إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

رعويات الشباب (2): المرجعية المسيحية

0 984

في الجزء الأول من هذا البحث ذكرنّا أنّ رعوية الشباب تهدف إلى تحقيق الخلاص للشباب في مواقف الحياة الملموسة. الوصول إلى هذا الهدف يتطلب تحديده بمصطلحات عملية قابلة للتحقق، تحُث على التخطيط “للمهارات” التي يجب تمكينها بالتدريج لكي يُمكن بفعالية ترجمة الالتزام بتحقيق الخلاص إلى صياغة صحيحة تحقق الوصول إلى الهدف المبتغى.

  1. ماهي الاستجابة لعطية الخلاص؟

الخلاص عطية مجانية وأمل جديد من حُب الله للبشر. الفكر اللاهوتي يذكّرنا بأن هذه العطية تتطلب دائمًا استجابة، حرة ومسئولة، من جانب الإنسان. بناء على هذا، تركز رعويات الشباب في التزامها على كل ما يجعل الإنسان قادرًا على قبول هذه العطية تمامًا.

     مع ذلك، الفكر اللاهوتي الحالي لا يُشير بطريقة متجانسة وواحدة إلى نوع الاستجابة الواجبة علينا تجاه عطية الله. هل يتطلب الأمر استجابة دينية رسمية أم تكفي استجابة يُعبّر عنها بتجديد نوعية الحياة؟ السؤال مشحون بالتبعات العملية، الهامة جِدًا بالنسبة للبحث المتعلق بهدف رعويات الشباب. وبالتأكيد لا يكفي استنتاج أنّ الإمكانيتين لا يمكن اعتبارهما حصريتين.

     في الواقع، لو اخترنا الاستجابة التي تتمحور حول البعد الديني باعتبارها الأهم، بمعنى تلك الاستجابة التي تقتضي كضرورة لا غني عنها اعترافًا كنسيًا بيسوع الربّ، مُعبّر عنه أيضًا من خلال خبرة أسرار الكنيسة المقدسة، سنكون مجبرين على الإقرار بأنّ هناك بشر كثيرين جِدًا ليست لديهم إمكانية التنعم بخلاص الله فقط لمجرد أنّهم لا يعرفون يسوع المسيح ولا الكنيسة. بالتالي تصبح الممارسات الرعوية بحثًا محمومًا عن أيّة وسيلة تضمن اعتراف الفرد بيسوع المسيح ربًا وإلهًا.

     من جهة أخرى، لو كانت الحياة الصالحة والملتزمة كافية لقبول عطية الخلاص، سيكون من الصعب الاعتراف بالدور الحاسم للإيمان الكنسي بيسوع المسيح في تغيير نوعية الحياة المُعاشة. وهكذا تنحصر الممارسات الرعوية في مجرد ممارسات تربوية وتعليمية دينية لا يمكنها الإجابة على تساؤلات الحياة الكبرى عن معنى الحياة.

     المشكلة جديّة وهامة جِدًا، خصوصًا على المستوى الملموس. وبالتالي لا يمكننا أن نتحدث أي حديث عن هدف رعويات الشباب، ما لم نجد لها حلًا مناسبًا.

قَدّمَ لنا الوحي الإلهي حلًا لهذه المعضلة من خلال مبدأ التجسد، فالكلمة ذاته كشف لنا أن سرّ الله الخفي غارق في الحياة اليومية. فالبدء يكون بالحياة اليومية المُعاشة التي هي ثمرة مسئوليتنا وقراراتنا الشخصية وتوجهاتنا الحياتية فهي تعبر عن سرّ أسمى يدور حول قصد الله للإنسان والعالم، إذا نظرنا إليها بعيون الإيمان.

هناك معنى للحياة يجعلها ذات وجهين، أحدهما يتعلق بنا بكامله والآخر بسرّ الله الكامن في الزمان والتاريخ. فما نعيشه على المستوى اليومي، يبنى (أو يهدم) موضعنا المحدد في سرّ الخلاص.

والآن سأُعمّق واستعرض دوافع تأكيدي بنقطتين لاهوتيتين: الأولى على المستوى الدلالي، والثانية على مستوى التطبيق العملي.

  • كلمة الله لا تُفهم إلا من خلال الخبرات اليومية

نبدأ بالمستوى ذو الخاصية الدلالية. إنّ قناعتي محددة جِدًا: أنّ كلمة الله لا تُفهم إلا من خلال خبرات الإنسان اليومية.

سأوضح قصدي. لكي نقول مَنْ هو الله نستخدم كلمة واحدة (وخبرة متعلقة) خاصة بنا تمامًا، نقول: إنّنا ندعوه “أبًا”. ولكي يتحدث عن قصد الله فينا، روى يسوع حدث الشاب الذي ترك البيت، وعندما قرر العودة أخيرًا وجد ذراعي الأب مبسوطة لتحتضنه. العهد القديم يطرح قصة شعب سائر نحو الحرية، لكي يعود إلى أرض آباءه.

        يكشف الله شيئًا من ذاته ويحدثنا عن قصده أو خطة حُبّه وخلاصه، مستخدمًا كلمات وخبرات من وجودنا وحياتنا اليومية. في وثيقة ” كلمة” الله، Dei Verbum يقول آباء المجمع الفاتيكاني الثاني: “إنَّ كلامَ الله الذي عُبِّرَ عنه بلغةِ البشرِ صارَ شبيهًا بالكلامِ البشريّ كما فيما مضى من الأزمنة صارَ كلمةُ الله الأزلي شبيهًا بالبشرِ بعد أن أَخَذَ جَسَدَ ضعفنا البشري”(بند 13). كلمة الله لا يُمكن أن تتوجه للإنسان بدون أن تصير كلمة عن الإنسان وتتكلم لغته التي يفهمها. كلمة الله يمكن أن تقول شيئًا للإنسان، بأن تصير كلمة “من أجل الإنسان”، عند الحديث بلغته، وعند الإشارة لخبراته.

        توابع هذا الواقع، المتَضَمَّنُ في الوحي الإلهي، هامة للغاية بالنسبة لتأملنا هذا الذي نقوم به. ففي الواقع، إن كان الله يتصل بالإنسان من خلال خبرات بشرية، “مفعمة بحضوره”، فقط في داخل خبرات بشرية جديدة، مشابهة لتلك الأصلية التي نقلها الوحي الإلهي، فمن الممكن تفهم رسالة الله كخبر سار بالنسبة لنا.

