إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الحياة الجماعية (1): من هو الأخ؟

1٬607

وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً، لا يَدَّعي أحدٌ مِنهُم مُلْكَ ما يَخُصُّهُ، بل كانوا يتَشاركونَ في كُلِّ شيءٍ لهُم

الجماعة هي مكان رهيب، فيها تتجلي محدوديتنا وأنانيتنا. فعندما نعيش مع آخرين بصورة مستمرة, أكتشف فقري وضعفي وعجزي عن التفاهم مع البعض من رفاقي. أكتشف انغلاقي واضطراب حياتي العاطفية والجنسية، ورغباتي التي لا ترتوي، احباطي وحسدي وبغضي ورغبتي في التدمير. جميعنا قايين. طيلة بقائي وحدي كنت أتصور أنني أحب كل الناس. ولما وُجدت مع آخرين أدركت عجزي عن الحب، ورفضي للحياة مع الآخرين.

الحياة الجماعية هي كشف مرير لما في كياني من ضعف ومحدودية ومناطق مظلمة. يصعب عليَّ أن أعترف بضعفي ومحدوديتي، فأحاول أن أستره، أن أنفي وجوده، أن أهرب من الحياة الجماعية وأقطع علاقاتي بالآخرين، أو أُظهر عيوب ومحدودية الآخرين. أما إذا سعيت في قبول عيوبي ونقائصي، أستطيع أن أنمو وأن أتحرر منها.

لكن لماذا وصفنا أن الجماعة هي مكان رهيب؟ ما هو الشيء الذي يجعل من الصعب العيش وسط الجماعة؟ منذ فجر التاريخ وكلمة أخ تحمل غموض وطاقة للموت والصراع: “fratelli coltelli” فما هو معنى أن يعطينا الرب أخوة.

في نص سفر التكوين (4: 1- 4): “واَضطجعَ آدمُ معَ اَمرأتِهِ حَوَّاءَ فحَمَلت ووَلَدَت قايينَ. فقالت: «رَزَقَني الرّبُّ اَبنًا». وعادَت فوَلَدَت أخاهُ هابيلَ. وصارَ هابيلُ راعيَ غنَمِ وقايينُ فلاَحًا يفلَحُ الأرضَ. وَمرَّتِ الأيّامُ فقَدَّمَ قايينُ مِنْ ثَمَرِ الأرضِ تَقدِمَةً لِلرّبِّ، وقَدَّمَ هابيلُ أيضًا مِنْ أبكارِ غنَمِهِ ومِنْ سِمانِها”.

المحور الأساسي لنص الاصحاح الثالث لسفر التكوين هو الله، يأتي الفصل الرابع ليتحدث عن الإنسان وحده خارج الجنة. في بداية الإصحاح نشعر بالتجانس والتناغم والسعادة التي تجمع البشر، حتى يخيل لأول وهلة أنهم يعيشون في الجنة، ولم يطردا منها. سعادة آدم وحواء تّثمر ثمرة بمثابة “هدية” من الله، “قايين”، أول أبناء البشر. ثم يأتي هابيل، الأخ الأصغر، ويظهر أن الأخوة يعيشون في سعادة وتناغم أيضًا، فكل منهم يقدم تقدماته إلى الله، هدوء يسبق العاصفة.

لم يمتلكا قايين وهابيل شيء ما لنفسيهما، فقدم كل منهما تقدمة شكر لله من ثمرة تعبهما، قدم قايين من ثمر الأرض التي أجتهد في فلاحتها والعناية بها طوال موسم الزراعة. وقدم هابيل تقدمة من القطيع الذي يسهر على رعايته. حياة متناغمة حيث كل منهما يعمل بجد واجتهاد في مجاله، مستفيدًا بموهبته التي أعطاها له الله، فيقدم شيء من تعبها لله كعربون شكر.

