إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (8) – شنودة

0 937

لم يكن أنطونيوس، كما أشرنا سابقًا، هو أول النساك الذين هجروا العالم واعتنقوا حياة النسك. فقد سبقه أجيال كثيرة من النساك وتنوعت أشكال التوحد التي مارسوها. فالبعض عاش في صوامع (قلالي) متناثرة في الجبال والأودية بعيدًا عن العمران، دون أي مظاهر للاتصال مع العالم الخارجي، إلا من خلال نافذة الصومعة، مثل يوحنا الليكوبولي. والبعض الآخر عاشوا في جماعات متقاربة حول بعض القامات الروحية، كأنطونيوس وبلامون وغيرهم، طلبًا للتعليم والارشاد الروحي ورغبة في الاحتفال الجماعي بالأسرار المقدسة.

من هم النساك؟ ومن أين أتوا؟
تنتمى نسبة كبيرة من النساك إلى الطبقات الدنيا، الكادحة والفقيرة في مصر القديمة. فأنطونيوس بالرغم من ثرائه، إلا أنه كان ينتمي إلى طبقة الفلاحين، تعمل أسرته بالزراعة. مكاريوس كان راعيًا للبعير، أبولو صيادً، موسي الأسود عبدًا ثم لص، بولا البسيط مزارع، يوحنا الليكوبولي نجارًا، واخيه صابغًا للجلود. قليل منهم كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وهناك بعض الاستثناءات مثل أمونيوس وأبولوس، وفقا لشهادة كاسيانوس، المنتمين إلى طبقة النبلاء.

جميعهم تقريبًا كانوا “أميين” يجهلون اللغة اليونانية، لغة الفكر والثقافة في ذلك الوقت. كانوا أقباطًا يتحدثون لغتهم الخاصة، اللغة المصرية القديمة، المكتوبة بأحرف يونانية. سجل تلاميذ باخوميوس كافة كتاباتهم باللغة الصعيدية في أول الأمر، كذلك فعل الأنبا شنوده، رئيس المتوحدين. اهتموا بتطبيق الإنجيل، أكثر من المناقشات والمجادلات اللاهوتية، إلا كتابات أنطونيوس وشنوده، غيرت هذا الاعتقاد الذي دام طويلا لدي الباحثين.

القديس شنوده – رئيس المتوحدين
يُعتبر من أهم شخصيات الرهنبة المصرية في القرون الأولى للمسيحية، وأُطلق عليه “أرشمندريت” أي رئيس المتوحدين، لكون شجع رهبانه على الانسحاب إلى البرية بعد سنوات قليلة من ممارستهم حياة الشركة طلبًا لحياة النسك والتي رأى فيها درجة أسمى من حياة الشركة، التي عدها مرحلة انتقالية تُعد النفوس الناضجة لحياة المتوحدين الأكثر نسكًا.

بالرغم من نعته برئيس المتوحدين، إلا أنه لا توجد له آية أقوال في مجموعة أقوال الآباء ” الأبوفثجماتا باتروم” Apophthegmata Patrum، ولا ذكر له في كل من التاريخ اللوزياكي لبلاديوس ولا في تاريخ الرهبنة هستوريا موناخورم: Historia monachorum in Ægyptoسواء للرهبان السبع أو لروفينوس. كذلك في كتابات كاسيانوس. ورغم أن بلاديوس زار بانوبوليس، أي أخميم التي تبعد قليلاً عن الدير الأبيض، إلا أنه لم يذكر شيئًا عن أديرة الأنبا شنوده. ويفسر بعض الباحثين الأمر بأن شنوده لم يسمح لأي أجنبي بأن يلتحق بأديرته فقد كانت هناك صعوبة في التواصل اللغوى مع رهبان تلك الأديرة، بالإضافة إلى عدم امكانية الترجمة من القبطية إلى اليونانية مثلما حدث بالنسبة لقوانين وسيرة باخموميوس التي ترجمها بعض الرهبان الناطقين باليونانية من القبطية إلى اليونانية والتي استعان بها القديس جيروم لنقلها للغة الغرب، اللاتينية، مما ساعد على نشرها. ويعزو البعض الآخر لكون جميع كتابات شنوده كانت باللهجة الصعيدية التي أختفت تحت سيطرة اللهجة البحيرية في القرن الخامس فلم يساعد هذا على انتشارها.