        الخبرات التي أُشير لها ههنا، هي تلك الخبرات التي تُشكّل وجودنا اليومي المحسوس. علاوة على ذلك، تلك التي تُستخدم كأصل للوحي الإلهي عن الله هي الخبرات التاريخية للشعب العبراني، وخبرات الأنبياء، وخبرات يسوع وتلاميذه. هذه الخبرات هي خبرات أساسية في الوحي الإلهي لأنّه بها اتخذت كلمة الله “جسدًا” من أجل الإنسان. من ذلك الحين صارت بالنسبة لنا خبرات متميزة ومشروعة. لكنها ليست كافية لفهم ما يكشفه الله لنا، فنحن بحاجة لدلالية جديدة، تقودنا إلى ما تُظهره هذه الخبرات لنا وتجعله مُعبرًا بالنسبة لنا. لذلك، هذه الخبرات عينها مفتوحة وجذابة لخبراتنا اليومية. هكذا تُصبح خبراتنا، بحقارتها وغموضها، نوع من التفهم المسبق المتعذر استئصاله، نقترب به من كلمة الله ونجعلها كلمة من أجلنا.

    • الخبرات اليومية كمكان متميز للقاء مع الله

الدافع الأول يتعلق بفهم كلمة الله. أمّا الثاني فيستقصي نوعية استجابتنا لله الذي يدعونا من خلال كلمته.

المعلوم لدينا تمامًا هو أنّ الوحي الإلهي لا يُقدم لنا معلومات، لا يمكن بلوغها؛ يكشف الله لنا ويكشفنا لأنفسنا بأنّ يُحفّزنا على قرار بشأن حياتنا كلها. لهذا، كلمة الله هي دائمًا دعوة تتحدى وجودنا بأكمله.

هنا ينشأ سؤال تلقائي سبق أن ذكرته في بداية التأمل: أين نستجيب لله الذي يكلمنا؟ الله يكلمنا من خلال الخبرات المتشابكة في وجودنا اليومي، ونحن نتجاوب معه ونلاقيه في هذه الخبرات عينها.

أساس تأكيداتي هذه يكمن فيما نعرفه عن قصد الله الخلاصي. فلا يمكن أن يكون لهذا بديل إن كنا نريد وضع الإيمان مرجعية إجبارية في بحثنا المتعلق بهدف رعويات الشباب.

إنّ إيمان الكنيسة يذكّرنا بأن الخلاص عطية مقدمة من الله لجميع البشر. لهذا، بالتأمل في قصد الله، “القصد الخلاصي الشامل”، الكثير من اللاهوتيين وصلوا إلى تأكيد أن التاريخ هو تاريخ خلاص، قصة ظهور المعنى الخلاصي الكامن في تواصل الله مع البشر. قصة قبول أو رفض الإنسان لهذه العطية المجانية من الله.

الخبرة البشرية لها بُعدها المتشابك، ذلك البُعد الذي يجعلها خبرة خلاصية. بهذا الشرط وحده يكون اتصال الله الذاتي وقرار الإنسان الحر قبول (أو رفض) هذه العطية شامِلَين حقيقةً: أي يشملان كل إنسان. إن كان الخلاص مرتبطًا بالقبول الصريح ليسوع المسيح أو المعرفة الموضوعية لوجوده في التاريخ، سيكون هناك استثناء لكثير من الناس من الخلاص، لأنّهم مازالوا لم يعرفوا يسوع المسيح.

المجال الوجودي الوحيد، الذي يشترك فيه كل إنسان حقيقة، هو حياته اليومية وخبراته الملموسة التي يكوّنها فيها. والتأمل في حدث التجسد قد كشف البعد اللاهوتي لهذه الحياة. وقد أدى بالتالي إلى التعرف على أنّ الإنسان عندما يمارس وجوده بحرية ويعيش خبرة إنسانية أصيلة، يُدرك الوحي الإلهي الكامن في هذه الشريحة من التاريخ ويُعلن قراره (الإيجابي أو السلبي) تجاه الله وتجاه هبة خلاصه. وبهذا يختار ويُفعّل، بحرية، حركة إنسانية، حركة “إدراك” و”تقرير” تجاه قصد الله الخلاصي. لكيلا نُبطل مشيئة الله الخلاصية الشاملة، يجب علينا أن نُميّز بين القبول الموضوعي بمعرفة صريحة وساطعة وبين القبول الواقعي حتى وإن كان ضمنيًا وموضوعيًا. في الحياة اليومية، المُعاشة بأصالة والتزام، يُمكن لكل إنسان أن يتقبل قصد الله، واقعيًا حتى وإن كان هذا بطريقة غير موضوعية.

بهذا المفهوم نتوصل إلى توفيق، بجهد تأملنا الضئيل، الضرورتين اللتين نقرّهما في حدث الإيمان المُعترف به: عرض الله المقدم لجميع البشر والاستجابة، الحرة المسئولة، من جانب كل إنسان.

إن عرض الخلاص شامل، لأنّه العطية التي تؤسس الذاتية العميقة لكل إنسان. واستجابة الإنسان حرة ومسئولة لأنّها قرار يتعلق بوجوده في مجال يعمل ويتنافس فيه الجميع. إنّها قرار يتخذه بشأن الخلاص، لأنّ خبرته، في جذورها، هي تجسيد للعرض الخلاصي الذي يقدمه الله باتصاله الذاتي.

الوصف الذي أورده إنجيل متى (مت 25) عن الدينونة الشاملة، يُقدم لنا أُفقًا واضحًا ويوجه بحثنا في اتجاه محدد تمامًا. فهو يُخبرنا عن الموضع الملموس لاستجابة الإيمان والحُبّ لله الذي تجلّي في المسيح، إنّها التفاني من أجل الأخ المحتاج. البعد الديني واللقاء الصريح الفيصل بكلمة الله، ومعرفتها من حيث المفهوم، قد تكون غير موجودة أيضًا. الإنسان قد يلتقي بالله، في الظلمات والخطأ والجهل، ويُعطي له ذاته حقيقةً، إن كان قادرًا على الالتزام الجاد التشجيعي تجاه الإخوة؛ بكلمات أخرى لو كان يعيش خبراته اليومية في نطاق أصالة إنسانية.