لكن ما هي العلاقة بين الأخوين؟

شكلت العلاقة بينهما علاقة إنسانية جديدة.. فالعلاقة الأولى التي تظهر في سفر التكوين هي علاقة الذكر بالأنثى: “اضطجع آدم مع امرأته حواء فحملت وولدت”. هناك علاقة إنسانية ظهر مع ميلاد قايين: “زرقني الرب ابنا” هي علاقة الآباء والأبناء. ومع مولد هابيل ظهرت علاقة إنسانية جديدة هي علاقة: “الأخوة”.

بين العلاقات الثلاثة تُعد العلاقة الأخيرة أصعبهما. فالذكر والأنثى تجمعهم غريزة ثابتة في الطبيعة البشرية وهي الحميمية، فكل منهم يبحث عن الأخر بدافع من الآيروس:”وقالَ الرّبُّ الإلهُ: لا يَحسُنُ أنْ يكونَ آدمُ وحدَهُ، فأَصنعُ لَه مَثيلاً يُعينُه”، “إلى زَوجكِ يكونُ اَشتياقُكِ”. أما العلاقة الثانية فيربطهما الدم، فغريزة الأمومة مثلا هي التي تدفع الأم إلى العناية بالطفل، والسهر لرعايته بالرغم من تعبها الجسدي، كذلك يتعب الأب ويضحى بوقته وحياته في سبيل أبنائه. أما الطفل هو يلتصق بوالديه بدافع غريزي بحت، وهو البقاء على قيد الحياة، فالأم هي التي تؤمن الحياة لصغيرها.

ما هو دافع الأخوة إذن؟ لماذا يبحثون عن بعضهم البعض؟ فهم مختلفون.. أحدهما أكبر والأخر أصغر. كما أن المواهب والامكانيات والمهنة مختلفة، الأول مزارع والآخر راعي للخراف.

لماذا يتقارب الأخوة، هل لأنهما من نفس البطن؟ لنا في قصة يعقوب وعيسو العبرة والمثل، فهم أخوة، تؤامين: ” وحبِلت رفقةُ واَزدحَمَ الولَدانِ في بطنِها، فقالت: «إنْ كانَ الأمرُ هكذا فلماذا الحياةُ». ومضَت لتسألَ الرّبَ. فقالَ لها الرّبُّ: «في بطنِكِ أمَّتانِ، ومِنْ أحشائِكِ يتفرَّعُ شعبانِ: شعبٌ يسودُ شعبًا، وكبيرٌ يَستعبِدُه صغيرٌ” (تك 25: 22). تؤامين إلا أن الحقد والحسد ملء قلبيهما، فخدع يعقوب أبيه لأجل أن يسرق البركة، وحقد عيسو على أخيه.

كيف يكون الأخوة متحابين؟

نعود إلى النص، مثلما كان الحال في قصة آدم وحواء في جنة عدن، كل شيء كان يسير على ما يرام وبصورة جيدة، الأخوة يعملون، كلٍ في مجال عمله بسعادة ورضى. يظهر عنصر خارجي يتسبب في قلب الأحداث رأسًا عن عقب وبصورة مأسوية. العنصر الخارجي هو الله ذاته!!

