إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

رعويات الشباب (7): تحديد الاحتياجات التكوينية

0 994

التكامل ما بين الإيمان والحياة يعني إعادة تنظيم الشخصية حول يسوع المسيح ورسالته، يسوع المسيح المشهود له في الجماعة الكنسية الحالية، إعادة تنظيم مُحققة بطريقة تعتبر أنّ يسوع المسيح هو “المُحَدِّد” أو العنصر الحاسم على المستوى التقييمي والعملي.

لدينا العناصر الهامة كلها: في المركز يسوع المسيح، الذي تم اللقاء به وقبوله باعتباره “المخلص”، إلى حد أن يصبح هو “المُحَدِّد” للوجود. يسوع المسيح هنا بمثابة حدث إجمالي: شخصه، رسالته، قضيته، التي يُشهد بها للشعب الذي يعترف به ربًّا.

نتيجة هذه الخبرة الخلاصية هي شخصية أُعيد تنظيمها أخيراً بوحدة وجودية: مفعمة بمسئولياتها، متركزة على البحث عن معاني الحياة، متحررة من الشروط، أُعيد وضعها في داخل شعب المؤمنين، قادرة على معايشة إيمانها بكثافة، والإشادة والاحتفال بهذا الإيمان عينه في حياتها اليومية.

١. النموذج
الصيغة غنية جِدًا. ولاستخدامها بطريقة صحيحة في خطة لراعوية الشباب، يجب عليّ أن أحل رموز النموذج الأنثروپولوچي (الإنساني) الذي يستلهمه العرض والضرورات التربوية والعملية المتضمنة فيها. لهذا، سأستمد من علوم التربية ما تستدعيه الصيغة اللاهوتية فقط.

يبدو لي أنّ هناك فئتين هامتين بشكل خاص لفهم معنى الهدف والعملية التي تضمن بلوغه: الهوية (لفهم المعنى) والتمكين (لفهم العملية).

أ‌- توحيد الشخصية: مشكلة الهوية
لو أمعننا التفكير في وصف “التكامل بين الإيمان والحياة” بحثًا عن النموذج الأنثروپولوچي الذي يستلهمها، من السهل أن نؤكد أنّ الصيغة تضع وظيفة الإيمان في نطاق محدد من عملية النضوج: بنيان الهوية الشخصية. أنّ نقول التكامل بين الإيمان والحياة هو كالقول ترسيخ الهوية الشخصية، بإعطائها معنى جديد وتنظيمها حول المسيح يسوع ورسالته، حسبما تشهد لهما الجماعة الكنسية.

لذلك، هدف راعوية الشباب يستدعي تلك الطرق وتلك المهارات المطلوبة لبنيان الهوية؛ ويضاف لهذه المقتضيات التي يحددها إلهام الإيمان. هذه الطرق، نتعرف عليها من القراءات الغزيرة عن المسألة. وهي ليست متماثلة المعنى دائمًا، لأنّ موضوع الهوية مرتبط تمامًا بنماذج أنثروپولوچية أكثر عموميةً. دعوني انقاد لاستيعاب لاهوتي مُسبق، مثلما يجب أن يفعل كل مَنْ يبحث عن عمل تأمل راعوي صحيح، فيمكنني التوجّه للتعددية وأقترح بعض الخيارات.

الهوية تعني، حسب طريقتي في انظر للأمور، “نظام متكامل من الروابط، تركيبة مكونة من معلومات فيها المجال الخارجي، والآخرين، المجتمع والمعايير والقيم، كلها لها رموز ومُنسّقة في نظام تشغيل داخلي” .

كذلك أيضًا، الهوية هي الوسيط الديناميكي (الحركي) الذي يربط الشخص بالعالم. إنّها وصف للشخص وتحديد لوضعه بالنسبة للآخرين وتوصيف لمؤهلاته، فتتيح له معرفة ذاته وأن يكون معروفًا. في الوقت نفسه تتعرض باستمرار لإعادة الصياغة بتحفيز من علاقتها بالبيئة الخارجية.