2. المرجعية المسيحانية

بالمعلومات التي حصّلناها، يمكنني التفكير مجددًا في السؤال الذي اتخذته لمجريات بحثي المتعلق بهدف رعويات الشباب. البحث قد حقق نقطة مرجعية هامة: التفكير مجددًا في الله خلال الحياة اليومية.

الغاية هي الوصول لاستنتاجات عملية مطلوبة لصياغة الهدف، احتاج لبعض المؤشرات الجديدة. هل العثور على معني للحياة وللخبرات اليومية هو أمر يتعلق في الواقع بكل إنسان وبكل إيماءة من إيماءاته حتى وإن كان ليس في حسبانه صراحةً؟ أم العكس، فمعنى الحياة أمرٌ يُدركُ تدريجيًا وموضوعيًا لما  يمتلكه الإنسان بالفعل في عمق كيانه؟

بعبارة أخرى هل الوصول إلى معنى للحياة يتطلب جهدًا وسعيًا دوؤبًا للوصول إليه؟ أم أنّ الأمر بالعكس، يفترض من الإنسان ملاحظة شيء ما موجود في الواقع في عمق كيانه؟

كلتا الحالتين تؤثران تأثيرًا ليس بقليل على تفهم الهدف وتحقيقه. في الحالة الأولى، المستهدف منحاز تمامًا نحو تشكيل أمر ما غير موجود في البداية ولا يمكن ضمان وجوده سوى بمجموعة من التدخلات المتلاحقة. أمّا في الحالة الثانية فالبحث المتعلق بالهدف يقوم على خبرة معلومة موجودة فعلًا يتمّ الإلمام بجوانبها والإقرار بها وبعد ذلك توجّه بشكل خاص نحو إجراءات موضوعية متتابعة.

إنّ مهمة القائم بالعمل الرعوي تتخلص في أنّ يساعد الشباب في تبين الحقيقة المعرفية الواضحة: ألا وهي أنّ حضور يسوع المسيح في الحياة اليومية وتضامنه العميق والمُخلص مع كل إنسان في العالم في واقعه وحياته المُعاشة. ذاك الحضور لا يعتمد على قصدية وإرادة الشخص ذاته، إذا كان يعرف ويُدرك هذا الحضور أو يجهله، بل يعتمد بجملته على خطة محبة الله، الموجودة قبل أي قرار نتخذه نحن بشأنه. تحقق خلاص الله لجميع البشر بيسوع المسيح، الذي به صار الخلاص بُعداً من أبعاد وجود الإنسان. يقدم الله الخلاص للجميع بواسطة ابنه في صورة تقدمة وعطية تسبق ردة الفعل العكسية لتفهمه لهذا الخلاص واستجابته له، حتى وإن كانت تتطلب استجابة شخصية بحياة تُعاش بالتزام جِدي متطور.

عندما يرفض الفرد المسيحية وينبذُها فهو يبتر الجذرّ الحيّ الذي قد تنبع منه العديد من القيم الجوهرية التي يؤمن بها ويسعى إليها. فإذا كان يؤمن بالسلام مثلاً كقيمة مُثلى يسعى إليها في حياته ويعطي معنى لها فلابد أنّ يعرف أن المسيحية هي مصدرًا لواحدة من الأفكار التأسيسية للحضارة القائمة على السلام، وهي فكرةُ ضرورة محبة الأعداء، ليس قتلهم. وهناك فكرةٌ أخرى شكلت مكونًا أساسيًا في ضميرنا المعاصر، كما يشير لوك فَري، وهي القائلة إنّ كل إنسان خُلق على صورة الله، لذا فهو يتمتعُ بالكرامة والحقوق، بغض النظر عن مواهبة أو ثروته أو عرقه أو نوعه. ويقول فَري إنه لولا التعليم الذي أتت به المسيحية عن كون ابن الله شخصًا، ما كان لتقوم قائمة لفسلفة حقوق الإنسان التي نحتذي بها اليوم[1].

لذا فأنّ مهمة القائم بالعمل الرعوي الأساسية هي تنمية الوعي بحضور المسيح في الحياة اليومية وجلاء تأثيره الكبير في الوصول إلى معنى الحياة وهدف الوجود الذي يسعى إليه الجميع خاصة الشباب. هو تربية القناعات بأن سرّ الله الخلاصي الكامنٌ في الذات البشرية ينتظر أن يتجلى في حياتنا الملموسة. الوعي بأننا مغمورين في خلاص الله وقد صرنا مع المسيح خليقة جديدة (ر. رومية 8). أن استجابة البشر لعطية الخلاص هذه هي التي تعطي الحياة معنى وللوجود قيمة. فالاعتراف بيسوع المسيح في الواقع هو اعتراف به كمعنى أخير ونهائي وحاسم، يتغلغل في كل معنى شخصي أصيل، حتى وإن كان زائلاً. هذا المعنى المتحصل عليه كعطية، يكشف قيمة الملء الموجود في لفتة إنسانية. إنّه يتخذ البشري ويُعظّمه بأفق الإلهي. هكذا يُعطي للإنسان رؤية كاملة لوجوده، رؤية قادرة على توحيد الحياة التي تتجاذبها الصراعات والتناقضات.

  1. الوعي الشخصي بمعنى للحياة

خلاصة لما سبق، فإنّ ما يشغل الجميع، خاصة الشباب منهم، مجموعة من الأسئلةً الكبرى عن معنى الحياة مثل: ما معنى أن تكون إنسانًا؟ ما الغرضُ من وجود هذا العالم؟ وما الخطأ الذي أصابه؟ وما الذي يمكن أن يُصلحَ حالَه (إن أمكن)؟ وكيف؟ وكيف يمكن أن نكون شركاء في إصلاح حاله؟ والسؤال الأبرز، أين يمكن لنا أن نتحصَّل على إجابات عن هذه الأسئلة كلها؟

يملك كل فرد تصورًا مبدئيًا عن الإجابات المحتملة عن تلك الأسئلة. وإذا حاول أن يمضي حياته دون هذه الإجابات، فسرعان ما ستغلبه الحياة بما يبدو فيها من فقدان للمعنى. والخطورة هي في إصرار البعض على أنّه يمكنُنا الاستغناء عن مثل هذه الإجابات، وأنّنا لا نملك إلا أن نقبل أن الحياة ليسَت سوى انشغالٍ بالعمل داخل عجلة الحياة اليومية على نحو مُفرغٍ من أيّ معنى. وحجة هؤلاء هي أنّه ليس أمام المرء إلا أن يحاول إمتاع نفسه قدرَ المستطاع ما دام على قيد الحياة، لماذا نزعج أنفسنا بالبحث عن معنى الحياة؟

إلا إنه لا يمكن للذين يطرحون مثل هذه الأفكار أن يؤمنوا بها تمامًا في قرارة نفوسهم، فالبشر لا يستطيعون أن يعيشوا دون أي رجاء أو معنى ودون قناعة بأنّ هناك بعض الأمور جديرة بأن نفعلها في حياتنا أكثر من غيرها. لذا فالجميع يعلم أنّ عليه بالفعل أنّ يحصل على إجابات عن تلك الأسئلة الكبرى حتى يتسنى له أنّ يعيش ملء الحياة، ومن ثم حياةً سعيدة وحرة قادرًا على الفرح والمحبة والعطاء بسخاء.

