“ثُمَّ قاسَ أَلفًا فإِذا بِنَهرٍ لم أَقدِرْ على عُبورِه، لأَنَّ المِياهَ صارَت طاغِيَة، وكانَت مِياهَ سِباحَةٍ ونَهرًا لا يُعبَر”. تناولنا في اللقاء السابق المرحلة الأخيرة من الدخول إلى العمق في العلاقة مع الله. يترك الإنسان نفسه للمياه لتحمله، فـ ” مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي”، أي لا تكون نفس الإنسان هي مرجعيته، هدفه وغايته في الحياة، بل يخدمَ على مثال الرب يسوع ويسعي في أن يبذل نفسه لأجل الكثيرين.
كل منّا على مثال الابن، فمع أنه صورة الله لم يعد مساواته للهِ غنيمة، بل تجرد من ذاته متخذًا صورة العبد. كل منّا لا يجب ينظر إلى نفسه: “لا يَنظُرَنَّ أَحَدٌ إِلى ما لَه، بل إِلى ما لِغَيرِه. فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع. هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد ” (فيلبي 2: 4- 7).
ماذا فعل الابن؟ أصبح خبزًا في خدمة الآكل، رغب الله أن يكون معنا، يُصبح قوتنا، حركتنا، طاقتنا، حياتنا. قَدم المسيح نفسه خبزًا للبشر أجمعين، ليحيا معهم إلى الأبد. هذا هو مفهوم العطاء الذي من خلاله نحقق إنسانيتنا وذواتنا. نحن مخلوقين على صورة الله ومثاله، لنشارك في عطائه الغير محدود من خلال عطائنا بعضًا لبعض: “لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا” (أفسس 2: 10).
- مرحلة الاثمار
ماذا رأى حزقيال النبي بعد أن عَبرَ به الرجل إلى عمق المياه؟
حزقيال 47: “6 فقالَ لي: «أَرَأَيتَ يا ابنَ الإنْسان؟». وذَهَبَ بي ورَجَعَ إِلى شاطِئ النَّهر. 7 ولَمَّا رَجَعتُ، إِذا على شاطِئ النَّهرِ أَشْجاٌر كَثيرةٌ جِدًّا مِن هُنا ومِن هُناك. 8 فقال لي: «إِنَّ هذه المِياهَ تَخرُجُ نَحوَ المِنطَقَةِ الشَّرقِيَّة، وتَنزِلُ إِلى العَرَبَة وتتَجِهُ إِلى البَحْر. وحين تَنصَبُّ المِياهُ في البَحرِ تُصبِحُ مِياهُه طَيِّبَة. 9 وكُلّ نَفْسٍ حيَةٍ تَدِبُّ حَيثُ يَبلُغُ مَجْرى النَّهرِ تَحْيا، ويَكونُ السَّمَكُ كَثيرًا جِدًّا، لأَنَّ هذه المِياهَ تَبلُغ إِلى هُناكَ وتُصبحُ طَيِّبَة، فكُلُّ ما يَبلُغ إِلَيه النَّهرُ يَحْيا. 10 ويَقِفُ على الشَّاطِئ الصَّيَّادون مِن عَينَ جَدْيَ إِلى عَينَ عَجَلائيم، فيَكونُ مَنشرًا لِلشِّباك، ويَكون سَمَكُه على أَصْنافِه كسَمَكِ البَحرِ العَظيم كَثيرًا جدًّا. 12وعلى النَّهرِ على شاطِئِه أن هُنا ومِن هُناكَ يَنبُتُ كُلُّ شجَرٍ يُؤكَل، ولا يَذبُلُ وَرَقُه ولا يَنقَطِع ثَمَرُه، بل كُلَّ شَهرٍ يُؤتى بَواكير، لأَنَّ مِياهَه تَخرُج مِنَ المَقدِس، فيَكونُ ثَمَرُه لِلطَّعامِ ووَرَقه لِلعِلاج”.