الخاصية العلائقية للهوية ينبغي فهمها كقدرة ذاتية على مواجهة التحفيزات الآتية من الخارج مع قيم تعمل كمعايير لتحسين المستوى الشخصي. لذلك، تقديرات وأعمال الشخص (وعمليًا طريقته في الفعل، “سلوكه”) يُمكن اعتبارها بمثابة ثمرة للتبادل بين التاريخ الشخصي لكل فرد والإسهامات الثقافية المقدمة من الخارج، التي من خلالها يُكتب ذلك التاريخ ويُعاش. هكذا تضمن الهوية دوام واستمرارية صاحبها، بالإضافة إلى الاختلافات التي لا يمكن إنكارها، تلك التي تحدث له على مر الزمن.

في المجال المنسجم المتكامل، القليل التغيير وذو المرجعية الواحدة، العلاقة أنا- العالم كانت قبلاً سهلة الترسيخ وواضحة التوجّه. أمّا في زمن كزماننا، ذو التعقيدات الكبيرة والذي تكثر فيه التغييرات العميقة والسريعة، تنظيم الهوية الشخصية يتطلب قدرة انفعالية كبيرة لمعالجة المُحفّزات الوافرة وعدم تجانسها. في هذه الحالة، بنيان هوية متناغمة وراسخة يكون هدفاُ يتطلب التزام بعملية طويلة من النضوج الشخصي.

ب‌- يسوع المسيح،””المُحَدِّد””
بما أننا وضعنا هدف راعوية الشباب على جبهة الهوية، علينا إذًا أن نتخذ هذه المؤشرات ونطورها قُدُمًا.

القيم التي تقوم عليها وظيفة معالجة الهوية، لا يُمكن أن تكون ذاتية فقط، كأنّ كل شخص باستطاعته أن يُعرِّفها على هواه. بل يجب أن تعكس بطريقة ما القيم الموضوعية في الحياة المسيحية.

نحن نعرف هذا وسبق لنا ذكره مرات عديدة. القيم الموجودة في الخبرة المسيحية قبل كل شيء ليست مجموعة عضوية مُفصّلة من التعاليم العقائدية التي ينبغي معرفتها. إنّها شخص: يسوع المسيح. وهو يعرض لنا رسالة، مازالت تُدوّي في داخل جماعة تلاميذه. شخص يسوع المسيح ورسالته، المتكاملين في بنيان الشخصية، أصبحا “المُحَدِّد” للهوية الشخصية.

مرجعية يسوع المسيح في النظام الشخصي للمعاني لا يُكن النظر إليها كالتقاء بمُحفِّز إضافي، يجب إضافته للمُحفزات الأخرى التي يُعيد الشخص بنيان هويته الشخصية علي أساسها. ولا يُمكن أيضًا اعتبارها قيمة بديلة عن القيم الأُخرى المُعالَجَة، بطريقة فردية، كنوع من التنافسية القوية التي تُوقف دوران دواليب تنظيم الشخصية. الصيغة “التكامل بين الإيمان والرجاء” تذكر أنّ مرجعية يسوع المسيح في معالجة الهوية الشخصية، تعمل كخبرة محورية لها بنيانها ذو المصداقية، تُنظّم العمليات المعرفية والتفسيرية والعملية.

التحديد أمر هام، في المفهوم التربوي. فهو يؤكدًا مجددًا على محورية يسوع المسيح في الحياة الجديدة للمسيحي ويردّ لهذه المرجعية كل قوتها التوجيهية، حيث تتحدد المجالات التي يجب أن تقوم فيها مرجعية يسوع المسيح: الإيمان لكي يتقلد مهامه، لا بُدّ أن يكون له بُعد شخصي، وبُعد استمراري، وبُعد كنسي.

البُعد الشخصي يبين ضرورة معايشة الإيمان كثقة وتسليم للذات بُكليتها إلى الله الذي يُخلِّص بيسوع المسيح، الذي يُرتكز عليه كصخرة ثابتة ومأمونة.

والبُعد الاستمراري يُذكِّر بأنّ الإيمان يتضمن قبول ما يقوله الله بيسوع المسيح، وقبول ما فعله لأجلنا، ولما يتطلبه منا كاستجابة لخطته الخلاصية. البُعد الاستمراري يُدرك أيضًا “ماهيّة” الخبرة المسيحية، تلك الأحداث وتلك المعلومات التي تُعبّر عن مضمون حكمة الإيمان؛ و”كيفية” الحياة الجديدة للمسيحي، أي تلك المهارات التي تصِفُ المنطق الجديد للمسيحي.

أخيرًا الإيمان له بُعد كنسي، لأنّ إيمان المسيحي هو دائمًا إيمان بجماعة المؤمنين: فهذا هو المكان الذي نلتقي فيه بحدث الإيمان، الذي تستقر فيه وتتأكد أسباب الإيمان ودوافعه وفيه نعترف بالاختيار الشخصي للحياة.

٢. إعادة التفكير في النماذج الراعوية
الطريقة التي اقترحتها لفهم المعنى العملي لمسألة “التكامل بين الإيمان والحياة” تدفع إلى مراجعة بعض النماذج الموجودة للأسف في الممارسة الراعوية.

الإشارة إلى الهوية، قبل كل شيء، تُحرِّك الاهتمامات التربوية من الخوف والتحكم نحو الالتزام بالتحقق من الأمور والمقارنة. غالبًا ما كان تدريس الإيمان يتوجه إلى تدريس الأمور التي يجب تجنبها والأمور التي يجب اتباعها. وبعد ذلك تم تقليص القوائم الطويلة من حين لآخر بسبب الضرورة العاجلة التي اقتضتها القابلية للتطبيق العملي. أمّا من يضع بنيان الهوية الشخصية في مركز عمله، فهو يعرف أنّ المسألة، قبل كل شيء، ليست تلك المُحفِّزات الخارجية، التي غالبًا ما تكون خارجة عن نطاق السيطرة ومفككة بطريقة سلبية استسلامية. المسألة العاجلة شيء آخر: القدرة على التحقق من كل شيء في ضوء المرجعيات المعيارية ودمج ما يتعلق بالمقياس التقييمي المعترف به في داخل البنيان المعرفي.

الإشارة إلى الهوية، بعد ذلك، تطرح تساؤلاً حول تلك النماذج الراعوية التي يتضح أنّها إمّا أُصولية جِدًا أو اختزالية جدًا.

النماذج الأصولية هي تلك النماذج التي تُعرِّف العلاقة إيمان-حياة من ناحية تنافسية كما لو أنّ مضمون الإيمان يحل محل البحث المستقل عن القيم والمعاني أو يندرج كبديل أصولي في مواجهة ما يوم الإنسان بمعالجته بعلومه وحكمته.

أمّا النماذج الاختزالية فهي تلك التي تُبطِلُ وظيفة الإيمان، لأنّها لا تُقِرُّ بمهمته في إعادة التعريف والحكم بطريقة قطعية مُلزِمة على تلك القيم التي يتخذها الإنسان ونظامها في بنيان الشخصية.

على المستوى الإيجابي، مرجعية الإيمان لا تركز الانتباه على ترسيخ الهوية الشخصية، بمحاولة اقتيادنا قسرًا إلى مجالات وجودية أخرى. بل تضع المقتضيات المطلوبة لبنيان الهوية الشخصية وتؤهلها. إنّها، بعد كل شيء، طريقة أكثر أصالةً ونضوجًا لفهم هذه العملية الحاسمة جدًا لأجل النمو الشخصي.

مَنْ يُراجع هذه الملاحظات بانتباه، سيُدرك معلومة وردت باعتبارها تحتل الصدارة في الموضوع: حياة الإيمان والرجاء والمحبة، واتخاذ يسوع المسيح “مُحدِّدًا” للوجود الشخصي، هي طريقة حياة أناس جادين وواعين متحملين للمسئولية. في تعددية الافتراضات الأنثروپولوچية، مرجعية يسوع المسيح تفترض افتراضًا محددًا: إنّها مقَدَمة للحرية والمسئولية الشخصية، التي تضعها في مستوى إنساني ملموس تمامًا. في الوقت نفسه وفي أعمق ثنايا هذه الخبرة، تقترح عطية أسمى للحياة وللمعنى (الخلاص كحياة جديدة) تُشبع وتُريح البحث الشخصي وتمنحه الأمان في مواجهة عدم اليقين والفشل الذي يلوح في الأفق.