يقول الفيلسوف الفرنسي لوك فَري إن كل إجاباتنا الممكنة عن تلك الأسئلة الفلسفية الكبرى تكاد تنبعُ من خمسةٍ أو ستة أنظمة فكرية. وفي زماننا الحاضر هناك العديد من الإجابات الأكثر شيوعًا تنبع من نظام فكري واحد وهو التعاليم المسيحية. تأمل مثلا في الفكرة التي يتضمنها هذا السؤال: هل تعتقد أن الفكرة القائلة بإظهار المودة لأعدائك ومدّ اليد لهم بدل قتلهم هي فكرة جيدةً إجمالاً؟ فهذه الفكرة قد أتت من المسيحية دون سواها. هكذا هناك العديد من الأفكار الأخرى التي نحسبُ أنها صحيحة أو نبيلة أو حتى جميلة، والتي لم تصدر إلا عن المسيحية وحدها.

واستنادًا إلى ما سبق، فإذا أراد الفرد أنّ يطمئن إلى صحة الإجابات التي تصل إليه عن تلك الأسئلة الجوهرية، وإلى دقة تلك الإجابات، فهو يحتاج إلى التعرُّف على التعاليم المسيحية[2]. والطريقة المثلى لذلك هي تأمل الكيفية التي كشفَ بها يسوع عن نفسه وأهدافه للناس الذين التقاهم في حياته الأرضية، والتأمل في الكيفية التي تغيرت بها حياتُهم بسبب الإجابات التي قدمها ردًا على تساؤلاتهم. التأمل في لقاءاته المغيرة للحياة مع أشخاص فقدوا معنى الحياة لأسباب شتى، الأمر الذي يطرح سؤالاً آخر: كيف يمكن للفرد أن يلتقى بيسوع، في زماننا الحاضر، بصورة تعطي معنى للحياة للفرد وتعلن عن سبب وجوده في الزمان والتاريخ.

هدف الممارسات الرعوية العام هو إذن مساعدة الشباب في اكتشاف النعمة والقوة اللتين يمنحهما يسوع لتغيير الحياة وإيجاد المعنى منها والرجاء في واقع أفضل للوجود الشخصي. مساعدة الشباب في التحول في علاقتهم بيسوع من مجرد معرفةٍ شخصِه بوصفه مُعلمًا وشخصية تاريخية إلى لقاء شخصي معه بوصفه فاديًا ومُخلصًا على نحوٍ مُغير للحياة.

4. رعويات الشباب “لأجل حياةٍ لها معنى”

في الجزء الأول من البحث ذكرنا أنّ العمل الرعوي ملتزم بتحقيق الخلاص المسيحي في مواقف الحياة الملموسة. رعويات الشباب تتقاسم هذه المهمة وتضمن تحققها في مجال الشباب. هكذا نكون قد بيننا، على الأقل بالخطوط العريضة، هدف علم اللاهوت الرعوي ورعويات الشباب.

يتضمن هذا الهدف وجهين أساسيين: الأول مرافقة الشباب لعيش حياة ذات معنى ومساعدته في الوصول إلى إجابات مقنعة لأسئلته الكبرى عن الحياة والوجود. أما الثاني فهو رغبة المجتمع الكنسي في استعادة عطيته الأصيلة والخاصة التي يقدمها للجميع: “اسم” يسوع، الأساس الوحيد والنهائي للخلاص من حياةٍ دون معنى لها ومن الواقع المأسوى الذي يحيط بالوجود البشري. هذا المفهوم للخلاص قدمته الكنيسة الأولى على لسان قائدها، بطرس الرسول، أمام رؤساء الكتبة والشيوخ: “فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص” (أعمال 4: 12).

المهمة الأولى إذن هي تنمية الوعي بالمشكلات الكثيرة التي يمر بها الإنسان اليوم والتي تهدد وجوده وتجعله لا معنى له ومساعدته للوصول إلى إجابات لها. أما الثانية فهي الأكثر صعوبة، خاصة مع التقاليد اللاهوتية والرعوية المتجذرة في اتجاهات مختلفة تهتم بتنمية المعرفة النظرية  والعقائدية ودرجات الإنتماء للكنيسة. مِن المُلِح الآن إعادة اكتشاف تجربة يسوع مع الناس، كما ترويها الأناجيل، بشكل صحيح وتحليل إجاباته على الأسئلة الكبرى في الحياة من خلال لقاءاته مع البشر أثناء حياته الأرضية.

إنّ مهمة رعويات الشباب هي أن تسعى إلى تحرير الإنسان بالقوة والشجاعة كما فعل يسوع. أنّ تسعى إلى إعطاء معنى للحياة وسعادة العيش فيها وإمكانية أن يكون ملء الحياة وفرحها متاح للجميع. أن تكون الحياة متجذرّة بالأمل متى سلمنا بوجود سرّ الله الكامن في الحياة اليومية.

البحث عن معنى للحياة والرجاء في واقع أفضل للوجود الشخصي، كهدف لـ “رعويات الشباب، يتطلب تبني منهج تبشيري جديد، لا يقوم على تحسين الطريقة التي بها نقدم الإيمان لشباب اليوم فقط، أو إعادة النظر في الآليات المستخدمة في العمل مع الشباب. بل أن نعطى للشباب معنى للحياة وأن نمنحهم فرصة أن يعيشوا ملئها بفرح وسعادة.

