أيام الخلق الأولى- اليوم الثاني

اليوم الثاني:
في أحد القرى الصغيرة التي تطل على النيل، فيه كنيسة صغيرة، وراعي شاب خصص كل عظات الأحد ليتكلم على النعمة الإلهية التي يعطيها الله لنا بصورة مجانية. لكن الشعب كان غير مقتنع بكلام الراعي، أزاي ربنا بيعطينا النعمة مجانا، طيب أيه فايدة الصلاة والصوم. في يوم أراد الراعي أن يوصل تعليم الكنيسة بخصوص النعمة للناس، جاءته الفكرة وهو بيلف في القرية، شاف بياع سمك، وهو شايل قفته وبينادي على السمك. قاله، بكام السمك، رد الصياد بعشرة جنيه، قاله معاك كام كيلو، عشرين أو ثلاثين انا هاشتريهم كلهم بعشرين جنيه للكيلو، بس تعمل اللي ها أقولك عليه. قالوا تأمر ياأبونا. رد الراعي تلف برضه في البلد وانت شايل قفتك، وتعرض للناس السمك ببلاشك. وافق الصياد، وهو يظن أن في أول شارع الناس هتيجي تخطف كل السمك اللي معاه، وخرج ينادي “سمك نظيف صابح ببلاش”. سمعه الناس وما لم يصدقوا اذانهم، وفتحت السيدات الشبابيك لتراه، لكنهم قالوا في انفسهم: لازم السمك فاسد، ازاي سمك ببلاش. لف الصياد وطاف في القرية كلها، وعاد خائبا للراعي.

عندما يعرض علينا شيئا مجانا نشك في صدقه ولا نقبله بسهولة. بالأمس تكلمنا عن اليوم الأول للخلق، وتكلمنا عن الوصية الأولي التي أعطاها الله للبشرية وهي حق الإنسان في الاختيار. يختار أن يقبل النور في حياته أو أن يرفضه ليعيش في الظلام. وتكلمنا عن الفضيلة المرتبطة باليوم الأول للخلق وهي إهتداء القلب ليصبح خليقة جديدة.

اليوم نتكلم عن اليوم الثاني للخلق والفضيلة المرتبطة به. في اليوم الثاني: “قال الله ليكن جلد في وسط المياه و ليكن فاصلا بين مياه و مياه فعمل الله الجلد و فصل بين المياه التي تحت الجلد و المياه التي فوق الجلد و كان كذلك و دعا الله الجلد سماء و كان مساء و كان صباح يوما ثانيا”. الجلد هو الهواء الذي يفصل مياه البحار والمحيطات، المياه الأرضية، وعن بخار المياه في طبقات الجو العليا، المياه العلوية.

لكي نفهم الفضيلة المرتبطة بالجلد، يجب أن نفهم المقصود بالمياه العلوية التي فوق الجلد والمياه التي تحت الجلد. المياه التي فوق الجلد هي حياة النعمة: النعمة هي قداسة الله، الله وحده هو القدوس، ويظهر لنا الكتاب أن الله أراد أن تظهر هذه القداسة في الإنسان: “ألا تعلمون أنكم هيكل الله, وأن روح الله حال فيكم.. هيكل الله مقدس وهذا الهيكل هو أنتم” (١ كور ٣\١٦-١٧). والنعمة هي قداسة الله التي تملأ الإنسان وتعطيه قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا يستطيع بهما أن يحيا بالقداسة على مثال الله, متمما إرادته ووصاياه, ليكون أمينا للعهد الذي قطعه مع الله. وإذا كانت قداسة الله تظهر في الإنسان, فلا بد أن يحيا هذا الإنسان حياة الله, ليشهد لله في العالم.

السؤال هنا: هل يعطي الله النعمة للبعض ويحرم البعض الأخر؟ نعمة الله مجانية لكل البشر، يقول بولس الرسول في أول آية في رسالته إلى أهل أفسس: “تبارك الله أبو ربنا يسوع.. الذي أختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسن في المحبة”. أختارنا في يسوع المسيح منذ البدء، قبل إنشاء العالم لنكون قديسين بلا عيب في المحبة. أي أعطانا النعمة مجانا، أعطاها لكل فرد فينا. النعمة إذن مجانية لكل فرد ومن ينفتح لنعمة الله ويتقبل عطاءه ومحبته يمكنه أن يقول مع بولس الرسول: “بنعمة الله ما أنا عليه، ونعمته على لم تذهب سدى” (١كو ١٥/١٠).

ولهذا يطلب منا الرب أن نكون قديسين.. كونوا قديسين كما أنا قدوس. والإنسان الذي تملء حياته قداسة الله يظهر هذا في حياته. منذ سنوات كنت في أحد محطات المترو في الخارج مع أحد الآباء من جنوب أفريقيا. كانوا في انتظار المترو مجموعة من الشباب الكارهين الأجانب، فراحوا يستهزئون بالكاهن الأسود، الزنجي، ويقولون هل القداس يصبح صحيح لو عمله الكاهن الزنجي. غضبت من استهزاء الشباب على صديقي الكاهن، أما هو فراح يباركهم ببركة القديس فرنسيس: يبارككم الرب ويحفظكم ليشرق بوجه عليكم ويمنحكم السلام. زادت وتيرة الاستهزاء من جانب الشباب وهو يقولون وكمان أطرش. أنا سألته يا أبونا هم بشتموك وانت بتباركهم. رد الراهب: “لأحد منا يستطيع أن يقدم إلا ما يملك”. أمتلك الراهب النعمة فعندما تكلم نطق بالنعمة وحدها.

أما المياه التي تحت الجلد، فهي رمزا الخطيئة. فالإنسان البعيد عن الله تغيب عنه قداسة الله ونعمته، كما يقول بولس الرسول: “استبدلوا مجد الله الخالد، صورا تمثل الإنسان الزائل”(روم ١/٢٣). لقد انفصل الإنسان عن الله وتمركز على ذاته, ولم يعد ينظر إلى العالم والبشر إلا من منظور إشباع شهواته ورغباته. لقد سيطر الجسد على الروح (روم ٨/٥-١٣). لذلك يحث الجميع بولس الرسول في رسالته إلى كولوسي: “فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، اهتموا بما فوق لا بما على الارض” (كول٣/ ١-٢).

إذا كانت المياه التي فوق الجلد هي حياة النعمة التي يعطيها الله بصورة مجانية، والمياه التي تحت الجلد هي حياة الخطيئة التي يعيش فيها الإنسان عندما يبتعد عن الله، فما هو المقصود بالجلد الذي يفصل بين مياه ومياه.

الجلد هو الاعتراف بالخطايا. الاعتراف يصبح كحاجز يفصل بين حياة النعمة التي حضور الله في الإنسان حضوراً حياً وبين حياة الخطيئة. الجلد هو الحاجز الذي يفصل بين النعمة والخطيئة. يحمي الاعتراف الإنسان من الانزلاق في وحل الخطيئة، يحميه من النظر إلى الخلف والندم عليه كما فعل الشعب عندما خرج من مصر في أتجاه أرض الميعاد وراح يتذكر قدور اللحم وبصل مصر. كيف يحمي الاعتراف من السقوط في مياه الخطيئة:

الاعتراف يقتل الشهوة في مهدها: يقول القديس يعقوب أن الشهوة إذا حبلت ستلد خطيئة، والخطيئة إذا كملت تنتج موتا (يع ١/١٥). الاعتراف يقضي على بدايات الخطيئة وهي الشهوة فلا تصل بنا أبدا إلى الخطيئة. وهذا ما علمه الرب يسوع في العظة على الجبل عندما قال: سمعتم أنه قبل للأولين لا تقتل، فمن قتل يستوجب الحكم، أما أنا فأقول لكم من غضب على أخيه اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم و من قال لاخيه رقا يكون مستوجب المجمع و من قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم. لماذا ساوى الرب بين القتل والغضب؟ لأن القتل يبدأ بالغضب، ثم الحنق، ثم الرغبة في الانتقام، ثم القتل. لذلك يقول بولس الرسول”لاتغرب الشمس على غضبكم” إذا سارعت بالاعتراف عندما وقوعك في خطيئة الغطب، لن تكبر مشاعر الغضب ولن تتحول أبدا إلى خطيئة “صافي يا لبن”. هذا هو المقصود بالتخلص من الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش ٢/ ١٥).

الاعتراف يقضي أيضا على الاهمال: خطايا الاهمال مثل خطايا الشهوة، إذا لم تعالج فأنها تصل بالإنسان إلى قطع علاقته بالله، أن يبتعد عن النعمة، ويسقط في مياه الخطيئة. هي التي تكلم عنها يعقوب الرسول في الإصحاح الرابع: “فمن يعرف يعمل الخير ولا يعمله يخطئ” (يع ٤/١٧)، كما يقول حزقيال النبي: “إذا لم تتكلم وتحذر الشرير عن طريقه فذلك الشرير يموت بذنبه أما دمه فمن يدك يطلب”. خطايا الأهمال هي تلك الأعمال الصالحة، والأفكار الصالحة والأقوال الصالحة التي يستطيع الإنسان أن يقوم بها ولا يفعل بسبب إهماله. مثل العبد الكسلان الذي أخذ الوزنة وطرحها في الأرض وأدانه الرب بالرغم إنه لم يصنع خطيئة، ولم يظلم أحد، فقط لأنه كان قادرا على أن يصنع بها خيرا ولم يفعل. وهذا واضح في إنجيل الدينونة، مت ٢٥ عندما صرخوا أهل اليسار متي رأيناك يارب جوعان أو عطشانا أو عريانا او غريبا أو مسجونا وما أسعفناك. قال الرب: كل مرة عملتم هذا لواحد من أخوتي الصغار فبي فعلتم. يقول القديس غريغوريس النيص: “كما أن كل إنسان يحاسب حسب أعماله.. كذلك كل واحد يحصل على عقوبة بقدر إهماله.

الاعتراف يفصل بين حياة النعمة وحياة الخطيئة، ومتى اعترف الإنسان تنسكب المياه العلوية، نعمة الروح القدس التي قال عنها حزقيال النبي: ” هذه المياه تخرج نحو الوادي الشرقية وتنزل إلى الأردن، وعندما تصب في مياه البحر الميت تحولها إلى مياه عذبة.” (حز ٤٧/٨). اعتراف الإنسان بأخطائه أمام الله يحول بينه وبين السقوط مجددا. يضع الإنسان باعترافه خمر جديدة في آنية جديدة: “ليس احد يجعل خمرا جديدة (أي نعمة الروح القدس) في زقاق عتيقة (أي في أيام الخطيئة) لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق فهي تهرق و الزقاق تتلف، بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا.

Comments (0)
Add Comment