إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

رعويات الشباب (6): أهداف العمل الرعوي

0 1٬039

في الجزء الأول من البحث ذكرنا أنّ العمل الرعوي العام ملتزم بتحقيق الخلاص المسيحي في مواقف الحياة الملموسة. العمل الرعوي مع الشباب يتقاسم هذه المهمة العامة لكل ما هو خاص بالأعمال والأنشطة الرعوية ويضمن تحققها في مجال الشباب. بهذا نكون قد أوضحنا، على الأقل بخطوطٍ عريضة، هدف العمل الرعوي مع الشباب. لكننا في حاجة إلى تحديد أكثر لهذا الهدف العام.

١. كيف يمكن تحديد الهدف الرعوي؟
كيف يمكن تحديد الأهداف الرعوية؟ وما هي نقطة الانطلاق التي يمكن الارتكاز عليها لتحديد تلك الأهداف؟

فالأهداف هي النتائج النهائية التي ترغب مؤسسةٍ ما في تحقيقها من خلال النشاطات التي تمارسها والعمليات التي تقوم بها، حيث يسعى المُخَطْط لنقل المؤسسة من الموقف الحالي إلى الموقف المرغوب، وتحدد الأهداف ماذا يجب أن تفعل؟ ومتى يتم هذا الفعل؟ بناءً على الفجوة المُستحدثة بين الموقف الحالي والوضع المستهدف فيتم وضع الخطة الاستراتيجية التي تمكن المؤسسة من تضييق الفجوة الموجودة.

فبالعودة إلى نص اختيار المسيح لتلاميذه لمعاونته في تأسيس ملكوت السموات. فلقد نظر المسيح إلى الواقع، إلى أولئك البائسين المُشتتين مثل غنمِ لا راعي لها. انطلق المسيح من تحليل المتغيرات البيئية المحيطة به، من الموقف الحالي مقارنة بالوضع المستهدف من مجيئه على الأرض. اتخذ القرارات الخاصة بتحديد وتخصيص الموارد المطلوبة لتحقيق رؤيته العامة والتي تجسد من أجلها، ألا وهي إعلان وتأسيس ملكوت السموات. فشرع في اعداد مجموعة عمل تساعده في أداء مهمته.

فعند البحث عن هدف تحقيق الخلاص للشباب اليوم، فما هو الموقف الحالي الذي سننطلق منه للحكم على ما هو محقق بالفعل مقارنةً بما هو مستهدف. هل الالتزامات التقوية والممارسات الطقسية التي تُعبر عن إيمان وقبول الشخص للخلاص المُقدم له من قِبل الله؟ ما هي الاستجابة الواجبة من الإنسان التي تكشف لنا إن الشخص قد قبل عطية الله؟

. ما هي الاستجابة لعطية الخلاص؟
الخلاص عطية مجانية وغير منتظرة، من حُب الله. الفكر اللاهوتي يذكّرنا بأن هذه العطية تتطلب دائمًا استجابة، حرة ومسئولة، من جانب الإنسان. بناء على هذا، يركز العمل الرعوي على كل ما يجعل الإنسان قادرًا على قبول هذه العطية تمامًا.

مع ذلك، الفكر اللاهوتي الحالي لا يُشير بطريقة متجانسة إلى نوع الاستجابة الواجبة علينا تجاه عطية الله. هل يتطلب الأمر استجابة دينية رسمية أم تكفي استجابة يُعبّر عنها بتجديد نوعية الحياة؟ السؤال مشحون بالتبعات العملية، الهامة جِدًا بالنسبة للبحث المتعلق بالهدف الرعوي الشباب. وبالتأكيد لا يكفي استنتاج أنّ الإمكانيتين لا يمكن اعتبارهما حصريتين.

في الواقع، لو اخترنا الاستجابة التي تتمحور حول البعد الديني باعتبارها الأهم، بمعنى تلك الاستجابة التي تقتضي كضرورة لا غني عنها اعترافًا كنسيًا بيسوع الربّ، مُعبّر عنه أيضًا من خلال خبرة أسرار الكنيسة المقدسة، سنكون مجبرين على الإقرار بأنّ هناك بشر كثيرين جِدًا ليست لديهم إمكانية التنعم بخلاص الله فقط لمجرد أنّهم لا يعرفون يسوع المسيح ولا الكنيسة. بالتالي يُصبح العمل الرعوي بحثًا محمومًا عن أيّة وسيلة تضمن لها تحقيق هذه اعتراف الشخص بيسوع المسيح ربً.

