إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

علم اللاهوت الرعوي (5): خبرة إرسالية فرنسا

0 808

العمل الرعوي كمعمل تجريبي لكنيسة الغد

العنصر الثاني الذي ساهم في تطور ونشأة اللاهوت الرعوي بالصورة التي نعرفها اليوم هو بزوغ شمس إرسالية فرنسا، التي أصبحت بمثابة المُختبر الرعوي لعلم ا للاهوت الرعوي الوليد. وترجع معظم المصطلحات والصيغ اللَّغوية المستخدمة في هذا العلم إلى تلك الخبرة الرعوية في فرنسا مثل: (الرعوية الشاملة، الرعوية التبشيرية).

قام أحد اساتذة علم الكنيسة في تلك الفترة (إيڤ كونجار)  بتجميع الجوانب الأساسية لتلك الخبرة بصورة جلية جدًّا، وكأنّه قد فكّر بالفعل بنفس الطريقة التي ننظر بها اليوم لتلك الفترة من حياة الكنيسة: إن إرسالية فرنسا وضعت ذاتها بين أيدينا كمُختَبَر تُستخلص منه الأفكار والتأملات والمُحفِّزات والمفاهيم في سبيل فكر جاد بشأن الرعوية.

تأسست الإرسالية التبشرية في باريس العام 1941 من قِبل الكاردينال عمانوئيل سوهارد بهدف هدم الجدار الفاصل بين الكنيسة والمجتمع، خاصة مع أولئك الذين لا يشتركون في الإيمان المسيحي من العمال المُهمشين من قِبل الكنيسة والمجتمع الفرنسي. كانت رغبة سوهارد تنظيم حركة عمالية كاثوليكية تنخرط في المجتمع الفرنسي. الأساس الذي قامت عليه الحركة هو إمكانية تبشير العمال بالعيش في أوساطهم، مُكتسبينَ طرق تفكيرهم ومنهاج حياتهم. الحاجة إذن ليس في الاهتمام بفئة العمال أكثر من المعياشة الدائمة ومقاسمة الحياة معهم. كان من نتيجة اختيار البعض من الكهنة لهذا النمط من الحياة في أوساط العمال، كسر النمط التقليدي للسلطة الكنسية المُتعارف عليه تاريخيًّا بين رجال الإكليروس.

في العام 1944 شَكَّلَ سبعة كهنة وسبعة علمانيين (بينهم نساء) فريقًا للعمل التبشيري وسط العمال في ليزيو في محاولة للبحث عن منهجٍ للتبشير أكثر مناسبة للعمال وثقافتهم، فتوصلوا إلى العمل يدٍ بيد مع العمال. خلال فترة وجيزة اعتنق الكثير من الكهنة الإيبارشيين منهج الكهنة العمال، مشاركين إيَّاهم احتجاجاتهم العمالية للمطالبة بتحسين الأجور وبيئة العمل.

تعلِّمنا إرسالية فرنسا على نحو خاص، أنّه في التغيير الثقافي الجاري، لا بُدّ من التطوير الإجباري للتفكير في الإجراءات التي من خلالها تستقرُّ المسيحية في التاريخ، وأنّه نتيجة لذلك، يجب العثور على الدعائم، والعناصر الأساسية لهذا الفكر. لقد حدَّدت الإرسالية هذه الدعامة من خلال وسيلة الرباط، العلاقة: فالمسيحية هي “التجلي” الكبير للروابط الاجتماعية التي من خلالها يتكاتف الإنسان والمجتمع في تطوير وهيكلة هويتهم. الرباط، العلاقة، حللتها المسيحية و”أظهرتها بجلاء” بفضل ثلاثة “أدوات”. فخبرة التبشير، كما يؤكِّد كونجار، أدّت بالكنيسة الفرنسية إلى التعامل مع ثلاث قضايا رئيسية، فمن ذلك الوقت فصاعدًا أصبحت القضايا الثلاثة عنصرًا لا مفر منه في الوجه الفعلي للكنيسة:

  1. مسألة موضوع العلاقات، وبالتالي ظهور شكل العلمانيين، تلك الكيانات الجديدة في مجال عمل الكنيسة؛
  2. مسألة النموذج المثالي الذي يُلهِم وبه يكون تصوّر وظيفة هذه الروابط، وكذلك شكل الجماعات المسيحية الأصلية كماضٍ جديد تأسيسي لترسيخ صورة الكنيسة في أيامنا؛
  3. القدرة على تحديد أنظمة ونماذج من خلالها يتمّ تنسيق العمل الكنسي وتشكيل العلاقات الكنسية، وبالتالي الحاجة المُلِّحة لنموذج اجتماعي جديد وهو النموذج الجماعي، لكي يكون جنبًا إلى جنب مع الدرجات الهرمية التقليدية (الإكليروس) كمبدأ نموذجي إضافي تُستنتج منه وظيفة الكنيسة كمجتمع موجود في عالمنا اليوم.

كيف انحدر المشروع التبشيري ووضع موضع التنفيذ الموضوعات الثلاثة، العُقد الرئيسية الثلاثة في الرعوية؟[1]

  • الموضوع الأول: دور جديد للعلمانيين. العلمانيون، ودورهم، والقدرة على اعتبارهم كفاعل مؤثر حتّى في داخل مؤسسة الكنيسة وليس مجرد كيان يخضع لرعاية الإكليروس، كان أول اكتشاف كبير لهذه التجربة في الكنيسة الفرنسية.