1.4 ارتباط المعنى بالمصداقية في الحياة

ما المقصود بالمعنى من الحياة[3]؟ بكلمات بسيطة، قضية المعنى تتفرع مباشرة من قضية المصداقية. فمتى كان الفرد صادقًا في الحياة، لا يقول شيء يعرف إنه غير صادق، ويسعى لأن يسلك سلوكًا صداقًا في العالم الواقعي فهناك إمكانية كبيرة في أن ما سيفعله في الحياة سيكون له معنى.

أن يتطابق ما يقوله وما يصنعه مع كيونيته وحقيقته الداخلية. يصبح الإنسان في حالة اتساق وانسجام بين أقواله وأفعاله وحقيقته في ذاته. لن يكون الإنسان مثمرًا في حياته متى كان منفصلاً ومنقسمًا فأقواله وأفعاله لا تتفق مع حقيقته وكونه إنسانًا، فأعظم انجازات الإنسان أن يكون وحدة واحدة متناغمة.

عدم قول الحقيقة يشوه مفهوم الفرد عن الواقع، لأنه يخلق عالمًا غير حقيقيًا يعيش فيه ويرى من خلاله الأشياء ويتعامل معها على هذا الأساس المشوه الذي خلقه لنفسه. التعود على قول الأشياء الغير صادقة يجعل الفرد يتصرف على إنها الحقيقة، فلا يعيش في هذا العالم، بل في عالمً موازيًا وعندما تصطدم الحقيقة بالزيف سيعاني الفرد الكثير من الصعوبات ويفقد معنى الحياة ولا يشعر بالرضى بواقعه.

هكذا شرح الربَّ نفسه الأمر إلى نيقوديموس: “فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّورلِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله» (يوحنا 3: 2- 21). فلكي يكون الإنسان صادقًا في قوله وفعله في الحياة ومتوافقًا مع كينونته الداخلية كما خلقه الله عليه أن يفعل الحق. فالحق ليس هو فرضية إيمانية تفهم، بل هو عمل يؤدى، فعل يتحقق، شيء يُعمل يمكن الفرد من أن يقبل إلى النور فتظهر أعماله إنها من الله. معرفة الحق هي خاصة بالإيمان: “الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ”(1 تيموثاوس 2: 4). أما صناعة وفعل الحق خاصة بكيان الإنسان وحضوره في الحياة.

كما إنه لن يعود يعرف نفسه، يظن إن بإمكانه أن يتلاعب بالواقع على المدى القصير دون مشكلة، لكن النتائج ستكون سيئة. لا يمكن للإنسان أن يغير أو يشوه علاقته مع شيء بهذه القوة وبهذه الشمولية كبنية الواقع الذي يعيش فيه ثم يتوقع أن ينجو من النتائج. هذه هي مشكلة المصداقية.

لكي يكون الشخص صادقًا فيما يقوله ويصنعه في الحياة يحتاج إلى مرجعية أو نموذجًا يقيس عليه ما يريد أن يطابق ما يقوله أو يفعله. يملك الإنسان معتقدات كثيرة ليس بالضرورة أن تكون صحيحة، فالإرهابي عند شخص ما هو مدافعٌ عن الحرية عند شخصٍ آخر. لذا فنحن في حاجة إلى مرجعية موحدة تمكن كل البشر من الاستناد عليها لمعرفة ما هو حقيقي.

إذا المصداقية ترتبط بالحقيقة والمعنى ينبثق من حياةٍ صادقة، وهي تجعل الفرد في موضع حيث يمكنه أن يواجه الحياة ويجعلها مفيدة وتستحق أن ينخرط فيها في جميع أبعادها. عندما يقال للإنسان لا تكذب أنه أمر عملي جدًا، لأن الكذب يكسر القاعدة، يعطل القانون الذي ينظم علاقته مع الواقع الذي يعيش فيه ويجعل لحياته معنى.

2.4 بنية الحياة الحقيقية

هل الحياة الصادقة توفر لصاحبها حالةٍ دائمةٍ من النجاح والفرح والسلام والطمأنينة؟ هل يمكن أن يتجنّب مصائب الحياة؟ الإجابة هي العكس تمامًا! لا يوجد شخص يُستثنى من التجارب والضيقات لأن بنية الحياة الحقيقية تكشف لنا إن هناك معاناة يواجهها كل إنسان. وهناك سببين للمعاناة: الأول هو هشاشة الإنسان الداخلية، فهو ضعيف وقابل للكسر. والثاني هو أن الفرد عرضة لشر نفسه وشر الآخرين. فالحياة تقوم على عامل أساسي وهو المعاناة بشكل مأساوي وشرير. والسؤال إذا كيف يتصرف الفرد بشكل صحيح في مواجهة الأمر؟

الجواب هو: أن يسعى الفرد في حياته إلى شيء ذا قيمة عليا، بحيث إذا تعرض للمعاناة يمكنه تقبل الأمر، أو أنّ يرتقي فوقه. ولكي يتمكن من ذلك عليه أن يعرف ما الذي يحتاجه وما يريده في الحياة، عندها ينعكس ذلك في تصرفاته وفي كلماته. وإذا لم يفعل ذلك فإنه سوف يكون عرضة للمعاناة وإرادة الشر. والنتائج ستكون وخيمةٌ كالجحيم، لأنه إن لم يكن في حياته قيمة إيجابية لتوازن القيمة السلبية التي لا يمكن الهروب منها عندها سيصاب بالمرارة والضغينة وستسير الأمور إلى الأسوء.

إذا المسألة ليست مجرد أن يسعى الفرد إلى تحسين حياته من خلال البحث عن المعنى لحياته، علما إن ذلك في غاية الأهمية، إنما هي أن يحاول من خلال ذلك الحفاظ على حياته بعيدًا عن الدمار النفسي والاجتماعي. وهذا هو الأمر الذي يجب أن يجعل الإنسان الواعي يبحث عن إجابات عن الأسئلة الكبرى لأن حياته يمكن أن تتحول إلى شيء رهيب.

3.4. ما هي الحقيقة التي يشترطها المعنى؟

القول بأن المصداقية ترتبط بالحقيقة والمعنى ينبثق من حياةٍ صادقة يتطلب أن نتفق عن ما هية الحقيقة؟ فالجميع يعتقد أنه يعيش وفقا للحقيقة. عن أي حقيقة نتحدث؟

الحقيقة هي شيء أبسط من التفكير في عقائد معينة. هي أن تكون كلمات الإنسان متوافقة مع كيانه الداخلي. عندما يقول الفرد أشياءً وهو يعلم إنه يكذب، ويفعل أشياء وهو على يقين إنه لا يجب أن يفعلها، فهو يعيش بعيدًا عن الحقيقة.

