رياضة روحية 5 إله المال
“وتَكَلَّمَ اللهُ بِهذا الكَلامِ كُلِّه قائلاً: «أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذي أَخَرجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة. لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي. لا تَصنَعْ لَكَ مَنْحوتاً ولا صورةَ شَيءٍ مِمَّا في السَّماءِ مِن فَوقُ، ولا مِمَّا في الأَرضِ من أَسفَلُ، ولا مِمَّا في المِياهِ مِن تَحتِ الأَرض. لا تَسجُدْ لَها ولا تَعبُدْها، لإِنِّي أَنا الَرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيور”
اللقاء الخامس:
يجمع عجل الذهب ثلات رموز هامة وواضحة. ففي الثقافات القديمة كان الثور رمزا للخصوبة وللقوة الجسدية في حين يرمز الذهب للمال. بعد الحديث عن إله الجنس الذي يسيطر على تفكير الكثيرين، نُخصص لقاء اليوم عن إله له سطوة واضحة على الناس وهو المال. ما هو موقفنا من المال والغنى. كيف ننظر إلى مسائل الفقر؟ وما هو دوري ككاهن في المستقبل القريب نحو تلك المسائل؟ خاصة مع التوجه الملحوظ للبابا فرنسيس نحو الفقراء وأفكاره المعادية لسلطة المال هي بذلك تحدّ للكهنوت المسيحي المعاصر والمرتبط بصورة أو بأخرى بإله المال.
يسوع والفقراء
الغنى في العهد القديم بشكل عام هو بركة إلهية. والخيراتُ هي هبةٌ إلهية لطالما ارتبطت بالغنى الإلهي. لا بل لطالما انتظر الشعبُ آنذاك من الرضى الإلهي خيراته وهباته الأرضية. “طوبى للرجل الذي يتّقي الرب ويهوى وصاياهُ جداً. تكون ذريته في الأرض مُقتَدِرةً… يكون المال والغنى في بيته” (مز ١١١/١-٣). إن ثباتَ أيوب بعد تجربته جلَب له غِنى مضاعفاً، فالله يُغني أحباءه كإبراهيم، واسحق، ويعقوب. والغنى هو عنوان الشرف وهو بركات السماء. لذلك يبقى الفقرُ عثرةً، فالغنى يحرر من العوز الصعب، ومن العبودية ويمثل خزياً وفشلاً.
حمل العهد الجديد تغييراً جذرياً فقد فحالة الترقب التي يحياها المسيحي في انتظار سيده تجعل من له أملاك كمن ليس له. يقول بولس الرسول في رسالته الأولى للكورنثيين(١كو٧: ٢٩-٣٢): “أقولُ لكُم، أيُّها الإخوةُ، إنَّ الزَّمانَ يَقصُرُ. فلْيكُنِ الذينَ لهُم نِساءٌ كأنَّ لا نِساءَ لهُم، والذينَ يَبكونَ كأنَّهُم لا يَبكونَ، والذينَ يَفرَحونَ كأنَّهُم لا يَفرَحونَ، والذينَ يَشتَرونَ كأنَّهُم لا يَملِكونَ، والذينَ يَتعاطَوْنَ أُمورَ هذا العالَمِ كأنَّهُم لا يَتعاطَوْنَ، لأنَّ صورَةَ هذا العالَمِ في زَوالٍ”.
إن حلول ملكوت الله بين الناس هو الكنز الذي لا يقدر بثمن، ويستحق أن نضحي بكل شيء من أجله(مت ١٣: ٤٤)، وهو يلغي أهمية الخيرات الأرضية. إن الرسالة الجديدة لا تسمح بالاهتمام بما هو أرضي إلى حدود هذا الدهر. والرسل لم يكونوا بحاجة إلى مذود ولا لأي شيء في الطريق، عندما أرسلهم الرب أولاً،(مر ٦: ٨). ورغبة يسوع بالتخلص من هموم المادة وواجبات الضرائب للتفرغ للبشارة واضحة حين دفع الضريبة( مت ٢٢: ١٥- ٢٢).
