إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (2): العوامل الثقافية والاجتماعية التي ساعدت على نشأة الرهبنة

0 1٬071

أولاً: الحياة الرهبانية


-1-

العوامل الثقافية والاجتماعية التي ساعدت على نشأة الرهبنة

  1. الأشكال الأولى للرهبنة
  • العذارى

الشكل الأول من أشكال الحياة المُكَرسة ظهر مع بدايات الكنيسة الناشئة ومع الجيل الأول للمسيحيين وهو ما يُعرف بنظام “العذارى” و “النساك”. ففي أعمال الرسل 21: 8- 9 نقرأ عن: “فيليبُّسَ المُبَشِّر، وهو أَحَدُ السَّبعَة، فأَقَمْنا عِندَه. وكانَ له أَربعُ بَناتٍ عَذَارى يَتَنبَّأنَ”.  عرفت الكنيسة الناشئة، في ذلك الوقت، زهّادًا من الرجال والنساء كرسوا أنفهسم لحياة العفة وحياة النسك، ومارسوا أعمال الرحمة تجاه الفقراء والمرضى والأيتام.

ظهرَ الأمر جليًا مع بداية القرن الثاني، مع كتابات كل من القديسين إكليمنضوس الروماني وإغناطيوس الأنطاكي الذين أشاروا إلى الرجال والنساء الذين اعتنقوا حياة العزوبية، التي تشكل الغاية الأولى للإقتداء بالمسيح. وفي رسالته الموجهة إلى أهل كورنثوس، يطلب إكليمنضوس الروماني من جماعة المتبتلين بأن لا يتفاخروا على إخوتهم المتزوجين بنمط حياتهم، بل يعيشوا اختبارهم هذا بكل إيمان واتضاع قلب.

وتصفّ نصوصًا عديدة من القرن الثالث دور العذارى في حياة الكنيسة. ولمقالات ترتليانوس والقديس كبريانوس أهمية خاصة في هذا الموضوع. وأخيرًا في القرن الرابع، ازداد عدد الكتّاب الذين مدحوا العذريّة ورفعوا من شأنها باعتبارها نمط الحياة الأكثر مناسبة لحياة يسوع المسيح الأرضية، ومنهم القديسون: أثناسيوس، باسليوس، غريغوريوس النزينزيّ، غريغوريوس النيصيّ، يوحنا الذهبي الفم، أمبروزيوس، أغسطينوس، يوحنا كسيانوس.

في البداية، كان الزهّاد والعذارى والعزّاب الآخرون يظلّون في بيوتهم، ويعيشون مع عائلاتهم، ويشاركون في الحياة المشتركة للكنيسة المحلية. وكانوا ينظمون أنفسهم أحيانًا في مجموعات شبيهة بالأخويّات أو مانطلق عليه اليوم الرهبنة الثالثة. وربما وضع لهم مختلف الكتّاب قوانين حياةٍ مثل القديسين: أمبروزيوس وإيرونيموس أسقف آرال. بالإضافة إلى ذلك تصادق السلطة الكنسية عليهم، صار بإمكان الرجال والنساء الذين يريدون أن يكرسوا أنفسهم لله أن يُبرزوا نذرًا أمام الأسقف لأجل هذا الغرض.  لذلك فرض مجمع إلڤيرا الإسباني في العام 306 عقوباتٍ على عذارى لم يكنّ وفياتٍ لتكريسهنّ للربّ ولنذر العذرية. وأعلن مجمع أنقرة في العام 314 أنّ العذارى المكرسات اللواتي يتزوجن آثماتٍ إثم تعدّد الأزواج لأنهنّ تزوجن المسيح. وفي العام 364 أعلن القانون المدني أيام ڤالنسيوس أن كل من يتزوج عذراء مكرسة يُحكم عليه بالإعدام.

بحسب التشريعات القانونية[1]، يُطلبُ من العذارى أن يلبسنَ ثوبًا أسود، وغطاء رأسٍ أسود، يباركهما الأسقف ويعطيهما لهنّ في وقت التكريس. ويمكنهنّ أن يعشن في بيوتهنّ، ولا ينبغي لهنّ أن يغادرن البيت إلا للضرورة. ويجب عليهنّ أن يتلين الصلوات المأمورة، وحدهنّ أو مع مجموعة، في الأوقات التقليدية: الساعة التاسعة صباحًا، الثانية عشرة ظهرًا، والثالثة بعد الظهر. بالإضافة إلى هذه الساعات، عليهنّ أن يسهرن الليل بترنيم المزامير. وفي أورشليم، كان كلّ من الرجال والنساء العزاب ينضمون عادة إلى الإكليروس من أجل الصلاة في الساعات المُحددة. وفي القرن الرابع، كانت مرسيلا وأسيلا تستقبلان في بيتهما بروما العذارى والمتزوجات من أجل الصلاة والقراءة الروحية.

