إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الصوم الأربعيني 2014

0 1٬015

بداية الصوم هو ممارسة تقوية ينقطع فيها الإنسان عن تناول الطعام لفترة زمنية. محددة بهدف تغير الحياة والعودة إلى الله. هو عنوان للاهتداء الداخلي، عودة وإهتداء إلى الله من كل القلب (تعليم الكنيسة الكاثوليكية ١٤٣١). لا يقتصر الصوم على الامتناع عن الطعام، بل يعني الامتناع إرداياً عن الرغبة في الطعام وغيرها من الخيرات المادية لأجل التفرغ إلى أمور أكثر سموا، التفرغ إلى الله وعبادته.

ونطلق على الفترة التي تسبق أسبوع الآلام ب”الصوم الأربعيني” أي”صوم الأربعين يوماً”، في إشارة إلى زمن له إطار روحي خاص ومحدد في الكتاب المقدس، فرقم الأربعين هو العدد الرمزي الذي يمثّل من خلاله العهدان القديم والجديد أبرز التجارب الإيمانية التي عاشها شعب الله. إنّه يرمز إلى وقت الانتظار والتطهير والعودة إلى الرب، وإدراكنا بأنّ الله أمين لوعوده. تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرقم لا يمثل وقتاً زمنياً دقيقاً يضبطه مجموع عدد الأيام، بل إنّه بشير إلى المثابرة والتجربة الطويلة؛ إنّه زمن يكفي لمعاينة أعمال الله، زمن بجب أن نقرر فيه تحمّل مسؤولياتنا من دون تأجيلها: إنّه زمن القرارات الناضجة.

العدد ٤٠ يظهر أولاً في قصة نوح. فبسبب الفيضان، يمضي نوح البار أربعين يوماً وأربعين ليلة في السفينة، مع جميع أفراد عائلته وجميع الحيوانات التي أمره الرب باصطحابها معه. وهو ينتظر أربعين يوماً آخر قبل أن يطأ اليابسة التي نجت من الفيضان. (تك ٧، ٤-١٢؛ ٨، ٦).

هو ذات الزمن الذي قضاه موسى على جبل سيناء بحضور الرب، أربعين يوماً وأربعين ليلة لاستقبال الشريعة. وخلال هذا الوقت، صام موسى (خر ٢٤، ١٨). وكان أربعين عدد السنوات التي سافر فيها العبرانيون من مصر إلى أرض الميعاد، وهو وقت تجربة وُضع فيها الشعب لاختبار أمانته لله، وثقته فيه واعتماده الكلي عليه. قال موسى في سفر التثنية، مع نهاية سنوات الهجرة الأربعين: “واذكر كل الطريق التي سيرك فيها الرب إلهك في البرية هذه السنين الأربعين، ليذللك ويمتحنك فيعرف ما في قلبك هل تحفظ وصاياه أم لا… ثوبك لم يبل عليك، ورجلك لم تتورم في هذه السنين الأربعين” (تث ٨، ٢-٤).

هو زمن سنوات السلم التي نَّعم بها بنو إسرائيل في عهد القضاة، كانوا أربعين (قض ٣، ١١-٣٠). ولكن بعد هذه الحقبة، بدأ زمن نسيان عطايا الله والعودة إلى الخطيئة. كذلك لزم النبي إيليا أربعين يوماً للوصول إلى حوريب، الجبل الذي عليه التقى بالله (١ مل ١٩، ٨).

أربعون هو عدد الأيام التي كفّر فيها أهل نينوى عن ذنوبهم لنيل المغفرة من الله (تك ٣، ٤). وهو عدد سنوات حكم شاول (أع ١٣، ٢١) وداوود (١ صم ٥، ٤- ٥) وسليمان (١ مل ١١، ٤١)، أوّل ثلاثة ملوك لإسرائيل.

وفي العهد الجديد، وقبل أن يباشر يسوع حياته العامة، ابتعد إلى البرية لأربعين يوماً من دون طعام ولا شراب (مت ٤، ٢)، وقد تغذى من كلمة اله التي يستخدمها سلاحاً لقهر الشرير. تُذكّر التجارب التي مرّ بها يسوع بتجارب العبرانيين في الصحراء، ولكنّ هؤلاء لم يستطيعوا التغلب عليها. أربعون هو عدد الأيام التي علّم يسوع في خلالها خاصّته، قبل أن يصعد إلى السماء ويرسل الروح القدس ( أع ١، ٣).

وهذا التكرار للرقم ٤٠ يمكّننا من تحديد السياق لروحي الذي لا يزال سارياً، والذي تقوم الكنيسة ومن خلال زمن الصوم الأربعيني بالتحديد، بضمان استمرارية قيمته وتحديث فاعليته بالنسبة إلينا. وتهدف ليتورجيا الصوم المسيحية إلى تعزيز مسار التجديد الروحي على ضوء هذا الاختبار الإنجيلي، كما تهدف إلى تعليمنا أنّ نقتدي بالمسيح الذي، حين أمضى أربعين يوماً في البرية، علّمنا كيف نتغلّب على التجربة متسلحين بكلمة الله.

من خلال الصوم يكتشف الإنسان إنه كائن جائع، محدود، في حاجة إلى الله. بدون الجوع، لن نكتشف جوعنا إلى الله، جوع الجسد أساسيا لكل رؤية روحية. لا نصوم كي نجوع، الجوع هو عنصر من عناصر الصوم، فالصوم ليس غاية.

من خلال المعدة الخاوية يكتشف الإنسان حاجته إلى الله الخالق، إلى قدرة الله المانحة الخير للإنسان. أن أمتلاء البطن ينسينا الله، والشبع يحجب عن عيوننا محدوديتنا وضعفنا. الشبع يُشعرنا بالاكتفاء وعدم الحاجة إلى آخر، إلى الله.

وخبرتنا المسيحية تعلمنا ان الناس يتحمسون الى الله في ضيقهم، وكربتهم، لا في افراحهم ومسراتهم. من هذا، يكون الصوم، الذي هو احدى الوسائل الروحية لتنقية القلب، صدمة وحجر عثرة عليها تتهشم راحتنا وكسلنا. الصوم يكسر رتابتنا وكسلنا ولذاتنا وارتخاء نفوسنا. انه صدمة تكسر إيقاع نشاطنا المسترخي. من هذا أيضا يكون الصوم مدخلا الى فهم انفسنا بقيادة الروح.

لا يمكن أن تنطلق النفس إذا تقاعس الجسد. لقد كشفت العلوم المعاصرة ان الانسان سيكوسوماتيكي، أي ان كل ما فيه يؤثر على كل ما فيه. الجسد يتأثر بالروح، ولا تنطلق الروح دون مشاركة الجسد. ترى ماذا نقول الآن عن الطعام في الصوم؟

ليس الصوم المسيحي مجرد تغيير في نوعية الطعام وحسب، ولا هو مجرد تعديل في برامج الأكل أو ما اعتاده الإنسان من وجبات غذائية وحسب، ولا هو اقلاع عن النتاج الحيواني للإقبال على منتجات الارض من خضروات وفاكهة وحسب. قد لا تكون صائما اذا اقتصر صومك على النظام النباتي البحت. هذه كلها وسائل. لأن الصوم الحقيقي هو التفرغ الكامل لله، التعرف عليه والإمتلاء من روحه القدوس. هو ضبط لنزوات الانسان الداخلي بكل شهواته وغرائزه واهوائه. الصوم الحقيقي هو حنين النفس الى فردوسها المفقود، إلى يسوع الرب.

ليس الهدف هو انقطاع عن اللحم، ليس الانقطاع عن اللحم عقيدة. وبولس الرسول يقول صراحة: “اذا كان اكل اللحم يشكك اخي، فلن آكل لحما الى الأبد”. فإذا كان الانقطاع عن اللحم عقيدة، فان النظام النباتي عقيدة. واذا كان النظام النباتي عقيدة، صارت العودة الى اللحم بعد انتهاء الصوم، خطيئة وضلال.

الصوم هو التسلح بقوة الله لهزيمة نزعة الشر داخلنا، فقوة الصوم قادرة على إيقاف سيطرة الشر علينا وإشباع شهوات آدم القديم، وفتح الطريق إلى الله في قلبك (رسالة البابا بندكتوس السادس عشر في الصوم الكبير ٢٠٠٩).

قد يعجبك ايضا
اترك رد