وبالرغم من التشدد الواضح لشنوده في عدم قبول رهبان أجانب في أديرته، إلا أن هذا لا ينفى درايته الكاملة باللغة اليونانية وثقافته الواسعة التي مكنته من الاطلاع على كتب الفلاسفة والشعراء اليونانيين، فنجده يرفض نظرية أفلاطون القائلة بأن الجسد هو سجن للروح، في حين يتفق معه في وصف النفس. ويؤكد Herbert Thomson اطلاعه الواسع على الفلسفة اليونانية فالرسالة التى وجهها البابا ديوسقورس بطريرك الإسكندرية إلى الأنبا شنوده بشأن دعوته لمجمع أفسس المسكوني كانت باليونانية.

أما العالم الألمانى Leipoldt فقد قدم الأنبا شنوده بهذا الوصف: “أنه أكثر ثقافة من كثيرين من أبناء وطنه ولا أعرف إن كان قد درس فى مدرسة يونانية أم لا، لكنه من وقت لآخر يُظهر لنا ويوضح الأسلوب اليونانى الشيق ومواطن الجمال فى معنى الكلمات بأسلوب لا يقل عن أسلوب يوسابيوس القيصرى وباسيليوس الكبير” . H. F. Weiss من جانبه يقول: “يجب أن نقبل أن شنوده قد عرف الثقافة اليونانية واللغة اليونانية جيدًا ولهذا فقد توفر لديه القواعد الأساسية التى تمكنه من أن يكون مطلعًا على المشكلات اللاهوتية لعصره” .

ومع كل هذه المعرفة للغة اليونانية ودرايته الكاملة بها فقد رفض استخدامها فى أديرته وتبنى استخدام اللغة القبطية كلغة حديث ولغة كتابة، وكان لهذا الحدث بُعد قومى أيضًا لأن اللغة تمثل أسلوب تواصل بين الناس. إذ أن رفض استخدام اللغة الأوسع انتشارًا فى هذا العصر كان يعنى وبشكل مباشر رفض التواصل مع العنصر الأجنبى المحتل لوطنه والذى مارس كثيرًا من المظالم ضد أبناء هذا الوطن. فنشاطه الاجتماعى كان له بُعد قومى. وتوجهه القومى كان له نتائج اجتماعية متعددة. كان الأنبا شنوده ينتمى إلى عائلة لها علاقة وثيقة بالرهبنة، فقد كان خاله الأنبا بيجول هو مؤسس دير أتريب وعندما وصل عدد رهبانه إلى ثلاثين راهبًا حدد لهم أعمالاً ووضع لهم قوانينًا، وإن كانت أكثر شدة من القوانين الخاصة بجماعات رهبانية تعيش بنظام الشركة التى كانت توجد فى نفس المنطقة.

