إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

التأثير الاجتماعي والثقافي على القيم الروحية

0 927

بقي الاستشهاد هو نموذج الكمال المسيحي حتى نهاية عصر الإضطهاد، والذين يبرهن به الشخص على تسمكه بإيمانه بإستعداده على تحمل الآلام وتقدمه الذات طواعية، على مثال المسيح، ليشترك معه في مجده. شعلة الحماسة هذه، التي دفعت الكثيرين إلى الإقبال على الاستشهاد للبرهنة على إيمانهم، تأثرت كثيرًا بالسلام الذي عّم المسكونة في عهد الإمبراطور قسطنطين. حدث نوع من التراخي في عموم المسيحين، خاصة الشباب، بعد أختفاء نموذج الكمال المسيحي المعروف الذي سار على دربه الكثيرين بدءً من تلاميذ المسيح، حتى أخر الشهداء. إنتهى عصر أبطال الإيمان، ولم يعد هناك شيء يُثير حماسة الشباب.

تزامن ظهور الرهبنة في مصر مع فترة السلام الذي شمل المسكونة كلها دفعت الكثيرين إلى الإعتقاد بأن النساك هو الورثة الحقيقيين للشهداء. فالكمال المسيحي يتطلب أن يترك الإنسان ما لديه في العالم ويتبع المسيح. أنطونيوس وباخوميوس وألوف من الشباب، تركوا العالم، وهربوا إلى البراري، وتفرغوا للعبادة. هنا يجب أن نتسائل عن الأسباب الحقيقية وراء تنامي تلك الظاهرة؟ هل هناك علاقة سببية وارتباط بين ظاهرة الرهبنة وسلام قسطنطين؟

للإجابة على هذه الأسئلة لأبد من التعرض إلى المحيط الاجتماعي والثقافي التي نشأت فيه ظاهرة الرهبنة، لأن القول بأن إنتهاء عصر الاستشهاد هو المحرك الأساسي وراء لجوء الكثيرين إلى البرية كنوع من الموت عن الذات، وهجر ملذات العالم في سبيل ربح الملكوت هو أمر لا يخلو من سطحية في التفكير. من الصعب الاقتناع بهجرة الآلاف من الشباب وتركهم لممتلكاتهم وذويهم، والانعزال في البراري تفرغًا للصلاة والتعبد دون أن يكون هناك أساسًا في العقل الجمعي المصري القديم يبرر هذا التصرف. وإلا لماذا لم تظهر هذه الموجة من الهجرة الجماعية نحو الأماكن المنعزلة في بلدان العالم المسيحي القديم، وظهرت فقط في مصر؟

بداية نلاحظ إنتشار المسيحية في مصر بصورة أسرع من مناطق العالم القديم، لم يجد المبشرون صعوبات تذكر، إلا في مدينة الإسكندرية ذات الطابع الهليني. ولعل السبب في ذلك هي كثرة نقاط التلاقي بين الديانة الجديدة وديانة المصريون القديمة. فالقيم الروحية والعقائد الأساسية لم تكن غريبة عن المصريين، اللذين أمنوا بإله واحد خالق السماء والأرض، يظهر في ثالوث، تلده أمه بطريقة عجائبية. أمانوا بحياة أبدية تعقب هذه الحياة، واتبعوا قيم أخلاقية، تتشابه كثيرًا مع التعاليم المسيحية. ونظرًا لتشعب هذا الموضوع سنركز فقط على معنى البرية في إيمان القدماء المصريين والذي يفسر إلى حد بعيد لماذا لجأ المصريون وحدهم إلى البرية للصلاة والتعبد.

معنى البرية في الديانة المصرية القديمة
تسبب فيلون الإسكندري في لبس دام طويلاً بإعتباره أن البرية هي مكان قاحل تسيطر عليه الأرواح الشريرة التي بنبغي الصراع معها والانتصار عليها للوصول إلى حالة السكينة والسلام الداخلي. استمد فيلون شرحه للكلمة أستنادًا على نصوص التوراه والثقافة الهيلينية المنتشرة وقتئذ في مدينة الإسكندرية. في البرية تكلم الله إلى شعبه وأرتبط معه بعهد وقاده عبر مسيرة طويلة حافلة بالمخاطر. قاد الأنبياء كأرميا وإيليا فكرة الحنين إلى البرية التي فيها تكلم الله مع شعبه وأظهر ذاته كإله وحيد قادر على خلاص شعبه. عبر فيلون في كتاباته على أن الصحراء هي مكان هادئ، نقي، أختاره الله ليصبح مكانًا لعهد بينه وبين الإنسان شرط أن ينتصر الإنسان على روح الشر التي تملئه. كان لفيلون تأثيرًا كبيرا على القديس كليمنضوس الإسكندري وعلى العلامة أورجينوس، فكلاهما تبنيا فكرته عن البرية وعلى ضرورة اللجوء إلى الصحراء كمكان بعيد عن إضرابات العالم، حتى يصل الإنسان إلى السلام الداخلي.