جدول المياه الخارج من تحت عتبة الهيكل تحول ليصبح قناة صغيرة، ثم إلى نهر لا يمكن اجتيازه إلا سباحة. على جانبي النهر تنمو أشجار كثيرة، ويعج النهر بأنواع مختلفة من الأسماك. يصب النهر في النهاية في البحر الميت ويحول مياهه المالحة إلى مياه عذبة. كل نفس حية تزحف حيث يجري النهر تحيا، وكل ما يبلغ إليه النهر يحيا. وعلى شاطئه من هنا وهناك ينبت شجر تؤكل ثماره، ولا يزيل ورقه ولا ينقطع ثمره، بل يعطي بواكير جديدة باستمرار. يعطى النهر جميع أصناف السمك كسمك البحر العظيم.
عندما يدخل الإنسان إلى العمق في علاقته مع الله فإن حياته تكون مثمرة جدًا. يمثل وجوده علامة حياة، ” فيَكونُ ثَمَرُه لِلطَّعامِ ووَرَقه لِلعِلاج”، وهناك صيدٌ وفيرٌ من السمك.
تبدأ حياة العمق بجدول المياه الذي يبدأ من محضر الله، من الهيكل. عندما يرتبط الشخص بعلاقة حياتية مع الله، عندما يجعل الله أمامه في كل حين، كما صور كاتب المزمور المثول المتواصل في حضرة الله بقوله: “جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ” (مزمور 16: 8) يصورها قول إليشع وإيليا: “حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ” (2 ملوك 5: 16). فإن من المستحيل أن لا يكون نافعًا ومثمرًا للآخرين وللعالم من حَوله. فالرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار: “فيَكونُ كالشَّجَرَةِ المَغْروسةِ على مَجاري المِياه تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِه ووَرَقُها لا يَذبُلُ أَبدًا. فكُلُّ ما يَصنَعُه يَنجَح. لَيسَ الأَشْرارُ كذلك. بل إِنَّهم كالعُصافةِ الَّتي تَذْروها الرِّياح” (مزمور 1: 3- 4). يعيش الإنسان ليعطي من مواهبه امكانياته، وجوده يكون مختلفًا.
كيف يتحقق هذا الإثمار؟ كيف تكون حياتك مثمرة؟
في النص الرئيسي لهذه السلسلة من التأملات، الصيد العجائبي بحسب القديس لوقا، يقول يسوع لسِمعان:
لوقا 5: “4«ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ».5فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلَكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ».6وَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ.7فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ”
يعبر بطرس عن عدم ثقته في الرب، بالرغم من رؤيته لمعجزات كثيرة في وقت سابق. ثم يقول الرب “وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ” (هذا المقطع من فان دايك – لأن اليسوعية وضعت كلمة الشبكة في صورة الجمع)، فعاند بطرس والقي شبكة واحدة فقط حتى كادت تتخرق، أي تتمزق، فاستعانوا بشركائهم في السفينة الأخرى. ثقة في النفس وتمركز حول الذات والاعتقاد الخاطئ بالكفاءة الشخصية الناتجة من خبراته المتراكمة، فهو صياد محترف والذي يكلمه نجار.
يتكرر المشهد في يوحنا 21، إلا المسيح يزيد على هذا النص بقوله لتلاميذ: “5«أَيُّها الفِتْيان، أَمعَكُم شَيءٌ مِنَ السَّمَك ؟ «أَجابوه: «لا».6فقالَ لَهم: «أَلقُوا الشَّبَكةَ إِلى يَمينِ السَّفينة تَجِدوا». فأَلقَوها، فإِذا هُم لا يَقدِرونَ على جَذبِها، لِما فيها مِن سَمَكٍ كَثير” (يوحنا 21: 5- 6).
- لماذا يمين السفينة؟!!