بيّن كونجار بشأن هذه المسألة تحديدًا كيف أنّ التجربة الفرنسية في الإرسالية أدّت إلى الوصول إلى نقطة اللاعودة في تصوّر وتحديد شكل دور العلمانيين في الكنيسة (وبالتالي في طريقة تصوّر وجه الكنيسة عينه): فمن ذلك الحين فصاعدًا سيكون من الضروري التفكير في العلماني ليس كمتلقٍ للعمل الرعوي، بل كعنصر نشط في الجسم الاجتماعي للمؤسسة الكنسية، له أدوار واختصاصات محدَّدة، تكميلية ولا يمكن استبدالها في مقابل تلك الأكثر تقليدية التي للكهنة والتي للإكليروس الكنسي عمومًا.

إن تاريخ الكنيسة الفرنسية المُتَّقلب منذ الخمسينيات هو بالضبط قصَّة كيان كنسي ترسّخ بتجاربه الأولى في هذا التعاون الجديد والتكاتف بين الكهنة والعلمانيين؛ وترسّخ بالتعديلات العميقة التي أنتجها هذا التعاون حتمًا في تسيير الحياة المؤسسية للكنيسة، تغييرات عميقة لدرجة أنّها وصلت إلى حدّ رسم شكلها الرمزي ذاته وطبيعتها الداخلية، والصورة نفسها التي أنشأتها مؤسسة الكنيسة لنفسها: بكلمة واحدة وعيها الذاتي، وطريقتها في بناء هويتها[2].

  • الموضوع الثاني: نموذج اجتماعي جديد للكنيسة. مثل هذه الجرأة ومثل هذه الحُرّيَّة في تصوّر أنّ للعلمانيين مكانًا ودورًا يصل إلى ذلك الحدّ الذي لا يُصدّق، لم يكن شيئًا يمكن فهمه بكامله، وفقًا لما يشرحه كونجار، إن لم يكن في ضوء التخطيط الأشمل الذي كان يُلهم تفكير ومشروع التيار الإصلاحي في الكثلكة الفرنسية في ذلك الوقت.

كان يهدف المشروع التبشيري في الواقع الوصول الى تحقيق شكل اجتماعي للكنيسة في الحاضر يتمكَّن في النهاية من الابتعاد عن النموذج التقليدي الإقليمي والإكليروسي، من أجل بناء مؤسسة كنسية تحلّ محلَّه تكون أكثر بساطة وأمانًا من ذلك بكثير، وأكثر التزامًا اجتماعيًا وأكثر تواضعًا في إدارة المجال الكنسي والاحتياج الديني، قادرة على إعطاء المزيد من الراحة والأهمية لحياة الجماعات المحلية، وبالتالي على استعداد لتخفيف عبء وتدخل السلطة الكنيسة والبيروقراطية التي تُدار بها الأمور داخل المؤسسة الكنسية.

كنيسة أقل إيبارشيةً وأكثر مجتمعية، نظام أقل رأسيةً وأكثر أفقية، مؤسسة أقل قوانينًّا وأكثر انفتاحًا على التجارب الفردية.

تسبب تحقيق مثل هذا المشروع في أكثر من صدمة في داخل نسيج الكنسية التقليدية. ومع ذلك، بعيدًا عن إثبات أدنى شعور بالخوف أو القلق بشأن مناخ المواجهة والانتقادات التي شُنَّت ضدَّ الشكل التقليدي للمؤسسة الكنسية، فإن المشروع التبشيري، على العكس من ذلك، بَرهن تمامًا أنّه في الطريق السليم بتبنيه لمفهوم مراجعة هذا الأداء المؤسسي للكنيسة والصور (الكتابية، اللاهوتية والاجتماعية) المستخدمة في وصفه.

كان مقتنعًا في الواقع، بأنّ مشروعًا من هذا النوع سيخدم الكنيسة في بدء إصلاح سليم لهيكلها المؤسسي، الذي أصبح بعيدًا جدًّا ومختلفًا كثيرًا عن النموذج الأصلي الذي يجب أن يكون مرجعية كل صورة من صور الكنيسة: الجماعة المسيحية الأولي[3] .

  • الموضوع الثالث: ماضٍ جديد تأسيسي. هنا، الموضع الثالث المتميز للخبرة الفرنسية وللإرسالية هو: الإشارة إلى تجربة الكنيسة الأولى كأساس للهوية الشخصية، ومن ثمَّ للذاكرة المسيحية.

استلهم المشروع التبشيري تجربة الكنيسة الأولى كأساس للتجديد الحقيقي وكنموذج مرجعي قابل للتنفيذ، مستخدمًا إياه، في الوقت نفسه، كسلطة قادرة على التصديق على سلامة وصحّة المسيرة المتَّخَذَة. متشدِّدًا بقوةٍ ماضيه الجديد التأسيسي هذا، كان المشروع التبشيري على استعداد لتحقيق شكل جديد للكنيسة في الحاضر أيضًا، أقرب بكثير لتلك الكنيسة الأولى التي روى عنها العهد الجديد من ذلك الإكليروس “المتجمد” الذي قد أصبح الكنيسة في الوقت الحالي. الدور الجديد المتوقع للعلمانيين، من ثَمّ، لم يكن سوى قطعة من الوجه الجديد للكنيسة التي سرعان ما عرفتها الكثلكة الفرنسية.