عندما نقرأ سيرة أنطونيوس الكبير التي كتبها القديس أثناسيوس الرسولي، ذو الثقافة الهيلينية، نجد فكرة البرية تلك واضحة وضوحًا جليًا. صنع أثناسيوس من أنطونيوس، بطلاً مصارعًا قاهرًا للوحوش والأرواح الشريرة التي تتخذ من الصحراء ملجًا لها حتى يصل إلى القداسة. وأتبع معظم الباحثين عن جذور الحياة الرهبانية واسباب نشأتها ذات تفسير فيلون للبرية فهي: مكان ممتلئ بالوحوش والأرواح الشريرة ينبغي صراعها للوصول إلى حالة السكينة والهدوء، وعدوا أن أهم أسباب نشأة الرهبنة هي رغبة الكثيرين الإقتداء بالمسيح الذي أنزوي في البرية مُجربًا من أبليس، قبل بدء رسالته العلنية.

إذا كان الامر كذلك في مدينة الإسكندرية ذات الثقافة الهيلينية، فأن صعيد مصر كان بعيدًا عن تأثير تلك الثقافة. احتفظ المصريون في منطقة الصعيد بثقافتهم ولغتهم المصرية القديمة، حتى عندما أمنوا بالمسيحية، أخترعوا اللغة القبطية، وهي لغتهم الدارجة التي أعتادوا عليها منذ قرون، اللغة المصرية القديمة، وقاموا بكتابتها مستخدمين أحرف اللغة اليونانية، بعد أضافة عدة حروف جديدة لتتناسب مع لغتهم الأم. لم يصل التأثير الهيليني إلى صعيد مصر ولذا احتفظ قاطنى تلك البلاد بمعنى مغاير تماما للبرية يكشف إلى حد كبير عن سبب لجوء أولئك الشباب إلى الصحراء طالبين الخلوة والتفرغ للعبادة. فالبرية تعني مكان لعبادة الإلهة، وهي البوابة التي تقود إلى الخلود والأبدية.

كان للبرية معنيان عند المصريون القدماء
الأول: khaset بمعنى بلاد الجبل. ومازال المصريون حتى اليوم يطلقون عليها ذات اللفظ، وعندما يتوجهون إلى الصحراء يقول “صاعدين الجبل”. وتحمل الكلمة دلالات معنى الجبل كما ورد في الكتاب المقدس، فهو مكان اللقاء مع الآلهة، مكان للعبادة والخلوة والصمت. إنتشرت في صحراء طيبة عبادة الإلهة أمونت أو موط زوجة أمون التي يرمز لها بأنثى النسر، المحبة للصمت والهدوء. ولدينا صلوات مرفوعة لهذه الإلهه يمكن أعتبارها أول كتابات عن روحانية الصحراء في مصر القديمة. المعنى الثاني: Semyt والذي يعنى مثوى الأموات، والذي ينتقل فيه الميت إلى الخلود الأبدي عن طريقة البعث. وتسجل لنا لوحات وادي الهودي، أسوان، عن وجود بعض المتعبدين المتوحدين للألهة موط في تلك المناطق. ويسجل لنا الباحث صادق عيسى الكثير من الإستشهادات حول هجرة بعض القدماء لعائلاتهم ولزوجاتهم ولأبنائهم ولمملتكاتهم، إلى الصحراء طالبًا لبعادة الألهة موط. تستمر فترة غربتهم أسابيعًا أو شهورًا ثم يعودا إلى عائلاتهم من جديد.