خلق الله فردوسًا ليتمتع به آدم وحواء، جنة مزدهرة وممتلئة بكل شيء طيب، ولكنه حَرمَ على الإنسان الأكل من شجرة وحيدة. لماذا يمنع الله الإنسان من الأكل من هذه الشجرة؟ وضع الله حدود على الإنسان أن لا يتخطاها. والتجربة تجد في الحدود فرصة ذهبية للايقاع بالإنسان.  ما تقصده الحية في حوارها مع حواء: “أحقُا قالَ اللهُ: لا تأكُلاَ مِنْ جميعِ شجرِ الجنَّةِ؟ 2فقالتِ المَرأةُ لِلحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شجرِ الجنَّةِ نأكُلُ، وأمَّا ثَمَرُ الشَّجرَةِ التي في وسَطِ الجنَّةِ فقالَ اللهُ: لا تأكُلا مِنهُ ولا تَمَسَّاهُ لئلاّ تَموتا». فقالتِ الحَيَّةُ لِلمَرأةِ: «لن تموتا، ولَكِنَّ اللهَ يعرِفُ أنكُما يومَ تأكُلانِ مِنْ ثَمَرِ تِلكَ الشَّجرَةِ تنفَتِحُ أعينُكُما وتَصيرانِ مِثلَ اللهِ تعرفانِ الخيرَ والشَّرَّ.” المعنى هو التالي: “إذا كان الله يحبكم حقا، لماذا حَرمكم (منعكم) من الأكل من هذه الشجرة بالذات، لقد أحتفظ بها لنفسه، لانه يعلم متى أكلت منها تصيران مثله، عارفين الخير والشر”. كيف نثق بحب شخص ما لنا، إذا احتفظ بشيء ما لنفسه، ولم يعطي في محبته كل شيء؟!

تكرر نفس الأمر في قصة قايين وهابيل، كل شيء كان يسير على ما يرام، بل بصورة رائعة، فحواء تشكر الله على عطية الأبناء: “رزقني الله أبنا”، والشباب تعمل برضى، كل في مجال عمله. يتدخل الله  فيفسد كل شيء:

وَمرَّتِ الأيّامُ فقَدَّمَ قايينُ مِنْ ثَمَرِ الأرضِ تَقدِمَةً لِلرّبِّ، وقَدَّمَ هابيلُ أيضًا مِنْ أبكارِ غنَمِهِ ومِنْ سِمانِها. فنظَرَ الرّبُّ برضًى إلى هابيلَ وتَقدِمتِهِ، أمَّا إلى قايينَ وتَقدِمتِهِ فما نظَرَ برضًى، فغَضِبَ قايينُ جدُا وعبَسَ وجهُهُ. فقالَ الرّبُّ لِقايينَ: «لِماذا غَضِبتَ ولِماذا عبَسَ وجهُكَ؟ إذا أحسنْتَ عمَلاً، رفَعْتُ شأنَكَ، وإذا لم تُحسِنْ عمَلاً، فالخطيّةُ رابِضةٌ بِالبابِ وهيَ تَتَلهَّفُ إليكَ، وعلَيكَ أنْ تسُودَ علَيها». (تك 4: 4- 8)

قدم كل منهما تقدمة من ثمرة تعبه. قايين قدم ثمار الأرض، وهابيل أحد أبكار غنمه، لكن الله نظر برضى لتقدمه هابيل ورذل تقدمة قايين. المشكلة أوجدها الله! يتكلم النص بوضوح أن الله وحد بين التقدمة والشخص.. كانت تقدمة هابيل قيمة، فنظر الله برضى إليه. في حين جاءت تقدمة قايين، أقل قيمة، فلم ينظر الرب برضى لقايين. حاول الكثيرين تبرئه الله من ظلمه إلى قايين، ولكن قراءة سفر أيوب نكتشف أن نفس الأمر يحدث مع أكثر البشر قداسة وبر. فلنقرأ كلام الكتاب كما هو مكتوب، دون تحميله أي شيء.

تدخل الله بصورة غير عادلة، قبل تقدمة هابيل ورذل تقدمة قايين. لنحاول أن نقرأ الحدث من وجهة نظر قايين ونسأل نفس السؤال: لماذا الله غير عادل؟ ألم نسأل أنفسنا نفس السؤال في وقت ما؟ ألم نشك في تداخلات الله في حياتنا؟

جوليا، فتاة في الرابعة عشر من عمرها، في سن السابعة سمعت أمها تقول كلمات حارة، حنونة، لم تنساها أبدًا: “حياتي ونور عيني، أنت أغلى الناس” . ابتسمت جوليا، فاطلما رددت أمها نفس الكلمات، لقد أعتادت على سماعها. وفي في ذلك اليوم، تلفت جوليا نحو أمها، فكانت صدمتها شديدة، كانت الأم منحنية على أختها الصغيرة التي لم تُكمل أربعين يومًا وتتحدث معها وليس مع جوليا. الكلمات التي أعتادت عليها جوليا، لم تعد لها! شعرت بمغص شديدة في معدتها، وسكين تخترق قلبها.. بدأت تسال نفسها: “هل ماما تحبني؟ فإذا كانت تحبني لماذا أنجبت طفلة أخرى؟ أليست أنا كافية؟

إذا أنتبهنا إلى مشاعرنا سنجد أن مشكلة الحياة الجماعية تكمن في هذا الأمر تحديدًا. في الشعور بأننا خُدعنا، أُهملنا، تم نبذنا من المحبوب!! وجود الأخ يشكل طعنة في القلب: لأن الأخ يصدمك بالحقيقة المرة: “أنا لستُ شخص الفريد” من الممكن أن تكون شخص فريد في صفاتك ومواهبك، لكنك لن تكون أبدًا الشخص “الفريد” لأن هناك آخر. يذكرك الأخ دوما بأن والديك لم يعطوك كل شيء، كان من المفترض أن يعطوك آياه. أحتفظ والديك بشيء من الحب لآخر، “لأخوك”. يحطم الأخ أوهامك ورغباتك في أن تكون مركز العالم “مركز أسرتك”. حتى في المساحات داخل المنزل يجب عليك، بعد أن كنت تتمتع بها وحدك، أن يقاسمك أخوك فيها.

الأخ هو التحدي الأكبر للإنسان. هو تحدي لمركزيتنا، هي معركة لن تحسم في وقت قصير. فالتجربة الأكبر هى أن تعود كمركز للعالم، للأسرة، وتزيل الأخ من الوجود، تزيل سبب الألم الرئيسي. تنفجر براكين الغضب داخلك عندما يتلقى الأخ مدائح عن بعض المواهب التي لا تمتلكها أنت. فالأخ هو حجر العثرة أمامك، يمثل عدم عدل من جانب الله الذي خلقه؟ هذا ما شعر به قايين: “ألم يكن الله يرضى عن تقدمتي لثمرات الأرض طوال هذه السنوات؟ لماذا تغير الأمر الآن بعد أن ظهر هذا “الأخ” وقدم له أحد الأبكار التي يرعاها؟ أتعب طوال العام في فلاحة الأرض وريها وتنقيتها من الحشاش الضارة لأجل أن أحصل في النهاية على ثمار طيبة، أختار أطيبها لأقدمها له، وفي النهاية لم يرضى بها. في حين يقدم هابيل نعجة، لم يتعب فيها، سوى أن يتركها ترعى في الحقول، فيقبلها منه برضى!! أليست هذه هي الصعوبة التي نجدها في الحياة الجماعية؟

ماذا أصنع؟ الشيء البديهي هو معاقبة الله على تفرقته في المعاملة، على عدم عدله، على تسببه في معاناة لا طاقة لي بها. ومعاقبة الآباء أم صعب من الناحية النفسية والعملية، لهذا تتوجه براكين الغضب إلى الأخ. لم يستطيع قايين أن يوجه غضبه إلى الله، فحوله إلى هابيل. كذلك فعل أخوة يوسف، غضبوا من يعقوب لأن فضل يوسف عليهم، لكن غضبهم لم يتوجه إلى الأب، سبب المشكلة، بل تحول إلى الصغير، يوسف فألقوه في بئر.

هذه العلاقة المتفاعلة بين الله والأخ عبر عنها القديس فرنسيس الأسيزي في “التعليمات: “من يحسد الأخ لعطايا الله له، فأنه يرتكب خطيئة”. فإذا كنت أحسد الأخ، فأنا أخطئ في حق الأخ، ولكن ليس إلى الله، فلماذا تكون خطيئة، وأثم أمام الله. فالحسد هو غضب مكتوم متوجه في الأساس إلى الله، السبب في وجود الأخ، وليس إلى الأخ كشخص. والمشكلة الأساسية في الحياة الجماعية تكمن في هذه الجملة: “سأكون سعيد إذا اختفى الأخ”.

تعرضنا للخيانة من الله عندما خلق لنا الأخ، وضعنا في أزمة وجودية ضد رغباتنا بأن نكون “المركز”، “الوحيد”، “الفريد”. لكن من قواعد النضوج الإنساني هو التحرر من عبودية الذات والتمركز حول “الأنا”، الخروج من نرجسية عقيمة وسلبية ترتكز حول الذات. وبدون خيانة الأم، بأن تتركنا ننمو فإن الإنسان لن يصل أبدًا إلى النضوج. إذا أرادت الأم تجنيب ابنها ألم الفراق ستتسب في عرقلة نموه النفسي والإنساني.

دخل قايين في النفق المظلم وسيطرت عليه فكرة قاتلة: “سأكون سعيد إذا اختفى الأخ”، “يجب أن أقتل هابيل، يجب أن أسكته”. ليس صدفة أن الوحيد الذي لم يتحدث في صفحات التكوين الأولى هو هابيل. حتى اسمه “قبض الريح” يدل على موقفه. جميعهم تكلموا، آدم وحواء، وقايين، أما هابيل فلم نسمع له صوت.. سُمع فقط صراخ دمه يصعد من الأرض. تحدث الله باسمه.

 يسوع هو الابن الوحيد، البكر والأخير

(تك 4: 9) فقالَ الرّبُّ لِقايينَ: «أينَ هابيلُ أخوكَ؟ قالَ: «لا أعرِفُ. أحارِسٌ أنا لأخي؟» يجيب التقليد اليهودي على هذا التساؤل. الله يعلم كل شيء، فلماذا يسأل قايين عن أخيه؟ لأنه في كل مرة يسأل الله الإنسان شيئًا يقدم له عطية ونعمة لحياته. يأتي السؤال دائما كمقدمة للعطية. في الإصحاح السابق يسأل الله آدم قائلا: “أين أنت؟” وهو يَّعد له نعمة الحياة العائلية، من زوجة وأبناء. في سؤاله للإنسان: “أين أخوك؟” يَّعد الله عطية جديدة هي هبة الأخوة.

الأخ هو الحارس، القائم بالعناية والسهر لرعايتي: “كُنتُم خِرافًا ضالينَ فاَهتَدَيتُمُ الآنَ إلى راعي نُفوسِكُم وحارِسِها” (1بط 1: 25) فالمسيح يعيد استكمال قصة الأخوة بعد أن توقفت بمقتل هابيل. رأي قايين في ميلاد أخيه كجرح داخلي في كيانه، منافس يجب التخلص منه ليعود إلى مكانته الاولى في قلب الله ووالديه، فتخلص منه وقتله. قدم المسيح نموذجًا عكسي تمامًا، فبالرغم من أنه الأبن البكر، الذي في حضن الآب منذ الأزل، لم يرغب في الاحتفاظ بهذا الغنى له وحده: “هوَ في صُورَةِ الله، ما اَعتبَرَ مُساواتَهُ لله غَنيمَةً لَه، بَل أخلى ذاتَهُ واَتَّخَذَ صُورَةَ العَبدِ صارَ شَبيهًا بالبَشَرِ وظَهَرَ في صورةِ الإنسانِ” (فل 2: 6-7). تخلى عن كونه الابن الوحيد وأصبح الأبن البكر لأخوة كثيرين، وبذل ذاته على الصليب من أجلهم. يشفى يسوع جرح قايين الذي رأى في أخيه خطرًا وعائقًا أمام سعادته مع الله ووالديه.

تجسد يسوع يُنير ظلمات قلب كل إنسان يرغب في التخلص من أخيه ليحصل وحده على ميزات الابن الوحيد، ليحصل على حب والديه كاملاً، ليكون الأعظم (كما تجادل التلاميذ فيما بينهم على من هو الأعظم مر 9: 34)

من الأخ البكر إلى الأخ الأخير، آخر أخوته. بالرغم من كونه البكر مثل قايين، ولكنه أضحى الأصغر كهابيل، وقُدم ذبيحة على الصليب دون أن يفتح فاه. وهذا هو السر الفصحي ومصدر السعادة الكاملة. لن تكون هناك صراعات في الحياة الجماعية متى اخترنا المكان الأخير. وفقا للمنطق البشري فمقابل دم هابيل لابد أن يهرق دم قايين، قاتله. لكن الله لم يقبل بمقتل قايين، بل حفظه: “وجعَلَ الرّبُّ على قايينَ عَلامةً لِئلاَ يقتُلَهُ كُلُّ مَنْ وجدَهُ”. قبل الله بأن يتجسد ابنه الوحيد عوضا عن هابيل وأن يُصبح صوته الذي يصرخ أمام ظلم الآخرين. تصرف الابن بعكس قايين، بذل ذاته من أجل أخوته، سمح لأخوته، بالرغم من كونه الابن الوحيد، مشاركته غنى بنوته لله. أصبح أخر الكل وخادمهم وغسل أقدامهم، بالرغم من كونه البكر. في حياة يسوع وموته وقيامته تشفى جراح “الحياة الجماعية”، يجاوب الله على سؤال قايين: “كيف أؤمن بأن الله يحبني بصورة كاملة بالرغم من وجود آخرين يتقاسمون معي محبته؟

يصل المعنى الذي قدمه يسوع الناصري إلى كماله على الصليب بغفرانه لقاتليه. نعتقد أن الأخ خطرًا علينا، يسلبنا حقوقنا في الحياة، يسلبنا أن نكون مركز “العائلة-  الكون”، يسلبنا محبة والدينا.. فنحاول أن نتخلص منه ونزيل وجوده من الحياة. جاء المسيح على الصليب ليبقى على محبته لأخوته، بالرغم من الآلام واقتراب الموت. بالرغم مما صنعه أخوته به، من جلد وتعذيب، إلا أن المسيح يتضرع على الصليب من أجل قاتليه، يتضرع لأجل أن تُحسب لهم هذه الخطيئة: “لأنهم لايدرون ما هم فاعلون” (لو 23: 34).

مغفرة مختلفة جذريًا، فقد غفر المسيح للناس خطاياهم، في مناسبات عديدة، من حيث كونه ابنا للآب السماوي. لكن على الصليب الأمر مختلف، فالمسيح يغفر للآخرين “كأنسان ضعيف” يواجه الموت. فالمغفرة هنا لا ترتبط بكونه أبن الله الوحيد الذي يفصل بين الأخيار والأشرار، بين الخراف والجداء، فيتسامح مع الخطأة. هو غفران يقبل ويحافظ على الشركة والأخوة مع هؤلاء الذين يعذبونه مع صالبيه. حتى أمام الموت لم يتوقف يسوع على الثقة والإيمان بأخوته، بالرغم من تصرفات أخوته معه ورغبتهم في التخلص منه، كما فعل قايين بأخيه.

منذ هذه اللحظة لا يستطيع أحدٌ أن ينزع من قلب كل مسيحي الامكانية بأن يبقى أمينا لأخوته، حتى الذين يضطهدونه ويرغبون في الخلاص منه. المسيحي (المكرس) هو أخ للجميع، ليس هناك رغبات دفينة في التخلص من الأخ، لما يمثله من خطر على حقوقي ومكانتي، بل على العكس، عليه أن يقدم الآخرين على ذاته…. وهذا هو التغيير الجوهري الذي قدمه المسيح للعقلية الإنسانية الرافضة للأخ والموروثة من قاييين.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.