أما نظام الصوم فكان قاسيًا، يُسمَحُ بتناول وجبةٍ وحيدة في اليوم، قوامها الخبز والخضار، وتسبقها الصلوات المناسبة وتليها. أما رسالتهنّ فكانت أعمال رحمةٍ تجاه الفقراء والمرضى.

ودخلت في الشرق كما في الغرب عادة السكن المشترك لفترة من الزمن. فكان الإكليروس أو الرجال العزاب يشاركون العذارى السكن ليحموهنّ وليؤمّنوا احياجاتهنّ الروحية. لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً بسبب بعض حدوث بعض المشكلات التي انتقدها بعض آباء الكنيسة مثل: القديس يوحنا الذهبي الفم، والقديس وإيرونيموس والقديس إكليمنضوس فهبّت السلطة الكنسية إلى سرعة فصل المكرسات في أماكن خاصة بهنّ.

  • النساك

سعى الكثيرون من الرجال إلى العزلة الداخلية والخارجية بهدف تكريس أنفسهم بالكامل لله. يرى بعضهم أن انقضاء عهد الاضطهادات في إذكاء تلك الرغبة عند الكثيرين من المسيحيين ذوي التديُّن الحار والراغبين في العيش حسب حرفية الإنجيل، بذهابهم إلى المناطق الخالية، في البراري والغابات لعيش جذرية الإنجيل.

يربط باحثون كثيرون بين انتهاء عصر الاضطهادات وظهور حركة لجوء النساك إلى الصحراء والغابات، بالقول إن الرهبنة وليدة السلام الذي عّم المسكونة مع معاهدة قسطنطين. فذهب المسيحيون إلى الصحراء رغبة في الحفاظ على التقليد الأمين والكريم في الشهادة، الذي واظب عليه الشهداء الذين بذلوا دمهم طيلة القرون الثلاثة الأولى في سبيل المسيح، بنوع آخر من الاستشهاد، أقل شهرة، ومستتر لكنه ممتد بحيث يشمل الحياة كلها، ويقوم على الحفاظ على طهارة القلب بصلاة متواصلة، و المثابرة على حياة الزهد والتواضع. يظهر الاستشهاد الأبيض، الذي يقوم على حياة رهبانية طويلة بنكران الذات ونسيانها، بديلاً عن الاستشهاد الأحمر القائم على سفك الدم حفاظًا على الإيمان المسيحي [2].

إلا أن هذا الرأى الذي سيطر كثيرًا على آراء الباحثين لا يمكنه أن يفسر ظهور حركة النساك والعذارى قبل سلام قسطنطين. فالحركات الرهبانية ظهرت منذ نشأة المسيحية تجاوبًا مع دعوة يسوع إلى تلاميذه باتباع نمط الحياة الذي اعتنقه هو في حياته الأرضية. فطلب المسيح من تلاميذه حياة مختلفة جذريًا عن الحياة الطبيعة التي يعيشها سائر الناس. يوضح سفر الأعمال أن المسيحيين الأولين عاشوا حياة الشركة معًا، مثلما عاشها التلاميذ مع المسيح في حياته الأرضية، تقاسم الخيرات المادية والروحية.

إن خروج النساك إلى الصحاري والأدغال، وفقا لجغرافية كل بلد، كان مدفوعًا قبل كل شيء بروحانية الكتاب المقدس وبتلك الرغبة في تكرار حياة الأنبياء العظام، الذين قصدوا العزلة رغبة في لقاء الله. ومما لا شك فيه كانت هناك تأثيرات سياسية واجتماعية واقتصادية على ظاهرة الرهبنة، فهي ليست بمعزل عن المجتمع، إلا أنها ظاهرة فريدة في نشأتها وهذا ما سنتناوله في المبحث التالي.

2. الكنيسة في القرن الرابع الميلادي

لم يمنع الاضطهاد انتشار المسيحية في كل ربوع مصر، فبخلاف الإسكندرية، كانت هناك مراكز مسيحية مرموقة في طيبة والفيوم والبهنسا والأشمونية وأخميم. وقد أظهرت الدراسات النقدية لبعض وثائق البطاركة، مثل رسالة البابا الثاني عشر على كرسي الإسكندرية، دميتريوس الأول (188- 230م)، وأخرى للبابا الرابع عشر دينوسيوس الإسكندري (246- 264م)، عن كون الجماعة المسيحية أقلية وسط أكثرية عددية للوثنيين. كشف لنا  M. Roncagliaمن خلال دراسته عن الانتشار الكنيسة المحدود في ذلك الوقت، وعن كون المسيحيين أقلية مضطهدة تتحرك بعقلية الجماعات السرية خوفا من بطش السلطات الحاكمة. ويُظهر هيكل الكنيسة التنظيمي أن أختيار البطريريك كان قاصرًا على مستوى مدينة الإسكندرية فقط، لوطأة الاضطهاد الواقع على الكنيسة، وبالرغم من ذلك يُعد البطريرك المختار بابا الكنيسة في ربوع مصر كلها[3].

