مسيرة الدعوة الرهبانية؟
نقرأ في الأناجيل دعوة يسوع للبعض بأن يتبعوه، مثلما الحال في التلاميذ الأربعة في مرقس 1: 14- 20. تشير عبارة “إتبعاني” إلى السير وراء يسوع دلالة على ان هذين الصيادين صارا من تلاميذه. طلب الرب يسوع من بطرس وأندراوس أن يتركا صيد السمك ليربحا الناس الى ملكوت الله.
كان فعل “تبع” في الدين اليهودي في القرن الأول، يتضمن عادة التوقير والطاعة ومختلف الخدمات المترتّبة على تلاميذ الرابيين نحو معلميهم. ولكن إتباع يسوع، يتطلب من تلاميذه لا ان يكونوا سامعين فقط، لا أن يكونوا “تلاميذه” فقط مثل تلاميذ أولئك المعلمين. أساس الدعوة في الأناجيل هو الارتباط “بشخص” المعلم الذي يُجسد تلك الأفكار والرؤى. يختلف المسيح “كمعلم” عن غيره من المعلميين فهو لم يعلم بعض الحقائق عن الحياة أو معرفة ما، بل هو الحقيقة بذاتها. لم يكشف الطريق لتلاميذه المؤدي إلى المعرفة، بل هو الطريق ذاته، لم يُقدم نموذجًا للحياة، بل هو الحياة. يدعو المسيح التلميذ لكي يشترك في نمط حياته، فهو ذاته الطريق والحق والحياة.
لكن هناك تبعية أو نتيجة لدعوة يسوع، فالاشتراك في نمط حياة يسوع يقتضي أيضًا حمل الصليب كما صرح يسوع علانية: “مَنْ أرادَ أنْ يَتبعَني، فلْيُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعْني، أنَّ الَّذي يُريدُ أن يُخلَّصَ حياتَهُ يَخسَرُها، ولكنَّ الَّذي يخسَرُ حياتَهُ في سبـيلي يَجِدُها” (متى 16: 24- 26). فلا اتباع دون قبول الزهد بالنفس وحمل الصليب. فمن يتبعه سيشترك في مصيره، في موته وقيامته. وقد عبر بولس كثيرًا عن دعوة الاتباع هذه بالقول: ” فأَعرِفُ المَسيحَ وأَعرِفُ القُوَّةَ التي تَجَلَّت في قِيامَتِهِ وأشارِكُهُ في آلامِهِ وأتشَبَّهُ بِه في موتِهِ، على رَجاءِ قِيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ” (فليبي 3: 10- 11).
أمَّا عبارة” أَجعَلْكما صَيادَي بَشَر” فتشير الى جواب الشرط في حالة ان تبعاه. وهذا الشرط بمثابة هدف دعوة يسوع ووعده ان يجعل من سمعان وأخيه اندراوس مُبشِّرين بالإنجيل، رجال يجتذبوا مَن حولهم الى المسيح مثل الصياد الذي يجذب السمك بالشباك الى قاربه. فهم يعملون مع يسوع في خلاص البشرية والعالم وليس فقط يكونوا مستمعين ليفكروا معه فقط. حين يكرز الرسل بالإنجيل، يجمعون الناس كما يجمع الصيّاد السمك في شبكته، يجمعونهم من اجل الدينونة ودخول ملكوت الله (متى 13:47-50). امَّا عبارة ” صَيادَي بَشَر” فتشير الى كلّ البشر، الّذين أتى ليبشرهم خاصة المساكين المرضى والمقعدين والجياع والحزانى والبسطاء والفقراء؛ يسوع لم يعني نُخبة معيّنة من سكان ضواحي الجليل والنّاصرة فقط.
لكن الاشتراك في مصير يسوع، أي موته وقيامته هي سمات المسيحي بصفة عامة بالمعمودية: “حينَ تَعَمَّدْنا لِنَتَّحِدَ بالمسيحِ يَسوعَ تَعَمَّدْنا لنَموتَ معَهُ، فدُفِنـا معَهُ بالمعمودِيَّةِ وشاركْناهُ في موتِهِ، حتى كما أقامَهُ الآبُ بقُدرَتِهِ المجيدَةِ مِنْ بَينِ الأمواتِ، نَسْلُكُ نَحنُ أيضًا في حياةٍ جديدَةٍ؟ 5فإذا كُنا اَتَّحَدْنا بِه في موتٍ يُشبِهُ مَوتَهُ، فكذلِكَ نَتَّحِدُ بِه في قيامَتِهِ” (رومية 6: 3-5).
يكشف بولس الرسول أن المقصود بالاتباع هو أكثر من الاشتراك في مصير يسوع والاتحاد معه وبقيامته، هو أكثر من تحقيق الدعوة بأن يكون الإنسان مُبشر بالإنجيل يحتذب من حوله مثل الصياد. هناك شيء ما يُطلب بصورة حصرية من البعض، من المكرسين والمكرسات. المسيح يدعو البعض ليصبحوا ويعيشوا “كمسيح آخر” إلى الدرجة التي يعلن فيها التلميذ، على غرار الرسول بولس: فالحياةُ عِندي هِيَ المَسيحُ” (فيلبي 1: 21). يتم هذا بقبول المسيح سيدً على حياة الشخص، فالمسيح لا يرغب في أن يفهم المُكَرس الذي يختاره بعض الأفكار، بل أن يصبح هو عقله. لا يرغب في التأثير على إرادة الشخص بل أن يصبح إرادته. لا أن يساعد إنسان على الحياة بصورة أفضل، بل أن يصبح هو ذاته الحياة، لأنه هو الحياة. لا يمتلك المُكَرس إذن فكر ليس فكره، رغبةً ليست رغبته، مشاعر ليس مشاعره. كل ما يملكه المُكَرس يكون له، يُصبح المُكَرس بجملته ملكًا له.
اتباع المسيح يعنى أن يتحول الشخص إلى “آخر”، يصبح “مسيحٌ آخر”. في مدرسة المسيح لا يقدم المسيح تعليمًا، بل ذاته. وعندما يلتحق شخص بمدرسته ويقبل شخص المسيح، يتجسد فيه، ويعمل على تغييره باطنيا ليصبح “مسيحًا آخر”. وهذا ما يميز دعوة المسيح لاشخاص معيين باتباعه هو أن يكون يده وصوته وعقله وسط العالم.
مسيرة الدعوة
تمر دعوة كل إنسان بعدد من المراحل:
- مرحلة الأسئلة:
في وقت ما تبرز فكرة في حياة الإنسان وتراوده كثيرة. يسأل الإنسان نفسه بعض الأسئلة الوجودية: ما معنى حياتي؟ لماذا ولدت في هذا البلد؟ وماذا بعد هذه الحياة؟ وما الذي دُعيت إليه؟ ” ماذا لو كان هناك طريق آخر لي؟ هذه أفكار تأتي وتذهب، لكنها تجعلني أكتشف آفاقاً جديدة وتثير فضولي وأحاول أن أفهم لماذا أفكر فيها. يتنامى داخلي شعور بالرغبة في إعطاء معنى لحياتي، معنى أعمق لما أفعله وأعيشه. اهتمامات جديدة وبحث وتفكير وأعيش حالة من الفضول لايجاد أجوبة على تلك الأسئلة. يتحول الفضول مع الوقت إلى شعور بعدم الرضا والفراغ: ”هل يستحق ما أفعله؟ أشعر أنني أضيع الكثير من الوقت والكثير من الفرص. أشعر أنني لست في المكان المناسب. والآخرون، ماذا يمكنني أن أفعل لهم؟ هناك تململ حول المعنى الذي يجب أن يعطيه المرء لحياته. الكثير من الفضول والرغبة في القيام به.
كان يوحنا وأندراوس تلميذين ليوحنا المعمدان (يو 1: 35- 40) وسمعاه يشهد للمسيح قائلا: «هُوَذا حَمَلُ الله!»، فتبعا يسوع. كلام يوحنا المعمدان كشف عن تلك الأسئلة التي تدور في عقل التلميذين: هل يتحقق في هذا الجيل ما ينتظره الشعب منذ عهد النبؤات بأن المسيح سيأتي؟ ماذا يحدث لو جاء، كيف سيكون مظهره؟ لذا عندما قابل أندراوس أخيه بطرس قال له: «وَجَدْنا المَشيح» ومَعناهُ المسيح.
فرنسيس كذلك برزت في حياته مجموعة من الأسئلة الوجودية والتي عبرت عنها سيرته في شكل الحلم. ومن المعروف أن الأحلام ما هي إلا رغبات الشخص العميقة التي تنسج في مخيلته بطريقة معقدة وغير معروفة لتشكل قصة تُظهر ما يدور في عقل الإنسان. يسمع فرنسيس في حلمه صوت يقول له: «لمَ إذن تبحث عن العبد عوض السيّد؟، فأجاب فرنسيس: «ماذا تريدني أن أفعل يا رب؟»، وهو نفس سؤال شاول على طريق دمشق (أع 9: 6).
في السيرة الثانية لشيلانو نجد أن حياة الشاب فرنسيس تستمر بعد هذه الرؤية، لكن يلازمه شعورٌ بعدم الرضا والفراغ. كان يتواجد مع زملائه الشباب لكنه استمرّ في تأملاته التقويّة حتى وهو متواجد في الولائم معهم. تقول السيرة: “وكان فرنسيس يتبعهم، حاملا في يده الصّولجان كسيّد. ولكن إذ كانت روحه قد انفصلت تماما منذ فترة عن تلك الأصوات وراح قلبه يترنّم بالرب، إذا به ينفصل رويدا رويدا بالجسد أيضا. حينئذ، وكما خبّر هو نفسه فيما بعد، غمرته لذّة إلهيّة حتّى إنّه لم يعد يقوى على الحراك أو الكلام. فاخترقه شعور داخلي حمل روحه نحو الأشياء غير المنظورة وجعله يرى تفاهة الأرضيّات ونزقها” (شيلانو 2: 7).
في هذه المرحلة هناك أهمية كبرى للإصغاء الفعال لشاب لمساعدته في الوصول إلى إجابات. الإصغاء فن لا يمكن للمُرافِق أن يرتجل فيه بل يتعلمه بصبر وتنمو خبرته فيه يومًا بعد يوم. المرافقة ليست مساعدة نفسية هي تتطلب قبل كل شيء صلاة مطولة خاشعة حتى يتمكن من “التمييز المصلي” للرب وللآخرين. ثم يأتي عنصر الوقت الذي يجب أن يشعر فيه المُرافَق أن وقتي له: الوقت الذي يحتاج إليه للتعبير لي عمّا يريد. هذا الاصغاء هو ما يصنعه الربّ عندما يبدأ بالسير إلى جانب تلميذي عمّاوس ويرافقهما في قسم كبير من الطريق التي هي في الاتّجاه المعاكس للطريق الصحيح (را. لو 24، 13- 35).
الإصغاء لا يعني تقديم إجابات لأسئلة الشخص وإنما فتح الطريق أمامه ليرى أبعاد أخرى.
2. المرحلة الضبابية:
في هذه المرحلة يصارع الإنسان تلك الرغبة الوليدة ويحاول أن يُبعد ذلك الصوت الذي يسمعه داخليًا. البعض يحاور نفسه بأن الوقت مازال طويلا لاتخاذ قرار مصيري كهذا، فلماذا العجلة؟ يصارع الإنسان موقف مزدوج: الرغبة في ترك كل شيء وراءه والاستجابة لدعوة الله له، والخوف من اتخاذ قرار يمكن أن أندم عليه مستقبلا.
إذا تأملت نصوص دعوة التلاميذ الأربعة السابق الإشارة إليه، سيكون من السطحي جدًا التفكير بأن التلاميذ تركوا كل شيء، حتى أباهم وتبعوا يسوع بصورة فورية وعزم لا رجعة فيه. الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، إذا راجعت حدث الصيد العجائبي في لوقا، ستجد إنه بالرغم من طلب يسوع للتلاميذ الأربعة: “هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ” (متى 4: 20). إلا أن بطرس ورفقائه عادوا إلى الصيد مرة أخرى، مما يدل على حاجاتهم المادية والرغبة في توفير متطلبات عائلاتهم وأطفالهم. تركا الشباك لوقتهم وتبعاه، لكن إلى حين.