فالثقافة المصرية القديم لم تعرف المعنى الكتابي- الهيليني للبرية، بإعتبارها مكان موحش، ممتلء بالأرواح الشرير التي يلزم الإنتصار عليها للوصول لمرحلة السكينة. البرية هي على العكس، مكان مفضل للصلاة والتعبد للألهة. هو بوابة الأبدية ومكان البعث للخلود. عندما أعتنق المصريون المسيحية، مارس البعض، ما أعتاد عليه، بأن يصعد إلى البرية ليتفرغ للعبادة والصلاة وأن يكرس وقته وحياته لله. بذور الحياة النسكية التي كانت كامنة في العقلية المصرية قبل المسيحية، نمت وإزدهرت وأثمرت عندما تعانق الفكر المصري القديم مع تعاليم الكتاب المقدس. فالبرية هي المكان الأكثر ملائمة من سائر الأمكنة للتفرغ للعبادة، فهو مكان البعث والخلود، بوابة الأبدية التي يعبر من خلالها المؤمن إلى حياة جديدة. ولهذا من الصعب إختزال الرهبنة بالقول بأنها هروب من تدنس العالم الوثني. هي تيار روحي عميق رغب فيه الآلاف من الشباب في الإقتداء بالمسيح ونمط حياته الذي عاشه على الأرض، لكن حُدد تحركهم بالمعين الثقافي المصري القديم وما أعتاده أولئك الشباب من طرق وتقاليد للتعبير عن إيمانهم. لهذا نجد أنطونيوس عندما أراد أن يصبح كاملا، بعد سماعه لإنجيل الشاب الغني، لجأ إلى أقرب مقبرة مهجورة وأقام فيها لفترة ليست بالقصيرة. أتبع أنطونيوس عادات أبائه عند الرغبة في التفرغ للعبادة، ولجأ إلى مكان يحمل معنى العبور إلى الأبدية، إلى مقبرة مهجورة. الشيخ بلامون، معلم باخوميوس، الذي كان يترك صومعته مرارًا، وينزوي في مقبرة، ليقضي ليلته في الصلاة. أتبع باخوميوس نفس العادات بعد عماده، لجأ إلى مقبرة مهجورة في صانسيت وكرس وقته للعبادة والصلاة.

إذا كانت البرية هي المكان الأفضل للعبادة، فكيف نفسر إذن الصراع المستمر مع الأرواح الشريرة الذي تمتلئ به سير آباء الصحراء المصريين؟ نرى أن سير القديسين تأثرت كثيرًا بفكر العلامة أورجينوس الذي كان يرى ان الحياة النسكية هي اتحاد نسكي بين المسيح والنفس المؤمنة. يُعيد هذا الاتحاد الإنسان إلى حالة البرارة الكاملة التي كان عليها آدم قبل السقوط. حالة البرارة تلك تُعيد للإنسان حالته التي خُلق عليها والتي فيها يمارس سلطانه على الحيوانات جميعها. ولهذا نجد أثناسيوس، الذي تأثر كثيرًا بفكر أورجينوس، يبرز سيطرة أنطونيوس على الوحوش المنتشرة في البرية، وعندما يظهر اسد أمامه يبادر أنطونيوس الحيوان المفترس قائلا: “لماذا ترغب في إذاتئ وأنا لم أشرع في أيذائك”. وعند نياحة آبا بولا، يساعد أسدين أنطونيوس في دفن القديس. هكذا تمتلء سير آباء الصحراء بالقدرة على السيطرة على الحيوانات المفترسة للتعبير عن وصولهم لحالة البرارة الكاملة التي كان عليها آدم قبل السقوط. عندما نقرأ سيرة القديس باخوميوس، خاصة المخطوطات الأقدم المكتوبة باللهجة الصعيدية، لا نجد مثل هذه الأحداث التي يسيطر فيها باخوميوس على الحيوانات المفترسة. هناك صراع مع أبليس الذي يظهر له دائما في صورة إنسان، رجلًا كان أم امرأة.

إتباع يسوع
أوضح J. M. Lozano أن الأساس اللاهوتي لإتباع المسيح، أضحى بعد السلام القسطنيطيني نموذجا للكمال المسيحي لكل المؤمنين المسيحيين. فالمسيحي هو تابع للمسيح ويستمد هويته من إتباعه. ويترجم الإتباع هذا في مظاهر العبادة له، في إيمانه بشخص المسيح، وفي محبته له وفي عمله بوصاياه. فالحياة المسيحية هي إذن، وفقا لتعاليم الأناجيل، هو لشيء أخر سوى إتباع المسيح. الحياة النسكية أو الرهبانية هي وسيلة لتحقيق هذه الدعوة العامة التي يشترك فيها كل المسيحيين، ولكنها تتم بطريقة فريدة.