حمل القرن الرابع تحولا جذريا مع اعتراف الإمبراطورية الرومانية بالمسيحية، بموجب مرسوم ميلانو عام 313م، كديانة شرعية لها أحقيتها في الوجود إلى جانب الوثنية واليهودية مع إعطاء أتباعها حق ممارسة طقوسهم الدينية. شرعت الكنيسة، على الفور، في تنظيم هيكلها الداخلي وأمور العبادة ونشرها. وتكشف لنا الباحثة البولندية E. Wipszycka عدد الإيبارشيات المعروفة في ذالك الوقت بلغ أربعين إيبارشية. كان للإسكندرية موقع مميز وسط تلك الإيبارشيات المصرية، فهي الإيبارشية الأم، مقر البطريرك وقادة الكنيسة. أما عدد الأساقفة فقد نما بشكل سريع، فهناك اجتماع لأكثر من 100 أسقف تقريبا في عام 320م لمناقشة آراء أريوس وحضدها. إلا أن عدد الإيبارشيات لم يتغيير بالرغم من زيادة عدد الأساقفة، فتكشف لنا الوثائق التاريخية عن ميلاد إيبارشية وحيدة بعد سلام قسطنطين وهي بمنطقة فيليه بأسوان، كما خلُصت E. Wipszycka في دراستها المهمة[4].

وفي النصف الثاني من القرن الرابع، ظهرت الكنائس الرعوية التي انتشرت بسرعة كبيرة في القرى والمدن المصرية، واحتفظ الأسقف بحق الإشراف الروحي والتنظيمي على الكنائس التابعة له جغرافيا، فله وحده حق أعطاء الأسرار كالمعمودية مثلا، وإرسال النشرات والرسائل الدورية في المناسبات المختلفة. اختلف الأمر مع بداية القرن الخامس فتُركت الأسرار أيضا للرعاة، ولكن ظل للأسقف سلطة تنظيم الشعائر الدينية. ويعدد Vagaggini بعض الاجتماعات التي ضمت بعض الأساقفة والرعاة التابعين لهم لتنظيم العمل داخل الإيبارشيات[5]. ومع نهاية القرن الرابع أضحت الجماعة المسيحية الغالبية في البلاد، في حين نسبة الوثنيين لم تتجاوز 10% من السكان على أقصى تقدير.

  1. المحيط الثقافي والاجتماعي لنشأة الظاهرة

فقدت مصر استقلالها السياسي، إلا إنها عوضت ذلك بالتفوق في ميدان آخر أمسى المحتل به تابعًا لها، وهو ميدان الفكر والعقيدة. إنها لم تنس أنها فقدت مكانتها الدولية كدولة ذات سيادة فى ظل البطالمة، لم ينسىَ المصريون أن حضارتهم سبقت حضارة الرومان بعدة قرون، فوجدوا فى العقيدة المسيحية هدفًا يلتفون حوله وسلاحًا يُشهرونه في وجه سلطان روما الوثنية أو حتى المسيحية، وخاصة بعد قيام مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي حملت لواء الدفاع عن المسيحية والمكان الذي تتجه إليه أنظار الأسقفيات الأخرى. أصبحت الإسكندرية المدينة الأشهر في العالم القديم بمدرستها الشهيرة التي اجتذبت إليها الكثيرين من أبناء العالم اليوناني مفكرين وأساتذة وطلابا. سيطر اليونانيون، ثم الرومان، بالرغم من كونهم أقلية على المدينة ثقافيًا وماليًا حتى أضحت المدينة ذات ثقافة هيلينة أكثر من كونها مدينة مصرية. وبالفعل اختلفت الإسكندرية ذات اللغة اليونانية عن باقي مدن مصر الناطقة بالقبطية. ولهذا اعتبر المصريون الإسكندرية دوما بمثابة الجسد الغريب عن الوطن، سياسيا وثقافيا.

