إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

خميس العهد 2022

0 496

صورة القلب المقدس ليسوع التي تزين هذه الكنيسة هي أجمل صورة يمكن أن تراها. هناك قلب محاط بالشوك، دامي من أثار انغراس الشوك في عضلة القلب  تحمله يد يسوع وهو ينظر بحب لا يمكن وصفه للشخص الذي يشاهد الصورة.

نحتفل اليوم أخوتي بأحداث كثيرة متتابعة تبدأ بغسيل يسوع لأرجل تلاميذه، ثم عشاء الفِصح مع التلاميذ وتأسيسه لسر القربان وحديثه مع التلاميذ وهو يترك لهم وصته الوحيدة: “أحبوا بعضكم بعض كما أنا أحببتكم”، ثم صلاة يسوع في بستان الزيتون إلى خيانة يهوذا وانكار بطرس،. كل هذه الأحداث هي في تلك الصورة، يده يسوع تمد إلى كل إنسان وهي تحمل قلبه الدامي. قدم يسوع كل شيء لنا، أعطانا كل ما يستطيع أن يقدمه للدلالة على محبته لنا:

قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى.

كان يعلم أن هي ساعته قد جاءت، بدأ يرى الصليب تتضح معالمه في الأفق، بدأ يظهر واضحاً، ثقيلاً، رهيباً… بدأ يشعر أن ساعة الوداع حانت، وبدأ ينظر إلى من أحبهم .. أحبهم كثيراً، يقول الإنجيل، ولا يريد أن يفارقهم. يريد أن يغمض عينيه في عالم آخر، لا وداع فيه ولا صليب ولا ألم …. يريد لهذه الجلسة أن تطول وتمتد بعد الزمن كي لا يفارق أحباءه وكي لا يلتقي بالعذاب والصليب والموت.

  1. فكر يسوع ماذا يعمل لمن أحبهم … أول ما يفعله هو الصلاة… يسوع يصلي من أجل أحبائه صلاة طويلة، جميلة يظهر فيها عاطفته جياشة متدفقة … ” يا أبت، أحفظ الذين وهبتهم لي، ليكونوا واحداً كما نحن واحد” ،” قدسهم، قدسهم في الحق، إن كلامك حق” . حفظت الذين وهبتهم لي، أحببتهم كما أحببتني” صلاة فيها نبرة من يفارق الحياة، ويوصي الموجودين بالمحافظة على أعز ما يملك…
  2. وكأن المسيح لم يشفِ غليله بهذه الصلاة، أراد أن يعبر تعبيراً ثانياً عن محبته التي تفوق الوصف، قام بمرأى من تلاميذه وغسل أرجلهم واحداً واحداً وعيونهم تنظر إلى ما يعمل بدهشة واستغراب، لم ينطق منهم إلا بطرس حاول الاعتراض فأسكته المسيح ثم قال لهم أرأيتم ما فعلت بكم، أنا المعلم والرب هكذا ليفعل بعضكم لبعض، ليكن كبيركم خادماً لكم. قال يسوع هذا وهو يفكر كم مرة اختلف الرسل فيما بينهم على من هو الأكبر في ملكوت السموات.

لكن هل أراد الرب يسوع أن يعلم التلاميذ التواضع فقط فقام وغسل أقدامهم؟ فمنذ آ 7، نرى أن يسوع أراد أن يعطي أكثر من أمثولة في التواضع يستطيع تلاميذه أن يفهموها. فقد أراد أكثر من ذلك، وهذا ما لا يُفهم إلا بعد أن تحلّ “الساعة” (رج 2: 22؛ 12: 16). قد يكون بطرس رأى عمق تواضع يسوع وحبه. ولكن آ 7 تشدّد على المعنى الأخير لغسل الأرجل: “ستفهم فيما بعد”.

وتشير آ 8 إلى معنى أعمق: فغسل الأرجل هو من الأهمية بحيث إن التلميذ الذي يرفضه يخسر الميراث مع يسوع. يتحدّث النصّ لا عن روح الغسل بل عن ضرورة الغسل في ذاته. فيسوع لا يقول لبطرس: “إن كنت لا تسمح بأن تُغسل” (هذا يعني مشاركة بطرس). بل يقول: “إن كنت لا أغسلك”. هذا يتضمّن عملاً خلاصياً من قِبَل يسوع، لا مثلاً يُحتذى به. يشير الغسل هنا إلى العماد لأن الرب يسوع يقول “إن كنت لا أغسلك فلن يكون لك ميراث معي”. ولهذا يغسل المسيح أرجل تلاميذهم، بما فيهم يهوذا الأسخريوطي الذي أسلمه، ليدل على نعمة العماد المتاحة للجميع، لكن يحتاج الإنسان في مسيرته في الحياة إلى غسل قدميه بصورة مستمرة، أي إلى التوبة والندامة وماء الدموع المطهرة ليطهر ذاته، ولهذا يرفض طلب بطرس في أن يغسل يديه ورأسه أيضا: “الذي قد أغتسل ليس له حاجة إلا غسل رجليه، بل هو طاهر كله، ولكن ليس كلكم” إشارة إلى يهوذا.

  • ومرة أخرى، لم يكتفِ المسيح بما فعل… محبته لم تعبِّر عن كل غناها….. فهو لا يريد أن يفارقهم بينما تقتضي مشيئة الأب أن يتركهم ويحمل الصليب، ولكي يبقى معهم حتى أثناء الصليب، وبعد الصليب، أخذ خبزاً وأعطاهم وقال خذوا هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم….. خذوا فأشربوا هذا هو دمي الذي يراق من أجلكم… معجزة المعجزات، الإله يصبح غذاء للبشر.. الإله يصبح خبزاً يؤكل… أصبح الله مادة تؤكل، ليصير الإنسان المادة إله. 

ما هو الخبز؟ شيء يفقد خاصيته تمامًا فيصير أنت، يُهضم تمامًا ليصير أنزيمات تغذي كل عضلة وعضو في الجسد عن طريق الدم. فالطعام يصبح أنت “الآكل”. لا يوجد شيء في الحياة يُصبح نحن مثل الطعام. فالملابس هي ملكك والمنزل الذي تعيش فيه هو ملكك، لكنه يبقي دائمًا شيء منفصل عنك، لكن الطعام يفقد هويته تمامًا ليُصبح نحن، يُصبح جسدك وقوتك، يصبح حياتك.

الله هو المأكل الحقيقي للإنسان، نعتقد إن الإنسان ضعيف جدًا، الله يطلب منه مجموعة من الالتزامات الأخلاقية وفروض الطاعة. لكن الحقيقة إنه هو الذي يرغب في أن يعطي ذاته للإنسان. يتوسل إليك يسوع: أنا الخبز الحقيقي والمشرب الحقيقي، كُلّني.  أتوسل إليك أن تأكلني، أتوسل إليك أن تغير فكرتك عني، فأنا لا أريد شيء منك، أنا أرغب في أن أكون معك، قوتك، حركتك، طاقاتك، أكون حياتك.

هكذا اكتفى المسيح … عندئذ، جمع قواه وقال قوموا ننطلق وذهبوا إلى بستان الزيتون ليبدأ مسلسل الآلام وقبل الآلام … ليبدأ مسلسل الخيانة.

وكأني بالمسيح، بعد أن افرغ جعبته من المحبة ملأها ثانية بخيانة البشر، ومَن مِن البشر … أعز الناس … بطرس

بعد أن هرب في بستان الزيتون، تبع المسيح من بعيد إلى دار رئيس الكهنة حيث دخل يسوع ليحاكَم.. رأته جارية (خادمة) تفرست فيه وقالت: أنت منهم! خاف.. أنكر .. قال: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!»

ماذا كان يعني بطرس للمسيح .. الخليفة.. الرأس…. الهامة… الأمل في قيادة الكنيسة .. “أنت الصفا .. أبواب الجحيم لن تقوى عليها” … من الممكن أن تكون صادقًا يا بطرس.. فأنت حتى الآن لم تعرفه، لم تُدرك محبته.. نلوم بطرس لكن هل نعرفه نحن اليوم؟ هل ندرك عمق محبته لنا، هل نترك أنفسنا لنُحب. هناك شرط نلاحظه في الأناجيل “َهُوَ السَّاكِنُ فِي نُورٍ لَا يُدنَى مِنْهُ. لَمْ يَرَهُ أوْ يَقْدِرْ أنْ يَرَاهُ بَشَرٌ”. داخل العلية كان هناك النور الحقيقي الذي أتي إلى العالم. خارج العلية كان هناك ظلام، ألم يقل يوحنا أن يهوذا خرج في الظلام؟ فلنترك الظلام لندخل إلى النور. قبل أن ندخل يجب أن نفحص ضمائرنا، فلم يؤسس المسيح سر الإفخارستيا، إلا بعد أن أخرج يهوذا الاسخريوطي خارجًا: ” أَنتُم أَيضاً أَطهار، ولكِن لا كُلُّكم” (يوحنا 13: 10).

يسوع المسيح لم يحب الرسل أكثر مما أحبنا .. أحب رسله ولم يتركهم ونحن لم يتركنا.. أنا معكم قال لنا، كل الأيام إلى انتهاء الدهر .. صلى من أجل الرسل وصلى من أجلنا أيضاً… قال بالحرف الواحد … ” لا أدعو لهم بل لجميع الذين سيؤمنون بي على يدهم .. نحن أعطاهم جسده مأكلاً مرة واحدة وأعطانا جسده مئات المرات نفس المحبة. .. نفس المحبة وللأسف نفس الخيانة .. نفس الضعف … نفس الجبن…

قد يعجبك ايضا
اترك رد