ليس المشكلة إذن في المال، فكل شيء خير في المفهوم المسيحي، بل في الإنشغال به على حساب ملكوت السماوات. في مَثل الغني ولعازر يَدينُ يسوع الغني ليس لغناه، بل لقساوة قلبه ولِلا إنسانيته ولعدم تحنُّنه. فالغنى لا يقتضي وجود الجشع. الغنى عندما يحمل لحامله الهموم والأتعاب والترفع، إلى مثل هؤلاء المترفين توجهت ويلات الإنجيل.
للتخلص من إله المال
هناك شرطين أساسين للتخلص من هذا الإله المسيطر على عقول الكثيرين. الشرط الأول هو الحرية الداخلية تجاه المال. أما الشرط الثاني فهو المحبة
١. الحرية الداخلية تجاه المال
عندما يصبح ملكوت الله هو الكنز الحقيقي،واللؤلؤة التي باع مَنْ وجدها كل شيء ليشتريها، عندئذ الغنى الحقيقي هو الافتقار بالروح، لأنه بحسب التطويبة الأولى في إنجيل متى، الفقراء بالروح هم ورثة الملكوت: “طوبى للفقراء إلى الروح فإن لهم ملكوت السماوات”.
الفقير بالروح هو الذي يزهد بحريته بالأشياء الكثيرة ليهتم “بالواحد الذي الحاجة إليه”. الفقير بالروح هو الذي يشعر أن الله مُتكلُه، ويجعل كنزه في السماء: “حيث هو كنزك هناك يكون قلبك” (متى٦: ٢١)، حيث يستقر قلبه أيضاً. هذا هو الغنى الحقيقي: الفقر بالروح أي حبُّ السماويات، هو استحواذ ملكوت الله على الإنسان. من هذا المنظار إن مقياس الغنى أو الفقر هو مقدار تحررنا من شهوة المال أو عبوديتنا لها. فالمسألة ترتبط بالموقف الروحي الداخلي. هكذا الفقير بالروح (التطويبة الأولى) والغني بالله (مثل الغني الجاهل) يتطابقان.
إن خدعة المال هي أن تجعلنا “أغنياء فنستغني” عن الله ونغدو أفقر الناس “أنا أعرِفُ أعمالَكَ، وأعرِفُ أنَّكَ لا بارِدٌ ولا حارًّ، ولَيتَكَ كُنتَ باردًا أو حارُا! سأتَقيَّؤُكَ مِنْ فَمي لأنَّكَ فاتِرٌ، لا حارًّ ولا بارِدٌ. تَقولُ: أنا غَنِيًّ وأنا اَغتَنَيتُ فما أحتاجُ إلى شيءٍ. ولكِنَّكَ لا تَعرِفُ كَمْ أنتَ بائِسٌ مِسكينِ فَقيرٌ، عُريان وأعمى (رؤ ٣: ١٤- ١٧). الغني الحقيقي هو من يفتقر في طلب الرب ورحمته. إن مقدار الفقر لا يحدده مقدار المال، وإنما إلحاحُ الحاجة. الغني الساعي وراء المزيد، هو بسبب الحاجة فقير، والفقير المكتفي هو مستغني بالقناعة. هذا الفقير بالروح، كما يقول بولس الرسول، يبدو معوزاً وهو يُغني العالم فهو قد لا يملك شيئاً أرضياً ولكنه غنيّ بكل تعزية: “مَحزونينَ ونَحنُ دائِمًا فرِحونَ، فُقراءَ ونُغني كثيرًا مِنَ الناسِ، لا شيءَ عِندَنا ونَحنُ نَملِكُ كُلَ شيءٍ” (٢كور ٦: ١٠).
٢. المحبة
في تفسيره لمثل قاضي الظلم (لو ١٦: ١- ١٣)، يُشدَّد الذهبي الفم في تفسيره قول المسيح “اصنعوا لكم صدقات بمال الظلم”، على أن المسيح لا يطلب عمل رحمة من أموال مسروقة مثلاً. فهو بالطبع لا يفرح بأن نظلم الأول لنصادق الآخر، كما يعتقد بعض الناس ويفسرون هذه الآية. المسيح لا يرضى أبداً بأن نعرّي الأول لنكسو الثاني. مالُ الظلم هو المال الذي أجعله ملكي بينما الحق أنه ملك غيري. مال الظلم بالتالي هو كل ملكية يعتقد الإنسان أنه سيّدها بينما هو يسلبها من مالكها الوحيد، الله. كل مدبّرٍ مؤتمن، وكيل، على إدارة هذا المال حين يُحوَّل نفسه إلى مالكٍ له يُصبح عندئذ سيداً على مال ظلم. وبالتالي يقول المسيح أننا بالحقيقة نصنع صدقاتنا من ماله هو، وليس من مالٍ لنا.
لقد وهب الله الخيرات الحرة للجميع وقدم الخيرات الاقتصادية إلى الناس، وهي ملكه، ليُحسنوا توزيعها. حُسنُ التوزيع هذا يساعد على المحبة والنمو الأخلاقي. الملك الشخصي، الحقيقي، هو ما يبقى للإنسان. البشر يتناقلون الغنى ويتركونه. يرثون الخيرات ليورثوها بدورهم. حقيقة الموت تجعل الإنسان عبداً ووكيلاً، صالحاً أو سيئاً. الأمر الوحيد الذي يمكننا أن نملكه هو الفضيلة والصالحات الروحية. الخيرات المادية هي بمثابة “الوديعة” و “الوكالة”. إذن توزيع الخيرات الاقتصادية هو الذي سيفصل الجِداء إلى اليسار عن قطيع اليمين. المحبة، الشرط الثاني لفهم موقف الإنجيل، هي حكمة العبد الأمين. العبد الأمين هو الذي يعرف أن مدينته الباقية ليست الحالية، وأنه مؤتمن وحسب على الخيرات الأرضية.
للتخلص من سيطرة المال على حياتنا يلزم أن نعى إن الغنى الحقيقي هو الفقر بالروح، هو الاستغناء عن شهوة المال لنغتني بالله، خالق كل شيء، إنه استبدال الكنوز الذهبية الحالية في عالمنا بالكنز الحقيقي في ملكوت السماوات. فالمسألة تتعلق بالعمق بشهوة المال والتجرُد عنها، تلك الشهوة التي تسلُّطها على الإنسان يحرفه عن غاية حياته والتحرر منها يجعله سيِّداً على كل شيء. فالشاب الغنى فقد كل شيء لأنه نفسه تعلقت بالمال، سيطرت عليه شهوة المال فترك المسيح حزيناً.
تحمل لنا الابثجماتا باتروم قصة شاب كان يريد أن يصبح راهباً, وكثيراً ما ترك منزله ليذهب إلى الدير، لكنه في كل مرة، يعود إلى بيته، لشدة تعلقه بالثروات الوافرة التي كان يملكها. أخيرا لما أراد الذهاب من جديد، والشياطين تفعل كل شيء لتستبقيه وإذ شعر بتغلبها عليه، اتخذ قراراً حاسما: لقد نزع كل ملابسه، ومضى عارياً إلى الدير. في هذه الاثناء، نبه الرب رئيس الدير، قائلاً: “انهض مسرعاً، واستقبل رجلي المصارع”. نهض الشيخ، وخرج لملاقاته، ولما سمع قصة الأخ، تعجب، ثم ألبسه الثوب الرهباني… ومنذ ذلك الوقت كان الشيخ عندما يأتي احدهم ليسأله عن الزهد في الحياة النسكية يقول: “إسأل هذا الأخ، فهو يرشدك ويكون لك مثالاً في طريقة هجر العالم”.
المسيحيّ يحيا في فقر، لأنه جائع إلى الخبز السماوي فقط، ولو كان وسط كنوز الدنيا. المسيحيّة تجد في الخيرات والغنى هباتٍ إلهية، لهذا يمكن للكنيسة أن تكون غنية!! يجب أن تحظى الكنيسة على الكثير من المال، وأن تضاعف الوزنات. ولكن المؤمن (الكاهن) يحيا في وسطها فقيراً بالروح، لأن الكنز هو اكتساب الروح الذي لا تحققه الرفاهيات وإنما الطريق الضيقة المؤدية إلى الحياة. المال بالنهاية “أداة” و “وكالة” كلما زادت كلما أعطت فرصاً أكبر للخدمة. لذلك المال مطلوب لأن الحاجات البشرية كبيرة. الخادم والمدبر يحب التواضع ويكتفي بالحاجة، يصلي للرب كل يوم أن يهبه “الخبز الكفاف” (صلاة أبانا الذي…). المؤتمن على خيرات كبيرة له المسؤولية في تحسينها وتوزيعها، لذلك كما يقول باسيليوس الكبير، غنى هو ليس ما يُجمع ولكن ما يبدّد، والثوب الثاني الذي في خزانتك ليس لكَ. الخيرات هي الوزنات، التي جَمْعُها يعني طمرَها. الذهبي الفم يمثل المال بالمن الذي وهبه الله للعبرانيين في البرية. الذي من جشعهم حين جمعوا منه المزيد تعفن. المال حين يُجمع يفقد غايته. المال هو إذن للخدمات.
المال أداة للكمال المسيحي
إن الرؤيا المسيحيّة لاستخدام المال تنطلق من أبعاد أنثروبولوجية، حيث المال، هو الأداة القوية، لتحقيق غاية الإنسان وكماله، على المستوى الشخصي أولاً وعلى المستوى الجماعي ثانياً. وهنا لا بد من الإشارة إلى الميزة الأساسية والمنطلق الثاني في المفهوم المسيحيّ لاستخدام المال، هو مركزية المسيح. كما هو في كل مسألة الكمال المسيحيّ.
يرى المؤمن في الآخر المسيح المحتاج “كنت جعاناً فأطعمتموني” والرب وحَّد ذاته بالضعفاء. المال لدى المؤمن هو أداة للحاجة الشخصية أولاً ولكنه على الأكثر هو واسطة للكرازة بالرب يسوع. المالكُ هو الرب يسوع ونحن وكلاء حكماء أو ظالمين. المال بعد الحاجة الشخصية يدخل في إطار الاستخدام الذي تحدده المفاهيم الكنسية (اكليزيولوجيا). فالمحبة المسيحيّة مثلاً لا توصي بالإحسان وبالصدقة من مفهوم إنساني اجتماعي، بل تمارس المشاركة الأخوية من مفهوم كنسي أي أننا أعضاء جسدٍ واحدٍ جسدَ الرب يسوع. كلمة “صدقة” كلمة ليست مسيحيّة. فنحن لا نعطي مما نملك ولا نُحسن إلى أحد، بل نحن توزع ما استودعناه ونُحسن إدارة ما أُوتمنا عليه. لأننا وكلاء على مال الرب يسوع ومال أعضاء جسده. لكل واحد أعطي وزنات لكنه لا يملكها وحقه فيها هو تجارتها.
في المزمور المسياني (٢١)، الذي يتنبأ عن لحظات يسوع الأخيرة في آلامه فيصف أحداث الصليب: البصاق واللطمات والاقتراع على ثيابه. ويسوع لفظ على الصليب بين كلماته الأخيرة بدايته “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”. نهاية هذا المزمور هي آية نردِّدُها قبل طعامنا كل مساء ونقول: “سيَأكُلُ المَساكينُ ويشبَعونَ ويُهَلِّلُ لِلرّبِّ طالِبوهُ. فتحيا قلوبُهُم إلى الأبدِ” (آية ٢٦). هذا هو الحلم المسياني وهذه رسالة الخلاص التي كان الكتاب ينتظرها من يسوع أن يرفع عن الضعفاء وهنَ الأمراض وقساوة العيش والبؤس والفقر، وذلك ليشبعوا فينصرفوا إلى تسبحة الرب وخدمته وبهذه الخدمة يحيا القلب. المعدة الجائعة لا يصاحبها فكر مُتقبل للكلمة. المحبة لا تبشّر الجائع قبل أن تطعمه.
عبارة يسوع “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” تفسيرها أية المزمور السابقة. الخبز ضروري ولكنه ليس الغاية. المال أداة والغاية هي المحبة. والمحبة تبدِّد بدون حدود. إن إنساناً يملك المحبة ويحب الإبداع هو الأحوج إلى المال والأحقُ به.
أفكار للتأمل:
١. ما هو تقييمك لسيطرة إله المال عليك؟ هل تصف نفسك بأنك تمتلك حرية تجاه المال؟
٢. ما هو استخدامك في الأشياء البسيطة التي تملكها؟ هل تملك المال، أم أنت وكيل عنه؟
٣. ما هي الخطوات التي تراها ضرورية لتدريب نفسك على الغنى الحقيقي: اكتساب الحرية تجاه المال واستخدامه لخير الآخرين.
نصوص للتأمل:
لو ١٦: ١- ١٣
لو ١٦: ١٩- ٣١
رؤ: ٣: ١٤- ٢٢