أنها الحقيقة الشخصية. ليست الحقيقة الماورائية، أو العقائدية أو الفلسفية، هي الحقائق الصغرى في الحياة اليومية. مثل هل الفرد واضح وصادق في محادثاته مع الناس الذين يحبهم؟ أو يعتقد إنه يحبهم؟ لأنه أن لم يكن واضحًا في كلامه معهم وإن لم يخبرهم الحقيقة فمحبته لهم لا تساوى شيء، هي ليست حقيقية، ليس لها وجود، مجرد واجهة. ليست الشعارات الكبرى هي التي تعكس حقائق الناس في العلن أو واجهاتهم الأخلاقية الرنانة هي التي تدل على طريقة عيشهم. إنما الأشياء الصغيرة التي يفعلونها مبدئيًا. الأشياء الصغيرة التي يكررونها كل يوم، التي تشكل حياتهم والتي لها قيمة في الواقع.

يرغب الناس في الحقيقة ويريدون الحقيقة في حياتهم، لكن المشكلة هي إننا نهرب من الحقيقة لأننا نخاف أن نَظهر على حقيقتنا. نخاف أن نكون ذواتنا، نخاف أن نَظهر ضعفنا. هناك جانبان للمسألة:

الأول، هناك جزء لا بأس به من المسؤولية يتعلق بعبء محاولة عيش حياة صادقة لذا هناك ما يكفي من الأسباب لتجنب المسؤولية لأنها مرهقة وصعبة. البديل هو عدم الحراك غير المجدي، وهذا هو الموت بالنسبة للناس، إذًا لست تحل المشكلة بتجنب المسؤولية. إذا بالنسبة للحقيقة المشكلة أنه معظم الوقت عندما نتعلم شيئًا جديدًا، لنقل أن جزء من الحياة الصادقة، يقتضي أن نكون مستعدين وقادرين على تحمل مسؤولية الشيء الجديد الذي نتعلمه كي نتمكن من تصحيح أخطائنا ونحن دائمًا نتعلم بألم. نيتشه قال مثلا: “إنه بأمكنك أن تسبر العمق الروحي لشخص ما بمعرفتك كم من الحقيقة بإمكانه أن يتحملها”. وهذه نظرة جيدة إلى المسألة لأن الناس يعتقدون أن الحقيقة تحررك وهذا مبدأ الإنجيل. لكن المشكلة أن الحقيقة تسحبنا في الوحل وتحرقنا قبل أن تحررنا. المصداقية في الحياة تمكنا من تعلم أشياء حقيقية عن أنفسنا، لكن ليس هناك تعلم دون ألم ومعاناة. أحيانا نكتشف أننا نملك امكانية لم نكن نعرف إننا نملكها فنضطرب، ثم نكتشف أننا أفضل مما كنّا نظن. هذا أمرٌ جيد لكن غالبًا ما نتعلم من خلال اصطدامنا بالأشياء.  ثم نلاحظ أن الأصطدام هو خطأنا، وهذا سبب الألم والمعاناة.

الثاني، لكي نعيش حياة ذات معنى يتطلب أن نكون ذواتنا. المشكلة إن الناس لا يعرفون مَن همّ، لا نعرف من نحن، لا نعرف أسباب غضبنا، لا نعرف لماذا نفعل الذي نفعله، لا نعرف مصدر ردات فعلنا ونهرب من الألم إذا كيف يمكننا أن نعرف من نحن؟

نفعل ذلك من خلال التعبير عن أنفسنا. إنها عملية اكتشاف. عندما ننفعل عاطفيا تجاه شيء ما، لنقل الغضب، أنه تعبير غير كفوء عن الوضع. شيء ما ليس في الموضع الصحيح. هناك شيء ما لا يسير كما يجب. لكننا لا نعرف في الحال لماذا. علينا أن نقوم بعملية تفكير صعبة، وعلينا أن نفعل ذلك بالتعاون مع شخص آخر. لهذا من المهم جدًا، ولو بشكل جزئي، أن لا نقيد حرية التعبير في مجتمع يأمل أن يعمل بشكل صحيح لأنه بدون القدرة أن نقول ما نفكر به ولو بشكل سيء لا يمكننا أن نعرف من نحن. ولا يمكننا أن نعرف ماذا يجب علينا أن نعمل. وبالتالي لا يمكننا أن نعرف كيف يجب أن نعيش بطريقة نستطيع معها أن نتحمل الحياة. وعندها تبدأ الأمور بالانحدار. إذا، نعم الناس معقدون إلى الحد الذي لا يفهمون أنفسهم، لكننا نحل المشكلة بشكل جيد من خلال الحوار.

عيش حياة ذات معنى يتطلب إذن أن نقوم بعملية تفكير في مشكلاتنا والاعتراف بوجود المشاعر بالتعاون مع شخص آخر يقدم لنا المساندة ويفتح أمامنا آفاق جديدة لكي نعرف ذواتنا معرفة حقيقة. فمثلاً، إذا كان لدي شخصٌ ما مشاعر ضغينة تجاه أحد أقرباءه أحواله جيدة، يحقق نجاحات في حياته وعمله. عليه أن يفكر في الأمر لماذا هو غير سعيد لأن أحوال قريبه جيدة؟ على ما يدل ذلك؟ ماذا عليه أن يفعل أزاء هذا الأمر؟ أنه الاستعداد لرؤية المشاعر المتعبة والاستعداد بعدها للغوص في هذه المشاعر وفهمها. ولن يفعل ذلك ما لم يؤمن أن ايضاح هذه المشاعر أمرٌ مفيد.