إنّه إذًا، شكل جديد للكنيسة على نمط الجماعة المسيحية الأولى، ولذلك سيكون موضع ترحيب، قادر على إنشاء مشاركة وخبرة أخوية حقيقية، مع ليتورچيا ترقى للولوج في السرّ، وحركية تبشيرية خلابة وجذابة، مع الاهتمام الحقيقي لا الظاهري بالفقير. إنّ قصص الحياة اليومية للجماعات الرسولية الأولى التي استخدمت كقصّة تأسيسية قد انتجت، في الواقع، على الأقل وفقًا لنّية هؤلاء الإصلاحيين، حلمًا يوتوبيًّا جديدًا تتوجه صوبه الكنيسة الحاضر وبناءً عليه يرسم الشكل الاجتماعي للمؤسسة الكنسية في المستقبل: بهذه الطريقة كان المشروع التبشيري يعتقد أنّه أخيرًا قد وجد اللُّغة والأدوات الاجتماعية الصحيحة والمناسبة من أجل تحقيق هدف تأسيس كنيسة مختلفة[4] . بالإضافة إلى ذلك، فإنّ اللُّغة الجديدة والأشكال الاجتماعية الجديدة التي اعتُمِدَت قد أتاحت للكنيسة تقديم شكلًا مؤسسيًّا يتماشى حقًّا مع الزمن: فهي أيضًا، مثل الثقافة الماركسية التي كانت تشق طريقها بين الفقراء الجُدد (الجماهير العاملة في الضواحي الحضارية الكبيرة ) كانت تلتزم بإقامة مجتمع أكثر عدلًا، من أجل انتصار المساواة، من أجل نمط جديد من التضامن مع الفقراء.

إنّ نموذج الكنيسة الأولى، الذي استلّهمه المشروع، قدّم نفسه بشكل جيّد للغاية فأتاح للكنيسة الاهتمام الاجتماعي وأدوات التدخُّل الضرورية لدعم المواجهة مع ثقافة الطبقة العاملة السائدة في تلك الفترة؛ وبالتالي أتاح التنمية بروح دفاعي طيّب قادر على إظهار القدرات المتنوعة والحقيقية للمسيحية حتّى في الأوساط والمجالات والقطاعات التي بدت فيها الثقافة الإلحادية قد اكتسبت أرضًا وقوة فاعلة (خاصة في الضواحي الكبيرة التي تسكنها الطبقة العاملة). كانت استعادة الجماهير والتي فقدتها المسيحية تبدو للمروجين للمشروع التبشيري هدفًا يُمكن بلوغه في ذلك الوقت بفضل التغييرات اللغوية والاجتماعية التي أدخلت على المؤسسة الجديدة المرتكزة على الماضي الزاخر بخبرة الكنيسة الأولى الناجحة في ظل ظروف مماثلة. ماضٍ جديد من أجل مستقبل جديد، ذاكرة جديدة لمؤسسة جديدة: هكذا كان فكر الإرسالية. إذًا، إرسالية فرنسا تقوم كحدٍّ فاصل يفتح عيون وأذهان النشاط الكنسي تجاه هذه القضايا.

أفرزت الموضوعات التي طرحتها الإرسالية الفرنسية مشكلةً لاهوتية كبيرة: ما هو “الشكل” الأنسب للكنيسة؟ ما هو النموذج الرعوي الأنسب الذي يُعبرَّ عن “الشكل الكامل” للأصالة المسيحية، كما تُعلِّمنا الأناجيل؟ هل “صورة” الكنيسة التي تظهر في موقف تاريخي مُحدّد تُعبرّ عن “الشكل” الأنسب للمسيحية؟

للاجابة على تلك الأسئلة المحورية، يجب التفرقة بين “شكل” الكنيسة، و”صورتها” في منعطف تاريخي مُحدَّد. ليس الشكل الكنسي مجرّد مرحلة مثالية، بل يسهم في المُحدِّدات التاريخية لصورة الكنيسة. فلا يوجد شكل “كامل” للكنيسة، ولا يُمكن أن يوجد تاريخيًّا: بل توجد ووجدت صور للكنيسة أنعشت في التاريخ تحديد العناصر الخاصة “بشكل” الكنيسة. الأشكال التاريخية للكنيسة تُبنى على نقطة التقاء عوامل متعددة وقد تكون أحيانًا ارتجالية وليدة الثقافة الشعبية. لكن في كُلّ حالة تحمل في ذاتها آثار تأثير الإيمان الذي عاشته مجموعة المؤمنين في موقف تاريخي محدّد. إنّها تُعبّر عن إيمان الجماعة المسيحية الموجودة واقعيًّا في التاريخ.

هنا يجب أن نفرق بين المسيحية والخبرة الدينية، فالمسيحية تختلف في كثير من الأحيان عن الخبرة الدينية أو التدين الشعبي[5].  التساؤل بشأن العلاقة المسيحية (الكتاب المقدس، التقليد، الليتورچيا، السلطة التعليمية، العقائد، اللاهوت، إلخ ) – الخبرة الدينية (الأشكال التاريخية، الممارسات، الحياة المسيحية) حُدِّدَ في نموذجين متعارضين:  << نموذج العلمنة>> و << نموذج الدين القوي>>[6] .