ونظرا لوجود الكرسي الإسكندري بالإسكندرية امتدّ التأثير على الكنيسة، فأصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية للكنيسة، وبها كُتبت جميع أعمال المفكريين وآباء الكنيسة كتباتهم. وأضحت اللغة الطقسية للكنيسة، ليس في الإسكندرية فحسب، بل في أنحاء دلتا النيل أيضًا. واستخدمها الأساقفة في كتابة النشرات الدورية للرعايا التابعة لهم حتى القرن الثامن الميلادي. لم تعلن اللغة القبطية، لغة أهل البلد الأصليين، عن ذاتها إلا مع القديس باخوميوس وتلاميذه[6]. من جانبه توصل D. G. Müller إلى أن أول بابا كتب باللغة القبطية هو بنيامين (626- 665م)، إلا أن E. WIPSZYCKA شككت في هذه الفرضية، استنادًا إلى دراستها النقدية، أن الرسائل قد كُتبت باليونانية وقد تمت ترجمتها إلى القبطية إلا أن الأصل اليوناني فُقد لأسباب مجهولة[7].

ظهرت الحياة الرهبانية في ظل هذه الظروف، خارج بطريركية الإسكندرية ذات الثقافة الهلينية، وفي أوساط الفلاحين الأقباط، خاصة في صعيد مصر. وسط جماعات تجهل تماما اللغة اليونانية، ولكنها ذات ثقافة محلية غنية وهي ثقافة البلاد المصرية الأصيلة.

  1. ما هي أسباب نشأة الرهبنة وسط هؤلاء الفلاحين البسطاء؟

نعرف من رواية القديس أنطونيوس والأنبا بولا نزوح الرهبان الأوائل إلى الصحراء، فلماذا الصحراء بالذات؟ فالصحراء مكان يمتاز بالجفاف وقسوة الحياة وندرة المياه.  فليس من الطبيعي أن يترك الإنسان كل مقومات الحياة السهلة داخل المدن والقرى، خاصة مع تجمع المصريين طوال تاريخهم حول مصدر المياه الوحيد، نهر النيل. هناك مما لا شك فيه دافع قوي دفع آلاف البشر لترك منازلهم وحياتهم الطبيعية لينزحوا إلى البرية.

    • سلام قسطنطين

يُرجع بعضهم السبب إلى انتهاء عهد الاضطهدات. أصبحت الكنيسة في أمان، وصار المسيحيون في حالة مريحة، وباتوا يميلون إلى الاستقرار. انتهت حمية الاستشهاد لأجل الإيمان، وحل الفتور في أوساط الكنيسة، فتفاديًا لهذا الخطر، حدثت ردة الفعل الرهبانية عند الكثيرين من المسيحين ذوي التدين الحار والراغبين في العيش حسب حرفية الإنجيل، والعازمين على عدم الانقياد لموجه عارمة من السعي وراء الترف المادي، بذهابهم إلى الصحراء، وبإقامتهم في البرية ومغاور الصحراء. ظهرت موجة جديدة للاستشهاد، لكنه استشهاد أبيض، دون دماء، بديلا عن الاستشهاد الأحمر الذي ساد في القرون الثلاثة الأولى.

ذهب بعض المسيحيون إلى الصحراء، وفقا لهذه الفرضية، ليحفظوا التقليد الأمين للشهادة، الذي واظب عليه الشهداء الذين بذلوا دمهم طيلة القرون الثلاثة الأولى في سبيل المسيح، بنوع آخر من الاستشهاد الأقل شهرة، ومستتر لكنه يشمل الحياة كلها. هو موت عن الرغبات الطبيعية ومغريات العالم، ويتطلب الحفاظ على طهارة القلب بصلاة متواصلة، ومثابرة عبر حياة من الزهد والتواضع. وتبدو فكرة الاستشهاد هذه واضحة في قول لونجينوس المأثور: “ابذل دمك فتنال الروح، ابذله ليس مرة واحدة وفي لحظة واحدة بل قطرة قطرة، بحياة رهبانية طويلة، في أغلب الأحيان مع آباء الصحراء، وباهتمام دائم بإنكارك لذاتك ونسيانها، وبعد هذا إذا شاء الله ومتى شاء، تنال أنت الروح”[8]. عُرف استشهاد البتولية بالاستشهاد الأبيض، فكما يقول ثيودورس الأستودي: “أن اللذين يركضون في الميدان، إنما يركضون مرة واحدة في السنة ولفترة وجيزة، وبعد ذلك يتركون الصراع غالبين وإما مغلوبين، بينما الذين يجتازون مضمار البتولية يركضون ليس يوما واحدا وحسب، بل طيلة حياتهم ركضًا غير مرئي، لأن حياتهم صراع ضد أعداء غير مرئيين. فالكمال في البتولية عظيم جدًا، إذ هو يبلغ ذروة السماوات ذاتها”[9].

إلا إن هذه الفرضية ضعيفة الحجة، لأن مرسوم ميلانو حمل السلام لربوع الإمبراطورية الرومانية المنتشرة في العالم القديم كلها، فلماذا لم يحدث هذا النزوح في بلاد أخرى كروما وبلاد الغال أو آسيا الصغرى. كما إن الرهبنة ظاهرة قديمة، ترجع إلى القرن الثاني الميلادي مع ظهور حركة العذارى والنساك. لذا من الضروري أن نبحث في المعتقدات المصرية القديمة لنجد تفسيرًا لنزوح هؤلاء الشبان إلى الصحراء تحديدًا. من الصعب الاقتناع بهجرة الآلاف من الشباب وتركهم لممتلكاتهم وذويهم، والانعزال في البراري تفرغًا للصلاة والتعبد دون أن يكون هناك أساسًا في العقل الجمعي المصري القديم ما يبرر هذا التصرف. لقد تعانق الفكر المصري القديم مع لاهوت البرية في الكتاب المقدس فأفرز فكرًا جديدًا يُفسر إلى حد كبير سبب لجوء الرهبان المصريين إلى الصحراء للعبادة دون عن غيرهم من شعوب العالم القديم.

    • معنى البرية في الديانة المصرية القديمة

للبرية معانٍ مختلفةٌ وعديدة في الديانة المصرية القديمة، إلا جميعها تتلاقي مع معاني البرية في الكتاب المقدس:

    • مسكن إله الشر

هناك تعبيران للصحراء في اللغة المصرية القديمة: الأول هو  Semyt. هي الأرض الحمراء والجرداء، أو الأرض الغريبة التي يسيطر عليها ست[10]، إله الشر، في عقيدة المصريين القدماء، إله الرعود والغيوم والعواصف الهوجاء. الصحراء “سميت” تعنى قوى الخواء والعودة لما قبل الخلق نظرًا لسيطرة ست عدو الضياء والنور والخليقة[11].

للإله ست رمز حيواني، غير معروف، يُشبه الحمار، له أرجل طويلة وآذان طويلة مستعرضة وذيل قصير قائم. وأحيانا بشكل آخر يُشبه الكلب الرابض بعنق مستطيل وآذان مربعة ووجه طويل مقوسة وذيل قائم. فشل العلماء في تحديد نوعية الرمز الحيواني للإله ست، مما زاد الغموض حول تلك الحيوانا المرعبة التي تملئ الصحراء التي يسيطر عليها الإله ست.

هو ذات المفهوم الذي اعتنقه فيلون الإسكندري عن لاهوت البرية في العهد القديم. واعتنقه من بعده الكُّتاب المسيحيين كالقديس كليمنضوس الإسكندري والعلامة أورجينوس. فالبرية مكانٌ قاحل تسيطر عليه الأرواح الشريرة التي بنبغي الصراع معها والانتصار عليها للوصول إلى حالة السكينة والسلام الداخلي. استمد فيلون شرحه للكلمة استنادًا إلى نصوص التوراه والثقافة الهيلينية المنتشرة وقتئذ في مدينة الإسكندرية. فالصحراء مكان هادئ، نقي، اختاره الله ليصبح مكان العهد بينه وبين الإنسان، شرط أن ينتصر الإنسان أولاً على روح الشر فيه. فالبرية مكان الشياطين والحيوانات الكريهة (كالبوم والضباع وبنات أوى) التي يرقصنَّ فيها كما يذكر أشعيا (أش 13: 21- 22). ويعلن حزقيال (6: 14)، فإن العقاب الأعظم لخطايا إسرائيل سيكون بجعل ارضهم خربة ومستوحشة من القفر حتى ربلة. كما تعلن المراثي تحقق تلك النبوة (18: 5): “… جبل صهيون مستوحش وبنات آوى تهيم به”. وفي يوم التكفير الرهيب، يُطرد التيس الذي وقعت القرعة عليه إلى الصحراء حيث يستولى عليه الشيطان عزازيل (أحبار 16: 10).

من خلال هذه النصوص، يتضح أن الصحراء أرضٌ محرومة من بركة الله، ولا ينعم الله عليها بأي نوع من الخصب. وتم تصويرها في بعض النصوص وكأنها مقر الشياطين: فذلك الذي كان اسمه “جوقة” لأن كثيراً من الشياطين كانوا قد دخلوا فيه (لو 8: 30)، كانت الشياطين تسوقه إلى البراراي (لو 8: 29). “وإذا خرج الروح النجس من إنسان هام في القفار يطلب الراحة” (لو 11: 24). وما ذهب يسوع إلى الصحراء، إلا لأن الروح اقتاده إليها، ليحارب هناك الشيطان في عقر داره (لو 4: 1).

البرية إذن مقر للشياطين، والأرض المحرومة من بركة الله، إذا أراد الإنسان اللجوء إليها عليه أولا التغلب على سكانها، إله الشر ومساعديه (حيواناته) المنتشرة، لكي يصل إلى السلام الداخلي. ستصيح الشياطين غاضبة في وجه انطونيوس المقيم في الصحراء: “ابتعد عنا! ما الذي أتي بك إلى الصحراء؟” كذلك سيصف كاسيانوس النساك بأنهم “هم الذين يدخلون دون خشية إلى القفار الواسعة لأنهم يريدون أن يحاربوا الشياطين مجابهة العين بالعين، هم يريدون أن يحولوا أرضاً ملعونة إلى أرض مباركة.

    • مكان البعث للخلود ولقاء الآلهة

المعنى الثاني للصحراء هو الثاني هو “خاست” khaset أي بلاد الجبل. ومازال المصريون حتى اليوم يطلقون عليها ذات اللفظ، وعندما يتوجهون إلى الصحراء يقولون “فلنصعد الجبل”، والذي يعني مثوى الأموات، وينتقل فيه الميت إلى الخلود الأبدي عن طريق البعث.  وتسجل لنا لوحات وادي الهودي، أسوان، عن وجود بعض المتعبدين المتوحدين للإلهة موط في تلك المناطق. ويسجل لنا الباحث صادق عيسى الكثير من الاستشهادات حول هجرة بعض القدماء عائلاتهم وزوجاتهم وأبنائهم ومملتكاتهم، إلى الصحراء طلبًا لعبادة الإلهة موط. تستمر فترة غربتهم أسابيع أو شهورًا ثم يعودن إلى عائلاتهم من جديد[12].

المعنى الثاني، نقيض للأول: هو المفهوم نفسه عن البرية الذي كان سائدًا في عقول وديانة المصريين قبل أن يعرفوا الكتب المقدسة. ففي صحراء طيبة انتشرت عبادة الإلهة أمونت أو موط زوجة أمون، التي يرمز لها بأنثى النسر، المحبة للصمت والهدوء. ولدينا صلوات مرفوعة لهذه الإلهة يمكن اعتبارها أول كتابات عن روحانية الصحراء في مصر القديمة. تظهر هذه الكتابات الصحراء مكان اللقاء المفضل بين الآلهة والبشر. هي مكان الخلوة المطلوبة للصلاة والتعبد للآلهة.

تحمل الكلمة دلالات معنى البرية كما ورد في الكتاب المقدس، فهي مكان اللقاء مع الآلهة، مكان للعبادة والخلوة والصمت. ففي العهد القديم تحمل البرية لشعب إسرائيل المعنى نفسه: المكان الذي يكشف الله ذاته لشعبه ويُظهر له عجائبه: المن والماء النابع من الصخرة والحية النُحاسية. فرغم التذمر الكثير والزلات وتكرار الزلات من قِبَل الشعب، فالله معه باستمرار في الغمامة وعمود النار. هو مكان الظهور الإلهي الذي نعم به الله على موسى وإيليا في جبل حوريب. فهما رجلا العهد القديم العظيمان اللذان سيكونان إلى جانبي الرب يسوع يوم التجلي، ممثلين أحدهما الشريعة والثاني الأنبياء، رجلان لقيا الله في الصحراء.

الصحراء مكان التجديد ولقاء الحب مع الله، ومكان الحوار التأملي، وهذه النظرة واضحة في سفر هوشع النبي. فالله يقتاد شعبه إلى الصحراء ليُكلمه: “لِذلِكَ سأفتِنُها وأجيءُ بِها إلى البرِّيَّةِ وأخاطِبُ قلبَها. وأتزَوَّجكِ إلى الأبدِ. أتزَوَّجكِ بِالصِّدقِ والعَدلِ والرَّأفَةِ والرَّحمةِ، أتزَوَّجكِ بِكُلِّ أمانةٍ، فتَعرِفينَ أنِّي أنا الرّبُّ” (هوشع 2: 16؛ 22). وتجري الأمور كما جرت يوم اللقاء في سيناء (هوشع 12: 10).

تعانقت مفاهيم الصحراء في الديانة المصرية القديمة مع لاهوت الصحراء في الكتاب المقدس. ساد مفهوم الصحراء كمسكن لإله الشر ست في مصر السفلى، منطقة الدلتا والإسكندرية، بسبب سيطرة عبادة الإله حورس في حين صورت ست، إله الظلام والشرور والفوضى، إلهًا للصحراء. عندما اعتنق المصريون القاطنون تلك البلاد المسيحية ظل مفهوم الصحراء كما هو، خاصة مع وجود مراجع له في الكتاب المقدس وتعبيرات إشعيا التي سبق الإشارة إليها.