كأن السمك متواجدٌ فقط على يمين السفينة، وطوال الليل كان يخدع التلاميذ، فعندما يلقون الشباك يُسرع بالتمركز في الجانب الآخر. والغريب ألقى التلاميذ مئات المرات الشبكة، ولم يفكروا مرة واحدة، في إلقائها في جانب السفينة الأيمن!! كما إن إلقاء الشباك على الجانب الأيمن للسفينة طلب غير منطقي وينم على جهل بحرفة الصيد، لأن الصياد يتمركز بصورة جيدة على سطح القارب الصغير ويقذف الشباك بقوة بساعده الأيمن مع جذب الشبكة قليلا إليه باليد اليسرى، وفي هذا الحالة فأن قذفه للشبكة يكون دائما ناحية اليسار. أما أن تتجه الشباك ناحية اليمين من القارب فهذا يعني أن الصياد يستخدم يده اليسرى وليس اليمنى. فهل كان التلاميذ الست أعسرين؟ إن الأمر غير منطقي تماما لأن عدد من يستخدمون يدهم اليسرى بين اليهود كانوا أقلية، وفي تلك الأوقات كان يتم أجبار الطفل الأعسر على استخدام يده اليمنى، لاعتقادهم أن هناك خلل ما يجب معالجته في الطفل.
ماذا كان يقصد المسيح بـ “إِلى يَمينِ السَّفينة”. كلمة “يمين” في اللغة الأرامية مشتقة من كلمة “إيمان”، فاليمين هو جانب الله، يسوع يجلس على يمين الآب، والأبرار هم على اليمين دوما في الدينونة العامة، يَمينُ الرّبِّ مُرتَفِعَةٌ. يَمينُ الرّبِّ مُقتَدِرَةٌ» (مز 117/16). اليمين هو عنصر قوة الله.. فهل هذا ما قصده يسوع؟
لكن المعنى القريب أن المسيح أراد أن يصل ببطرس، وهو الصياد المحترف، إلى نسيان ذاته، وعدم الاعتماد على مرجعيته فقط، وعلى خبراته الشخصية في الحياة. فهو مدعو ليهلك نفسه لكي يجدها. مدعو ليسلم ذاته طواعيًا بين يدي الله الذي سيستخدمه في تحقيق الملكوت على الأرض، مدعو ليتفاعل مع عمل النعمة الإلهية.
مرّ بطرس بسلسلة من الاخفاقات المتتالية إلى وصل إلى انكار سيده في ثلاث مناسبات. فقد بطرس الثقة في نفسه تمامًا في أن يكون تلميذًا للرب. لذا ميزه الرب القائم من بين الأموات، فترائ له منفردًا، كما نقرا في الرسالة إلى كورنثوس 15: “ظهر أولاً لصفا”، وعند قول القائم للمريمات: “قولوا لتلاميذي وبطرس”.
يأتي الصيد الأخير في يوحنا 21 ليظهر المسيح على شاطئ طبرية لبطرس مرة أخيرة، ليكشف له خلاصة دعوته له بالدخول إلى العمق في علاقته معه. قال له:
يوحنا 21: “17قالَ له في المَرَّةِ الثَّالِثة: «يا سِمْعانُ بنَ يونا، أَتُحِبُّني حُبّاً شديداً؟» فحَزِنَ بُطرُس لأَنَّه قالَ له في المَّرةِ الثَّالِثَة:أَتُحِبُّني حُبّاً شديداً؟ فقالَ: «يا رَبّ، أَنتَ تَعلَمُ كُلَّ شَيء، أَنتَ تَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ حُبّاً شديداً». قالَ له: «إِرْعَ خِرافي.18الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لَمَّا كُنتَ شاباً، كُنتَ تَتَزَنَّرُ بِيَديكَ، وتَسيرُ إِلى حَيثُ تشاء، فإِذا شِخْتَ بَسَطتَ يَدَيكَ، وشَدَّ غَيرُكَ لكَ الزُّنَّار، ومَضى بِكَ إِلى حَيثُ لا تَشاء».19قالَ ذلكَ مُشيراً إِلى المِيتَةِ الَّتي سيُمَجِّدُ بِها الله. ثُمَّ قالَ له: «اِتَبْعني !».