أن بذل الجهد المعنوي للأفصاح عن تلك المشاعر ضروري للغاية. إذا لاحظنا حياتنا ورأينا أنها لا تسير وأننا لسنا أقوياء كما ينبغي وأن الأمور تؤلمنا أكثر مما يمكننا أن نحتمل، وأننا في قلق وغير سعداء. عندها يمكن أن نسأل أنفسنا ربما هناك أمورً هامة لا نعرفها عن ذواتنا. عندها يمكن أن نبدأ في التنبه لانفعالاتنا العاطفية المتعبة على أمل أن نتعلم منها شيئًا ما. إذا تنبهنا إلى مشاعرنا السلبية وقبلنا حقيقة أننا قد نكون على خطأ وبدأنا بالاستماع لشخص آخر ليخبرنا أين أخطأنا، عندها قد لا نكرر الخطأ نفسه للأبد. إذا جزء من الحل هو أن نضع مخاوفنا في المكان المناسب. يجب علينا أن نخاف من تكرار أخطائنا أكثر من خوفنا من مواجهة نتائج تلك الأخطاء في الوقت الحاضر. هذه هي الحكمة، ليس أمرًا ممتعا أن نرى كم إننا معرضون لارتكاب الأخطاء. وهذا الأمر يظهر من خلال القلق والشعور بالضغينة والشك والغضب كل هذه المشاعر التي يراها الناس أحيانا من خلال البر الذاتي مشاعر مثيرة لكنها غالبًا مشاعر سلبية، لكن عندما نفهم أن الغوص في تلك المشاعر والفائدة من تصحيحها هي أننا لن نصطدم بذلك الحائط كل يوم للثلاثين عامًا المقبلة عندنا نستطيع أن نحفز أنفسنا للاستماع والتعلم حتى لو لم يكن الأمر سارًا. لأننا إن لم نفعل الأمر سيكون أكثر تعبًا وألمً.

هل يبقى السؤال: هل كل إنسان يملك القدرة أن يلاحظ نفسه ويلتقط المشاعر الحقيقية التي تتحرك داخله، ولا سيما المشاعر السلبية؟ أو في المقابل، ما الذي يمنعنا من التقاط هذه المشاعر فلا نستطيع أن نتغير بأن نكون ذواتنا ونعيش ملء الحياة وروعتها؟

الجميع يملكون القدرة على التوقف عن قول ما يعرفون أنه ليس الحقيقة وهذه بداية جيدة. الآن، الناس يختلفون في درجات قدرتهم على ترتيب نفوسهم والتعبير عنها، ولكنهم سيرتبون نفوسهم ويعبرون عنها أيضًا بطرق مختلفة. بعض الناس سيعبرون شفهيًا والبعض الآخر سيعبرون فنيا. هناك أناس سيفعلون بالاهتمام بالاخرين، هناك طرق مختلفة من خلالها الحياة الصادقة وليس جميعها شفهيًا أو ذهنيا في الواقع. لكن في الجزء الأكبر من الأمر هناك رغبة تصحيح الأمور. الأمر يرتبط بفكرة، هي فكرة دينية عميقة بمعنى أنه يجب علينا أن نوجه ذواتنا نحو التقدم الداخلي، كأن يكون موقفنا من الحياة هو السعي للأفضل، وأننا نريد أن نُحسن حياتنا، ومن ثم نأخذ على عاتقنا قرار عدم التورط في الخداع عالمين أن استخدام الخداع يجعل الأمور أسوأ. لذا بإمكان الناس أن يتقدموا إلى الأمام بذلك المفهوم الأخلاقي بغض النظر عن قدراتهم الثقافية. تعلم المسيحية أن الخلاص ممكن للجميع وهو مستقل عن مواهبنا الذهنية أو أي قدرات نملكها في واقع الحال.

إنّ لم نعرف أنفسنا قد ينتهي الأمر إلى مأساة. إن لم نعش بحسب حقيقتنا فإننا نعش شيئًا مختلفًا وأن لم نكن نعرف ما هو ذلك الشيء فعلينا أن نكون حذرين. إذا كان وجودنا يستند إلى نسيج من الكذب فإننا مبدئيًا بين يدي مُبدع الكذب. هناك رمز لمُبدع الكذب في الكتاب المقدس وهو الشيطان، فإذا كنا نعيش حياة من الكذب إذن معناه إننا في يدي مُبدع الكذب ذاته. لا يهم أن كنت مؤمنا أم غير مؤمن بهذه الحقائق، حسب علم النفس وحقائق ما ورائية. فإذا كنت في يد شيء لا يريد الخير لك من الأفضل أن تحترس لأنه سيقودك إلى حياة بائسة لا معنى لها. يعرف الناس ذلك إلى درجة معينة. عندما يقررون أن يتصرفوا بأساليب كاذبة هناك صوت في أعماقهم يحذرهم لكنهم غالبًا ما يقولون: “إلى الجحيم الأمر لا يعنيني”. حسنا، لكنك لن تنجو من النتائج لأن الناس لا يمكنهم الهرب من أي شيء.

.4.4 ما يقدمه علم “رعويات الشباب”

يلعب الشخص الآخر، الخبير، الذي يقوم بمساعدة الشخص لاكتشاف ذاته بصورة أوضح، دورًا مهمًا لا يمكن تجاهله. فالشباب الذي يعاني من فقدان المعنى من الحياة أو هدف الوجود، أو أقله مشكلة في علاقاته مع الآخرين، يحتاجون إلى أشخاص آخرين يعيشون حياةً ذات معنى تمكنهم من تجميع أنفسهم بشكل كبير. إذا كنت محاطا بأشخاص بإمكانك أن تثق بهم وبإمكانك أن تتكلم معهم، فإن ذلك يدعمك كثيرًا. أن الناس يملكون القدرة على إعادة بناء حياتهم أكثر بكثير مما يعتقد عادةً. فحياة البعض من الشباب تكون رهيبة أحيانًا، البعض يعاني من الاكتئاب لكن لن يمكنهم فعل شيء ما لم يكن لديهم اتجاه أو أهداف، أو مبادئ أخلاقية يستمدها من أشخاص ساروا في ذات الدرب ينقلوا خبراتهم لهم. إن قرارًا في الوجهة الصحيحة يُحسن الحياة ويغير وجهة النظر إليها. أما خداع النفس طوال الوقت فيؤدى إلى عيش حياة غريبة تشعر الفرد بفقدان المعنى منها. التقليل من هذا الخداع، ولو قليلاً، يمكن أن يؤدي إلى تغيرات جذرية. يمتلك جميع الناس القدرات المعنوية اللازمة لاحداث التغيير.

هنا يلعب القائم بالعمل الرعوي مع الشباب دورًا هامًا للغاية من خلال طرحه رؤى مختلفة أمامهم تدفعهم إلى إعادة تقييم هدف الحياة. يُعيد الفرد النظر في الأُسس التي عليها يبنى حياته ولماذا لم تمنحه الرضى في حياته. المسيح فقط يملك الإجابات الشافية لكافة الاسئلة الكبرى التي تطرحها الحياة على شباب اليوم، وهذا ما سنعرضه في الفصول التالية.

