عيد القيامة 2014
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
ما هي القيامة؟ الميلاد، مولد الطفل الإلهي هو أمر واضح تاريخياً. . يمكننا أن نحب الطفل، أن نتخيل ليل بيت لحم، فرح مريم، فرح يسوع والرعاة وحبور الملائكة. ولكن القيامة ما هي؟ إنها لا تدخل في إطار خبراتنا، ولذا فغالبًا ما تبقى غامضة، غير مفهومة. فحتى التلاميذ، كما نقرأ في إنجيل القديس مرقس، بينما كانوا نازلين من جبل التجلي، راحوا يتناقشون فيما بينهم عن معنى “القيامة من الأموات” (راجع مر ٩، ١٠). كان الرب قد سبق وأعلن لهم عن آلامه وعن قيامته بعد ثلاثة أيام. وكان بطرس قد اعترض على إعلام الموت. ولكنهم الآن يتساءلون عن المعنى الكامن وراء تعبير “القيامة”.
لكي نفهم القيامة يجب أن نعود إلى قصة الخلق، إلى أول آيات الكتاب المقدس، فنقرأ في رواية الخلق، أن الأرض كانت خاوية خربة، وعلى وجه الغمر ظلام وروح الرب يرف على وجه المياه. قال الله “ليكن نورٌ، فكان نور وفصل الله بين النور والظلام. من أين آتي هذا النور والشمس والقمر لم يخلقا إلا في اليوم الرابع؟
ما العبرة التي نستخلصها من سفر التكوين؟ النور هو مصدر للحياة، هناك قبل كل شيء النور. حيث هناك نور، تزهر الحياة، ويتحول الخراب والفوضى إلى نظام بديع، إلى الكون. أمام النور يضمحل الشر، فالنور إذا يمثل الخير الوهاج. اليوم المشرق هو اليوم الذي يمكننا أن نؤدي عملنا به.
وكما كان النور هو أول الأشياء التي أوجدها الله في العالم القديم، كذلك كان نور القيامة أول مظاهر العهد الجديد. نقرأ في أنجيل القيامة، خاصة أنجيل القديس يوحنا، إنه في اليوم الأول بعد السبوت.. بعض الترجمات الغير دقيقة تنص على: “في اليوم الأول من الأسبوع”. خلق الله العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع وبعد قيامة الرب يسوع.. خلق العالم الجديد.. ملكوت السموات الجديدة، مدينة أورشليم السمائية.. “حيث لا ليل هناك، فلا يحتاجون إلى ضوء المصباح او للشمس، لأن الرب الإله يكون نورهم وهم سيملكون إلى أبد الدهور” (رؤ ٢٢/٥). “المدينة لا تحتاج إلى نور الشمس والقمر، لأن مجد الله ينيرها والحمل هو مصباحها” (رؤ٢١/٢٣). مع قيامة الرب يسوع بدأت الحياة الجديدة، حيث لا موت ولا فناء، لا حزن ولا صراخ، ولا وجع لأن الأشياء القديمة قد زالت..
في القيامة يتحقق بشكل أسمى ما يصفه نص التكوين كبدء كل الأشياء. يقول الله من جديد: “ليكن النور!”. قيامة المسيح هي دفق نور. القائم بالذات هو النور، نور العالم. مع القيامة ينتشر نور الله في العالم وفي التاريخ. يحل نور النهار. وحده هذا النور – يسوع المسيح – هو النور الحق، الأكثر إشعاعًا من ظاهرة النور الطبيعي. هو النور الصافي: الله بالذات الذي يولد خليقة جديدة في حضن الخليقة القديمة، ويحول الخراب إلى كون. ونعلم من العهد الجديد أن هذا النور هو حكمة الله الآب الذي ينير كل إنسان أتي إلى العالم (يو ١/٩) الساكن في نور لا يدني منه (١تمو ٦/١٦). عن هذا النور يقول كاتب الرسالة إلي العبرانيين: “هو بهاء مجده وصورة جوهره حامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عب ١/٣)، أنا نور العالم , من يتبعني لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة ” (يوحنا ٨: ١٢)
في عيد الفصح، وبالتحديد صباح اليوم الأول من الأسبوع يقول الله من جديد: ” ليكن النور!”. بعد ليلة جبل الزيتون، وكسوف الشمس عند آلام المسيح وظلمة القبور عند موته، يأتي اليوم الأول من جديد وتبدأ ولادة الخليقة الجديدة. ” قال الله ليكن نور! فكان نور.” قام يسوع من الموت فغدت الحياة أقوى من الموت وتغلب الخير على الشر وأصبح الحب أقوى من الكراهية، والحقيقة أقوى من الأكاذيب. تلاشت ظلمة الأيام السابقة مع قيامة يسوع من القبر، حين أصبح هو بنفسه نور الله الحقيقي، فمع قيامة المسيح تجدد النور وهو يجذبنا جميعًا الى حياة القيامة الجديدة التي تغلب فيها على جميع أشكال الظلمة، هذا هو اليوم الجديد الذي صنعه الرب لنفرح به جميعًا.
فلنسعى إلى فهم هذا الأمر بشكل أفضل. لماذا المسيح هو النور؟ في العهد القديم، كانت التوراة تُعتبر نورًا آتيًا من الله إلى العالم وإلى البشر. فهي تفصل في الخليقة النور عن الظلام، أي الخير عن الشر، وتدل الإنسان على السبيل القويم للعيش الحق. ترشده إلى الخير وتكشف له الحقيقة وتقوده إلى الحب الذي هو كنهها الأعمق. هي “مصباح” لخطاه و “نور” لسبيله (راجع مز ١١٩، ١٠٥). ويعرف المسيحيون من ثمّ أن التوراة حاضرة في المسيح، فكلمة الله حاضرة فيه كأقنوم. كلمة الله هي النور الحق الذي يحتاجه الإنسان. هذه الكلمة حاضرة فيه، في الابن. المسيح هو النور العظيم الذي منه تنبع كل حياة. هو يُعرّفنا بمجد الله من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، ويدلنا على الطريق. هو يوم الرب الذي ينمو الآن وينتشر ليشمل الأرض كلها. الآن، في عيشنا معه ولأجله، نستطيع أن نعيش في النور.
بماذا نشعر في الظلمة
تبعث الظلمة على الخوف، فإذا كنت في مكان مظلم، ولا تعرف أين تذهب وماذا تفعل، سينتابك الخوف. حل الظلام بعد موت المسيح فأغلق التلاميذ أبوابهم خوفاً من اليهود (يوحنا ٢٠: ١٩). أعتصر قلوبهم الخوف ومنعهم من التوجه نحو الآخرين، نحو الحياة. لم يعد المعلم هنا، يتذكرون ما حدث، الخوف من اليهود، من الألم، لكن الخوف الأكبر من فشل مشروع تحرير الأرض. لكن يسوع يحرص على خاصته وهو على وشك تحقيق الوعد الذي قطعه عليهم في العشاء الأخير: “لن أدعكم يتامى، فإني أرجع إليكم” (يوحنا ١٤: ١٨) وهو يقول هذا لنا أيضًا، حتى في أوقات الضيق: ” لن أدعكم يتامى” هذا الوضع القلق الذي عايشه التلاميذ تبدل تماما مع ظهور يسوع لهم. جاء ووقف بينهم مع أن الأبواب كانت مغلقة وأعطاهم السلام الذي يطمئنهم: “السلام لكم!” ( يوحنا ٢٠: ١٩). حمل السلام النور بدلاً من الظلمة، حمل الطمأنينة بدلاً من الخوف، هو السلام الذي وعد به في كلماته الأخيرة: “السلام أستودعكم وسلامي أعطيكم. لا أعطي أنا كما يعطي العالم. فلا تضطرب قلوبكم ولا تفزع” ( يوحنا ١٤: ٢٧). في يوم القيامة هذا، هو يعطيه بوفرة للجميع. في زمن الخلق الجديد يعطي للجميع فيكون مصدر فرح، ويقين من النصر، وأمان تحت جناحي الله، كما يقول لنا نحن أيضًا: “لا تضطرب قلوبكم” ( يوحنا ١٤، ١).
تثير الظلمة في الإنسان مشاعر الكآبة والحزن: يصعب علينا الآن تصوّر مدى الكآبة والحزن التي تعرّض لها هؤلاء التلاميذ المحبطون. فقد ظنوا أنهم قد خسروا خسارة لا تعوّض، إذ فقدوا سيدهم، فأصبحوا كأيتام ليس لهم ناصح ولا معزّ، وأين سيجدون من يعوّضهم عمن فقدوه؟ أنظروا إلى المجدلية، التي تغيرت حياتها تماما بعد أن تعرفت على يسوع، رد إليها كرامتها وإنسانيتها، الآن فقدت كل شيء، غاب المعلم. كانت آخر من غادر القبر حزناً، وأول من جاء إليه شوقاً ولوعة. أظهر المسيح نفسه أول الكل إلى تلك التي حزنت جداً لفراقه، وأرسلها بتلك البشارة العاجلة إلى التلاميذ بقيامته. تحول حزنها إلى فرح، كذلك التلاميذ انتقلوا من الحزن الى الفرح العظيم، لقد تحولت الأحزان والجراحات نفسها الى مصدر فرح. الفرح الذي ولد في قلوبهم عندما شاهدوا الرب “فرح التلاميذ لمشاهدة الرب” (يوحنا ٢٠: ٢٠).
هناك أيضاً القلق والحيرة من الفوضى. فكر التلاميذ أن مصيرهم أصبح مجهولاً فتملكهم القلق مستقبلهم أصبح مجهولاً. فكيف سيواجهون الأيام المقبلة، وذلك الذي قال لسمعان بطرس “أنا ذاهب للصيد” بالرغم من ترائيات القيامة. فكر التلاميذ في مستقبلهم بقلق وحيرة، ماذا سيصنعون الآن، بعد ثلاث سنوات تبعوا فيها المعلم، لكن كل شيء أنتهي، وعليهم التفكير في المستقبل. لكن قيامة المسيح من بين الأموات كانت ذلك الحدث العظيم الجليل الذي قلب كل المفاهيم، وغيّر جميع التوقعات ليس بالنسبة لهؤلاء التلاميذ فحسب بل للعالم أجمع.
فقد جاء يسوع والأبواب مغلّقة، ووقف في الوسط، وقال: “سلام لكم”. وبظهوره حياً بعد القيامة المجيدة، تحوّلت تلك الضعفات، التي ظهرت خلف الأبواب المغلّقة، إلى قوة محرّكة هائلة، فتحت تلك الأبواب، بل شرّعتها، وصنعت من أولئك الصعاليك الضعفاء، جبابرة فتنوا المسكونة، وقوّضوا الممالك.
لقد حلّ سلامٌ عجيب بدل الخوف. سلامٌ ملأ القلوب، وطمأن النفوس… وبدون الإيمان بالمسيح المصلوب، والقائم من بين الأموات لا يستطيع أحد أن يحصل على سلام القلب، ولا السلام مع الله، أو مع الآخرين، ولا حتى السلام مع نفسه. فيسوع وحده هو مصدر السلام. هو النور القادر على تحويل الفوضى والخوف الذي نشعر به إلى حياة وسلام.
وحلّ خلف تلك الأبواب المغلّقة فرحٌ بدّل الحزن والبكاء، “ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب”. ما أكثر الوجوه العبوسة، والجباه المقطبة في الكنائس اليوم، وكأن المسيح ما زال في القبر، ويسوع يخاطبنا كما خاطب المجدلية عند فجر القيامة: “يا امرأة لماذا تبكين؟” فلا تحزننَّ أيها المؤمن.. أنت تعبد الإله الحي… يقول الكتاب: “ولا تحزنوا لأن فرح الرب هو قوتكم”. وليس الفرح المقصود الفرح الظاهري، بل الفرح الحقيقي، فرح الروح.. فرح الخلاص، وفرح الرجاء، وهنيئاً لمن له هذا الفرح.
وحل أيضاً الاطمئنان بدل القلق والحيرة. فلا أمور هذه الحياة ولا هموم المستقبل ولا حتى ما يأكلون ويشربون باتت تقلق أفكارهم. أنظروا التلاميذ بعد أن قرروا أن يأمنوا مستبقلهم بأيديهم، قضوا الليل كله لكنهم لم يصطادوا شيئاً. فوقف المسيح على الشاطئ وطلب منهم أن يلقوا الشبكة على يمين السفينة فصطادوا صيداً وفيراً.
إذا كانت في قلبك تلك الظلمة والخوف والكأبة، فافتح قلبك للخلق الجديد، لأن يدخل النور الحقيقي الآتي إلى العالم، لكي يخترف أبوابك المغلقة، فافتح عينيك لكي تراه، إنه موجود دائماً.