  1. نموذج العلمنة

النموذج الأول الذي اعتمدته المسيحية في أوروبا الغربية لإعادة تشكيل شخصيتها وصورة وظائف مؤسساتها، وفقًا للترتيب الزمني  والذي يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن الماضي، هو ما تمَّ تعريفه على أنه “نموذج العلمنة”[7].

يختلف مفهوم “العلمنة” باختلاف الثقافات، فكلمة  secularism الإنجليزية عن Laïcité  الفرنسية. تعكس دلالات الكلمة اللُّغوية الإطار الاجتماعي الثقافي بتاريخيته المختلفة، فتُحيل كلمة  secularism التي انبثقت في المجتمعات الأوروبية التي كانت تسير على المذهب البروتستانتي إلى الكلمة اللاتينية القديمة seculum والتي تعني “الجيل من الناس”، أما كلمة laïcité والتي انبثقت في المجتمعات الأوروبية التي كانت تسير على المذهب الكاثوليكي فهي تُحيل إلى “الناس مقابل الإكليروس”.

يشير المعنى في الأوساط البروتستانية ” إلى حق جيل من الناس في إدارة شؤون دنياهم بأنفسهم وفق رؤاهم وتصوراتهم المدنية وليست الدينية. أما في الأوساط الكاثوليكية فهي تدل على الفصل بين الناس والإكليروس، وعلى عدم تمايز المرجعية الدينية عن غيرها من المرجعيات في مجتمع متمايز داخليًّا، معترف بالتمايزات. الأمر الذي أدى إلى محاصرة وتقييد الدين وحُرَّيَّته في العمل العام، فيما بقى حُرًا في نطاق الحيزّ الخاصّ بالمجموعة الدينية.

قد يكون من المُستحسن رؤية تاريخ تلك السنوات باعتباره تاريخ القرار الحاسم بإدراج هذا النموذج في الكنائس: ففي مواجهة مجتمع جعل من العلمنة عنوانًا لنشاطه الثقافي، تفاعلت المسيحية مع ذلك المجتمع من خلال تبنيها لدورٍ استراتيجيٍ مماثل، فاتّخذت هذا النموذج اقتناعًا منها بأنّها وجدت أخيرًا أداة قادرة على معالجة شكل مؤسسيّ قادرٍ على التعبير بصورة أفضل عن رسالة الإنجيل وجعلها مرئية. تلك الرسالة التي غالبًا ما طغت عليها في الماضي مؤسسات غير مناسِبة وقمعية لا تُعبِّر عن آصالة الحقيقة الإنجيلية.

أفرزت الرسالة والمواجهة مع الثقافة العمالية والماركسية في الأرض الفرنسية جدلاً لاهوتيًّا كان من نتيجته إعادة قراءة علم اللاهوت الرعوي في ضوء الفسلفة الوجودية أولاً، وفيما بعد في ضوء النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في الأراضي الألمانية، وساهمت في صياغة نموذجًا جديدًا للرعاية المسيحية. طرحت تلك المواجهة وخبرات تلك الجماعات رؤية لما سيكون عليه وجه الإيمان في الغد، الإيمان الذي صار أخيرًا أكثر حُرِّيَّة وأكثر نضجًا، وتنقّي من تلك الودائع التقليدية والمتكلسة التي تميِّز وجه الكنائس التاريخية.

إنّ استخدام مصطلحات رئيسية – مفاهيم الإصلاح و الرسالة – أصبح علامة   للدلالة على بداية عملية كبيرة في الكنائس لإعادة النظر في الهياكل والأشكال والأنشطة الاجتماعية والطقوس التي تُعبِّر عن الهوية المسيحية، ونطاقاتها ووظائفها في المجتمع.

نتجت من هذا المراجعة صورة للمسيحية، مختلفة كثيرًا، عن تلك الصورة التقليدية والكلاسيكية. صورةٌ لمسيحية تتمحور بكُلّيتها حول أولوية البشارة الإنجيلية وحول مهمة تحرير البشرية وعتقها من كُّلّ أشكال الهيمنة والتبعية الممكنه التي تَعوق النضوج وتؤكِّد الهوية الشخصية الحُرة والإبداعية[8] . نتجَ مِن تلك المراجعة توجّه التفكير لما يلي:

  • الجماعات المسيحية الفقيرة والمتضامنة، القادرة على إظهار كلّ النوايا وإحياء أسطورتها التأسيسة في الحاضر بواسطة أشكال من البشارة والممارسات وذلك بقراءةٍ أيديولوچية مُغايرة للواقع، كشهادة على نوعية الروابط بين أعضائها؛
  • جماعات مستعدة لرفض أشكال المنظور التقديسي للسلطة الدينية وإضفاء وضعًا اجتماعيًّا مميزًا لها، وتبنِّي شكلاً يميلُ إلى الذوبان في وسط الجماهير من أجل العمل على تحويلها، بالتناغم مع الحركات الاجتماعية للاحتجاج والثورة، مثل الخميرة في العجين: هذه هي الكنيسة التي تصورها وخططها نموذج العلمنة.

كنيسة تجعل من كَسر التقيد المؤسسي (باستخدام لغة M. de Certeau م. دي سيرتوه) قاعدتها التأسيسية: مجرد كسر إيجابي خلّاق في تقليدها المتوارث ليَسمح لنموذج مؤسسي جديد للمسيحية بأن يرى النور ويُطور إمكانات وقدرات الإيمان بيسوع المسيح.