سبق الإشارة إلى أنه في القرون الأولى كان الشهادة لأجل المسيح هي نموذج الكمال الأسمى للإنسان المسيحي. فالشهيد هو شخص يتبع المسيح ويقتدي به كليا، ويشاركه في مصيره على الصليب، أي بتقدمة ذاته لأجل إعلان إيمانه به. حل السلام ربوع المسكونة مع معاهدة الملك قسطنيطين فخبأت جذوة الإيمان المشتعلة التي كانت تدفع الآلاف للتصدي للملوك والجيوش الجرارة، غير عابئين بالموت، في سبيل إعلان إيمانهم وإتباعهم لشخص المسيح. قدم أثناسيوس حياة راهب يسكن البراري بعيدًا عن صخب المدينة، كنموذجًا جديدًا للكمال المسيحي. حلت سير أولئك النساك بديلا عن سير الشهداء التي كانت تقرأ في اللتورجيا بصورة متواترة لتذكير وتحفيز المستمعين بصور الكمال المسيحي. أصبح النساك نموذجًا يُقدم في الكنائس للكمال المسيحي، نموذجًا في متناول الجميع. كل مسيحي هو تابع للمسيح ورسولا له وسط أخوته ومجتمعه.

بعض المؤرخين رأوا في السيرة الذاتية لكل من أنطونيوس وباخوميوس قوانينً للحياة النسكية والرهبانية قُدما في صورة قصصية، أي شكل من أشكال ادب السيرة. إلا أنه يجب التنويه إلا كل من أنطونيوس أو باخوميوس لم يسعى ليقدمًا روحانية مختلفة عن الروحانية العامة لكل المسيحين، ولا أن يقدما طريقا أفضل لإتباع المسيح من طريق كل المعمدين بأسمه. تقدم السير الذاتية لآباء الصحراء المصريين نماذجًا للكمال المسيحي، لا يغنى ولا يقصى النموذج الذي قدمه الرب ذاته لكل المعمدين باسمه. ولهذا لا تكف تلك السير على تذكيرا لهذه الحقيقة، فعندما يتفاخر راهب ويظن إنه أفضل من قاطنى العالم، لتفرغه التام للعبادة والصلاة، في حين ينشغل الناس بمشكلات الحياة اليومية، يُرسل الرب نفسه ملاكًا ليصحح للراهب أفكاره، ويكشف له أن البعض في العالم أكثر قداسة منه. العظيم أنطونيوس لم ينجو من هذه التجربة، فقد تفاخر يوما بدعوته فكشف له الرب أن هناك طبيبا، متزوجا ويعول أطفاله تقدم في القداسة أكثر منه . وذات الحدث تمتلء به سير آباء الصحراء المصريين .

إتباع المسيح هو دعوة كل إنسان مسيحي، هو الدعوة المسيحية ذاتها. هدف الرهبان من ذكر النصوص الإناجيلية الخاصة بإتباع المسيح وتطبيقها على حياتهم النسكية هو إعلانهم بأنها قانون لحياتهم الخاصة، وطريقتهم المتفردة في عيش دعوة كل إنسان مسيحي. سير القديسين تهدف لبيان نموذج فريد في إتباع المسيح يقتضي التفرغ الكامل لعبادته، في صلاة متواصلة، في تخلي كامل عن المقتنيات، في تجرد وإتضاع.

أساس إتباع المسيح لا يكمن إذن في نصوص مقدسة، بل في إتباع شخص يسوع المسيح التاريخي والإقتداء بنمط حياته الذي أعتنقه في حياته الأرضية. الحياة النسكية والرهبانية لم تنشأ بالتأمل في نصوص الإنجيل، حتى لو أستند عليها آباء البرية لتدليل على أختيارهم لهذه الحياة. الأساس والمبدأ هو شخص يسوع المسيح التاريخي وطريقته في العيش وسط الناس. حياة الشركة الباخومية هي وسيلة لإتباع المسيح، كما علم باخوميوس تلاميذه: “إننا قد لبسنا المسيح البار وصديق البشر. قد وعدنا الله أن سنلك في الطهارة ونذرنا أيضًا حياة النسك فيجب علينا أن نسلك في الصوم والصلاة الدائمة وطهارة الجسد والقلب” . الحياة الرهبانية كما يتضخ من تعليم باخوميس هو الإقتداء بالمسيح ونمط حياته على الأرض.

قد يعجبك ايضا
اترك رد