أما في مصر العليا (الصعيد وبلاد النوبة) فقد عبدت ست كإله، لذا مفهوم الصحراء مكان للقاء الآلهة، بوابة العبور إلى الأبدية، موضع الخلوة والسكينة. عندما اعتنق المصريون سكان تلك المناطق المسيحية ظل مفهوم الصحراء كما هو، خاصة مع وجود المعنى ذاته في الكتاب المقدس، مثل: اعتزال يسوع في البرية مدة أربعين يومًا، واختلائه على فترات وحيدًا في البراري للصلاة والتفرغ للقاء الله.

هذا ما يفسر الفرق الواضح بين كتابات الآباء في مفهوم البرية. فآباء الإسكندرية: كليمنضوس وأوريجنوس وأثناسيوس الرسولي عبروا عن هذا المفهوم الأول بصورة واضحة. فالبرية مسكن للشيطان، أرضٌ محرومةٌ من بركة الله، على من يرغب في أن يسكنها مجابهة ساكن الصحراء، الشيطان، ومساعديه من الحيوانات الكريهة. عبر أوريجنوس بصورة روحية عن هذا الصراع، فوصف الحياة النسكية بمثابة اتحاد نسكي بين المسيح والنفس المؤمنة. يُعيد هذا الاتحاد الإنسان إلى حالة البرارة الكاملة التي كان عليها آدم قبل السقوط. حالة البرارة تلك تُعيد للإنسان حالته التي خُلق عليها وفيها يمارس سلطانه على الحيوانات جميعها.

لذا عندما نقرأ سيرة أنطونيوس الكبير التي كتبها القديس أثناسيوس الرسولي، الذي تأثر كثيرًا بفكر العلامة أورجينوس، نجد فكرة البرية تلك واضحة وضوحًا جليًا. يظهر أنطونيوس في كتاب أثناسيوس بطلاً مصارعًا قاهرًا للوحوش والأرواح الشريرة التي تتخذ الصحراء ملجًأ لها في إطار مسيرته نحو إلى القداسة. يظهر يومًا أسدًا أمام أنطونيوس الذي يُبادر الحيوانَ المفترس قائلا: “لماذا ترغب في إيذائي وأنا لم أشرع في إيذائك”. وعند نياحة الأنبا بولا، يساعد أسدان أنطونيوس في دفن القديس. الصراع ذاته مع قاطني البرية يظهر جليًا في كتابات كاسيانوس وروفينوس وبلاديوس والرهبان السبعة الذين زاروا تلك المناطق في الإسكندرية والإسقيط وكيليا.

أما كتابات باخوميوس وتلميذيه تواضروس وأورزيسوس، كذا كتابات شنودة، رئيس المتوحدين، لا نجد هذا الصراع مع الحيوانات والوحوش في البرية. لجأ النساك إلى الصحراء طلبًا إلى السكينة والهدوء ورغبة في التفرغ للصلاة والتأمل. هو المفهوم ذاته الذي ساد لدى القدماء. عندما أرادت السيرة أن تظهر صراع باخوميوس مع الشيطان، ظهر الأخير في صورة إنسان، رجلاً كان أم امرأة.

    • أسباب نشأة الرهبنة أولاً في الأراضي المصرية

كانت بذور الحياة النسكية إذن كامنة في العقلية المصرية قبل المسيحية، نمت وازدهرت وأثمرت عندما تعانق الفكر المصري القديم مع تعاليم الكتاب المقدس. فالبرية هي المكان الأكثر ملائمة من سائر الأمكنة للتفرغ للعبادة، هي مكان البعث والخلود، بوابة الأبدية التي يعبر من خلالها المؤمن إلى حياة جديدة. هي أيضًا مقر إله الشر. ولهذا من الصعب اختزال الرهبنة بالقول بأنها هروب من دنس العالم الوثني.

الرهبنة تيار روحي عميق رغب فيه الآلاف من الشباب في الاقتداء بالمسيح ونمط حياته الذي عاشه على الأرض، لكن تحركاتهم حُددت بالمعين الثقافي المصري القديم وما اعتاده أولئك الشباب من طرق وتقاليد للتعبير عن إيمانهم. وحتى اليوم هناك الموروثات الكثيرة التي اعتاد عليها المصريون منذ أجدادهم القدماء تسيطر على مظاهر العبادة والصلاة والتعبير عن الإيمان سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين.

أليس غريبًا أن أنطونيوس، بعد سماعه إنجيل الشاب الغني ورغبته في أن يصير كاملاً، يلجأ إلى مقبرة مهجورة ويقيم فيها فترة ليست قصيرة. يكشف هذا الموقف اتباع أنطونيوس لعادات أبائه: الرغبة في التفرغ للعبادة، فيلجأ إلى مكان يحمل معنى العبور إلى الأبدية، إلى مقبرة مهجورة. يفعل الأمر ذاته الشيخ بلامون، معلم باخوميوس، الذي كان يترك صومعته مرارًا، وينزوي في مقبرة، ليقضي ليلته في الصلاة. اتبع باخوميوس، أيضًا، العادات نفسها بعد عماده، فيلجأ إلى مقبرة مهجورة في صانسيت ويكرس وقته للعبادة والصلاة.