أنت أيقونتي الحاملة لحضوري في العالم، دعوتك الأساسية في الحياة أن تكون مثمرًا، أنت مختار أن تكون صيادي بشر، أن تساهم معي في تأسيس ملكوتي على الأرض. لا بد لك يا بطرس أن تنسى نفسك، وتثق فيَّ . أنظر “حتى الشيء الذي تعتقد إنك تفهمه، الصيد، فشلت فيه أيضًا. أنت لم تنجح في أن تكون تلميذًا ولا صيادًا”. اترك نفسك يا بطرس لتحملك المياه، اترك نفسك لتُقاد من الروح القدس. متى فعلت هذا ستكون صيادًا للناس.
أراد المسيح تدريبه على الدخول إلى العمق، أراد أن يعلمه أن يكون متواضعًا، لذا نجده هو نفسه يقول في رسالته الأولى: “فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ” (1 بطرس 5: 6). فهم بطرس أن كل هذه الضعوط تؤل إلى أن ينحني بتواضع أمام الله. ينتهي رواية الصيد الوفير، حسب لوقا 5 ببطرس: “اِرتَمى عِندَ رُكبَتَي يَسوعَ وقال: «يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ».
أصبحت حياة بطرس مثمرة، فبعد تعب الليل كله، يأتي الصيد الوفير. في العمق شركة مع الآخرين: “فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ…”.
- عطاء الحياة للآخرين
إذا كان بالعطاء وحده يخلص الإنسان نفسه ويكون مثمرًا. إذا كان نكران النفس، والتي فيها لا يكون الشخص مرجعية لذاته، هو الطريق الأمثل ليعطي الإنسان ثمرًا بعد أن يدخل إلى العمق في علاقته مع الله. يظهر السؤال: كيف يعطي الإنسان ذاته؟ كيف يتعايش مع رؤية المجتمع التي تتحدث عن الأخذ أكثر من العطاء؟
أُريد أن اقترح اتجاهين: بذل الذات بالحياة وبذل الذات بالموت.
- الاتجاه الأول: أنت مُرسل إلى العالم
عندما يكشف الإنسان إنه أُرسِلَ إلى العالم لهدف محدد: “أن يكون علامة حضور الله في عالمه”. في العائلة وبين الأصدقاء ولجميع الذين يقابلهم في الحياة. جميع هؤلاء يبحثون عن شيء أكثر من البقاء على قيد الحياة. وجود الإنسان المسيحي بينهم، كشخص مُرسل إليهم، سيُتيح لهم أن يروا لمحةً من الحياة الحقيقية.
منذ اللحظة التي تُدرك فيها أنّك قد أُرسِلتَ إلى هذا العالم، كل شيء يتغير تغييراً جذرياً. الزمان والمكان، الأشخاص والأحداث، جميع الأشياء تتغير، تغيرًا لا يُمكن وصفه بالتعبيرات الشائعة. التغيير الذي أتحدث عنه ينقلك من العيش في الوجود كتجربة أليمة لإثباتأنّك تستحق أن تكون محبوباً، إلى العيش في الحياة كفرصة منحها الله لنا كي نُصبح ما نحن عليه، لكي نؤكد طبيعتنا الروحية الحقيقية، ونتمسّك بحقيقتنا، المنسجمة والمتكاملة مع واقع كياننا، بأننا خلقنا على مثال الابن ولدينا رسالته في الحياة: أن نخدم ونفدي حياة كثيرين.
