إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

حَبَّة الخَردَل

0 957

بِماذا أُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله؟ مَثَلُه كَمَثَلِ حَبَّةِ خَردَلٍ.. مَثَلُهُ كَمَثَلِ خَميرَةٍ (لوقا 13: 18- 21)

بالرغم من لجوء المسيح إلى الأمثال والتشبيهات لشرح ملكوت الله وتقريبه إلى أذهاننا إلا إن المفهوم مازال غامضًا وملتبسًا بالنسبة لكثيرين. ما هو الملكوت؟ وماذا نتوقع أن يحدث عندما نصلي “ليأتِ ملكوتك” في صلاة الأبانا؟

منذ سنوات كنتُ أَعدُّ مؤتمرًا للشباب عن الآخرويات (الملكوت، المطهر، والجحيم) واحترت كثيرًا في تقديم التعليم للشباب بصورة تتناسب مع تطلعاتهم. وبعد تفكير طويل وصلاة حارة قررت أن أعرض لهم فيلم Pay it Forward “إسداء الخدمات”. يلخص الفيلم قصة مراهق صغير قررَ أن يساعد ثلاثة أشخاص مساعدة فعلية في أشياء لا يمكنهم فعلها لأنفسهم، على أن يقوم هؤلاء برد فعل الخير لثلاثة أشخاص آخرين فيكون المجموع تسع مستفدين من عمل الخير، وهكذا ينتشر فعل الخير لأن كل شخص يقوم “بإسداء الخدمة” لثلاثة أشخاص آخرين. تغيرت البلدة بالكامل في وقت قصير.

تعبر هذه القصة للكاتبة كاثرين ريان هايد أصدق تعبير عن الملكوت الذي دشنه يسوع المسيح بتجسده. لقد كانت الكرازة بالملكوت هي صُلب تعاليمه: “«كان يسوع يطوف… يكرز ببشارة الملكوت» (مت 9: 35). كما أن الدعوة إلى الملكوت كانت هي محور تعاليمه التي جعلها هي رسالة تلاميذه أيضاً: «وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت 10: 7).

الملكوت ببساطة هو سيادة الله وهيمنته على العالم والبشر، أن تصير حقائق الله: محبته وعدله وسلامه واقعًا في حياة البشر. فالملكوت هو محور حياة وكرازة يسوع التي دشنها في بداية حياته العلنية عندما تبنى نبؤة أشعيا: “روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَرء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ” (أشعيا 61: 1- 2)، وطبقها بأن غَّير العالم من حوله وأرسى المحبة والعدل والسلام الذي نادى به الأنبياء، إشعيا وإرميا وغيرهما كعنوان لمجئ ملكوت الله وعلاماته بنهاية الحروب والمجاعات ونهاية العداوة ما بين البشر وبقية الخليفة.

الملكوت إذن ليس مكافأة لنهاية حياتنا وخدمتنا على الأرض! ليس مكافأة لإلتزامتنا الدينية والروحية. ليس مكافأة “شخصية” للمثابرة والصبر تكون بخلاصنا نحن وحدنا كمؤمنين ملتزمين مواظبين على فروض الإيمان. إذا فكرنا في “خلاصنا” الشخصي جعلنا ملكوت الله عقيمًا وغير مثمرًا.

“ملكوت الله في داخلكم” (لوقا 7: 20) هو حاضر الآن بقوة في الإنسان بفعل عماده، يشبه حبة الخردل في صغر حجمها، لكن متى نمت أصبحت شجرة كبيرة مثمرة. من يعمل على إنماء حبة الخردل تلك يشهد إن المسيح ليس مجرد شخص تاريخي ظهر منذ ألفي عام مضت، شخصية من الماضي يحفظ بعض تعاليمه، بل يشهد إنه حي ويُكملَ رسالته في العالم اليوم. هو عنوان لحضور يسوع ويعلن كلامه ويقوم بأفعاله اليوم وسط الآخرين. يزرع الخير وينادي بالسلام ويعيش المحبة، حتى للأعداء، كما صنع يسوع. يكون حضوره مثل الخميرة المختفية في العجين، وبالرغم من ضآلتها، قادرة على تخمير العجين كله. فالعمل البسيط والمتواضع الذي تصنعه اليوم لخير الناس، لأجل أن تصل محبة الله للآخرين، لأجل أن يسود الله على العالم هو استكمال للملكوت الذي دشنه يسوع بمجيئه على الأرض يجد كماله في الحياة الأبدية، حيث إنه هو الملكوت الذي بدأ ولن ينتهي إلى الأبد. مجيء الرب إلى قلوبنا وتملُّكه عليها لن ينتهي كما قال الملاك للعذراء مريم: «لا يكون لمُلْكه نهاية» (لو 1: 33)، إلاَّ لو ابتعد الإنسان بإرادته واختياره لأنه قال: «ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20).

إذا أردت الملكوت فلا تبحث عن نفسك ولا حتى خلاصك، عليك أن تموت عن نفسك ليحيا يسوع فيك ويُكمل عمله ورسالته. هكذا لخص بولس القضية: “قد صُلِبتُ مع المسيح. فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ (غلاطية 2: 19- 20).

قد يعجبك ايضا
اترك رد