من خلال ما تقدم، يتضح أن سبب نشأة ظاهرة الرهبنة في الأراضي المصرية يرجع إلى أن إيمان المصريين بالمسيحية لم يُغير من عادات الممارسات التقوية التي اعتادها المصريون طوال تاريخهم.  ولعل السبب يرجع إلى كثرة نقاط التلاقي بين الديانة الجديدة وديانة المصريين القديمة. فلم تكنْ القيم الروحية والعقائد الأساسية غريبة عن المصريين، اللذين آمنوا بإله واحد خالق السماء والأرض، يظهر في ثالوث، تلده أمه بطريقة عجائبية. آمنوا بحياة أبدية تعقب هذه الحياة، واتبعوا قيمًا أخلاقية، تتشابه كثيرًا مع التعاليم المسيحية. فالتحول من الديانة المصرية القديمة إلى المسيحية لم يصحبه تغييرات جوهرية في مظاهر العبادة، فمارس المصري ما اعتاد عليه من طقوس وطرق تعبيرية عن الإيمان، كما كان يفعل قديما. توجه إلى الصحراء، كما اعتاد قديمًا، لأنها مكان لقاء الآلهة، ومحطة العبور إلى عالم الخلود. أراد بعض المصريين التفرغ للعبادة، فتوجهوا إلى مكان لقاء الآلهة، إلى البوابة التي من خلالها يعبرون إلى حياة أبدية، حياة الخلود.

[1] جوردان أومان، دليل إلى قراءة تاريخ الرُّوحانية المسيحية في التقليد الكاثوليكي، دار المشرق 2013، ص 51.

[2]  L. Luis, Désert et Communion, in «SOM», 26(1978), p. 3.

[3] M. RONCAGLIA, Histoire de l’Église copte, vol. III, Beyrouth 1973, pp. 111-114.

[4] E. WIPSZYCKA, La christianisation de l’Égypte aux IVe-VIe siècle. Aspects sociaux et ethniques, in: EADEM, Études sur le christianisme dans l’Égypte de l’antiquité tardive, in: SEA 52, Roma 1996, pp. 102-103.

[5] C. VAGAGGINI, Il senso teologico della liturgia, Milano 1965, pp. 277-284.

[6] L. Th. LEFORT., S. Pachomii vita bohairice scripta, in: CSCO 89, Louvain 1925 (versione latina in: CSCO 107, Louvain 1936); IDEM, S. Pachomii vitae sahidice scriptae, in: CSCO 99/100, Louvain 1933.

[7] D. G. MÜLLER, Benjamin I, 38. Patriarch von Alexandrien, in “Mus”, 60(1956), pp. 313-340; E. WIPSZYCKA, Le istituzioni ecclesiastiche in Egitto dalla fine del III all’inizio dell’VIII secolo, in: A. CAMPLANI, L’Egitto cristiano. Aspetti e problemi in età tardo-antica, in: SEA 56, Roma 1997.pp. 219-289.

[8] لويس لولوار (ت. جوزف هليط وسرحان بركات)، قفر وشركة، في: الروحانية الشرقية 4، بيروت 1997، ص 6.

[9] المرجع السابق، ص. 7.

[10] ست Seth: كان في الأساس “حامي رع” (حامي النور) والإله المحبوب في منطقة مصر العليا (المنطقة الممتدة من الصعيد وصولاً إلى النوبة)، في الوقت الذي فيه حوروس الإله الأكثر شعبية في مصر السفلى (منطقة الدلتا حتى المتوسط). في البدء عارض أتباع ست وسكّان مصر العليا توحيد وادي النيل في دولة واحدة، وحين نجحت مصر السفلى (وفيها أتباع أوزيريس وحوروس) في توحيد مصر، حوّلت صورة ست من إله قوي وإيجابي إلى إله شرّير ومظلم، وهذا يظهر بوضوح في أسطورة إيزيس وأوزيريس. بات سيت من بعدها إلهًا للصحراء، العواصف والأجانب، ثم إله الظلام والشرور والفوضى.

[11] : A. GUILLAUMONT, La conception du désert chez les moines d’Égypte, in: IDEM, Aux origines du monachisme chrétien, in: SO 30, Bellefontaine 1979, pp. 69-87.

[12] SADEK A., Du désert des Pharaons au désert des anachorètes, in «Le monde copte», 21-22(1993), pp. 5-13.

قد يعجبك ايضا
اترك رد