قد تمَّ تحديد مكان هذا الكسر الخّلاق بشكل عفوي: فالمسيحية الشعبية المتوارثة طوال تاريخ الكنيسة كمظهر للتدين المسيحي ليست هي المسيحية الآصيلة. هي مجرد أداة لاستعباد الجماهير، وإبقاءهم سجناء في نظام سلطوي كان قد جعل من الجهل والخرافات وتقديس السلطة، أُسسًا لسلطته وهيبته. المسيحية الأصيلة لا يمكنها سوى أن تعمل على التخلّص من هذا الوهم حتّى تساعد المسيحي لمعرفة كاملة لهويته كإنسان وإلى استخدامه الحرّ والناضج إلى إمكانياته بصورة تُمكِّنه من التحرُّر من أشكال التدينُّ الخطأ وإقامة علاقة جديدة مع الله والعالم[9].

يقتضي هذا النموذج طرح كنيسة بعيدة عن العلاقات الاجتماعية الأولية (المكان، الأسرة، ثقافة البلد…) إلى نظام يبدأ من العلاقات الاجتماعية والثقافية الثانوية (ثمرة اختيارٍ واعٍ) وصولاً إلى روابط جديدة لا مكانَ فيها لعدم المساواة بين الناس، تقوم على التضامن والمشاركة والإخاء على مثال الكنيسة الأولى. نموذج ثوري يهدف إلى تحوّل تاريخي للكنيسة ودورها في المجتمع. نموذج يُقدِّم أشكالاً بديلة لتنظيم الكنيسة في العالم متبنيًا منهجًا يقوم على قراءة جديدة للواقع من خلال العلوم الاجتماعية، في مقارنة مع ممارسات عملية للكنيسة الأولى كما وردت في الأناجيل المقدسة. أَدخل النموذج المقترح منهجًا جديدًا متبنيًا إعادة النظر في الهيكلية المؤسسية للكنيسة وللنظام الاجتماعي الذي تعيش فيه بصورة تعمل على إعادة التنظيم الاجتماعي كوسيلة لبناء الذاكرة المسيحية وتطهيرها من  ممارسات التدين الشعبي الشكلي بهدف تحديد أوضح للهوية المسيحية في عالم اليوم.

يُنظر إلى الكثلكة الشعبية، الشكل الشعبي للمسيحية – وبشكل أعم، جميع أشكال التدين الشعبي – على أنّها الثقافة الشعبية: أشكال من المعرفة ليست موجهة إلى نضوج الإنسان، ولكن للسيطرة عليه؛ أشكال من المعرفة لا بُدَّ من التحرُّر منها، كي يمكن رؤية الإيمان المسيحي الحقيقي الأصيل بديلا عنها. مسيحية رشيدة وناضجة. مسيحية تعمل حقًّا لمستقبلها.

الإيمان المُّحرِّر من التدين هو مشروع وفي الوقت نفسه حُلمُ هذه المسيحية، المقتنعة بهذه الطريقة بكونها مجهزة تجهيزا كافيًا وملائمًا ضدّ مخاطر استبعادها من مجتمع وثقافة يعتبرا نفسهما رشيدين ومتحررِّين من تأثيرات المجال الديني غير المنطقي والبدائي للغاية ألا وهو المجال الديني. العلمنة المسيحية هي الطريق الوحيد لتجنب ذلك المصير الذي لقيته محاولات التأقلم السابقة مع الثقافة السائدة[10] .

    • نموذج الدين القوي

تجاهل المشروع التبشيري على ما يبدو المدى الحقيقي والتأثير الصادم الذي من الممكن أن تؤدي إليه بعض اختياراته في النسيج الكنسي الأكثر تقليدية مع تبنيه منهج العلمنة. وظهرَ هذا التأثير في:

  • التركيز الشديد على البعد الاجتماعي: المساواه والتضامن والإخاء بين الناس، بإعتباره الصورة الأكثر مناسبةً لإظهار أصالة المسيحية كما ظهرت في الكنيسة الأولى نتج عنه تشوية الأشكال الأكثر تقليدية للتعبير عن الحاجة الدينية الفردية، التي حُكِمَ عليها بأنّها قد عفا عليها الزمن، وبالتالي صارت بلا قيمة؛
  • التركيز على البعد الجماعي للخبرة المسيحية سيؤدي بالجماعات متفردة إلى التركيز على الحاضر من واقع خبرتهم، وينسوا ماضي التقاليد الكنسية وعالمية الإيمان (العناصر التي مع ذلك، هي الأساسية لبناء الكنيسة).
  • الإشادة بقيمة التشدد كشكل وحيد للتعبير عن الإيمان الشخصي سيؤدي تدريجيًا إلى إزالة كل مساحة باقية لأشكال الانتماء إلى الكنيسة، تلك الأشكال التي يُنظر إليها على أنّها أقل حماسةً ومشاركةً، والتقليل بهذه الطريقة من قيمة صورة مسيحية أكثر انتشارًا و شعبية، لصالح مسيحية مُعاشة بطريقة الأقليات، ولكنها أكثر حماسًا، واثقة ونشطة (الانتقال من تدين كنيسة إلى تدين اختياري).

ثارت انتقادات كثيرة ضد هذا الجانب الإصلاحي الراديكالي المفرط الذي بدأه المشروع التبشيري، أهمها انتقادات  Congar كونجار الصريحة اللاذعة، ولكنها للحقيقة لم تلق استماعًا كبيرًا.

بدأت من فترة الثمانينات من القرن العشرين طرقٌ أخرى تشق طريقها لإعادة تفسير العلاقة المسيحية بالخبرة الدينية وكرد فعل على العلامات الواضحة للتآكل التي ظهرت في الممارسات والمؤسسات الكنسية، ورغبة في العمل على مواجهة إضعاف الهوية، شعرت قطاعات واسعة من مختلف الكنائس المسيحية بالحاجة لإعادة إحياء شكلها ودورها في المجتمع والثقافة. تمت إعادة الإحياء هذه من خلال تفعيل قراءة جديدة ومختلفة للوضع الثقافي، فهم جديد لمفهوم العلمنة الجارية والتأكيد مجددًا وبطريقة إيجابية على الدور الشعبي والقوي للدين، الذي يُعيد الارتباط بصورة المسيحية: في وقت ساد فيه مجددًا الشعور في المجتمعات الغربية بالحاجة إلى هوية قوية تلتفّ حولها لتكوين جبهة ضدّ أوجه عدم اليقين ولإضعاف الأساطير والخرافات والأسباب التي تكمن في أساس ثقافتنا، التي لم تكن تبدو للعديد من المسيحيين قادرة حقًّا على المطالبة من جديد بدور وشكل الديانة الشعبية. هذه الظاهرة، التي تهم الكثلكة بالتأكيد، وليس فقط في إيطاليا (وفي الواقع اتسمت فترة حبرية البابا يوحنّا بولس الثاني بهذه القراءة التفسيرية)؛ هي الظاهرة التي اختبرتها كل الطوائف المسيحية .

كانت نقطة الانطلاق، بطبيعة الحال، التمسك بالهوية المسيحية والحفاظ على الذاكرة المسيحية. شعرت الكنيسة بأنها مدفوعة للحفاظ على الهوية الجماعية للغرب المسيحي، ذاكرته وقيمه. فعلى الكنيسة لكونها حارسة الهوية المسيحية أن تلعب دورًا أكثر تميزًا لدعم النسيج الاجتماعي الذي انتابه الوهن والذي يعاني من الخلل. فالمسيحية هي الأمان ضد خطر ذوبان الهوية الغربية أو تأكلها: هذه هي الطريقة الجديدة للمطالبة بدور ومستقبل للديانة المسيحية، المفهومة على أنّها ديانة الغرب .

في هذا السياق، انحسرت فكرة المسيحية والجماعة المسيحية في إشارة الى منطق التدين: بينما أُثيرت مرة أخرى قضايا الوجود والهوية، في حين نشأت حول مبدأ المقدسات أشكال جديدة من الفصل لتكون بمثابة تعزيز لهويتنا المحددة، هذه الطريقة الجديدة لفهم المسيحية راحت تنزلق على القضايا الخلفية مثل الحوار والمشاركة؛ وكذلك التأكيد على الأهمية الرمزية لعلاقة الانتماء، على ما يبدو لصالح أنواع المنطق التي تعزز ديناميات التطابق والاستبعاد، فولدت أشكالًا من الفكر تسير في خط نحن/أنتم، داخل/خارج، مقدس/دنيوي، قلصت كافة نطاقات الحدود التي غالبًا ما اعتادت عليها المسيحية في الماضي كمكان للقاء وللبشارة.

منطق الدين القوي هذا الذي من خلاله بدأت استعادة الهوية المسيحية، مع انحداره بدرجات متفاوتة الشدة، قد أعطى أساسًا لأشكال مختلفة لفهم المؤسسة الدينية:

  • هناك من يؤكِّد، من خلال نموذج الدين القوي هذا، على البعد العاطفي والوجداني (كنيسة ذات طابع المجتمعات الجديدة، ذات الحركات العظيمة)؛
  • وعلى النقيض من ذلك، هناك من يؤكِّد على السمة الثقافية، التحدي الأخلاقي والاجتماعي الذي ينطوي عليه (كنيسة مؤسسة على الدور التعليمي لسلطاتها، كنيسة تتركز بكاملها في وظيفتها كحارس على حقيقة الإنسان)؛
  • وهناك من أشاد بالبُعد المؤسسي، فأعاد تنظيم خبرتها الشخصية حول الأنظمة الكنسية القادرة على عرض أفضل وبقوة أكبر البُعد المتعلق بوضوح رؤية المسيحية (كنيسة مستعدة لإعادة محاولة تجربة النموذج الفائز في المجتمع والثقافة، كنيسة تعمل من أجل عودة المجتمع المسيحي).

هذه التنوعات في النماذج الكنسية عرفت- ولا تزال – أيضًا تنوعات على مستوى التدرج والكثافة، أدّت إلى انجرافات ذات قالب أصولي بحت في داخل كوكبة الطوائف المسيحية[11].

ماذا عن الكثلكة الشعبية، وبشكل أعمّ ماذا عن الشكل الشعبي للمسيحية في مثل هذا السياق، هذا ما سنوضحه حالًا: مثل هذه الطريقة لمعايشة المسيحية لا يمكن تحملها، اعتقادًا بأنّها ضعيفة جدًّا وتوفيقية، غير قادرة على حماية الهوية المسيحية من التلوث بالثقافة المحيطة ونقاط ضعفها، وبالتالي تم اعتبارها بمثابة واحدة من الأعداء الذين ينبغي قيادة معركة جيدة ضدها لإعادة التأكيد على الدين الحقيقي بحالته الأصلية، ألا وهي المسيحية.

    • النقاط المشتركة وحدود النموذجين

 على الرغم من الإختلافات القوية اللذان يظهراها – وعلى الرغم من التعارض القطبي الذي يحركهما، ويجعلهما مكملين – هذان النموذجان اللذان وصفناهما للتو يبدو أنهما مشتركان في نفس الموقف التنظيمي للعمل: ففي الواقع يبدو أنهما نموذجان قائمان على الاقتناع بالاكتفاء الذاتي المثالي الذي للمسيحية بالنسبة للثقافة والمجتمع المدعو للإقامة فيه. كلا النموذجين يتصور العلاقة التي تؤسسها المسيحية مع الثقافة باعتبارها علاقة إدخال بسيطة، مجرد إحلال محل. بمعنى أنّهما يتصوران الخبرة المسيحية كنظام كامل بالفعل في حد ذاته، نظام مؤسس ومنظم تمامًا – بلغاته وقيمه، وطقوسه، وأشكال السلطة فيه، ورموزه وتمثيلاته، قوانينه وقواعد سلوكياته – يتطلب فقط مجرد الإدراج البحت وببساطة في السياق الاجتماعي الذي ينوي التعايش فيه. عملية التبشير بالإنجيل، وإعلان الذاكرة المسيحية، في هذا المخطط كان من المعتقد أنّها بمثابة عملية في اتجاه واحد، عملية اتصال بسيط وفوري من جانب هذا النظام الكامل والمُغلق ألا وهو الخبرة المسيحية مع المتلقي، التي هي الثقافة المدعوة لاستقباله.

مع ذلك، مثل هذه العملية، الثنائية، لم تضع في الحسبان تعقيد عملية نقل المسيحية؛ وكتحليل أخير لم تضع في الحسبان تعقيد عملية الكرازة الإنجيلية. كما أنّها قبل كل شيء ليست دقيقة على

  • المستوى الاستراتيجي، لأن عملية التبشير بالرسالة المسيحية لا يمكن شرحها بطريقة بسيطة جدًا وقليلة الصياغة (تاريخ البشارة الإنجيلية يبين لنا أن الأمور لم تجرِ أبدًا على هذا النحو)؛
  • بل وقبل كل شيء ليست دقيقة على مستوى أعمق وأكثر تنظيمية، لأنها لم تنجح في الوصول إلى جوهر المشكلة، الوضع الذي تحرص عليه، القصد الأصلي الذي يجعلها نشطة وفاعلة. لا يمكن أن تنتقل المسيحية كشيء مؤسس بالفعل بشكل نهائي، كخبرة تحققت بالفعل ومحددة، كاملة ومنغلقة على ذاتها. فالمسيحية في هويتها العميقة لا يمكن أن تختزل إلى الأشكال المتأسِسَة التي تجعلها حاضرة ومرئية في ثقافاتنا ومجتمعاتنا. نعم يمكننا أن نلاحظ هذه الأشكال، يمكننا الإلمام بالمركبات الاجتماعية التي من خلالها تنتقل المسيحية – الإيماءات والكلمات والنصوص والمباني، المؤسسات والتجمعات، والاحتفالات والمعتقدات، الأماكن والأزمة، الأفراد والمجموعات: فكل هذا يمكن أن يكون سِمة لها، ولكن من دون يثبتها بشكل حاسم – لدراستها وفهم طريقتها في النقل، بل وحتى الحكم عليها. ولكن لا يمكننا أن نعتقد أن هذه الأشكال تتزامن وتستنفذ في حد ذاتها مجمل الخبرة المسيحية كلها، وعمق ذاكرتها وهويتها.

المسيحية بطبيعتها الأصلية “مُركّب”، نتيجة عملية تسكين أولى وأصلية في داخل ثقافة محددة – وفي تطور، بعد التفكير المتطور في داخلها، والاتصالات والتبادلات مع الثقافات الأخرى – بتلك الخبرة الفريدة والأصلية التي كانت التجلّي التدريجي لله إله يسوع المسيح في تاريخ البشر. هذا “المُركّب” لا يمكن فصله عن المفهوم الذي يعززه، مفهوم البشارة الإنجيلية، وهو غير مستقر بشكل لا يصدق.

هكذا يتيح النموذجان لنا إلمامًا أفضل بما سنراه في النقطة التالية، أو كيف واجه المجمع مسألة العلاقة المسيحية-الثقافة فأتاح أدوات للتعليم الخاص بها (راجع خاصةً، فرح ورجاء، 44).

  • الخلاصة

المطالب التي أثارها المشروع التبشيري يمكن بعد ذلك إعادة تناولها، بعد تجريدها من احتمالاتها المضادة للمؤسسية، لأنّها كانت قادرة على إثارة اهتمام وحساسية كنيسة زمانها تجاه بعض أبعاد تقاليدها المنسية في الآونة الأخيرة إلى حد ما والقليلة الفعالية داخل الجسم الكنسي. بصفة خاصة، هذه القصة ستحتم الاعتقاد في الحاجة لتطوير لغة وأشكال اجتماعية أكثر تعقيدًا وأكثر قدرة على جعل بعض العناصر مرئية وترجمتها في سياق اجتماعي ثقافي أوسع، أعني عناصر سرّ الكنيسة العميق التي يعمل الفكر اللاهوتي على إعادة اكتشافها بالتدريج (دستورها، تقليدها، ماضيها التأسيسي، والشعور العميق بشكلها المؤسسي، وشخصيتها المجتمعية والمسكونية). في ذلك المُختبر الذي كانت الكنيسة الفرنسية قد تعرفت فيه ومن خلاله على أهمية وضرورة رسم صورة لكنيسة يكون تنظيمها المؤسسي ووظيفتها الرعوية (حتى على مستواها الأكثر يومية ومحلية) بقدر قامة التقليد ومحتويات سر الكنسية التي أعيد اكتشافها.

رغم التنديد بالمحدوديات التي سبق القاء الضوء عليها في هذا المشروع التبشيري، إلا أنّ التساؤلات التي أثارها المشروع التبشيري كانت تبدو لكونجار هامة جدًّا  لأنّ هذه أسقطت، وأزالت قيمة ومصداقية نوعية الإجابات التي كانت قد انتجتها حتى ذلك الوقت. استمرت التساؤلات التي عبّر عنها كونجار بشكل واضح جدًّا وتواصلت حتى الماضي القريب في التقليد الكنسي حتى وجدت إجابة واضحة جدًّا في فكر علم الكنيسة الذي طوره المجمع الڤاتيكاني الثاني: إجابة واضحة جدًّا ومحددة لدرجة أنّها نجحت بدورها في تكثيف الضغط نحو تجديد في طريقة التفكير والتخطيط والحياة في المؤسسة الكنسية.

  • فمن ناحية مناقشات المجمع هي التي أدت لتقديم اعتراف أكثر جدارة بالخطوات العظيمة التي قام بها الفكر الكنسي في هذه الفترة، على افتراض أن النتائج التي تحققت هي بمثابة نقطة مقارنة عند الحوار والقياس؛
  • ومن الناحية الأخرى، نجح المجمع في دمج وتنسيق هذه الخطوات وتناغمها مع كنز التقليد التي تتناقله الكنيسة على الدوام.

إنّ نصوص الوثائق المختلفة، وخاصة إذا قرأناها بترتيب تاريخ صياغتها، تبين لنا بطريقة واضحة جدًّا كيف تغذى فكر الآباء المشاركين في المجمع بتلك المساهمات التي طورتها الخميرة العظيمة التي تفاعلت في حياة الكنيسة في ذلك الزمان؛  مساهمات تمت قراءتها وأُعيد تفسيرها بطريقة واضحة أيضًا وفي ضوء التقليد الأوسع للكنيسة كلّها.

[1]  L. Bressan, «La situazione pastorale in Italia e il cammino verso le unità pastorali. Opportunità e sfide», in Unità pastorali. Quali modelli in un tempo di transizione?, a cura di A. Toniolo, Messaggero, Padova 2003, pp. 19-56; qui 32-36.

[2]  E. Poulat, Une église ébranlée, Tournai, Castermann 1980.

[3]    L. Retif, Ho visto nascere la chiesa di domani, Jaca Book, Milano 1972.

[4]   D. Hervieu-Léger, Religione e memoria, Il Mulino, Bologna 1996, pp. 222-244.

[5]  المقصود بالتدين الشعبي هنا ليس تلك الأشكال التقوية الفردية أو الخاصة، وإنّما تلك الأنظمة العقائدية، والطقوس والاحتفالات والولاءات والصلوات التي تُمارس بطريقة واسعة الانتشار وتشارك فيها مجموعات من الأشخاص أو حتى شعوب بأكملها، والتي تساهم في بناء الهوية الجماعية والرمزية لهذا الشعب. قد تكون هذه الأشكال من التدين الشعبي رواسب من الأقلمة المسيحية، التي وقعت في الماضي (الوجه التاريخي الذي اتخذته المسيحية)؛ ويمكن أن تكون بدلاً من ذلك تعبيرًا عن أشكال دينية محلية؛ وقد تكون أشكالاً دينية مرَّت عبر فلتر استئصال المقدسات الانتقادي وعملية العلمنة النمطية في مجتمعاتنا، التي تحوَّلت إلى أشكال من الدين المدني.

[6]   L. Bressan, «Un cristianesimo di popolo. La forza del meticciato. I», in La Rivista del Clero Italiano 2 (2007), pp. 86-99.

[7]  N. Mette, «Von Säkularisierungs- zum Evangelisierungsparadigma», in  Diakonia 21 (1990), pp. 420-429; S. Knobloch, Was ist Praktische Teologie?, Universitätsverlag , Freiburg (CH) 1995.

[8]   F.X. Kaufmann – J.B. Metz, Capacità di futuro. Movimenti di ricerca nel cristianesimo, Queriniana, Brescia 1988.

[9]   M. Gauchet, Il disincanto del mondo. Una storia politica della religione, Einaudi, Torino 1992.

[10]   D. Hervieu-Léger, Catholicisme. La fin d’un monde, Bayard, Paris 2004.

[11]  G.A. Almond – R. Scoot Appleby – E. Sivan, Religioni forti. L’avanzata dei fondamentalismi sulla scena mondiale, Il Mulino, Bologna 2006.

قد يعجبك ايضا
اترك رد