سيرة حياته
إن المعلومات عن الأنبا شنوده قليلة للغاية ومستمدة فقط من عظاته هو نفسه ورسائله، والتي أورد بها اشارات عابرة لبعض الأحداث التي مرت به في حياته. ولهذا من الصعب تحديد تاريخ ميلاده وتاريخ نياحته. لقد حاول بعض الدارسين، اعتمادًا على بعض الاشارات الورادة في سيرته أن يجيبوا على هذا السؤال، وكانت النتيجة التي خرجوا بها هي أنه وُلد في عام ٣٣٣م وتنيح في عام ٤٥١، أي أنه عاش ١١٨ سنة. ففي المخطوط البحيري لسيرته نجد نصًا صريحا باقترابه من المئة والثمانية عشر عامًا وحيث إنه عاش حتى وفاة نسطور في منفاه بالقرب من أخميم في ذلك العام، فتكون النتيجة إنه وُلدَّ في ٣٣٣م. إلا أن هناك مصادر أخري تُرجع تاريخ ميلاده إلى ٣٤٧م استنادًا على نقش أثري عُثر عليه مؤخرًا في الدير الأبيض يرجع إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي ذُكر فيه أن الأنبا شنوده ولد عام ٣٤٧/٣٤٨م. في حين أن الباحث Stephen Emmel كشف مؤخرًا عن خطاب أرسله الأنبا شنوده إلى البابا تيموثاوس الثاني، الذي تولى في الفترة من ٤٥٨- ٤٨٠، يذكره برحلتهما معا إلى أفسس مع البابا كيرلس، وهذا يعنى تأخير ميعاد الوفاة إلى ما بعد ٤٥٨. ومازال الأمر لم يحسم بعد.

وُلد في شندويل بالقرب من أخميم وكان في صغره يرعى الغنم. فى سن تسع سنوات انضم إلى دير خاله وهناك تعلّم المبادئ الصحيحة للإيمان المسيحى. ولقد ساعدت إقامته الطويلة بالدير وعلاقته المباشرة بحياة الرهبان اليومية والتزامه بحفظ قوانين الدير على أن ينمو ويتقدم فى الحياة النُسكية. ظل الأنبا شنوده، لفترة طويلة، تلميذًا لخاله الأنبا بيجول. تعلم خلالها الكثير عن الحياة النُسكية، ثم بعد ذلك شارك بفاعلية فى إدارة الدير الأبيض. ولفترة قريبة كان يُعتقد إنه خَلَف خاله مباشرة بعد نياحة الأخير في رئاسة الدير، لكن تحليل رسائله وعظاته كشفت مؤخرًا إنه يُلقب خاله في حياته بـ “الأب الأول للدير”. وبعد ذلك يُشير في مؤلفاته إلى “الأب الآخر للدير” والذي كان اسمه غالبًا “إبونه” والذي تولى رئاسة الدير على الأرجح بعد وفاة بيجول.

في خلال فترة رئاسة “الأب الآخر للدير”، تكشف رسائله، إنه قد حدث في هذه الفترة فتورٌ روحي في الدير واتجاه نحو الاهتمامات العالمية وتشيد مشورعات معمارية لا ضرورة لها. فنجد الأنبا شنوده يلوم رئيس الدير على انفاق ما يفضل عنهم من مال في تشييد المباني، وكان الأجدر أن تُنفق هذه الأموال على أعمال الرحمة تجاه الفقراء. إلا إنه حدث ما هو أخطر، فقد ارتكب أحد الرهبان لخطأ ما وكان رئيسه المباشر على علم بها ولم يخبر بها رئيس الدير. فتحدث الأبنا شنوده مع “الأب الآخر للدير” الذي استدعي الأخ الذي أخطا، ولكنه أنكر جريمته، وأنتهى الأمر بغضب الرئيس على الأنبا شنوده وتجنبه. فكتب الأبنا شنوده رسالة بهذا الأمر، حُفظت كاملة، محاولا اقناع رئيس الدير برأيه، وعندما فشل، ترك الدير ليتوحد في البرية، وقبل أن يرحل كتب “القانون الأول” كخطاب مفتوح موجه إلى رهبان الدير بوجه عام ولرئيس الدير بوجه خاص .