في الاصحاح الرابع من لوقا نجد المسيح يبيت عند بطرس في منزله ويشفى حماته، واثناء الليل يترك بطرس وزملائه المسيح نائمًا ويخرج مع الآخرين إلى الصيد، لكنهم لم يصطادوا شيئًا. يخرج المسيح باكرًا ليعلم الجموع عند البحيرة فيجد التلاميذ قد عادوا من رحلة صيد فاشلة، وهم يغسلون الشباك. قال لسمعان: «ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ».فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلَكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ».
يتأرجح الإنسان بين الاستجابة للدعوة وظروف حياته العائلية. بقى بطرس مضطربًا، حائرًا بين ما يطلبه المسيح وبين إرادته الشخصية. بقى مُشتتًا بين احتاجات اسرته الصغيرة وبين متطلبات الرسالة الجديدة، التي تقتضى التفرغ التام لمرافقة يسوع في تجواله من قريةٍ إلى قرية. فترة سادت فيها العشوائية والتخبط الداخلي بين ارتباطاته الأسرية والتزاماته الحياتية وبين إرادة المسيح في أن يكون صائدًا للناس.
عاش فرنسيس كذلك وقتًا مضطربًا جدًا لم يفهم دعوة الله له في البداية فصرخ: «يا ربّ ما الذي تريدني أن أفعله؟» هي مرحلة ضبابية يخوض الإنسان فيها صعوبة الاختيار بين ترك كل شيء وراءه، والرغبة في العثور على السلام والصفاء التي شعر بها في بداية انصاته لصوت الله، وبين الشعور بأنه لا يعرف ماذا يريد الرب منه بالضبط، أو اختفاء التعزية التي كان يشعر بها في البداية وغياب السلام والصفاء اللذين يبحث عنهما.
3. مرحلة الترك
هي مرحلة اتخاذ قرار مبدئي في الحياة، باستجابة لصوت الله الذي يدعوني وترك ما في يدي لاتبعه. ترك التلاميذ الشباك، وبعضهم ترك أباهما والأجراء والشباك أيضا إذ “تَركوا كُلَّ شَيءٍ وتَبِعوه” (لوقا 5: 11). امَّا عبارة “تَركا” فيشير الى ترك العمل، والأسرة، والحياة السابقة لإفساح المجال، داخل النفس، كي يظهر شيء جديد وهو اتباع يسوع. أن فعل الترك هو الامر الوحيد الذي يطلبه يسوع ليسكن في قلب الانسان ويُحوِّله من محور ذاتيه إليه كما قال الرب الى حنانيا بشأن بولس الرسول “اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل” (اعمال الرسل 9: 15).
الترك هو أساس دعوة المسيح وهي نعمة تُعطي للإنسان لا يمكنه الوصول إليها بجهده فقط، بل من خلال رؤية جديدة وهبة من الله. والتخلي هو مطلب ينبع من القلب يفرض ذاته حينما يفهم المدعو طبيعة دعوة المسيح له. يترك التلميذ حياته السابقة دون علم أو معرفة عن ماذا يفعل في المستقبل. كل من يتبع يسوع يتحوّل من التركيز على ذاته الى التركيز على شخص يسوع وتعليمه.
يجبب القدّيس غريغوريوس الكبير “هؤلاء الصيّادون لا يملكون شيئًا تقريبًا. ومع ذلك فقد تركوا الكثير، لأنّهم تخلّوا عن كلّ شيء، مهما يكن هذا الشيء قليلاً. إذ عندما تخلّوا عن ممتلكاتهم، تخلّوا كذلك عن رغباتهم. فإنّ الربّ يكتفي بممتلكاتنا الخارجيّة مهما كانت صغيرة: هو يهتمّ للقلب لا للأسعار، إذ لا يرى كم قدّمنا له، إنّما كم من المحبّة رافقت تقدمتنا”. قدّم التلاميذ ليس فقط القليل مما يملكون، إنما قدّموا كل شيء، مثل الارملة الفقيرة التي “أَلقَت جَميعَ ما تَملِكُ لِمَعيشَتِها في خزانة الله” (لوقا 21: 4).
تكرر الأمر مع القديس فرنسيس، تَصف السيرة الكبرى مشهد له مع وأبيه أمام أسقف أسّيزي. حين خلع فرنسيس ثيابه أمام أبيه قام باختيار تلبية دعوة خدمة الربّ: حتّى الآن دعوتك يا أبتي الذي هنا على الأرض، والآن أستطيع القول بدون تردّد، «أبانا الذي في السموات»، لأنّي وضعتُ فيه كلّ إمكانيّاتي وكلّ رجائي. ترك كل شيء، المال، وحلم الفروسية، والأصدقاء ولم ينظر إلى الوراء، ولم يذكر شيء أبدًا عما تركه (فقط كتاب سيرته لكن كل كتابات فرنسيس لم ينوه أبدًا عما تركه وهو الكثير لأجل تلبية دعوة الله له)
فاذا دعانا الرب هل نلبِّي دعوته ونتبعه؟ هل نتخلى عن كل شيء في سبيله؟
تتضمن مرحلة الترك أزمة لأنها لحظة الخيارات الجذرية. والأزمات ضرورية لأن التغلب عليها يساعد الإنسان على الانتقال إلى مرحلة أعلى وهي مرحلة الاستنارة التي فيها تنكشف الحقائق أمامه ويعرف ماذا يريد الله منه.
4. مرحلة الاستنارة
يمر الإنسان بأزمة أو أزمات تؤهله لاكتشاف ماذا يريد الله منه حقًا. كما في نموذج إريكسون للنمو النفسي، هناك مراحل كثيرة للنمو النفسي، ثمان مراحل متتابعة، تنتهي كل منها بأزمة أو حاجة يؤدي حلها إلى نمو الشخص النفسي وكسب فاعليات جديدة، في حين يؤدي الفشل في حل هذه الأزمات إلى اضطراب النمو. هكذا أيضًا النمو الروحي، فهو كالنفسي، هناك أزمات يتعرض إليها الشخص، فإذا تغلب عليها فإنه ينتقل إلى مرحلة أعلى في السُلم الروحي، وإذا فشل في حلها تتعرض حياته الروحية إلى اضطرابات كثيرة.
في رواية دعوة التلاميذ حسب القديس لوقا دعى المسيح بطرس، الحزين والبائس بعد ليلة صيد فاشلة وشعور مخزي بعدم الكفاءة، لأن يدخل إلى العمق ليدل على أن الأزمة دائمًا جيدة ولا غنى عنها للنمو الروحي. هنا يعطينا بطرس الحل! يترك القارب ليديره يسوع النجار!! وهو الصياد المحنك والخبير. قال له المسيح ابتعد عن البر فأطاع، ثم ألقي الشباك متخليا عن خبرات كصياد. مرحلة الاستنارة لا تبدأ إلا بعد أن يصير يسوع هو ربان سفينة الحياة للشخص.
لنأخذ مثلا أخر من قصة يعقوب. كان يدير حياته ويقرر هو ما هو مناسب، لكن عندما إلتقى بالله وصارعه طوال الليل غير الرجل الذي صارعه اسمه إلى “إسرائيل” التي معناها، يهوه يدير “إيلي يدير”. قال له الرب كلمة عتاب: “لأَنَّكَ صارَعتَ اللهَ والنَّاسَ فغَلَبتَ” بمعنى أنك كنت تصارع في الحياة معتقدًا إنك قادر على تديرها وحدك مع الله ومع الناس.
عندما خطط يعقوب لسرقة الباكورية يقول الكتاب في تكوين 28 وهو يخرج من بيت أبيه يقول الكتاب: “وغابت الشمس” (تك 28: 11)، في تكوين 32 يقول الكتاب عند عودته مرة أخرى إلى بيت أبيه “وأشرقت الشمس” (32: 31)، معبرًا عن التغيير الكبير الحادث في حياة رجل الله عندما اسلم قيادة حياته إلى الله، فهو يهوه الذي يدير كل شيء، عندها أشرقت الشمس له وفي حياته. هي مرحلة الاستنارة.
في حياة فرنسيس تتضح مسيرة الاستنارة في سلسلة من الدعوات تتوضّح تدريجيًّا وتعمّق التزام فرنسيس وتظهر أصالة دعوة الله له. في البداية كانت هناك دعوة إنجيل الحياة. كان فرنسيس يعيش كناسِك حين سمع تلاوة الإنجيل في برسونكولا بعيد القدّيس متّى في 24 فبراير 1208. وجوابه على كلمة الله هو: «هذا ما أريده، هذا ما تقتُ إليه من كلّ قلبي». وحين انضمّ إليه آخرون يريدون عيش الحياة نفسها، أطلِقَت دعوة أخرى وتطلّبت جوابًا آخر: الدعوة إلى عيش حياة الجماعة في الفقر. حين أتى برنار إلى فرنسيس، ذهب الاثنان إلى كنيسة القدّيس نيقولاوس وفتحا الإنجيل ثلاث مرّات، وأعطى فرنسيس جوابه: «هذه هي حياتنا وقانوننا… وحياة كلّ مَن يرغبون الانضمام إلينا وقانونهم». وتكلّم فرنسيس على تحمّل الإهانة والصعوبة حبًّا بالمسيح. ويقول بونافنتورا إنّهم «أتوا إلى مدرسة المسيح المتواضع ليتعلّموا التواضع.
هنا لا يمكن للمرشد الروحي إلا أن يرافقنا من بعيد وينتظرنا ويصلي من أجلنا. علينا أن نطلب المزيد من الثقة والمزيد من الرجاء والمحبة، أي أقوى العطايا التي يمكن أن يعطينا إياها الرب، بواسطة الروح القدس، أن نطلبها. يساعدني أن أتأمل في موقف يسوع المسيح في عمل مشيئة الآب بدافع المحبة، كما في مشهد الصلاة في بستان الزيتون.
5. مرحلة الاتحاد والقرار النهائي
يتركنا الله في النهاية أحرارًا، ولنتذكر مثل الشاب الغني الذي مضى في النهاية حزينًا. يخبرنا الكتاب إن ن خطواته عندما ابتعد ازدادت ثقلًا وثقلًا في الحزن. يبقى هناك إلى الأبد ”فراغ“ لا يمكن لأحد آخر أن يملأه. إن الله الذي يدعونا بالحب إلى الحب، يحدد لنا معنى ورسالة ومصدر السلام والسعادة.
يدرك المدعو مَن هو يسوع. فبالرغم من كون الإنسان مخلوق ضعيف خاطئ، إلا إنه قادر أن يدخل بعلاقة مع الخالق، بعكس كل المخلوقات الأخرى، وبهذه العلاقة تتجلّى حقيقة الإنسان كابن لله، مدعوّ الى مشاركته الحياة الألهية. يقول بطرس ليسوع: “«يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ»، فهو يشعر بعدم استحقاق، إلا أن المسيح يقول له: «لاَ تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!». الدعوة الأولى كانت: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». لكن بعد اقرار بطرس بضعفه ومحدوديته وتسليم حياته ليقودها الرب، يقول له المسيح: : «لاَ تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!». وهذا التطور في الدعوة يأتي بعد الليل المظلم.
إنّ مفتاح المرحلة النهائية هو التعاطف والتتلمذ بمعنى الرغبة بأن نكون مع المسيح ولا يهمّ الثمن. فهناك دعوة إلى «التألّم مع» المسيح. وتظهر هذه الدعوة بوضوحٍ أشدّ في لافيرنا وفي نَيل فرنسيس لسمات المسيح. ويصف بونافنتورا هذه الدعوة على أنّه «ينبغي لفرنسيس أن يتكيّف معه [المسيح] في شجنه وحزنه وألمه قبل أن ينتقل من هذا العالم». وإذ تحمّل الألم، دُعيَ إلى أن يكون مع المسيح القائم من بين الأموات. وكان جواب فرنسيس هو الاختطاف والاتّحاد بالمسيح. ويروي بونافنتورا ما قاله فرنسيس قبَيل وفاته: «لقد قمتُ بواجبي، فليعلّمكم المسيح واجبكم».