المشكلة الأكثر خطورة هي إن البعض من الشباب يعتنقون العدمية بينما يعيشون تفاصيل الحياة اليومية بصورة تجعل الآخرين يعتقدون أنهم يعيشون ملء الحياة ويحبون الحياة. لذا فعلى القائم بالعمل الرعوي مع الشباب امتلاك الخبرة التربوية الكافية التي تجعل قادر على فرز هؤلاء الشباب.

فهناك شكلان من العدمية. الأول هو الاستسلام على مستوى الفعل، فلا يعود الفرد ينخرط في الحياة فهو غراق في العدمية. أما العدمية السطحية فهي استمرار انخراط الفرد في الحياة على أساس فلسفةٌ تستند على فكرة أن الحياة في النهاية عديمة المعنى وعقيمة. يتصرف الفرد بأخلاقيات لكنه لا يجد تبريرًا عقلانيا للأمر، فهو يؤمن بأنه لا شيء يتغير. فالعدمية جذابة إلى حد معين لأنها تتضمن امتيازا وهو أنها لا تفرض عليك أي مسؤولية. فهي طريقة الهرب من المسؤولية فيقول لنفسه: “حسنًا حياتي لا معنى لها إذن ليس على أن أفعل أي شيء”. ولكن هذا شيء كارثي في الواقع.

يميل هؤلاء إلى التقليل من أهمية أي شيء إيجابي في حياتهم لكنهم لا يقللون من أهمية ما هو سلبي. أول ما يجب أن نعفله مع من يعتنق العدمية أن تساله ما الذي يجعلك متأكدا أنك لست مؤمنا بحقيقة ألمك؟ هذا سؤال جيد لأنه يمكنك أن تقول ما تشاء ويمكنك أن تسخر كما تشاء لكن استخدامك الأمر كسلاح ضد القلق والألم لن يكون له أي تأثير على الاطلاق. أن العدمية الساخرة تدمر السعادة لكنها لا تدمر المأساة. وربما تقول حسنًا أنا لا أؤمن أن الحياة لها معنى. ليس هذا ما تقصده أن الذي تعنيه أن كنت لا تؤمن أن الحياة لها معنى إيجابي فلن تهرب من المعنى السلبي. فيكون السؤال التالي: هل أنت مكتفي بحقيقة أن حياتك لا شيء فيها إلا المعنى السلبي؟ هل هذا الأمر نافع لك؟ وقد تقول حسنا أنا لا أومن بأي شيء. في الواقع أنك تؤمن أنك تؤمن بألمك. كل إنسان يؤمن بألمه. هذا يعنى أنه عليك أن تؤمن بعلاج الألم وربما ستكون سعيدًا أن تكتشف هذا العلاج.

هناك فوضى داخلية وخارجية وليس هناك فارق بينهما. فالفوضى التي يعيشها الفرد والفوضى العائلية والفوضى الاجتماعية إنها الشيء نفسه، أنها فقط تظهر ذاتها في درجات مختلفة عند التحليل. البنية الهيكلية هي علاج الفوضى، أن تكون قادرًا على التوقع، النمطية، ما نتوصل إليه بالتوافق لكي يكون هناك تفاهما متفق عليه بعضنا البعض. هذه هي البنية الهيكلية. هذا هو العلاج للفوضى، وهذا ليس شيئًا سخيفًا. إنها مسألة حياة أو موت. إذا الهيكلية هي علاج للفوضى، والعلاج الأخر هو أن تتعلم كيف تتعامل بحيوية مع الفوضى. لدينا طريقتان لحماية النفس مقابل الفوضى الرئيسية للحياة: واحدة منها هي الهيكلية السليمة والأخرى هي القدرة على التعامل الحيوي مع الهيكلية ومع الفوضى. الشخص الكفء يكون مؤهلا لأنه تدرب في ضبط النفس، هذا هي البنية الهيكلية. لكنهم أيضًا يملكون القدرة على مواجهة المواقف المستجدة والامساك بزمام الأمور. ولكي تكون اجتماعيا بصورة صحيحة يجب أن تكون لديك بنية هيكلية وقدرة على التعامل مع الفوضى. لذا في الثالوث نجد هذين العنصرين الاب والابن أو لنقل ثلاثة الروح والابن والاب. الأب هو البنية الهيكلية لكل المقاصد والغايات، والابن هو الذي يجدد البنية، وعليك أن تنظم حياتك ازاء الاثنين معا.

 إذن هذه هي المشكلة مع النسبية الاخلاقية، أي قاعدة يمكن أن تستبدل الاخرى. نعم لكن إليك ما لا يمكن استبداله ضرورة القواعد أنه المطلق. من الضروري أن يكون هناك مجموعة من القواعد. ليس هناك أي نسبية في هذه المسألة. إنها قضية كل إنسان في كل زمان. الآن، القواعد على ما يبدو إلى حد ما يمكن أن تتقاطع في ما بينها. هناك الكثير من القواعد التي يمكن أن تكون ارشادية في العالم. واحدة من المسلمات هي أنك أن عشت دون قواعد فاخذر لأنك ستكون كارثة لنفسك وخطرًا على الأخرين. وهذه حقيقة اخلاقية مطلقة. إذن جزء من فكرة الكتاب، أنه يجب عليك أن تعيش وفق بعض القواعد. هناك اثني عشر قاعدة فكرت بها بعمق وعرضتها كل منها بمنطق. أهم هذه القواعد وأولها هي لا تكذب.

[1] تيموثي كَلِر، لقاءات شخصية مع يسوع. إجابات غير متوقعة عن أسئلة الحياة الكبرى، القاهرة 2015، ص13- 15.

[2] تيموثي كَلِر، مرجع سابق…، ص 25.

[3] كان شغل هذا السؤال عقل الإنسان عبر تاريخ الفسلفة بدءً من أفلاطون إلى مدارس علم النفس المتنوعة. في الأفلاطونية، معنى الحياة هو في تحقيق أعلى شكل من أشكال المعرفة، والذي هو فكرة (نموذج) الخير، فمنه كل شيء جيد ومنه فقط الأشياء تستمد الفائدة والقيمة. في حين يركز دارسوا علم النفس على تلك العوامل التي تؤدي إلى الرضا عن الحياة والشعور بالقيمة والاكتفاء.

قد يعجبك ايضا
اترك رد