توالت الأحداث المقلقة بعد ذلك، فقد أخطا الأخ المعني مرة أخرى وعلم الجميع بالأمر، مما دفع الأبنا شنوده للغضب على رئيس الدير لمسئوليته عن الأحداث. فتسأل الرهبان عن الدوافع الحقيقية لغضب الأنبا شنوده فهل كان يُريد أن يكون رئيسا للدير عليهم. فكان جواب الأنبا شنوده صادمًا ناعتًا الرهبان بالأغبياء وأن الدير لا تقترب منه ملائكة الرب الخادمة بسبب النجاسات والأدناس والسرقات وكل الشرور الأخرى التي اقتُرفت فيه” . دفع كل هذا الرهبان لاختيار الأنبا شنوده خلفا لـ “أبونه” الذي قرر بضرورة قراءة القانون الذي وضعه في أديرته أربع مرات كل عام: “وإن كان هناك من يكره أن يسمعه، لأنه أيضًا يكره نفسه وحدها فسوف يقرأه رغما عنه”.

وظل فى رئاسته للدير حتى نياحته، وساهم خلال هذه الفترة فى إذكاء روح جديدة فى الحياة الرهبانية، إذ رأى أن الدير له دور اجتماعي هام ولهذا عمل على ازدياد نشاط الدير الاجتماعى والروحى من أجل خدمة المظلومين والفقراء والمحرومين ومقاومة الهرطقات والوثنية.

ولهذا فقد ارتفع عدد رهبان الدير إلى ٢٢٠٠ راهبًا و١٨٠٠ راهبة. وبطبيعة الحال كل هذا تطلب جهاد طويل على المستوى الروحى والاجتماعى والقومى، الأمر الذى جعل المؤرخون ينظرون إلى القديس الأنبا شنوده، كأول من ساهم فى تحرير وطنه من التواجد الأجنبى.

لم يكن اهتمام الأنبا شنوده منصبًا على الاهتمامات الروحية لأبنائه داخل الأديرة وخارجها فقط، بل إنه اهتم أيضًا بقضايا وطنه وكذلك بقضايا كنيسته العقائدية، وكانت له كتابات لاهوتية عميقة ساهم بها مع آباء كنيستنا العظام فى مواجهة الهرطقات التى هددت حياة الكنيسة وسلام المؤمنين، خاصة تلك ضد نسور والأوريجانيون. وقد اعتمد فى كتابة موضوعاته هذه على نصوص الكتاب المقدس مفسرًا إياها تفسيرًا صحيحًا، وأيضًا على كتابات آباء الكنيسة وخاصة كتابات القديس أثناسيوس والقديس كيرلس الكبير. ويقول LEFORT أن هذه الموضوعات كشفت عن جانب هام للأنبا شنوده كمفسر دقيق للكتاب المقدس وكأحد اللاهوتيين الكبار في عصره .

كتابات الأنبا شنوده
تنقسم كتابات ومؤلفات الأنبا شنوده إلى ثلاث أقسام، هي: تسع مجموعات من القوانين، وثماني مجموعات من العظات، بالإضافة إلى الرسائل المتبادلة مع البطاركة أو الإكليروس أو شخصيات عامة. عُثر على مؤلفات الأنبا شنوده، بالدير الأبيض، في ثمان وتسعين مخطوطة، ويعود أغلبها إلى ما بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين. وهناك ثلاث مخطوطات تحتوي على كتابات الأنبا شنودة محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس، ومتحف المصريات بتورينو والمتحف البريطاني بلندن. وتأتي عناونين المخطوطات والعظات من العبارة الأولى لهذه العظات. فالعظة التي تبدأ على سبيل المثال بعبارة: “حدث ذات يوم” تسمى بهذا الاسم. وقد تم العثور على ورقة من الرق، مصدرها الدير الأبيض، حاليا محفوظة في المكتبة الأهلية في فيينا بالنمسا، تسمى قائمة فيينا، وتشمل فهرس العظات بذات الترتيب ووفقا لأول عبارة للعظة.