من جهة أخرى، لو كانت الحياة الصالحة والملتزمة كافية لقبول عطية الخلاص، سيكون من الصعب الاعتراف بالدور الحاسم للإيمان الكنسي، بطريقة أو بأخرى، في الإشارة إلى يسوع المسيح. وهكذا ينحصر العمل الرعوي في مجرد ممارسات تربوية وتعليمية.

المشكلة جديّة وهامة جِدًا، خصوصًا على المستوى الملموس والعملي. وبالتالي لا يمكننا أن نتحدث أي حديث عن هدف للعمل الرعوي للشباب، ما لم نجد لها حلاً مناسبًا.

المسألة تتعلق بالإيمان، ولهذا ينبغي أن ينطلق البحث المتعلق بهدف العمل الرعوي للشباب من الإصغاء، المستعد والمنتبه للإيمان وضروراته. لكننا جميعًا نعلم تمام العلم أنّنا لا نتلاقي مع الإيمان سوى من خلال صيغه اللاهوتية. وهذه الصيغ تتسم بالتعددية، حسبما يُمكن أن يُدركه كل مَنْ ينظر حوله بأدنى حس نقدي.

لحسن الحظ، لدينا مُرشد يساعدنا في معالجة التعددية، بدون أن نضطر لاختيار أعمى، ألا وهو “المعايير”. في ضوء التجسد والمعايير الراعوية المُصاغة بوجهة نظره، سأطرح تساؤلات إيمانية بغرض جمع اقتراحات عملية نحتاجها في بحثنا هذا.

٢. الحياة اليومية في صميمها: مسار من المعاني
لقد كشف التجسد لنا المعنى اللاهوتي لحياتنا، فهو الوساطة العظيمة حيث يُصبح لله “وجهًا” و “كلمة” بالنسبة لنا اليوم، استمرارًا لخبرة يسوع الناصري. فَسر الله يغلف ويتجسد في الحياة اليومية وفي تلك الخبرات التي نحياها يوميًا. هناك رباطٌ خفي بين البعد التاريخي اليومي للإنسان مع تلك الخبرة السرية لحضور الله في التاريخ الشخصي للفرد. فتلك الخبرات تدور حول سر الله وقصده فينا.

فالحياة اليومية هي مسار غنيٌ بالمعاني يجعل الخبرة نفسها ذات وجهين، أحدهما يتعلق بنا بكامله، خبراتنا واحلامنا وطموحاتنا، والآخر يشمل سر الله بشكل مباشر الذي يرافقنا في تلك المسيرة ويهدف إلى أن نشاركه حياته الثالوثية: “الذي يُريدُ أنْ يَخلُصَ جميعُ الناسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقِّ (١ تيموثاوس ٢: ٤). فيكون إذن ما نحققه على المستوى اليومي الملموس، يبني (أو يهدم) موضعنا المحدد في سر الخلاص.

والآن سنُعمّق ونستعرض دوافع طرحنا هذا بنقطتين لاهوتيتين: الأولى على المستوى الدلالي، والثانية على مستوى التطبيق العملي.

١.١.٢. الخبرات اليومية هي أمرٌ لا غنى عنه لتفهم كلمة الله.

نبدأ بالمستوى ذو الخاصية الدلالية. إنّ قناعتنا محددة جِدًا: الخبرات اليومية هي أمرٌ لا غنى عنه لتفهم ولإدراك كلمة الله.

لكي نقول مَنْ هو الله نستخدم كلمة واحدة (وخبرة متعلقة) خاصة بنا تمامًا، نقول: إنّنا ندعوه “أبًا”. ولكي يتحدث عن قصد الله فينا، روى يسوع حدث الشاب الذي ترك بيت ابيه، وعندما قرر العودة أخيرًا وجد ذراعي الأب مبسوطة لتحتضنه. العهد القديم يطرح قصة شعب سائر نحو الحرية، لكي يعود إلى أرض آباءه.

