إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

هل حياة المكرسين طبيعية؟!

1٬186

“إنْ كُنتَ أنتَ هوَ، يا سيَّدُ، فَمُرْني أنْ أجيءَ إلَيكَ على الماءِ” (متى 14: 28).

“وراء كل دعوة قصة” من المؤكد إن يكون وراء كل راهب وراهبة قصة، حتى إن لم يتكلم عنها قط، وإلا، لا معنى لتكريسه. هناك قصة حب، دعوة وعلاقة مع من يدعو ويستمر في أن يدعو. فالدعوة ليست صدفة، بل هو هي اختيار من الله “لستم أَنتُّم اَختَرْتُموني، بل أنا اَختَرْتُكُم وأقَمْتُكُم لِتَذهبوا وتُثْمِروا ويَدومَ ثَمَرُكُم” (يوحنا 15: 16). هي دعوة للاكتشاف لتلك “الواحدة التي تنقص” للحياة الأبدية، كما طلب يسوع من الشاب الغني (لوقا 18: 22)، وعندما يكتشفها، كمريم أخت لعازر، لا أحد يمكنه أن ينتزعها منه.

هل حياة التكريس “طبيعية”؟!!

قبل الإجابة على هذه السؤال بالإيجاب أو النفي، دعونا نتأمل في شخصية بطرس الرسول كمكرس دعاه الرَّبّ وهو على شاطئ البحيرة، فترك كل شيء وتبعه.

يأتي حادث سير بطرس على الماء، كما يورده الإنجيلي متى، مباشرة بعد حدث جللّ، كان حديث الناس في تلك النواحي، معجزة تكسير الخبز للآلاف من البشر. ذُكرت المعجزة ست مرات في الأناجيل: مرتين في كل من إنجيلي مرقص ومتى ومرة في كل من إنجيلي لوقا ويوحنا. هذا العدد المضاعف يُشير إلى إن هذا الحدث قد ترك أثرًا لا ينمحي على الحضور، وبصورة خاصة على التلاميذ ومنهم بطرس. فالذي دعاه لرفقته هو ابن الله الحي ذاته، وقد برهن على صدق كلامه من خلال هذه المعجزة بالذات. صرف يسوع الجموع، وصعد إلى الجبل ليصلي منفردًا، لكن القارب ابتعد عن الشاطئ وطغت الأمواج عليه بفعل الريح. قبل الفجر، والظلام باق، جاء يسوع ماشيا على البحر، ارتعب التلاميذ بشدة. فقال لهم يسوع: “أنا هو لا تخافوا!” فقال له بطرس هذه الآية الغريبة والتي، من وجهة نظري، تعكس حقيقة التكريس: “إنْ كُنتَ أنتَ هوَ، يا سيَّدُ، فَمُرْني أنْ أجيءَ إلَيكَ على الماءِ” (متى 14: 28).

غريب أمر هذا الرجل، هو صياد محترف، يُجيد السباحة، ومن من المحتمل إنه في صغره كان يتسابق مع أقرانه على من يستطيع أن يصل إلى أبعد مدى في عمق البحيرة. كيف أعتقد الرجل إنه بإمكانه أن يمشي على الماء؟! هل فقد ذاكرته كصياد محترف، يعرف أكثر من غيره، غدر المياه العميقة؟ الإنسان الطبيعي يمكن أن يتغلب على الماء بأن يتعلم السباحة، لكن أن يمشي على الماء فهذا ضد طبيعته؟

ترى ما دار في مخيلة بطرس في هذا الوقت؟

هل تذكر ما حدث منذ ساعات أمام عينيه، حين رأى الآلاف تأكل من بعض الخبزات والسمك؟ هل آمن بأنه يتبع ابن الله الحي، هل وثق في شخصه إلى هذه الدرجة، بأن يسير على الماء ضد طبيعته. هذا هو التكريس في مجمله: فالحياة المدعو إليها المكرس هي حياة غير طبيعة تمامًا.

