نزع الأقنعة
لِكُلِّ أَمرٍ أَوان ولكُلِّ غَرَض تَحتَ السَّماءَ وَقْت الفصول الأربعة للحياة الروحية- فصل الخريف (زمن الانتصار على الخوف)
اللقاء السابع: نزع الأقنعة
تكلمنا في لقاء سابق عن زمن الخريف، زمن الانتصار على الخوف وتسليم ارادتنا الشخصية إلى الله والوثوق به، على الرغم من أن إرادته على نحو مخالف تماما لما نرغبه. يطلب الله أن نثق به بالرغم من مشاعر الخوف والاحباط، أن نطيع أوامره التي تبدو غير معقولة في كثير من الأحيان، يطلب شيئا يخالف ما أعتدنا عليه وما عرفناه.. يطلب فقط الثقة. يطلب إيمانا يملئه الثقة الكاملة كما فعلت العذراء مريم والملاك يبشرها بشيء غير معقول وغير طبيعي، ولا يتوافق مع ما يفهمه الإنسان. وثقت العذراء قائلة: “ليكن لي حسب قولك”.
هناك أمر أخر، بالإضافة للثقة… شيء ما يطلبه الرب من خاصته
مريم ومرثا: لو ١٠: ٣٨- ٤٢
يحدثنا النص عن أختين، الكبرى مرتا والصغرى مريم، صنعوا يوما مأدبة ليسوع وحاشيته، ومن غير المعروف إذا كان الأمر يتعلق بعشاء أو بغذاء، ولكنها عموما دعوة للأكل. استقبل الأختين يسوع بمنزلهن، وأظهرتا موقفين متناقضين تماما تجاه ذات الضيف(.
عشاء تقليدي إذن يجمع الداعتين بالضيف، اهتمت الأخت الكبرى بواجب الضيافة وبالأشياء التي من شأنها إظهار كرم ضيافتهن في أحسن صورة ممكنة، فاهتمت بالمائدة وإعداد الطعام، خاصة إن الضيف، كما يفهم من النص، لم يأتي وحده، بل حضر مصطحباً جماعته. ماذا تفعل الأخت الكبرى، المسئولة عن المنزل، أمام هذا العدد من المدعوين إلى منزلها، ماذا تقدم لهم، وكيف تقدمه؟
أثناء انشغال الأخت الكبرى بإعداد المائدة، بطبق ينقص هناك.. بالطعام الذي على النار.. بشكل المائدة هي ملائم من عدمه كانت الأخت الصغرى قابعة عن قدمي الضيف تستمع لكل ما يقوله. كانت مرتا تتحرك من الموقد إلى الفرن إلى المائدة لتتأكد من كل شيء، آه هناك شيء قارب على الانتهاء، وذلك لابد أن تنقله بسرعة من أمام الموقد لئلا يحترق.. فتتحدث من مطبخها إلى البعض: “هل هناك من يقدم مساعدة”، لكن يتم تجاهلها من الجمع الذي يحيط بالضيف مستمعاً لكلامه. تُكمل مرتا ما كانت تقوم به، لكن مع مرور الوقت، ومع التعب والإرهاق تشعر بغضب من تجاهل الآخرين لها، وان الضيف لم يقدر معاناتها من أجله، لم يشعر بها من الأساس وبتعبها. لم يفطن حتى لعدم وجودها في الحلقة الملتفة حوله والتي تصغي بانتباه إلى كلامه. شعرت إنها مثل الخادمة التي عليها أن تجتهد وتكد في خدمتها ولا يشعر بها الآخرين. خرجت الكلمات من فمها باندفاع وغضب موجها كلامها للضيف: “أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعيني قليلا؟
عزيزي القارئ: إذا كنت في مكان يسوع أو تلاميذه، فما هي رده فعلك أمام شكوى مرتا. أعتقد أنك ستسارع لتقديم المساعدة فوراً، أو أقله ستقول ليسوع: “لديها الحق فيما تقول، لنؤجل الحديث لحين الانتهاء من إعداد الطعام، اذهبي يا مريم لمساعدة أختك”. هذا هو الأمر الطبيعي المفروض أن يحدث!!
لكن الضيف لم يتفق مع هذا الأمر الطبيعي في سلوكياتنا البشرية، فنسمعه يخاطب مرتا: “مرتا، مرتا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، لكن الحاجة إلى واحد، فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لا ينزع منها”. كيف نفهم إجابة يسوع؟
أجدني متعاطفاً مع مرتا، بحكم نشأتي في منزل عائلي يضم عدد كبير من الأفراد، وحيث يأخذ واجب الضيافة حيزاً كبيراً من الاهتمام. عند قدوم الضيوف فإن أفضل الأشياء تخرج من مخازنها، ويتم فتح غرفة تسمى غرفة الضيوف التي لا تستخدم عادة “بالرغم من حاجة الأسرة الماسة لها وللأثاث الموجود بها”. عندما تزور أسرة سيتم استقبالك في غرفة الصالون، وستدعى للجلوس على مقاعد تبدو بحالة جيدة، لأنها لا تستخدم إلا لمثل هذه الزيارات، بالرغم من تكدس أفراد الأسرة في غرفة أو غرفتين، للحفاظ على رونق الغرفة المخصصة للضيوف: “حتى لا نكون أقل من الآخرين”. عندما يفكر الشباب في الزواج وإعداد منزل الزوجية الجديد، تلاحظ مدى أهمية هذه الغرفة التي يتم ادخار المال اللازم لها قبل التفكير في شيء أخر. يلجأ الكثير من الشباب إلى الاستدانة لاستكمال تجهيز تلك “الضروريات” التي لن تكن الأسرة الوليد في حاجة فعلية لها، ولكن تسير وفقا لمقتضيات اجتماعية بالية: حتى لا نكون أقل من الآخرين”.
للضيوف تُخصص أفضل الأشياء، فمن الممكن أن تستخدم الأسرة عدد قليل من الأطباق مثلا، في حين يتم أخراج أطقم كاملة من الأطباق المحفوظة في “النيش” التي لم تستخدمها الأسرة إطلاقا، وفي أحياناً كثيرة يتم إخراجها لأول مرة من “الكراتين”.
تُعد الأطقم المذهبة، والأثاث الذي لا يجلس عليه أحد، مظاهر نحافظ عليها لكي تكون صورتنا جميلة أمام الآخرين. نشعر أن نظرة الآخرين تحوطنا، تراقبنا، تنتقدنا، تحكم علينا بعدم الأهلية لهذا الوسط من المجتمع متى لم نظهر بالصورة الملائمة. وتذكى الأمثلة الشعبية المتوارثة هذا التوجه لنيل رضا المجتمع: “كّل ما يعجبك، وألبس يعجبك الناس”. نشعر إننا تحت المراقبة الآخرين، خاضعين لامتحان من قِبل الآخرين، فنسعى باستمرار أن نجتاز الامتحان وبأن لا يرفضنا الآخرين
تعلمنا منذ الصغر أن تخرج من منزلك بمظهر لائق حتى يقبلك الآخرين، لأنك إذا خرجت بصورة غيرة لائقة سينبذك المجتمع، ستتعرض إلى الانتقاد. أصدقائك يقبلونك لأنك تحظى بإعجابهم، وستكتشف أنك تسايرهم في اهتماماتهم لتظل محط اعجابهم، إما إذا أردت أن تكون نفسك، أن تكون مختلف، سيطردونك من وسطهم. لأجل أن تظل في دائرة الاهتمام ستكتشف أنك اجتهدت كثيراً أن ترضي الآخرين، لا أن تكون نفسك. تذكر كم مرة تصنعت الابتسامة، أو ذهبت إلى أماكن لم تكن ترغب في الذهاب إليها، أو تحدثت في موضوعات مختلفة تمنيت أن لا تشترك فيها لأجل أرضاء الآخرين، لأجل أن تحافظ على صورتك “الجميلة” لديهم.
يمكنك أن تراجع حياتك، هل الآخرين يحملون تقديراً طيباً عنك؟ هل لديك أصدقاء مقربين وفي ذات الوقت تشعر وتتصرف على سجيتك، تكون ذاتك؟ أم تتصنع بعض الأشياء لترضي الآخرين و”تحافظ على صورتك الجميلة لديهم”. هناك الكثيرين اللذين يلبسون الأقنعة التي تختلف باختلاف الأشخاص المحيطين بهم واختلاف الأماكن المتواجدين بها. يشعرون أنهم مضطرون إلى التأقلم مع متغيرات الحياة واختلاف الأشخاص ليبقوا على قيد الحياة. هناك البعض الذي يقضي حياته في الدراسة لينادي به الناس “ذكي”، يجتهد ويتعب ليكون الصورة التي يريدها الناس معه.
ماذا تفعل عندما تمتلئ ذاكرة تليفونك، من الشخص الذي تمسح رقمه من الذاكرة؟ هو اغتيال معنوي لأنك تحكم على هذا الشخص بالاستبعاد. أنت تستبعد ذلك الشخص الذي لا يقدم أي خدمات لك، حتى لو كانت خدمات عاطفية. في ذات الوقت الذي تحذف أسماء بعض الأشخاص، يقوم ذات الأشخاص بحذف اسمك من أجنداتهم. عندما تنتهي النفعية، عندما لا تقدم شيء لي، سأحذف أسمك من ذاكرة التليفون، من حياتي لأنك لم تعد نافع لي.
إذا تكلمنا يوما مع أحد الأشخاص الذي شعرت معه بنوع من الثقة عن مشكلاتك الشخصية. وفي مناسبة أخرى تكلمت عن ذات المشكلات التي تؤرقك، ستفاجأ بتذمره في الإصغاء لك من جديد. وإن فكرت أن تكلمه مجدداً عن تلك المشكلات، ستجده يعتذر بحجج مختلفة. فمن يقبل الجانب الضعيف الواهن من حياتك؟ جميعاً مثل لعازر هناك حجر كبير يفصلنا عن الآخرين، يعمل كحاجز لا يظهر ضعفنا، يخبئ الرائحة العفنة لضعفاتنا، لأنها إذا عرفها البعض سيهربون من أمام وجوهنا. انظروا لطلب المسيح: “انزعوا الحجر” لا يريد حاجز يفصله عن ضعفاتنا، عن أخطائنا التي لا يقبلها الآخرين فهو يهتم بما يتواجد في أعماق قبورنا المظلمة، عكس الآخرين.
انزعوا الأقنعة”.. أي قناع تضعه قبل أن تخرج من منزلك كل يوم؟ هذا هو القناع المطلوب الذي يقبله الآخرين، لئلا يزيلوني من ذاكرتهم، لئلا يرفضوني وينبذونني. فللبقاء وسط هذا المجتمع المضطرب، يجب أن تخفى هذا الجانب الذي لا يريده الآخرين، يجب أن تخبئ تحت السجادة كل ما ترى أنه لن يحوز على قبول الآخرين.
لكن هذا الجانب المظلم الذي أريد إخفاءه هو أنا، هو جزء منى ومن شخصيتي.
من هي مرتا؟ هي مثال للإنسان الذي يقضي حياته، مرهقاً ومرتبكاً ليحافظ على صورته أمام الآخرين. المشكلة التي وقعت فيها مرتا، انه جاءها ضيف مختلف، جاء يسوع المسيح إلى بيتها، وأمامه لا تحتاج المسكينة إلى قناع خارجي. ليس هناك حاجة إلى هذه المجهود المحموم لنكون صالحين، مقبولين لدي الآخرين. لا تحتاج مرتا أن تقضي وقتا طويلاً أمامه لتظهر خصالها الحميدة، والصفات المميزة لها، لتُظهر الجانب المضيء من حياتها فتحظى في النهاية بالقبول من جانبه.
فإذا كنت تتخفى خلف قناع لتحظى برضا الآخرين وقبولهم لشخصك. ففي ذلك اليوم حضر إلى بيت مرتا، شخصاً غير عادي، كان أبن الله ذاته متجسداً. فإذا كنت تخشى الناس، فهل تخشى أيضا الله الذي خلقك ويعرفك، يعرف ما تبطن وما تخفى، يعرف مظاهر ضعفك التي تحاول أن تخفيها في أعماقك. يمكن أن أفهمك إذا حاولت أن تتخفى خلف قناع أمام الناس، لكن هل يمكن التخفي أمام الله أيضاً؟ القناع الذي أعتدت أن ترتاديه أمام الناس لا يفيد في حضور الله. إذا ارتديته أمام يسوع فأنت على تخطئ خطأ فادحاً.
إذا كانت فكرتك عن الله كمثل القاضي الذي يحاسب على كل خطأ، الذي ينتظر أن تتوب عن خطاياك لكي يقبلك، فتلك مشكلة. الله لا يقبلنا مشرطاً أن نتحرر من خطايانا أولا، بل يقبلنا كما نحن خطأة. لا تحتاج إذن لقناع لتخفى حقيقتك. لا ترهق نفسك في أن تكون مقبولاً لديه، يمكنك أن تجلس كمريم بجوار قدميه مصغياً له. لا تحتاج إلى أن تكذب أو تتجمل لتكون مقبولا. ألم تضجر من محاولاتك المستميتة في أن ترضي الآخرين وتكون على الصورة التي يريدونها لك.
هذه صورة خاطئة عن الله، فعلى الصليب صرخ يسوع قائلا: “أغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ما يفعلون”. انتبهوا، جميع الخطايا التي يمكن أن تكون قد اقترفتها، التي فعلتها بإرادتك أو بغير إرادتك، كل الأفكار الخبيثة التي فكرت فيها يوما يغفرها لك. هناك مَن تستطيع أن تقف أمامه دون الحاجة إلى قناع يخفى ضعفك، أن تكون نفسك، دون أن يحكم عليك أو يدينك. يمكنك أن تبقي، مثلما فعلت مريم، يمكنك أن تجلس بكل بساطة دون تكلف، على سجيتك، دون أن تشغل تفكيرك بأن تكون صالحاً بفضل أفعالك وإرادتك الشخصية. منذ قرون عدة، ظهرت حركات كثيرة تنادي بأن الخلاص مرهون بإرادة الشخص الذاتية، فالأعمال الصالحة هي التي تصل بالإنسان إلى ملكوت الله. القديس أغسطينوس حارب هذا التوجه الذي يُعلي من شأن الإرادة الشخصية ودورها في الخلاص. فالأعمال دون عمل النعمة لا تصل بالإنسان إلى الخلاص.
إذا كنت اعتدت أن تضع قناعاً يخفى جزء من شخصيتك أمام الناس، فهل تضع ذات القناع أمام الله؟ أمام من لا يتطلب منك أن تتجمل أو تتصنع شيئاً، بل يطلب أن تكون على حقيقتك تماما، كما أنت، فلا تخشى شيئاً. انزع عنك الأقنعة التي أعتدت أن ترتديها أمام الناس لتخفى ضعفك، أو لتكون مقبولا لديهم، على مستوى تطلعاتهم منك. أسعي لنوال النصيب الصالح الذي لا يستطيع أحدٌ أن ينزعه منك أبداً. لن يلتف الله إلى القناع الذي ترتديه، بل إلى تحقيق ذاتك كما خلقك هو.
نؤمن إن الله أرسل أبنه الوحيد لكي لا يهلك أحد.. ألا تدرك قيمتك؟ قال أحدهم يوماً أن قيمتي عند الله أكبر من قيمة ابنه الوحيد، يسوع المسيح، لأنه ضحى بابنه الوحيد لأجل أن لا أهلك أنا، لا أفنى، لا أموت. هل تعلمون لمن جاء المسيح؟ لم يأتي لأجل الأتقياء أو الأبرار والقديسين، ولكنه لأجل الخطأين والزواني. لأجل من يخطأ، لأجل من لا يملك قوة الإرادة، لأجل الضعفاء، فقراء الروح، لأجلك أنت عزيزي القارئ.
يقف المسيح دائما بجوار من يترك نفسه للحب، من يتوقف على التصرف كالفريسي المعتقد بأنه صالح، من يتوقف على التذمر والشكوى.. مثل مرتا.
كيف تتصرف مثل مريم؟ كيف نحصل على النصيب الصالح الذي لا ينزع منك؟ النصيب الذي يجعلنا تعيش ذاتك على حقيقتها. النصيب الذي يجعلك في غير حاجة إلى لبس الأقنعة التي تخفى ضعفك، حتى ترضي الناس. كيف تتعلم إلقاء الشبكة على يمين القارب، واختيار النصيب الصالح الذي لن ينزع عنك أبداً. سنؤجل الإجابة لمرة قادمة.. من ينتظر الإجابة فليأتي اللقاء القادم.
أفكار للتأمل:
١. ما هو الجانب الخفي في شخصيتك الذي تحرص على إخفائه عن الجميع؟ وهل تجد سهولة في كشفه في الاعتراف؟
٢. هل تقبل ذاك الجانب الخفي في شخصيتك؟ أم تتمنى أن يزيل الله مظاهر نقصك أو عيبك؟
٣. ما هي الأقنعة التي ترتديها أمام الآخرين ليظنوا شيئا مختلفا عنك؟
٣. ما هي الأقنعة التي ترتديها أمام الآخرين ليظنوا شيئا مختلفا عنك؟
نصوص للتأمل:
١. لو ١٩: ١- ١٠
٢. لو ١٨: ٩- ١٤