حياتك في حدّ ذاتها هي أعظم عطية يُمكن تقديمها
عندما نُفكّر في مسألة عطاء ذاتنا للآخرين، ما يتوارد بخاطرنا على الفور هي مواهبنا الفريدة: تلك المقدرة على القيام بأمور خيّرة ذات طبيعة خاصة. نتساءل دائمًا: “ما هي مواهبنا الفريدة ؟” مع ذلك، حين حديثنا عن المواهب أو الوزنات، نميل إلى نسيان وتجاهل أنّ عطائنا الحقيقي ليس هو ما نستطيع فعله بقدر ما هو من نكون. السؤال الحقيقي ليس “ما الذي نستطيع تقديمه لبعضنا البعض؟”، بل “ما الذي يمكننا أن نكونه لبعضنا البعض؟“
من المفيد أن نفصِل ما بين المواهب (الوزنات) والعطايا. عطايانا أهمّ من مواهبنا. قد يكون لدينا القليل من المواهب، لكن لدينا الكثير من العطايا. عطايانا هي الوسائل الكثيرة التي نُعبِّرُ بها عن إنسانيتنا، إنّها جزء من كياننا، ومنها: الصداقة، الحب، الأمل، الثقة،.. وهلمّ جراً. هذه هي العطايا الحقيقية التي ينبغي أن نقدمها للآخرين.
القليل من الناس لديهم مواهب يمكن أن يَفتخروا بها، القليل منهم قادر على تقديم مساهمة فعالة للمجتمع والكنيسة. لكن جميعهم لديهم العطايا التي يمكن أن تغير الحياة تمامًا متى وُجهت للآخرين. عندما دعى الرب آبرام قدم هذا المنطق في أن تكون الحياة والحضور هو عطية للآخرين:- “وتَكُونُ بَركَة.. وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض” (تكوين 12: 3).
هل أنت سبب بركة للآخرين؟
- الاتجاه الثاني: أجعل موتك أفضل هبة للآخرين
نعم، لا شيء يُعادل الميتة الصالحة. إنّنا مسئولين مسئولية شخصية عن كيفية موتنا. يجب أن نختار ما بين تمسكنا بالحياة بحيث يُصبح الموت لا شيء سوى فشلاً ذريعاً، أو ندع الحياة تغادرنا فتُتاح لنا إمكانية أن نُعطي ذواتنا للآخرين كنبع للرجاء. هذا هو اختيار مفترق الطُرق وينبغي علينا أن “نعمل” من أجل هذا الخيار في كل يوم من أيام حياتنا. ينبغي ألا يكون الموت هو فشلنا الأخير، أو الهزيمة الأخيرة في صراع الحياة، أو مصيراً لا مفرّ منه. فبالعكس، إذا كانت رغبتنا الأكثر عمقاً هي بذل ذواتنا من أجل الآخرين، حينئذ نستطيع تحويل موتنا إلى هبة أخيرة. يا لها من روعة عجيبة أن يرى المرء كيف يكون الموت خصيباً عندما يكون هبة معطاة بحرية!
انتقال البعض إلى حياة أخرى قد يكون أكثر دافعاً لطاقة روحية جديدة للآخرين المرتبطين به. يعطي الموت أحيانًا حياةً جديدة وأملاً جديداً لجميع الذين كانوا يبكون على فقدان الشخص. مثلما فعل القديسون الذي انتقلوا من هذا العالم، لكن لا يزال حبهم حيًا جدًا. مازالوا قادرين على توصيل هبات عظيمة وطاقات حياة إلى الآخرين. فمثلا فرنسيس الأسزي ليس بميتٍ على الإطلاق. حياته مستمرة في الإتيان بثمار جديدة في العالم كلّه، ومازال روحه مستمراً في الحلول علينا. إنّني مقتنع أكثر من أي وقت مضى بأنّ الموت يُمكن أن يكون خياراً حقيقياً كعطية أخيرة لحياتنا.
كم ستكون حياتنا مختلفة لو كنا قادرين حقاً على الاعتقاد بأنّها تتكاثر إذا ما أعطيناها! كم ستكون حياتنا مختلفة لو استطعنا فقط الاعتقاد بأنّ كل فعل أمانة صغير، كل لفتة حُبّ، كل كلمة صفح وتسامح، كل جُهد لأجل الفرح والسلام سيبقى حتى بعد عبورك للحياة الأبدية في حياة البعض..وسيكون حضورك وعطائك وافرٌ غزير !