دعوة الإنسان الأساسية هي ما نجده في سفر التكوين: “انموا وأكثروا وإملاؤا الأرض”، هي دعوة للزواج، فليس جيدًا أن يكون آدم وحده. هناك فراغ نُخلق به، يظل موجودًا داخلنا، نشعر إننا وَّحدين، بالرغم من وجود الأسرة والأخوات والأصدقاء، لا يملء هذا الفراغ إلا آخر، من جنس آخر. يتوق كل منا للخروج من شرنقة ذاته للقاء هذا “الآخر” وعندما يجده يشعر بالامتلاء، والرضي. فكلام الله: “ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده” يتحقق عندما يتحدا في شركة واحدة ويصبحا الأثنين كائنًا كاملاً واحدًا. فهي دعوة الإنسان الأساسية التي خُلق من أجلها.

أما الدعوة المكَرّسة فهي دعوة ضد طبيعة الإنسان، هي دعوة خاصة يملء فيها شخص يسوع ذلك الفراغ الموجود في النفس البشرية. هي بمثابة المياه، يمكن للإنسان أن يسبح فيها بمهارة، لكنه لا يستطيع أن يمشي عليها وحده، يحتاج إلى أن يساعده يسوع بشخصه، الذي يناديه فيُسرع إليه الشخص المختار ممسكًا يديه مُتشبسًا بيده طوال مسيرة حياته الأرضية.

ما الذي دفع بطرس إلى السير على الماء ونسيان خبراته كصياد؟

نظر بطرس إلى الماضي القريب بإمتنان، نظر إلى ما حدث منذ ساعات، إلى إشباع الخمس آلاف بخبزات قليلة. تذكر بطرس دعوة يسوع له على شاطئ البحيرة. تذكر دعوته الأولى، إن يسوع اختاره، دون مئات الصيادين العاملين على شاطئ البحيرة، ليكون تلميذه، ووعده بأن يكون الصخر التي سيبني عليها كنيسته، بالرغم من عدم امتلاكه لامكانيات خاصة.

تدعونا رسالة البابا عند افتتاحه سنة الحياة المكرسة إلى هدف أول: النظر إلى الماضي بإمتنان. فلنتذكر وقت أن دعانا الله بروحه القدوس لإتباعه عن قرب. إن إعادة قراءة التاريخ الشخصي لا غنى عنها من أجل الحفاظ على هويتي كمكرس بصورة حية، على جذوة دعوتي ملتهبة. “المسألة ليست تنقيبًا أثريًا أو تنمية حنينٍ للماضي لا فائدةً منه، بل إعادة النظر … لنجني منها الشرارة الملهمة والمثاليات والمشاريع والقيم التي حركت هذه الأجيال، ابتداءً من المؤسسين أو المؤسسات والجماعات الأولى. إنها أيضًا طريقة لنعي كيف تم عيش الموهبة (الكاريزما) عبر التاريخ، وما هو الابداع الذي حرره هذا العيش، وما هي الصعوبات التي كان عليه أن يواجهها وكيف تخطاها”.

اتذكر صوت الله الذي ناداني ودعاني للسير على المياه، ضد طبيعتي الشخصية، أفرزني وسط جموع كثيرة لأحمل بشرى الخلاص لآخرين. تذكر فعال الله في حياتي ودعوته لي هي التي تعطيني دفعة وثقة في أن أُكمل الطريق، فقد سبق أن برهن الله لي على عنايته بي واختياره لي لأجل أن أكون صوته وحضوره وسط الناس. اعترف له بهشاشتي واعيش خبرة محبة الرب الرحيمة، وفرصة لنشهد بفرح لفعاله في حياتي.

لنتأمل في خطوة بطرس الأولى ماشيا على سطح الماء!

لا يمكن لنا أن نصف شعور بطرس وهو يخطو الخطوة الأولى على المياه! فعندما يمر الإنسان بخبرة جديدة يشعر بسعادة بالغة. لكن أن يمر الإنسان بخبرة فوق طبيعية، أن يختبر للحظة إنه غير بشرى، غير محدود، فهذا أمر لا يمكن وصفه. عاش بطرس اللحظة تمامًا، عاشها بشغف وفرح طفولي ورغبة عارمة في تجربة شيء لا يقوم به البشر.

خطوات بطرس الأولى كطفل يختبر شيئًا لأول مرة بسعادة وفرح هي حياتي الآن كمكرس الذي أختبر استخدام الله لي، بالرغم من ضعفي ومشكلاتي ومقاومتي.

أنت مُكَرّس تصنع الكثير لأجل الآخرين في مجال خدمتك، لكن ليس بقوتك الذاتية، هناك من يعمل فيك وفي الآخرين حتى تتم خدمتك ورسالتك وتُعطي ثمر. يتصور المكرسون أحيانًا إن بقوتهم، وحُسن استعدادهم يُقدمون شيئًا للآخرين، يساعدون في أن يصل الخلاص للناس، لكن الروح هو العامل في الجميع. يعطى الروح قوة للمكرس، لكنه يعمل أكثر في قلوب الناس ويبدلها فتقبل رسالة الخلاص، كما حدث مع بطرس على أعتاب الهيكل، فليس بقوته شُفى الكسيح، بل لأنه أخبره عن شخص المسيح، إعلن اسمه أمامه، وحمل سماع الاسم الشفاء للكسيح.

تدعونا رسالة البابا عند افتتاحه سنة الحياة المكرسة إلى هدف ثان: النظر إلى الحاضر بشغف. نحن مدعون كمكرسين إلى عيش الحاضر بشغف، بفرح طفولي، أن نختبر بالرغم من ضعفنا، ومشكلاتنا، اختارنا الله لنكون صورته في العالم، مسيح أخر. فلنختبر في ذواتنا هذا الشغف والفرح في أن يستخدمنا الله للكرازة بكلمته، لشفاء المرضي، لأعطاء خبز للجوعى، لتعود روعة الحياة للناس. شغف أن نصنع المعجزات ونغير في حياة الأشخاص، ليس بقوتنا الذاتية، بل باسم يسوع وعمل روحه القدوس الذي يُجدد كل شيء. هل لدينا الشغف نفسه الذي كان لدي الرسل الإثنين وسبعين عند عودتهم: ورجَعَ الاثنانِ والسَّبعونَ رَسولاً فَرِحينَ وقالوا ليَسوعَ: «يا رَبُّ، حتى الشَّياطينُ تَخضَعُ لنا باَسمِكَ» (لو 10: 17).

يقول البابا فرنسيس في رسالته: ” هل لدينا الشغف نفسه تجاه مَن نعمل لأجلهم، وهل نحن قريبون منهم لدرجة أنّنا نشاركهم أفراحهم وآلامهم، كي نفهم حقًّا حاجاتهم، ونتمكّن من تقديم مساهمتنا لتلبيتها؟ (…) عيشوا صوفية اللقاء: القدرة على السماع والإصغاء للآخرين والتفتيش معا عن الطريق”.

لكنَّهُ خافَ عِندَما رأى الرَّيحَ شديدةً فأخَذَ يَغرَقُ، فَصرَخ: “نَجَّني، يا سيَّدُ!” فمَدَّ يَسوعُ يدَهُ في الحالِ وأمسكَهُ!

هل خاف بطرس من الرياح الشديدة وهو الصياد المتمرس على مواجهة حالات الطقس الصعبة؟ أم خوف بطرس عندما اكتشف إنه لن يمكنه الاستمرار  سائرًا على المياه لأنها ضد طبيعته؟ أو شعر إنه للحظة يسير بقوته على الماء. خطورة أن يملك الإنسان أختياره ويشعر إنه مستحق لاختيار الله له، كما حدث مع شعب اسرائيل، فلم يعد بركة للآخرين.

أمام الصعوبات التي لاقاها بطرس، في حالته الجديدة، لم يعد له إلا الرجاء، الذي هو ثمرة الإيمان الذي يظل يكرّر لنا: “لا تخف … لأني معك” (إرميا 1: 8)؛ “تَشجَّعوا. أنا هوَ، لا تخافوا!”. إنّ الرجاء الذي نتكلّم عليه لا يتأسّس على منطق أو إلى مهارة بطرس، ولا على أعماله، بل على الذي وضعنا ثقتنا به (را. 2 طيم 1: 12)، ولأجله «ما من شيءٍ مستحيل» (لو 1: 37). هنا نجد الرجاء الذي لا يخيب، والذي يسمح للمكرس في يكتب تاريخ عظيم، عندما يُثبت أنظاره نحو يسوع، واثقًا بأن الروح القدس، يدفعه نحوه ليظلّ يعمل معه أشياء عظيمة.

ستهدأ الرياح، ستختفي الصعوبات، سنعيش الحياة التي تبدو غير طبيعية لكثيرين، بفرح، يملء قلوبنا ويجعلنا دومًا سعداء. الوجه الحزين يعبر عن مكرس لا يضع ثقته في يسوع، يحاول أن يعيش الحياة المكرسة، الغير طبيعية، بمجهوده الخاص، فيفشل ويُحبط ويصاب بخيبة أمل كبيرة، تَّظهر في حياته. المكرس مدعو إلى أن يعيش فرحا تامًا، أن يختبر بفرح ما وراء الصعوبات، مثل معلمه الذي جاء ليُعطي الإنسان فرح الحياة، بالرغم من الصعوبات والألم.

قبول المستقبل برجاء هو الهدف الثالث لسنة الحياة المكرسة. والذي يدعو فيها البابا المكرسين إلى الرجاء: ” إنّ الرجاء الذي نتكلّم عليه لا يتأسّس على أرقامٍ ولا على أعمال، بل على الذي وضعنا ثقتنا به (را. 2 طيم 1: 12)، ولأجله «ما من شيءٍ مستحيل» (لو 1: 37). هنا نجد الرجاء الذي لا يخيب، والذي يسمح للحياة المكرّسة بأن تستمرّ في المستقبل بكتابة تاريخٍ عظيم، الذي ينبغي لنا أن نثبّت أنظارنا نحوه، واثقين بأنّ الروح القدس يدفعنا نحوه ليظلّ يعمل معنا أشياء عظيمة”.

ماذا ننتظر من المكرسين؟

– «حيث الرهبان هناك الفرح». أن نكون مدعوّين لنختبر ونبيّن أنّ الله قادر على ملء قلوبنا وجعلنا سعداء، من دون الحاجة إلى التفتيش في مكانٍ آخر عن سعادتنا؛ وأن تغذّي الأخوّة الصادقة التي نعيشها في جماعاتنا فرحنا؛ وأن يساهم تفانينا الكامل  في خدمة الكنيسة والعائلات والشبيبة والمسنّين والفقراء في تحقيق ذواتنا كأشخاص، ويمنح حياتنا الملء.

ألاّ تُرى بيننا وجوه حزينة، وأشخاص مستائون وغير راضين، لأنّ «الوجه الحزين له نتائج محزنة». ونحن أيضًا لدينا صعوبات، مثل جميع الرجال والنساء: ليالي الروح، خيبات أمل، أمراض، انهيار القوى بسبب الشيخوخة. فعلينا أن نجد في هذا بالضبط «فرحًا تامًّا»، ونتعلّم كيف نتعرّف إلى وجه المسيح الذي صار شبيهًا بنا في كلّ شيء، وبالتالي نختبر فرح معرفة أنّنا نشبهه، وهو الذي لم يرفض تحمّل الصليب حبًّا لنا».

– ينتظر البابا أن يوقظ المكرسين العالم، فسمة الحياة المكرسة هي النبوءة. أن نكون أنبياء نشهد كيف عاش يسوع على الأرض، أن لا يلبي سيدًا آخر غير الله، أن نقف بجانب الفقراء والعُزل لأن الله نفسه إلى جانبهم. أن نصبح خميرة مجتمع مستوحي من الإنجيل. نتعرض لتجارب الهروب والانسحاب من مهمة النبي، كإيليا ويونان، لكن النبي يعرف أنه ليس وحده فيها. ولنا أيضًا كما لإرميا يقول الرب بتأكيد: “لا تخف .. لأني معك لأدافع عنك” (ار 1: 8).

– أن يكونوا خبراء شراكة فلا يسمحوا لسلوكيات لا يحق لها أن تقيم في أديرتهم: كالانتقادات، الثرثرة، الحسد، الغيرة، الصراعات. علينا العمل على تنمية روح الشركة داخل الجماعات أولا ثم في الجماعة الكنيسة وما يتخطي حدودها.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.