بدأ اهتمام العلماء بالأنبا شنوده في القرن الثامن عشر بعد أن قام العالم الدنماركي Georg Zoega (١٧٥٥- ١٨٠٩) بإعداد فهرس للمخطوطات القبطية والتي ضمت من بينها عددًا كبيرًا من كتابات الأنبا شنوده. وقد نُشر هذا العمل في عام ١٨١٠ وفتح الطريق أمام الباحثين للدراسة، خاصة إنه وصف محتوى كل مخطوطة ووضع ترجمة لها باللغة اللاتينية. في عام ١٩٠٧ قام عالم القبطيات É’mile Amélineau (١٨٥٠- ١٩١٥) باصدار مجلد ضخم عن مؤلفات شنوده Œuvres dei Schenoudi يحتوى على النص القبطي مع ترجمة فرنسية. ثم تبعه بالجزء الثاني عام ١٩١٤. ومع اكتشاف مخطوطات جديدة لشنوده قام عالم القبطيات الألماني Johannes Leipoldt بالاشتراك مع Walter Crum باصدار ثلاث أجزاء عن سيرة وعظات شنوده.وأخيرا قام العالم Stephen Emmel بنشر مجلدين بعنوان Shenoute’s Literary Corpus ضم بحثا وافيا عن كل ما وصلنا من مؤلفات الأنبا شنوده، مع ترتيب تلك المخطوطات وأماكن تواجدها في مكتبات العالم. ثم اعاد اصدارها في سلسلة دراسات مسيحية شرقية (CSCO) مضيفًا إليها أحدث ما تم التوصل إليه حتى عام ٢٠٠٤.

اشتراك الأنبا شنوده في مجمع أفسس عام ٤٣١
إن مشاركة الأنبا شنوده في مجمع أفسس ثابتة ومؤكدة، سواء في كتاباته أو من المصادر المعاصرة له. ففي خطابه السابق الذكر للبابا تيموثاوس الثاني يُشير إلى رحلتهما معا إلى مدينة أفسس برفقة البابا كيرلس وبعض الأساقفة الآخرين. يذكر هو شخصيًا هذا الحدث بنبرة لا تخلو من الفخر والاعتزاز في كثير من عظاته. وهناك أيضا شهادة البابا كيرلس ذاته على دعوته للأنبا شنوده للسفر معه إلى أفسس. إلا سيرته تروى الأمر بصورة لا تخلو من مبالغة عن ضرب شنوده لنسطور أثناء المجمع بسبب كبريائه، في حين أن نسطور لم يحضر المجمع من الأساس، وهذا ما تؤكده الوثائق الرسمية لأعمال مجمع أفسس. دفع هذا الأمر الكثير من الباحثين إلى القول بأنه محاولة من الآدب القبطي لاضفاء مزيد من الأهمية على شخصية الأنبا شنوده.

الدور الاجتماعي والسياسي لأنبا شنوده:
وخلال القرنين الرابع والخامس تزايد التواجد العسكرى للإمبراطورية الرومانية فى منطقة جنوب مصر، ولذا انحصر الإنتاج الزراعى وزادت الضرائب، مما أدى إلى زيادة الأعباء على جموع المواطنين الفقراء. هذا الوضع، مع انتشار العبادات الوثنية وظهور الهرطقات كان سببًا فى إثارة حالة من القلق والتشكيك بين المؤمنين. فلعبت أديرة الأنبا شنوده دورًا مهمًا في مواجهة التأثيرات اليونانية والرومانية على سكان المنطقة، وأيضًا مواجهة المشكلات التى خلقها النظام الإدارى الرومانى بسبب سياسة التمييز العنصرى بين طبقات الشعب. وفى نفس الوقت فقد مارس نشاطه الروحى لتأمين الشعب من خطر التعاليم المُضلة، حيث إن هذه المنطقة كانت مركزًا للعبادات الوثنية القديمة، وكانت المعابد الوثنية منتشرة فى كل مكان، وممارسة هذه العبادة كانت علانية مما كان له تأثير على الإنسان المسيحى غير الحَذِر والبسيط فى إيمانه مما جعلت حياته الروحية فى خطر. وبسبب عدم النضج اللاهوتى لدى الشعب وجد آباء الأديرة لزامًا عليهم تكثيف الخدمة الروحية لحماية المؤمنين البسطاء من هذه الأخطار. وتقدم سيرة الأنبا شنوده أمثلة حية لصراعه ضد الوثنية: فيذهب مرة إلى قرية “بلويت” لكي يحطم الأصنام الموجودة في ذلك المكان. وذات يوم ذهب إلى مدينة أخميم مع بعض الرهبان لينزع الأوثان من بيت رجل اسمه كاسيوس، فما وصلوا هناك ليلاً، فتحوا أبواب بيته واخذوا الأوثان وكسروهم قطعة قطعة ورموهم في البحر.

أدرك الأنبا شنوده ضرورة خروج الرهبنة إلى المجتمع لتشاركه مشكلاته وتساهم فى تقديم حلول لها. ففتح أبواب الدير لإطعام الشعب وتسديد احتياجاته. وهكذا استطاع الدير الأبيض أن يحقق هذا الحضور المتوازن بين الحياة الروحية والحياة الاجتماعية. فتح أبوابه لإطعام الشعب وتسديد احتياجاته، وصار ملجأً لكل المظلومين والضعفاء وللذين هم بلا مورد. ويحمل لنا التاريخ حدث بعض الغزاة الذين أغاروا على صعيد مصر وسبوا الآلاف من الشعب، قابل شنوده الغزاة وتوصل معهم لأخذ الغنائم وترك النفوس، وفتح ديره للمسبيين لمدة طويلة لحين عودتهم إلى أراضهيم.

لم يكن الأنبا شنوده فقط الأب الروحى الساهر على رعاية أبنائه ولكنه أيضًا كان وطنيًا صميمًا، هاجم كل أشكال الظلم التى كانت تقع على أبناء وطنه. في اجتماع عام أثار الجمهور بقوله: “قلوب الحكام المملوءة شرًا وخداعًا وظلمًا وطمعًا. لهم هدف واحد هو جمع المال علي حساب الفقراء الذين هم الضحية. من يقدر أن يحصي الأتعاب التي يلاقيها الشعب من هؤلاء الحكام؟ فإنني أعرف بعضًا لم يجدوا طعامًا ليأكلوا هم وحيواناتهم. أظن أنهم يريدون أن يقيموا من المصريين عبيدًا لهم، يضعون النير علي أكتافهم”.

هكذا تنوع النشاط الروحى للأنبا شنوده فاهتم بأمور الكنيسة وأمور الرهبان والراهبات، وكتب رسائل روحية، منها رسالة للبابا تيموثاوس ورسالة للإمبراطور ثيؤدوسيوس والبعض الآخر لعلمانيين والبعض لإكليروس. مجموعة كبيرة من عظاته كانت ضد الوثنيين، عظات أخرى كانت فى مجال العقيدة والإيمان والأخلاق. اهتم أن ينقى اللغة القبطية والأدب الدينى من التأثيرات اليونانية، وازدهرت اللغة القبطية والأدب القبطى فى عصره.

نظامه الرهباني:
مع أن الأنبا شنوده اتبع نظام الرهبنة السائد في مصر إلا أنه وضع خطة يسير عليها رهبانه، بها بعض الاختلافات تتعلق بنظام طالبي الرهبنة، ونظام الإدارة، وقانون العبادة، والاهتمام بالتعليم والعمل اليدوي، ونظام العزلة جامعًا بذلك بين الرهبنة الأنطونية والرهبنة الباخومية.

يختلف نظام الشركة الذي أقامه القديس شنوده عن النظام الباخومي، فقد اتسم بحزم أشد، بل إن قوانيه كانت أشبه بقوانين العقوبات تركز على العقوبات البدنية على الرهبان في حالة الخطأ، وتتلخص خطوطه الرئيسية في النقاط التالية:

. يقضي طالب الرهبنة فترة اختبار في بيوت خارج أسوار الدير. ثم يكتب طالب الرهبنة تعهدًا يوقع عليه قبل دخوله الدير، ويتلوه أمام الإخوة داخل الكنيسة، ويحفظ هذا التعهد في أرشيف الدير.

. كان كل دير يديره أب، هذا بدوره يخضع للأرشمندريت كأب لكل الأديرة. وتقام أربعة اجتماعات عامة لكل الرهبان سنويًا، يحضرها أيضًا المتوحدون، وذلك لمناقشة أوضاع هذه الأديرة.

. من جهة العبادة، تتلو كل جماعة من الرهبان صلوات قصيرة قبل البدء في أعمالهم. وتتكون الصلوات الخاصة من المزامير والتسابيح الكنسية، تُتلي في القلالي بإرشاد الأب الروحي, أما الصلوات الجماعية فيجتمع الرهبان أربع مرات لهذا الغرض: في الصباح وعند الظهر وعند الغروب وبالليل. يجتمعون وينصرفون في هدوء كامل، لا يفكرون إلا في الصلوات التي يتلونها.

بجانب هذه الصلوات تقام ليتورجيا الافخارستيا أسبوعيًا. كان يُسمح للعائلات وكل الشعب المحيط بالأديرة يشتركون في القداس الإلهي مع الرهبان في أيام الآحاد.

اهتمامه بالراهبات:
لم يكن الأنبا شنوده أبًا للعديد من الرهبان فحسب، بل كان لأعداد كبيرة من الراهبات أيضًا، وقد كتب لهؤلاء الراهبات رسائل عديدة الغرض، منها تعليمهن وإرشادهن وتثبيتهن على الإيمان القويم. ومع أنه كان أبًا لهذا العدد الوفير من الرهبان والراهبات إلا أنه ظل يمارس حياة العزلة باستمرار، ولذلك تأهّل لأن ينال لقب “رئيس المتوحدين”، فكان يقضي بعضًا من الوقت في كل سنة منقطعًا بمفرده، ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه أثناء هذه العزلة.

الأنبا مكاريوس الكبير
ولد في قرية شبشير في مركز المنوفية حوالى عام ٣٠م. رأي أهل قريته تقواه منذ الصغر فأخذوه إلى أسقف أشمون فرسمه كاهنًا عليهم. وبنوا له موضعًا خارج البلد وكانوا يأتون إليه ويتقربون منه، وعينوا له خادمًا ليبيع له شغل يديه وقضاء ما يحتاج إليه. إلا إنه تعرض لتجربة قاسية في بداية خدمته بأن أدعت فتاة كانت قد ارتكبت شرًا مع شاب بأن مكاريوس هو الذي أتى معها هذا الشر. فخرجوا إليه واستهزأوا به وطافوا به القرية بعدما علّقوا في عنقه قدوراً ساخنة وهم يضربونه ويقولون هذا الراهب أفسد عفّة ابنتنا! وبعدما بالغوا في شتمه وضربه جعلوه يتعهّد بالإنفاق عليها وعلى مولودها. لم يدافع مكاريوس عن نفسه، ولما عاد إلى قلاّيته قال في سرّه: “كدّ يا مكاريوس لأنه قد صارت لك امرأة وبنون. فينبغي لك أن تعمل ليلاً ونهاراً لتطعمهم وتطعم نفسك”.

فلما أقام ردحاً من الزمان يكد ويتعب، حان وقت وضع الفتاة ظلت أيامًا عديدة تتألم دون أن تلد، فتيقنت إن هذا يحدث بسبب التهمة التي ألصقتها بالراهب وهو بريء. فاعترف بذنبها وخداعها لأهل القرية. فخرج سكان القرية ليستسمحوا القدّيس. وقبل أن يصلوا إليه أطلعه خادمه على ما جرى وأن أهل القرية في طريقهم إليه. فقام لتوّه وهرب إلى برّية الإسقيط، وكان عمره، ثلاثين سنة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد