إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

زمن الانتصار على الخوف

0 947

لِكُلِّ أَمرٍ أَوان ولكُلِّ غَرَض تَحتَ السَّماءَ وَقْت الفصول الأربعة للحياة الروحية- فصل الخريف (زمن الانتصار على الخوف)

اللقاء السادس: زمن الانتصار على الخوف
يأتي الخريف بعد فصل الصيف مباشرة… توقفنا طويلا أمام زمن الصيف، زمن الإهتداء والتخلص من الآلهة التي نعبدها دون الله. في فترة غياب موسى صنع الشعب عجلا ذهبياً مسبوكاً من ذهب. يقول الكتاب: “فبكَّروا في الصَّباحِ وأصعَدوا مُحرقاتٍ وقدَّموا ذبائِحَ سلامَةٍ وجلسوا يأكلُونَ ويشرَبونَ، ثمَ قاموا يمرَحونَ”. جلسوا يأكلون ويشربون، ويفرحون ويرقصون… لماذا؟ لأن الآلهة الكاذبة تعطي هذ النوع من السعادة الزائفة. فالبعض يتصور أن سعادته في الوصول إلى مراكز مرموقة، لأن يمتلك سلطة على الآخرين، ولأجل إشباع شهوة السلطة هذه فإنه يطأ الآخرين بقدمه. البعض الآخر يجد سعادته في الجنس، وآخرين في إكتناز الأموال، فهي تحقق كل شيء، في سبيلها يتقاتل الناس.

يبدأ خريف الحياة الروحية بمشاعر الخوف التي تمتلك الإنسان عندما يتخذ قراره بأن يعيش لأجل خدمة الملكوت، لأجل الله فقط، ولكن لا يثق بالدرجة الكافية في الله. عاش آدم بهذا الخوف بعد أن عصى الله، فهو مازال في حضرة الله ولكنه اختار أن يثق بالحية وحواء أكثر من الله: “سَمِعتُ صوتَكَ في الجنَّةِ، فَخفتُ ولأنِّي عُريانٌ اَختَبأتُ” (تك ٣: ١٠).

شعرا بطرس والتلاميذ بهذا الخوف بالرغم من تواجد المسيح معهم في السفينة. فبعد معجزة تكسير الخبز ركب المسيح والتلاميذ في السفينة، فهبت عاصفة شديدة في البحر وكادوا يغرقون، وكان يسوع نائما. وقبل أن يقوم يسوع بتهدئة الريح قال لتلاميذه: “فأجابَهُم يَسوعُ: “ما لكُمْ خائِفينَ، يا قليلي الإيمانِ؟ (مر ٤: ٤٠). ينشأ هذا الخوف من الشعور الذي يتملك الإنسان بأنه لن ينجح في أن يُساير الله، لن تنجح علاقته معه. يشعر بخوف أمام مخططه له، هكذا شعر المسيح في البستان أمام مخطط الله له: “وبَدأَ يشعُرُ بالرَّهبَةِ والكآبَةِ. فقالَ لهُم: نَفسي حَزينةِ حتى الموتِ (مر ١٤: ٣٣). لكنه انتصر على الخوف بتسليم إرادته كليا لله: “ولكِنْ لا كما أنا أُريدُ، بَلْ كما أنتَ تُريدُ”.

يؤمن البعض تحت وطأة الخوف من الموت أو الألم أو الوحدة، لكن الإيمان الحقيقي هو ثقة بإمور لا ترى، ثقة كاملة في الله. لنا مثالٌ في القديس يوسف الذي شعر بهذا الخوف… خوف من المستقبل الغامض مع فتاة حبلى بطفل لا يعرفه، خوف من كلام الناس ونظرتهم له. تغير الموقف تماما بعد كلام الملاك: “لا تخف يا يوسف” (مت ١/ ١٩). وثق يوسف بكلام الله (الملاك) ولم يعر إهتماماً بكلام الناس، ولا بمستقبل غامض لا يعرف عنه شيء.

خطورة هذا المشاعر في إنها تمنع الإنسان من أن يستكمل طريقة مع الله، تعوقه عن خدمة الملكوت. ينتظر الإنسان أمام تلك المشاعر أن يُظهر الله تعضيداً له، لكن الله لا يطرد الخوف من نفوسنا، بل يعطي القوة للانتصار عليه.

خوف بطرس والتلاميذ بعد القيامة
في خاتمة إنجيل يوحنا نجد التلاميذ يعودون إلى الصيد مرة أخرى، بالرغم من تراءيات يسوع القائم من بين الأموات. عاش بطرس والتلاميذ خبرة مذهلة، فوق طبيعية فقد رأي ذاك الشخص حي، لقد خرج من القبر وتكلم معه ومع آخرين. لقد تخلى عن ذلك الشخص بعد أن أختبر ضعفه أمام الآخرين، كان يأمل أن يكون قائده المغوار الذي يحرر إسرائيل من سيطرة الرومان، ولكنه كان ضعيفاً وقليل الحيلة، مستسلماً بطريقة غريبة ففعلوا به كما شاءوا. يأتي هذا الضعيف لمقابلته من جديد.. فلنقرأ كلمة اليوم من إنجيل يوحنا ٢١: ١ -١٢.

فلنحاول أن نفهم ما سمعناه.. بقي بطرس مع آخرين، عددهم ستة بالتحديد الباقيين من مجموعة التلاميذ المقربين التي اختارها يسوع. لهذه المجموعة تحديداً تراءى لها يسوع بعد القيامة، ولكن فجأة يصرخ بطرس في زملائه قائلا: “أنا ذاهب للصيد”.

انتبهوا ليس هناك فاصلة في الكتاب المقدس ليست مهمة. “أنا ذاهب للصيد”. ليس هذه عبارة اعتراضية لا هدف منها، بل تعنى الكثير. “أنا ذاهب للصيد”. ماذا كان يفعل بطرس قبل أن ينضم لمجموعة يسوع؟ المشكلة إن بطرس هذا قبل أن يقابل ذلك الغريب على بحر الجليل، كان صياداً، حرفته الصيد، ولكن مر ذلك الغريب يوماً وهو يغسل الشباك بعد يوم عمل شاق، فقال له: “أتبعني”، فلم يعد بطرس كما كان. نظر في عينيه مباشرة قائلا: “اتبعاني أجعلكم صيادين الناس”، لم يتردد بطرس، توقف فوراً عن الصيد، وأصبح تلميذاً ليسوع المسيح وتغيرت حياته تماماً.. واليوم يعود إلى نقطة الصفر.. إلى المربع صفر.. “أنا ذاهب للصيد”؟

عندما قال بطرس “أنا ذاهب للصيد” فهو يشير إلى قرار حياتي، سيعود إلى حياته القديمة، سيعود إلى حرفته الأصلية، صياد. عاد إلى الصيد لكنه لم يصطاد شيئاً.

ماذا يعني هذا: بطرس مثل الكثير منا الذين يرغبون في خدمة الملكوت، يرغبون في اتباع يسوع المسيح، لكن يشعورن بالخوف. الخوف من المهمة الثقيلة، الخوف من نار الألوهة، الخوف من المستقبل الغامض. بطرس مثل الكثير من التلاميذ، طاف ثلاث سنوات مع ذلك الغريب، عاش أوقات رائعة يتذكرها بشغف ورهبة في ذات الوقت. رأي أشياء لم يراها من قبل وبنى أحلاماً بتغير العالم كله، لكن ذلك الغريب قد مات، ومات الحلم معه. الآن الأمر مختلف تماما، فالغريب قام من بين الأموات، شيء فوق طاقة الإنسان على الادراك والفهم. كان ينتظر أن يكون المسيح هو محرر شعب إسرائيل من المحتليين، لكن الآن الأمر مختلف. لا.. لن أستطيع، سأرجع إلى حياتي القديمة.

هناك مع بشاير الفجر يتقدم غريب من بطرس والتلاميذ. تعرفون أن الصيد في كل بحار العالم يتم بالليل لصعود الأسماك قرب سطح المياه مع غياب الشمس، وكان الجليلون يصطادون بالليل ويبيعون السمك مع الصباح الباكر. إذا أردت سمكا طازجا فعليك أن تذهب لشرائه في الصباح الباكر. في تلك الليلة لم يصطادوا شيئا، ماذا يعنى هذا؟ تشير الشباك الفارغة، بعد ليلة تعب طويلة، إلى الفراغ، إلى عدم الرضا، ومن الممكن أن أكون قد شعرت بحماسة الدعوة، ولكن مع الوقت شعرت بفراغ شديد وعدم رضا. لا أعرف إذا كنت راضي عن حياتك، ولا تطلب شيئا؟ هل الجميع يشعر بالرضا، أليس الأمر كذلك!! هل كنت تظن أن الأمر مختلف عما تراه الآن؟

يظهر غريب في الفجر ليسأل: هل اصطدتم شيئا؟ الترجمة الدقيقة للكتاب المقدس تعكس نبرة سخرية في كلام يسوع: أبنائي، هل عندكم شيئا يؤكل؟ أو بمعنى أدق: يا شباب، طبعاً ليس لديكم شيئاً يؤكل؟ لم تصطادوا شيئاً. السؤال نفسه، وبنفس الطريقة يوجهه المسيح لك: “هل عندك شيء يؤكل؟” هل اصطدت شيئا، أم شباكك مازال فارغة رغم تعبك؟ إذا كنت لديك اكتفاء ذاتي ومهارات خاصة لحل المشكلات، تعتمد عليها، ولا تعترف بأنك لم تصطاد شيئاً، فأنا أرجوك أن تترك هذه الرياضة فليس لك مكان هنا. أما إذا فكرت في قلبك: “أنا بخير، لن أفتح على نفسي أبواب الهلاك وأضع حياتي محل تفكير، فأنا سعيد بوضعي فلماذا تسألوني إن كنت اصطدت شيئاً أم لا؟ فأنا أقول لك: أهرب من هنا، أهرب. يقول يسوع: “طوبي لفقراء الروح لأن لهم ملكوت السموات”. ملكوت السموات للذين لديهم الشجاعة أن يضحوا فقراء. فمن ليس لديه الشجاعة لاكتشاف ضعفه، ولا يحتمل الشعور بالفشل، والإحساس بالفراغ. من لم يتوقف أبدا لمراجعة الذات، فأنا أدعوكم لترك هذه اللقاءات.

يجب بطرس على تساؤل يسوع: لا، لم نصطاد شيئاً.
ماذا يقول الغريب، يقول شيئاً عجيباً بدوره: “القوا الشباك على يمين السفينة تجدوا”!! تعب بطرس والتلاميذ طوال الليل وألقوا الشباك مئات المرات دون جدوى، دون فائدة، لأن السمك كان يتواجد دائماً على يمين السفينة!! الأمر صعب التصديق، فالبحيرة متسعة، والسفينة تتحرك مع حركة المياه المتقلبة، لكن السمك “اللئيم” كان يختبئ دائماً في الجانب اليمين للسفينة؟ ماذا يقول هذا الغريب؟ كلامه ساذج، لا يصدق، لا معني له.

هناك بعض النقاط الغير منطقية في طلب الغريب:
١. كان السمك يتواجد دائماً على يمين السفينة، وهذا يعني أنه كان يتحرك ككتلة واحدة ليخدع التلاميذ، ففي حالة تحرك السفينة مع حركة المياه، فأن يسرع إلى التمركز على الجانب الأيمن للسفينة. والغريب أن التلاميذ لمئات المرات لم يفكروا في إلقاء الشباك، ولو مرة واحدة، في جانب السفينة الأيمن.

٢. ما هي حرفة بطرس؟ صياد، أليس كذلك. الآن يأتي غريب، وبعد ليلة معاناة وإحباط، لأنه لم يصطاد شيئاً، ليعلمه ماذا يجب أن يفعل، بل يهزأ به وبالتلاميذ أولاً: ليس عندكم شيء يؤكل؟ بعد إرهاق العمل وثقل الشعور بالفشل في تلبية احتياجات الأسرة، التي سيبقى أفرادها دون غذاء هذا اليوم، يأتي ذلك الغريب لتأنيبهم، ليهزأ بهم. الأمر لا يتوقف الأمر عندئذ، فالصياد منذ نعومة أظافره، يستسلم لمشورة الغريب، ويذعن لمجهول يأتي ليعلمه حرفته. هل نتخيل الموقف، هل تقبل أن ما تعتقد أنها حرفتك الأساسية، التي تدربت عليها كثيرا، يأتي غريب ليعلمك إياها، وكيف تتصرف حياله. فإذا كنتَ طبيب، تعمل بمستشفى، ويأتي غريب يقوم بتشخيص المريض الذي أمامك ويصف له الدواء، ماذا ستكون ردة فعلك مع هذا الغريب؟ هذه هي النقطة الجوهرية: غريب يأتي ليعلمك ماذا يجب أن تفعل في ما تعتقد إنك تعرفه حق المعرفة، ليعلمك ماذا تفعل في زواجك، في عملك، مع أصدقائك، مع جسدك. غريب يأتي ليعلمك حرفتك!!

٣. إلقاء الشباك إلى الجانب الأيمن للسفينة طلب غير منطقي وينم على جهل بحرفة الصيد: إن إلقاء الشباك لمسافة بعيدة في المياه يستلزم التمركز الجيد على سطح السفينة. وحتى يمكن إلقاء الشباك بقوة ولأبعد نقطة ممكنة في المياه فأن الصياد عليه التمركز الجيد على سطح السفينة مع قذف الشباك بقوة بساعده الأيمن مع جذب الشبكة قليلا إليه باليد اليسرى، وفي هذا الحالة فأن قذفه للشبكة يكون دائما ناحية اليسار. أما أن تتجه الشباك ناحية اليمين من السفينة فهذا يعني أن الصياد يستخدم يده اليسرى وليس اليمنى. فهل كان التلاميذ الست أعسرين؟ إن الأمر غير منطقي تماما لأن عدد من يستخدمون يدهم اليسرى هم أقلية، وفي تلك الأوقات كان يتم أجبار الطفل الأعسر على استخدام يده اليمنى، لاعتقادهم أن هناك خلل ما يجب معالجته في الطفل.

لاحظوا ما يلي: ١ـ السمك جميعه يتمركز على يمين السفينة؛ ٢ـ شخص ما يأتي ليعلمك حرفتك؛ ٣ـ يعلمك مهنتك بطريقة خاطئة لأن قذف الشباك لا يتم بهذه الطريقة إلا إذا كان الصياد أعسر. يعرف الصياد كيف يرمى بشبكته بعيداً في المياه، التي تأتي دائما على يساره، بسبب الاستخدام الشائع لليد اليمنى في العمل. إذن ماذا كان يقصد الغريب بالناحية اليمنى: كلمة “يمين” في اللغة الأرامية مشتقة من كلمة “إيمان”، فاليمين هو جانب الله، يسوع يجلس على يمين الآب، والأبرار هم على اليمين دوما في الدينونة العامة، يمين الرب قد أرتفعت، يمين الرب تصنع العجائب. اليمين هو عنصر قوة الله.. فهل هذا ما قصده يسوع؟

نتساءل هنا عن السبب الذي دفع بطرس إلى إلقاء الشباك إلى يمين السفينة بهذه الطريقة الخاطئة؟ لماذا ترك جانباً خبرته كصياد طيلة عشرين عاماً وأتبع كلام يسوع الغير منطقي؟ هل تخيل بطرس أن السمك كان متجمعاً طيلة الوقت إلى جانب السفينة الأيمن، وذهب تعبه طيلة الليل هباء؟ أرى أن بطرس ألقى الشبكة إلى يمين القارب لأن ليس له بديلا آخر!!

ألقوا الشباك إلى يمين القارب والذي كان غير مستطاع أصبح مستطاع الآن. ما كان منبعاً لعدم الرضا والإحباط تحول إلى مفاجأة سارة. لم يستطيعوا أن يجذبوا الشباك التي امتلأت تماما من السمك الكبير. أحصوا السمك على الشاطئ فبلغ ١٥٣ سمكة كبيرة. هناك تفسيرات كثيرة لهذا الرقم، أكثرها شيوعاً إن الرقم يدل على أنواع السمك التي كانت معروفة في ذلك الوقت. هو بالطبع رقم رمزي يدل على الملء والكمال. لقد اصطاد بطرس كل السمك الموجود، حصل على العلامة الكاملة، ملء تماما الإناء الفارغ الذي كان يحمله داخله. أمتلك أخيراً الشيء الذي يشبعه تماماً. يمكن أنت الآن أن تكون راضياً، سعيداً بحياتك، بعملك، بعائلتك، حتى الثمالة.

المسيح هو الملء والكمال الوحيد لكل احتياج بشري. لم يحتاج أن يقترب من بطرس ليمنحه نعمته، لكنه تواجد بعيداً على الشاطئ ومنح كل شيء له. ها هي شباكه الفارغة وإحباطه الغير محتمل، وإرهاقه ويأسه تحول إلى مصدر فرح وحياه ممتلئة بالحبور والسعادة.

أقول لكم ألقوا شباككم على يمين السفينة تجدوا، ستجدون ما تبحثون عنه. تعبت طوال حياتك في البحث عن السعادة، قضيت الليالي الطويلة في ظلام دامس، ولم تكن تعرف أن تضع قدمك، فالمشكلات تحوطك من كل جانب، وجدت أمامك الطرق مسدودة ولا تجد أحدٌ بجانبك.. استجب لنداء الغريب: “ألقي شباكك إلى يمين القارب”. ستجد ما تبحث عنه..

لكن كيف ألقي الشباك إلى يمين القارب؟
أفكار للتأمل:
١. هل لديك ثقة في مخطط الله بالنسبة لك؟ أم تعول كثيراً على امكانياتك الشخصية ومهاراتك؟
٢. كثيراً ما تأتي إرادة الله مغايرة لإرادتنا الشخصية، هل تقبل إرادة الله الغريبة والمخالفة أحيانا لما أعتدت عليه؟ أكتب عن موقفين حدثا أخيرا وجدت فيها صعوبة لتنفيذ إرداة الله في حياتك!
٣. هل أنت راضىٍ عن حياتك، عن دعوتك، عن مواهبك؟

نصوص للتأمل:
١. تك ٢٢: ١- ١٩
٢. خر ٤: ١٠- ١٧
٣. مت ١٤: ٢٢- ٣٣

قد يعجبك ايضا
اترك رد