فضلاً عن ذلك، لا يمكننا أن نغفل أنّ مرجعية الإيمان تتضمن وتتطلب في الوقت نفسه مؤشرٍ عالٍ من الاستقرار. لم يَعُد كافيًا ذلك الحد الأدنى من الاستقرار الذاتي الذي يضمن الاستمرارية الأساسية للموضوع في خضم التغييرات التدريجية؛ يتطلب أيضًا استقرار وترسيخ القرار الحاسم فيما يتعلق برموز الإيمان الموضوعية والتنظيمية. وفي الواقع، يسوع المسيح قد أعطى مرجعيات مستقرة ومتجانسة ومؤكدة. مساهمته لا تستبدل النظام التقييمي للشخص، بل تنسقه على نحو حاسم وتدعمه. إنّها تعمل في مجال الهوية الشخصية كمبدأ للمعالجة يقود ويتغلب على التفتت العارض وتعقيدات المعلومات التي تأتي من المجال الخارجي. الجماعة الكنسية، بصفتها شهادة رسمية ومؤسسية برسالة يسوع المسيح، تضمن مكانًا لتحديد الهوية، يفوق التعددية، وقادر على دعم العملية بكاملها.

أ‌- على المستوى التأهيلي
لقد ربطت المسيرة نحو تكامل الإيمان والحياة بعملية إدماجية ناضجة ومتوازنة للهوية الشخصية. هذا الخيار يشير على الفور لخيار آخر، بطريقة شبه عفوية.

بنيان الهوية هو عملية معقدة تتشابك فيها معارف مكتسبة وسلوكيات مُختبَرة يُعْمَلُ بها؛ لكنها ليس فيها تزامن مع هذه ولا تلك. علاوة على هذا، لا يمكن اعتبارها مسيرة محدودة، كما لو كان هناك حد لم تكن الهوية الشخصية موجودة قبله وبعده تكون منسقة جيدًا ومنتهية. الإشارة للهوية تستدعي على الفور الاهتمام والعناية بالخاصية الديناميكية. اكتساب الهوية واستقرارها هما عملية دائمة، نكتسب من خلالها “مقدرة”. التكامل بين الإيمان والحياة يتضمن التفعيل التدريجي لمجموعة من المهارات الوجودية.

هذا هو أول استنتاج هام. فالتلويح “بالتأهيل” يبين أن العملية يمكن أن تكون بطيئة ومتدرجة وأنّ استقرار الهوية الشخصية يمكن أيضًا أن يكون جزئيًا وتدريجيًا. مَنْ يتأمل في هذه المشاكل بعين تربوية، مثلما نفعل نحن الذين نعتقد في معيار التدريس غير المباشر للإيمان، ستتولد لديه رغبة في التفهم بشكل أعمق. رغبة في معرفة كيف وأين ينبغي التدخُّل لتدعيم هذه التأهيلات.

ب‌- تأهيل السلوكيات المُناظِرة
التأهيل المراد بلوغه في إطار الهدف يتكون من معارف وسلوكيات وتصرفات. فما هي العلاقة بين هذه المهارات المختلفة، بحيث تتيح لنا تقرير أن الشخص”مؤَهل”؟

أستأنف التأملات حول الإيمان والرجاء والمحبة، والسلوكيات الأساسية التي تقيس تحقيق التكامل بين الإيمان والحياة على مستوي ردة الفعل المعرفية أيضًا.

الإيمان والرجاء والمحبة هي عطية الله، لأنّه بيسوع المسيح وحده يُمكن أن نؤمن ونترجى ونُحِب. بل إنّها عطية تُحفِّز استجابة الإنسان وتجعله قادرًا على الاستجابة. لهذا تتطلب استعدادات إنسانية تُترجم معنى الحياة التي تقدمها وتطبقه في إيقاع الوجود اليومي.

إنّها نداء لدعم حرية الإنسان التي تُعطي للحركة الحوارية، لعطية الله ولرد الإنسان على قوة هذه العطية، بُعدًا إنسانيًا حقيقيًا. كتحليل أخير، إنّها تُغلف نوعية الحياة اليومية والتدخلات التعليمية التي تخدم عملية النضوج.

لنتفكر في مثال كلاسيكي في التأمل اللاهوتي التقليدي.

الفصل ١يو ١٤ يذكر أنّه لا يمكن أن نُحب الله حقًا ما لم نُحب القريب. الدافع مرتبط بواقع أنّ الله لايُري، بينما القريب مرئي. إذًا هناك مجال لتدخل محسوس، اختباري (محبة القريب)، تظهر فيه، تتحقق فيه، كأنّه ُمقياس، العلاقة الشخصية مع الله.

يُمكننا تدريس سلوكيات الخدمة وتنمية الآخر، واحترامه. أو يمكنك أن تتعلم سلوكيات القهر والتلاعب والاستغلال. الأمر يتناول دائمًا سلوكيات بشرية، تتعلق بتلك العملية، أي عملية التخطيط الشخصي التي دُعي كل إنسان لتحقيقها. في الوقت نفسه، هذه السلوكيات لها ثقل تحديدي في السلوكيات المسيحية الأساسية للمحبة اللاهوتية. بدون التعود على هذه السلوكيات المقابلة، لا يُمكن معايشة المحبة: التأكيد أنك تُحب الله يعنى أنك تعلن الكذب والزيف، لأنّك لا تُحب القريب. لكي تكون الحياة الشخصية استجابة لعطية الله بالمحبة، تتطلب استعدادًا ثابتًا للحياة بسلوك خدمة القريب.

عطية المحبة اللاهوتية تصبح فعل محبة ملموس فقط عندما يتعلم المرء أن يضع ذاته في سلوك خدمة تجاه الإخوة. المحبة سلوك أساسي في الوجود المسيحي. والاستعداد للخدمة هو سلوك مقابل، مُكتسب. نسميه مكتسب لأنّه ينمو ويتطور عن طريق التعلُّم؛ ومقابل لأنّه في تكوينه يستلهم عطية المحبة ويؤهل استجابات المحبة في مواقف الحياة المحسوسة.

الانطباعات التي تناولناها عن المحبة التي تصير خدمة يجب تعميمها في كافة أبعاد الوجود المسيحي.

الوجود اليومي يكون في حقيقته وجودًا مسيحيًا فقط عندما يتوجه نضوج الشخصية نحو سلوكيات إنسانية، على خط ونمط الإيمان والرجاء والمحبة. بخلاف ذلك، يظل المعنى المُعبّرُ عنه بأشكال مُعنونة (أي التوجّه المسيحي الصريح والشكلي) واقعًا فارغًا، لأنّه لا تقابله حياة تُعطي تماسكًا وثباتًا لما يُعبَّرُ عنه.

يمكن أن نقول، في الخلاصة، أنّ سلوكيات الإيمان والرجاء والمحبة الأساسية، تتطلب تصرفًا معتادًا، موضوعًا في سياق التصميم الذاتي، وبالتالي، هو ثمرة التعليم، الذي يترجم معنى الحياة التي تمثلها في إيقاع الحركات الملموسة واليومية.

السلوكيات الأساسية في الحياة المسيحية تؤدي إلى تتميم وتأصيل الحياة اليومية لكل إنسان، بمقدار ما تُعبر عن أصالتها الإنسانية. الإنسان، المجبول قادرًا على تحقيق خلاصه الشخصي بالاتصال الذاتي مع الله، عندما ينمو بإنسانية في اتجاه السلوكيات المقابلة، يُعبّرُ عن قراره الضمني على الأقل بشأن يسوع المسيح .

ت‌- بين السلوكيات والمعارف
هذا التأمل مهم جِدًا لفهم، بمفهوم تعليمي، العملية التي تؤدي إلى التكامل بين الإيمان والحياة وفتحه تجاه العواقب الملموسة التي سأشير إليها بعد قليل.

مركز العملية تحتله السلوكيات: تلك القدرات العملية التي تُنسق الصفات الشخصية بانسجام في توافر المرونة والاستعداد، للتدخل في الوقت المناسب مع معرفة كيفية ذكر سبب المرجعية.

السلوكيات ترجع إلى المعارف باستمرار، فهي تُعبّر عن بُعدها العملي، خصوصًا باتخاذها النوعية المسيحية. حسبما وضحت من قبل، ينبغي على المسيحي ألا يتخذ أي سلوك مهما كان: فهو يجب أن يعايره بمعيار يسوع المسيح، ورسالته والشهادة الراهنة للكنيسة. هناك إذًا خط تحديدي دقيق بين السلوكيات “المحددة” بيسوع المسيح والسلوكيات البعيدة عن قصده في الحياة. المعارف هي التحقق الموضوعي من السلوكيات، ومدى ملائمتها لاتجاه حقيقة وحدث يسوع.

لكن المعارف ليس غاية في حد ذاتها؛ ولا تمثل الأرضية التي يتمّ فوقها التحقق من مستوى التكامل بين الإيمان والحياة. فالأمر لا يتناول “معرفة” وإظهار “معرفة”، بل اكتساء الوجود كله بهذه “المعرفة”. تكامل الإيمان والحياة يعني أساسًا إعادة بناء الشخصية، بإعادة وظيفة “المُحَدِّد” في الخيارات وقرارات الحياة إلى حدث يسوع. لذلك نحن لا نبحث في معارف من النوع الفكري، بل معارف تتيح التقييم والتدخل في المواقف الملموسة في الحياة، باستمرار وثبات.

٣. إلى جانب الحياة
البحث المتعلق بهدف راعوية الشباب قد بلغ ختامه أخيرًا. المشكلة التي انطلقت منها (ماهي الاستجابة الواجبة علينا تجاه عطية الخلاص؟)، قد أنضجت بالتدريج عناصرًا هامة في

الحل. أذكرها فيما يلي:
– لاحظنا أنّ نوعية حياتنا تُعبِّرُ، بطريقة جذرية، عن نوعية استجابتنا: إذًا، الأمر يتناول تأهيل الشباب لحياة بحسب الخطة المعيارية للوجود التي يعرضها يسوع؛

– هذه الاستجابة الحيوية ينبغي أن تنمو تدريجيًا، بمعرفة موضوعية وفعلية، قادرة على التعبير بفعالية عن قرارنا بجعل يسوع المسيح هو “المُحَدِّد” لحياتنا؛

– نطاق العمل يتكون من التأهيل لسلوكيات “مقابلة” لتلك السلوكيات الأساسية التي للإيمان والرجاء والمحبة.

هذه الطريقة في النظر للأمور تُعطي مضمونًا دقيقًا للصيغة “التكامل بين الإيمان والحياة”، التي أخذتها من التجديد في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: فهي تشملها تمامًا وتُعطيها مفهومًا أكثر واقعية.

٤. عمل وحدة حول نوعية الحياة
يعتقد البعض أنّ مهمة راعوية الشباب هي إضافة شيء ما ليس لدينا إلى الحياة اليومية. هكذا يكون معيار بلوغ الهدف قائمًا على كمية العناصر الجديدة التي يقبل الشخص تكاملها في بنيان شخصيته. إنّني مقتنع بأن الفرضية الثنائية هي أصل الخلل الحادث اليوم في التواصل بين الشباب والجماعة الكنسية.

مَنْ يتقبل حياته بالشجاعة التي لا تُصدّق، شجاعة الغوص في سره المليء بالتحديات والاستفسارات، يتخذ قراره على الأقل بطريقة مبدئية تجاه حدث يسوع المسيح. اتخاذ القرار تجاه يسوع المسيح ( شخصه ورسالته طبقًا لاعتراف الكنيسة الحالي) ليس مجرد قبول لأمر ما يُضاف من الظاهر لقبول الحياة الشخصية وللالتزام بضمانها للجميع بشكل تام. بل ينبغي اعتبار هذا القرار بمثابة بلوغ ملموس وتام إلى تلك الحقيقة بعينها، التي سبقت معايشتها بطريقة مبدئية وأصيلة حينما نُطِقَ بكلمة “نعم” لأول مرة وعلى استحياء للحياة التي تمّ قبولها كحدث غامض ومثير للتساؤل.

“نعم” التي تُقال للحياة تنمو باندفاع نحو قبول الرب في الحياة عينها: تلك ال”نعم” التي كانت مجرد “نعم” ضمنية تصبح موضوعية وصريحة، أيضًا لأنّها تكتشف في الرب يسوع أصل وأساس ذلك الملء من الحياة الذي نُكثف البحث عنه لأجلنا ولأجل الآخرين. هكذا تتحقق حركة مزدوجة: عملية معرفة متطورة حول تلك الحقيقة (الأحداث والأقوال) التي سبق معرفتها ولكن بدون تفعيل، وعملية توافق تدريجي للقرار الشخصي مع نقاط المضمون اللاهوتي المؤكدة باعتبارها قواعد تنظيمية للجماعة الكنسية، فيما يتعلق بنفس الحياة، ونوعيتها، وأساسها وما يترتب عليها.