كشف الله لنا بعضًا من ذاته وحدثنا عن خطة حُبّه للبشرية والخلاص الذي أعده لها، مستخدمًا كلمات وخبرات من وجودنا اليومي. وقد سبق لنا تأكيدها، بتأملنا في وثيقة ” كلمة” الله، Dei Verbum: “إنَّ كلامَ الله الذي عُبِّرَ عنه بلغةِ البشرِ صارَ شبيهًا بالكلامِ البشريّ كما فيما مضى من الأزمنة صارَ كلمةُ الله الأزلي شبيهًا بالبشرِ بعد أن أَخَذَ جَسَدَ ضعفنا البشري”(بند ١٣). كلمة الله لا يُمكن أن تتوجه للإنسان بدون أن تصير كلمة عن الإنسان وكلمة إنسان معًا في نفس الوقت. كلمة الله يمكن أن تقول شيئًا للإنسان، بأن تصير كلمة “من أجل الإنسان”، لمجرد الحديث بلغتنا، والإشارة لخبراتنا، واتخاذ خبراتنا هذه كدرجات مُعبّرة عما تُعلنه.

توابع هذا الواقع، المتَضَمَّنُ في الوحي الإلهي، هامة للغاية بالنسبة لتأملنا هذا الذي نقوم به. ففي الواقع، إن كان الله يتصل بالإنسان من خلال خبرات بشرية، “مفعمة بحضوره”، فقط في داخل خبرات بشرية جديدة، مشابهة لتلك الأصلية التي نقلها الوحي الإلهي، فمن الممكن تفهم رسالة الله كخبر سار بالنسبة لنا.

الخبرات التي أُشير لها ههنا، هي تلك الخبرات التي تُشكّل وجودنا اليومي المحسوس. علاوة على ذلك، تلك التي تُستخدم كأصل للوحي الإلهي عن الله هي الخبرات التاريخية للشعب العبراني، وخبرات الأنبياء، وخبرات يسوع وتلاميذه. هذه الخبرات هي خبرات أساسية في الوحي الإلهي لأنّه بها اتخذت كلمة الله “جسدًا” من أجل الإنسان. من ذلك الحين صارت بالنسبة لنا خبرات متميزة ومشروعة. لكنها ليست كافية لفهم ما يكشفه الله لنا، فنحن بحاجة لدلالية جديدة، تقودنا إلى ما تُظهره هذه الخبرات لنا وتجعله مُعبرة بالنسبة لنا. لذلك، هذه الخبرات عينها مفتوحة وجذابة لخبراتنا اليومية. هكذا تُصبح خبراتنا، بحقارتها وغموضها، نوع من التفهم المسبق المتعذر استئصاله، نقترب به من كلمة الله ونجعلها كلمة من أجلنا.

٢.١.٢. الخبرات اليومية كمكان متميز للقاء مع الله

الدافع الأول يتعلق بفهم كلمة الله. أمّا الثاني فيستقصي نوعية استجابتنا لله الذي يدعونا من خلال كلمته.

المعلوم لدينا تمامًا: هو أنّ الوحي الإلهي لا يُقدم لنا معلومات، لا يمكن بلوغها؛ يكشف الله لنا ويكشفنا لأنفسنا بأنّ يُحفّزنا على قرار بشأن حياتنا كلها. لهذا، كلمة الله هي دائمًا دعوة تتحدى وجودنا بأكمله.

هنا ينشأ سؤال تلقائي سبق أن ذكرناه في بداية هذا الطرح: أين نستجيب لله الذي يُحادثنا ويُكلمنا؟ الله يكلمنا من خلال الخبرات المتشابكة في وجودنا اليومي، ونحن نتجاوب معه ونلاقيه في هذه الخبرات عينها.

أساس تأكيدنا هذه يكمن فيما نعرفه عن قصد الله الخلاصي. فلا يمكن أن يكون لهذا بديل إن كنا نريد وضع الإيمان مرجعية إجبارية في بحثنا المتعلق بهدف العمل الرعوي مع الشباب.

إنّ إيمان الكنيسة يذكّرنا بأن الخلاص عطية مقدمة من الله لجميع البشر. لهذا، بالتأمل في قصد الله، “القصد الخلاصي الشامل”، الكثير من اللاهوتيين وصلوا إلى تأكيد أن التاريخ هو تاريخ خلاص (أو هلاك): قصة ظهور المعنى الخلاصي الكامن في تواصل الله الذاتي هذا، قصة قبول أو رفض الإنسان لهذه العطية.

الخبرة البشرية لها بُعدها المتشابك، ذلك البُعد الذي يجعلها خبرة خلاصية. بهذا الشرط وحده يكون اتصال الله الذاتي وقرار الإنسان الحر قبول (أو رفض) هذه العطية شامِلَين حقيقةً: أي يشملان كل إنسان. إن كان الخلاص مرتبطًا بالقبول الصريح ليسوع المسيح أو المعرفة الموضوعية لوجوده في التاريخ، سيكون هناك استثناء لكثير من الناس من الخلاص، لأنّهم مازالوا لم يعرفوا يسوع المسيح.

المجال الوجودي الوحيد، الذي يشترك فيه كل إنسان حقيقة، هو حياته اليومية وخبراته الملموسة التي يكوّنها فيها. والتأمل في حدث التجسد قد كشف البعد اللاهوتي لهذه الحياة. وقد أدى بالتالي إلى التعرف على أنّ الإنسان عندما يمارس وجوده بحرية ويعيش خبرة إنسانية أصيلة، يُدرك الوحي الإلهي الكامن في هذه الشريحة من التاريخ ويُعلن قراره (الإيجابي أو السلبي) تجاه الله وتجاه هبة خلاصه. وبهذا يختار ويُفعّل، بحرية، حركة إنسانية، حركة “قبول” و”اختيار” تجاه قصد الله الخلاصي. لكيلا نُبطل مشيئة الله الخلاصية الشاملة، يجب علينا أن نُميّز بين القبول الموضوعي بمعرفة صريحة وساطعة تظهر في تعابير الإيمان المختلفة كالأسرار مثلا، وبين القبول الواقعي حتى وإن كان ضمنيًا وموضوعيًا. في الحياة اليومية، المُعاشة بأصالة والتزام وأمانة، يُمكن لكل إنسان أن يتقبل قصد الله، واقعيًا حتى وإن كان هذا بطريقة غير موضوعية.

بهذا المفهوم نتوصل إلى توفيق، بجهد تأملنا الضئيل، الضرورتين اللتين نقرّهما في حدث الإيمان المُعترف به: عرض الله المقدم لجميع البشر والاستجابة، الحرة المسئولة، من جانب كل إنسان.

إن عرض الخلاص شامل، لأنّه العطية التي تؤسس الذاتية العميقة لكل إنسان. واستجابة الإنسان حرة ومسئولة لأنّها قرار يتعلق بوجوده في مجال يعمل ويتنافس فيه الجميع. إنّها قرار يتخذه بشأن الخلاص، لأنّ خبرته، في جذورها، هي تجسيد للعرض الخلاصي الذي يقدمه الله باتصاله الذاتي.

الوصف الذي أورده إنجيل متى (مت ٢٥) عن الدينونة الشاملة، يُقدم لنا أُفقًا مكشوفًا ويوجه بحثنا في اتجاه محدد تمامًا. فهو يُخبرنا عن الموضع الملموس لاستجابة الإيمان والحُبّ لله الذي تجلّي في المسيح، إنّها التفاني من أجل الأخ المحتاج. فكما اشارت الرسالة العامة “تألق الحقيقة” إن الإنسان سيُدان عن الحب، الحب الذي يَعطي الوصايا معناها والذي يُلخصها جميعًا: عند مساء الحياة سنُدان عن الحبّ” كما عبر يوحنا الصليب . الطقس الديني واللقاء الصريح الفيصل بكلمة الله، ومعرفتها من حيث المفهوم، قد تكون غير موجودة أيضًا. الإنسان قد يلتقي بالله، في الظلمات والخطأ والجهل، ويُعطي له ذاته حقيقةً، إن كان قادرًا على الالتزام الجاد التشجيعي تجاه الإخوة؛ بكلمات أخرى لو كان يعيش خبراته اليومية في نطاق أصالة إنسانية.

٢.٢. المرجعية المسيحانية
قبل صياغة أهداف العمل الرعوي علينا الوصول إلى استنتاجات عملية تمكنا من صياغة الهدف. نحتاج لبعض المؤشرات الجديدة: إن تحليل الوضع الحالي لمقارنته بالوضع المستهدف لتعرف على الفجوة الحادثة بينهما التي تمكن المخطط من وضع الأهداف التي يبغي الوصول إليها، يتوقف على الطريقة التي يتم بها النظر إلى المستهدف. هل هو غير موجود في البداية ولا يمكن ضمان وجوده سوى بمجموعة من التدخلات المتلاحقة. أم إنه حيازة تدريجية وموضوعية لما هو موجود فينا من الأساس يتم الإلمام بجوانبها والإقرار بها وبعد ذلك توجه بشكل خاص نحو إجراءات موضوعية متتابعة؟

مَنْ يواجه هذه المشاكل بمنظور إيماني، يكون مدفوعًا للمواجهة بمعلومة محددة وحاسمة: ألا وهي أنّ حضور يسوع المسيح في التاريخ اليومي وتضامنه العميق والخلاصي مع بشرية كل إنسان هو حدث موضوعي. إنّه لا يعتمد على قصدية الشخص ذاته، أو بتعبير آخر، لا يعتمد على ما إذا كان يعرفه ويريده؛ بل يعتمد بجملته على خطة محبة الله، الموجودة قبل أي قرار نتخذه نحن بشأنه. يسوع المسيح، في الواقع، هو الحدث الأكثر أصالة، حدث مشيئة الله الخلاصية الشاملة، لأنّه بيسوع المسيح تحقق خلاص الله لجميع البشر بفعالية. بيسوع المسيح صار الخلاص بُعدًا من أبعاد وجود كل إنسان، بمنظور تقدمة وعطية تسبق ردة الفعل العكسية لحريته وتفهمه، حتى وإن كانت تتطلب استجابة شخصية بحياة تُعاش بالتزام جِدي متطور.

مثلما صار الفصح واقعًا في تاريخ الإنسان، كذلك أيضًا الخبرات اليومية قائمة فعلاً بشكل حاسم ومحدد في هذا الأفق الخلاصي. هذا واقع له ثقله، وتماسكه وفعاليته بصرف النظر عن موضوعيته في ضمير كل إنسان بمفرده.

٣.٢. الإدراك الشخصي بشأن كياننا الذي خُلقنا عليه

الواقعية موجودة فعلاً في قضية الخلاص. أليس لدينا ما نفعله بعد ذلك؟ هل الوعي بما نحن عليه كردة فعل لا فائدة له، لا شأن له بالنسبة للنضوج الشخصي؟

الإجابة سلبية بالتأكيد. بمجرد الاعتراف بكياننا الوثيق الذي نحن عليه، ينشأ الالتزام والمسئولية بتوسيع معرفتنا به. ذاك الذي “هو” خليقة جديدة يجب أن يكون لديه معرفة شخصية فَرِحَة. يجب أن يكتشف، في المُجريات اليومية لحياته، أنّ كل لفتة من لفتات جديته البشرية تفتح أُفقًا للسمو، موسوم بالتجديد في المعني وبالأصالة، التي جُبِلَ غنيًا بها.

ملء التعبير المسيحي يتمّ بلوغه، عندما يكون الضمني موضوعيًا أيضًا، عندما يصير استجابة معرفية وقبول مُعتَرِف بالخلاص بيسوع المسيح. المرجعية الصريحة ليسوع المسيح تؤدي إلى اللقاء مع الجماعة التي هي علامة وتحقق مبدئي لخلاصه، أي الكنيسة. الاعتراف بيسوع المسيح وقبول الكنيسة يعبران بطريقة موضوعية عن التوجّه الأساسي للحياة نحو الخلاص.

النمو يكون على مستوى القصدية: من المُعَاش إلى موضوعيته، من الضمني إلى الوعي كردة فعل وكخبرة. بل أنّه نمو أساسي، لأنّه يتيح للشخص أن يتفهم ذاته بطريقة أصيلة، فيكتشف أعمق حقيقة في ذاته.

توطيد وتدعيم هذا الوعي يتداخل ضمن المهام التي يخططها مسبقًا مَنْ يتساءل بشأن هدف تدريس الإيمان. الأمر لا يتناول عملية تتم بخطوات بطيئة نحو نتيجة بعيدة تمامًا ويتحتم بنائها بكاملها. إذ نحن منغمسون في خلاص الله بالتضامن التأسيسي مع يسوع الناصري، علينا أن نهتم بتنمية الوعي الرد فعلي لهذه الخبرة.

لحسن الحظ، لا يمكننا أن نُضيف شيئًا على المُعطى الواقعي. وهذا يحررنا من ذلك القلق المحموم الذي ينتاب في كثير من الأحيان العاملين في المجال الراعوي، المقتنعين بأنّ كافة المسئوليات ملقاة على عاتقهم. مع ذلك، يمكننا – وهذا واجب مُلح عاجل بالنسبة لنا – أن نساعد الناس على وضع موضوعية لوجودهم، موضوعية ما نحن عليه فعلاً بسبب العطية. الأمر ليس هينًا، فالوعي الرد فعلي لا يقودنا نحو حقيقة ذواتنا فحسب، بل يؤثر مباشرة على الناحية العملية: فمن يتعرف على أعمق أسباب سعيه، يرقي إلى مستوى التعبير عن ذاته بشجاعة وأصولية غير متوقعة. هكذا يصبح الوعي الرد فعلي لما نحن عليه نبعًا لنوعية جديدة من الوجود.

٤.٢. الحياة بالإيمان، والرجاء، والمحبة
في التقليد المسيحي غالبًا ما يُستخدم تعبير دقيق جدًا، للحديث عن المستوى اللاهوتي لهذا الوعي وللتذكير بأنّه يتغلغل في الوجود كله: ألا وهو الحديث عن الإيمان، الرجاء، المحبة.

الوعي بأنّنا نعيش مغمورين في خلاص الله وبكوننا صرنا بيسوع المسيح “خليقة جديدة” (حسبما ورد في رو ٨) هو خبرة إجمالية، تجمع الوجود وتوحده. هذا الوعي يقابله القرار الجذري بقبول عطية الخلاص هذه، بواسطة استجابة لمبادرة الله، بل استجابة إجمالية توحد وتشمل الجميع. كمثل كل تعبير وجودي، هذا التوجّه الشامل قد يكون مفهومًا وظاهرًا من خلال أبعاد خاصة وموضوعية. الإيمان والرجاء والمحبة هي نوع من الحبكة القصصية، المتناسقة والواضحة، للوجود المسيحي، طريقة للتعبير بموضوعات عن استجابة الإنسان الشخصية لله، عن الاختيار الجذري ليسوع المسيح باعتباره “المُخلِّص”.

الوجود يصبح اعترافًا بيسوع المسيح، عندما يقبل الإنسان فعل الله الكاشف بكلمة ” نعم” الإيمانية الكاملة: ” نعم” الواثقة والخاضعة بحُب. بهذا المعني يكون الوجود المسيحي وجودًا إيمانيًا.

الوجود هو انتظار واثق لظهور يسوع الآتي. إنّه وضع الرجاء فيه، في الله، الذي وعد كل إنسان. هكذا يكون الوجود المسيحي وجود رجاء.

الوجود أيضًا عطاء شخصي ليسوع المسيح، عطاء مُقدم بالحُب الفاعل تجاه القريب. الحُب ليسوع المسيح، وبه، للآب الذي أحبنا أولاً، يتأكد ويترسخ بالسلوك المتبع تجاه القريب: المسيحي الحقيقي هو ذاك وحده الذي يتمم مقتضيات محبة القريب. وهكذا يكون الوجود المسيحي هو وجود محبة.

بالإيمان والرجاء والمحبة نضع يسوع المسيح في مركز وجودنا. فالاعتراف بيسوع المسيح في الواقع هو اعتراف به كمعنى أخير ونهائي وحاسم، يتغلغل في كل معنى شخصي أصيل، حتى وإن كان زائلاً. هذا المعنى المتحصل عليه كعطية، يكشف قيمة الملء الموجود في لفتة إنسانية. إنّه يتخذ البشري ويُعظّمه بأفق الإلهي. هكذا يُعطي للإنسان رؤية كاملة لوجوده، رؤية قادرة على توحيد الحياة التي تتجاذبها الصراعات والتناقضات.

في الوقت نفسه، يُقدَّمُ يسوع كخاصية نبوية وكقاعدة قانونية لتنظيم وترتيب وتأصيل الخطط والإنجازات الشخصية. الخبرة اليومية تجد خاصية تقييمية بالإشارة إلى يسوع المسيح. من بين العديد من المشاريع الذاتية، التي تتشابك في كثير من الأحيان فتجعل الأصالة البشرية الحقيقية مسألة صعبة، الإيمان والخلاص يوجِّهان نحو حقيقة الإنسان. وفي خضمّ الأتعاب اليومية لتحقيق الذات بالتمسك بالخطة التي يحلم المرء بها، يُعزز الإيمان والخلاص رجاءً يفوق كل المعايير البشرية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد