلم فرنسيس عن “الآخرين” بل عن الجميع “أخوة“.

يجب أن نلاحظ أن كون الآخرين هم أخوة فإن الأمر لا يتوقف على اختياري، بل على قبولي لهم. الرب أعطاني أخوة.. من الممكن اختيار الأصدقاء، لكن الأخوة ليس أمامي سوى أن أقبلهم أو أرفضهم. إن دعوة العلماني الأساسية هي أن يعيش أقله بهذا الفكر الفرنسيسكاني: إن الجميع أخوة. أخوة لا يختارهم بل يقبلهم. هي دعوة خاص تتطلب استجابة القبول أو الرفض.

نحن نعيش اليوم في فترة أصبحت فيها الفردية هي “أسلوب الحياة”. فالمعييار هو أنا كفرد، وكل ما يخصني عائلتي وجماعتي الصغيرة “كالأخوية التي أنتمي إليها”، لكن ليس أخوتي كل البشر، كما يعلم فرنسيس.

إن رسالة التبشير للرهبنة الفرنسيسكانية العلمانية ترتكز على هذه الفكرة بصورة أساسية. رسالة العلماني المنتمي إلى الرهبنة الفرنسيسكانية ليس في شيء يقوم به، بل حضور كياني يحققه في حياته بأن يعيش أخ للجميع، دون استنثاء. عندها تكون رسالته ليس مجرد جزء من وقته يكرسه لخدمة ما، يقوم به بعد الانتهاء من جميع أعماله، أو شيء هامشي من حياته، كما قال البابا في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” رقم 273: “إنها شيءٌ لا أستطيع اقتلاعه من كياني إلا إذا رغِبت في تدمير نفسي. أنا رسالة على هذه الأرض، ولهذا أنا موجود في العالم”.

أنت مُرسلٌ إلى العالم

عندما يكتشف العلماني الفرنسيسكاني دعوته الأساسية هي أن يكون أخ حقيقي للجميع سيدرك إنه هناك هدف معين لارساله إلى العالم في هذا الوقت. الهدف أن يكون علامة على حضور المسيح في وسط الناس، كما كان فرنسيس. منذ اللحظة التي تُدرك فيها أنّك قد أُرسِلتَ إلى هذا العالم، كل شيء يتغير تغييراً جذرياً. الزمان والمكان، الأشخاص والأحداث، جميع الأشياء تتغير، تغيرًا لا يُمكن وصفه بالتعبيرات الشائعة. التغيير الذي أتحدث عنه ينقلك من العيش في الوجود كتجربة أليمة لإثبات أنّك تستحق أن تكون محبوباً، إلى العيش في الحياة كفرصة منحها الله لنا كي نُصبح ما نحن عليه، لكي نؤكد طبيعتنا الروحية الحقيقية، ونتمسّك بحقيقتنا، المنسجمة والمتكاملة مع واقع كياننا، بأننا خلقنا على مثال الابن ولدينا رسالته في الحياة: أن نخدم ونفدي حياة كثيرين.

عندما نُفكّر في مسألة عطاء ذاوتنا للآخرين، ما يتوارد بخاطرنا على الفور هي مواهبنا الفريدة: تلك المقدرة على القيام بأمور خيّرة ذات طبيعة خاصة. نتساءل دائمًا: “ما هي مواهبنا الفريدة؟” مع ذلك، ننسى ونتجاهل أنّ عطائنا الحقيقي ليس هو ما نستطيع فعله بقدر ما هو من نكون. السؤال الحقيقي ليس “ما الذي نستطيع تقديمه لبعضنا البعض؟”، بل “ما الذي يمكننا أن نكونه لبعضنا البعض؟” الإجابة هي أن أكون أخ لكثيرين.

روى البابا يوحنا بولس الثاني هذه القصة والتي جاءه أحد الشباب في كراكوفيا قائلاً: “لدي مشكلة في الجامعة لأن لدي شريك لا ديني. أخبرني يا أبت، ماذا يجب أن أقول لهذا الصاحب الذي لا يعترف بوجود الله كي أجعله يفهم أن ديننا هو الدين الحقيقي؟”. قلت، “عزيزتي، آخر شيء عليك فعله هو أن تخبره بشيء ما. ابدأ في العيش كمسيحي، وسيسألك لماذا تعيش هكذا “.

  1. ابدأ في العيش كمسيحي.. عش تجربة أن تقترب من الآخر، تتخطي الأحكام المسبقة والمصالح الشخصية. إن الحب يبني جسور ونحن خُلقنا من أجل الحب، كما ذكر البابا فرنسيس في رسالته “كلنا أخوة” تعليقًا على قصة السامري الصالح الذي لم يكتفي بالمشاهدة من بعيد، بل اقتربَ، تحقَّقَ، خاطرَ وأنقَذَ؛ ولَمْ يكتف بعبارات شفقةٍ تخرج من شفتيه، بل عالج وسكب زيت الرَّحمة الذي بُلطّف حُرْقةَ الجُروح، وخمرة العافية التي تقضي على الفساد. العيش بغير مبالاة إزاء آلام الآخرين فهو يُبعدنا عن طبيعتنا التي خُلقنا عليها. باستطاعة كلٍّ منّا أن يبدأ، كما يقول البابا، من الأسفل، انطلاقًا من شخص واحد وأن نجاهد في سبيل ما هو أكثر واقعية فنقدّم نفس الرعاية التي قدّمها السامري للرجل المُصاب.
  2. ابدأ في العيش كمسيحي.. عش تجربة مساندة الآخر. في الوصية 18 يقدم القديس فرنسيس توصيته لنا فيقول: “طوبى للإنسان الذي يُساندُ قَريبهُ في هَشاشتِهِ، بقدر ما يتَمَنَّى أن يُساندهُ قريبُهُ عندما يكون هو في حالٍ مُماثل”. يستخدم القديس فرنسيس أفعال لها دلالات خاصة وهامة للغاية. الفعل الأول هو: “يُساند” وهو يختلف عما يعلَمه بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية: ” لِيَحمِلْ بَعضُكم أَثْقالَ بَعض وأَتِمُّوا هكذا العَمَلَ بِشَريعةِ المسيح” (غلا 6: 2). فكلمة “يُساند” تختلف عن كلمة “يحمل”، لأن حمل ثقل ما يعنى رفع شيء ما ثقيل الوزن بمشقة مضطرًا. أما فعل “يُساند” فهو يُعبّر عن القبول وتقديم المساعدة والعون برضى وتلقائية. الدافع هنا مختلف، الدافع الوحيد هي المحبة.

قرب السامري الصالح هو تقارب روحي أساسه الرحمة. القرب، قبل أن يكون مكانيًا وجسديًا، هو قبل كل شيء روحي، تقارب مثل الشعور بنفس الألم، والمعاناة مع الآخر. إذا سمح لك القرب بالشعور بالألم وحالة الآخر، فإنكما تعانيان معًا. في الواقع. واصل السامري رحلته لكنه هذه هذه المسافة الجغرافية لا تعني البعد عن قلبه. نراه يخطط للعودة ، والتعويض ، وطرح أفكارًا للمستقبل تشملهما معًا.

كل إنسان هش لا يستطيع التحكم في انفعالاته كالغضب والكراهية والحسد. هي انفعالات لا تنتج من سوء نية، بل هي نقائص عامة في الشخصية بسبب ظروف بيئية وتربوية. لكن أعيش دعوتي كمرسل لهذا العالم يجب أن أتدرب على أن أقبل نقائص الآخرين: “المَحبَّةُ تَصبِرُ وتَرفُقُ، المَحبَّةُ لا تَعرِفُ الحَسَدَ ولا التَفاخُرَ ولا الكِبرِياءَ. المَحبَّةُ لا تُسيءُ التَّصَرُّفَ، ولا تَطلُبُ مَنفعَتَها، ولا تَحتَدُّ ولا تَظُنُّ السّوءَ” (1كو 13: 4- 5). فالتدريب على المحبة يستغرق حياة بأكملها، لأنه يجب أن يدخل الروح القدس إلى كل تعاريج كياننا وخباياه، إلى كل الزوايا التي يعشش فيها الخوف والقلق والمقاومة والحسد.

  • ابدأ في العيش كمسيحي.. أعلم أن القرب معدي. اقترب السامري من الجريح وسانده في محنته، لكن الذي استفاد ليس فقط الجريح بل صاحب الفندق. القرب معدي، والأخوة تخلق رباطات تنعكس على المجتمع والكنيسة دون أن تقصد. فصاحب الفندق لا يعرف الضحية، لكنه وجد نفسه متورطًا في أمر يمكن أن يتسبب له ضرر مالي، فقد يتزمر النزلاء من وجوده وانشغال صاحب الفندق معه لرعايته. اقتراب السامري واعتبار الجريح أخ يحتاج للمساندة في هشاشته وضعفه وعزمه على المرور لرؤية الرجل عند عودته جعل صاحب الفندق يتهم مثله، ويعد هو أيضًا الجريح بمثابة أخ يحتاج إلى المساندة والرحمة. وثق بالسامري وأنه سوف يأتي من جديد يسدد كل التكاليف الخاصة بالعناية بالجريح.

أعتبار السامري الأخر “أخ” دفع صاحب الفندق للتصرف مثله. هذه هي رسالة العلماني الفرنسيسكاني في الكنيسة اليوم. لا تحتاج الكنيسة إلى أعمال عظيمة، لكن إلى أشخاص مؤمنين بفكر فرنسيس ويسعون إلى تطبيقه في مجتمعهم. عندها يكون العلماني مثمرًا. أن أول كلمات الله للإنسان هي “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ”، ونعتقد بأن الكلمات موجهة للزواج وإنجاب الذرية، وهذا حقيقي، لكن الكلمة الأولى هي “أَثْمِرُوا”. دعوتي الأساسية في الحياة هي أن أكون مثمرًا، إذا لم أعطي ثمر فوجودي لا قيمة له. دعوتك في هذه الحياة لم تأتي صدفة، هناك مهمة مُوكلة لك أن تكون حياتك مثمرة. هذه هي دعوتنا في الحياة، كما لخصها بولس الرسول في رسالته إلى أفسس قائلا: “لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا” (أفسس 2: 10). لم تُخلق لنفسك بل لتكون حياتك على الأرض مثمرة.

لذا علينا أن نسأل أنفسنا كيف تكون حياتي مثمرة؟ هناك حضور معين مطلوب نعبر من خلاله عن رسالتنا كعلمانيين في وسط الكنيسة. هناك نعمة يجب تمريرها للأخوة، وكلما أعطينا كلما اقتبلنا نعم أكثر. لا نكون مثل شجرة التين اليابسة دون ثمار.

قد يعجبك ايضا
اترك رد