إنّها مسألة واحدة فقط: تتعلق بالحياة ونوعيتها. إنّنا نعترف في الإيمان بأن النضوج الكامل للوجود يتطلب الاعتراف بوجود الله. هذا الاعتراف، قبل كل شيء، موجود في نظام الأحداث، حتى وإن كان يحتاج لأن ينمو ويتحقق ويصير ملموسًا على المستوى المعرفي والموضوعي. من هذه المعلومة، ذات الطبيعة اللاهوتية، تنبع المهام التعليمية والراعوية الموكولة للجماعة الكنسية: مساعدة الأشخاص على العبور من الاعتراف “بالأمر” في حد ذاته (الحياة كحدث لاهوتي) إلى الاعتراف بأساس هذه الحقيقة (شخص يسوع المسيح). بهذا التطور الاعترافي وحده، يصبح المسيحي بالغًا ويعود الإنسان إلى ملء الحرية والمسئولية.

الحياة اليومية تحتل مركز راعوية الشباب، بداية من ذلك الشغف بملئها، الذي كشفه لنا التأمل في الإنجيل والذي اخترت مفهومه كأفق مُركب لطرحي هذا ككل.

أ‌- نوعية القرار
هذه الطريقة لفهم هدف راعوية الشباب تعالج مشكلة تعليمية خطيرة من جذورها.

اتخاذ القرار بشأن يسوع المسيح ورسالته، المشهود بهما في الجماعة الكنسية الحالية، هل ينبغي أن يكون بوعي ونهائي ولا رجعة فيه؛ أم يُمكن تصور قرار بشأن مشروع يحمل في طياته كل مقتضيات صنع قرار موضوعي تُعبِّرُ عنه صيغة “التكامل بين الإيمان والحياة”، وفي الوقت نفسه الحركية والتطور والقوة الموضوعية التي يسود الشعور اليوم بأنّها مقتضيات لا غنى عنها في كل قرار إنساني تمامًا؟

كما نلاحظ، التساؤل ليس فيه تعارض الوقتية – الحسم، بل هو تساؤل عما إذا كان هناك نمط لقرار ينقذ المقتضيين في نفس الوقت، ويضمن عملية صنع قرار متدرجة وتتوجّه نحو الهدف بموضوعية.

قبول “الحياة” يضمن هذين المقتضيين. ففي الواقع، رغم كون الحياة تعبير أكثر ذاتية، هي حقيقة لها تماسكها الموضوعي، الذي نقيسه،وفي حيازتنا لكنه لا ينتمي إلينا ولا يمكننا التلاعب به على هوانا. “نعم للحياة” تُعبّر عن قرار بشأن موضوع يحكم على كل ذاتية(غير موضوعية) ويفوقها، بالذات في الوقت الذي فيه تعترف به كموضوع محوري وتتاكد فيه بالحركية والتدريج الخصائص المحددة لعملية صنع قرار أصيلة. اتخاذ القرار بشأن الحياة يعني في الواقع، في نفس الوقت وبنفس الحركة، المغامرة باستقلالية تامة وبمواجهة بالحرية والمسئولية الشخصية في حدث يفوقها لا محالة.

ب‌- عملية بمنطق البذور
هكذا يضمن القرار بشأن الحياة المقدرة على التغلب على مقتضيات غالبًا ما تُختبر على أنّها متناقضة. منها مثلاً، التعارض بين غير الموضوعية والموضوعية، ومحاولة معارضة الانتباه المتعلق بالجزء بمقتضيات الشمولية… وبدلاً من وضع بدائل، ينفتح الطريق لعملية نضوج تدريجي ذو بُعد متجه نحو الأصالة(وبالتالي، نحو ذلك الآخر المشار إليه كبديل). لكن الأمر ليس هكذا فقط.

محورية الحياة اليومية تُدخِل في العملية منطق إنجيلي جِدًا: ألا وهو منطق البذور. الحياة مثل البذرة: في داخل ذلك الجزء الضئيل توجد نبتة كل الحياة التي تُعبّر عنها. بفضل قوة ذاتية وفي وجود ظروف مواتية، يتنبلج بالتدريج شيء جديد باستمرار. الأوراق، الجذع، الأغصان، لا تأني من الخارج، فهي موجودة من قبل في الجنين: البذرة نبات كبير، حتى ولو أصبحت هكذا بالتريج يومًا بعد يوم.

القرار بشأن الحياة، المكتشفة كعطية الزامية وتساؤلية تنمو مثل البذرة الصغيرة: اللايقين الأول يُصبح رويدًا رويدًا “نعم” شُجاعة وحاسمة لربّ الحياة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد