إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الحياة الجماعية 2 ” أنا والآخر”

0 1٬465

الحياة الجماعية

وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً، لا يَدَّعي أحدٌ مِنهُم مُلْكَ ما يَخُصُّهُ، بل كانوا يتَشاركونَ في كُلِّ شيءٍ لهُم
اللقاء الثاني: الخروج من الآنا
أع ٤: ٣٢- ٣٥ “وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً، لا يَدَّعي أحدٌ مِنهُم مُلْكَ ما يَخُصُّهُ، بل كانوا يتَشاركونَ في كُلِّ شيءٍ لهُم. وكانَ الرُّسُلُ يُؤدُّونَ الشَّهادَةَ بِقيامَةِ الرَّبِّ يَسوعَ، تُؤيِّدُها قُدرَةِ عَظيمةِ. وكانَتِ النِّعمَةُ وافِرَةً علَيهِم جميعًا فما كانَ أحَدٌ مِنهُم في حاجةٍ، لأنَّ الذينَ يَملِكونَ الحُقولَ أوِ البُيوتَ كانوا يَبيعونَها ويَجيئونَ بِثَمنِ المَبيعِ، فيُلقونَهُ عِندَ أقدامِ الرُّسُلِ ليُوزِّعوهُ على قَدرِ اَحتِياجِ كُلِّ واحدٍ مِنَ الجماعَةِ”.

عندما نقرأ وصف الجماعة المسيحية الأولى في سفر الأعمال نشعر بروعة هذه الحياة القائمة على البساطة في العيش والفقر، وبالمقاسمة والاستضافة والتضامن بين أفرادها. ظل هذا النموذج هو المحرك الأول لجميع أنماط الحياة الجماعية حتى اليوم. فتسهوينا هذه الحياة ونختار أن نعيش كهولاء في تناغم ومحبة كاملة. ولكن مع الزمن نكتشف أن الحياة الجماعية هي أكثر من ذلك، وأن الثبات فيها يتطلب قبول التغير الباطني الصعب وبذل جهود يومية للخروج من شرنقة الآنانية. يكتشفون أن الحياة الجماعية ليست إلا وسيلة لشيء آخر أهمّ: “وكانَ الرُّسُلُ يُؤدُّونَ الشَّهادَةَ بِقيامَةِ الرَّبِّ يَسوعَ، تُؤيِّدُها قُدرَةِ عَظيمةِ”، هي دعوة من الله لمرافقة آخرين حياتنا في علاقة متبادلة، لكي نصل إليه ونبقى معه. فالعزلة أسهل، لأن الكل يحتفظ بحريته واستقلاليته، لكنه لن يصل أبداً إلى النضج، وينغلق كل واحد على أشيائه الصغيرة، وفي رفاهيته.

الذين يدخلون في جماعة يعيشون، في أيامهم الأولى زمن الغزل والبهجة: كل شيء يسير على ما يرام. لا يرون النقائص في الآخرين، يلاحظون فقط الحسنات. كل شيء يبدو رائعًا، كل شيء جميلاً. يخيل إليهم أنهم محاطون بملائكة، أو بأبطال، أو بكائنات فريدة من نوعها، تتحلى بكل المزايا المطلوبة.

ثم يأتى زمن خيبة الأمل التي يرجعونها في الغالب إلى الإرهاق، أو إلى الشعور بالعزلة، أو مشكلات أخرى مختلفة. تتغير النظرة ويصابون بالاكتئاب، ويبدو كل شيء مظلمًا، ولا يرون إلى أخطاء الآخرين، ونقائص الجماعة. كل شيء يثيرهم، وتصبح الحياة جحيمًا لا يطاق.

إذ استطاعوا أن يجتازوا هذه المرحلة، فإنهم يدخلون في مرحلة ثالثة، هي مرحلة الواقعية والالتزام الحقيقي. في هذه المرحلة، لا يكون أعضاء الجماعة يظهرون كقديسين أو أبالسة، بل بشرًا، كل واحد منهم خليط من خير وشر، من ظلام ونور. فينضج الجميع، ويعيشون الهدف من بناء جماعتهم. وتأخذ الجماعة مكانها الطبيعي ليس في الإعالي ولا في الأسافل، وإنما على الأرض. ويبدون هم مستعدين للسير معها وفيها، فيقبلون الجماعة والآخرين كما هم، ويثقون أن بإمكانهم أن يتقدموا سوية نحو شيء آخر أكثر إشراقًا.

يقول هنري نيومن إن الذين قضوا سنوات طويلة في الجماعة يعرفون أنهم لم يواجهوا هم المصاعب بقوة إرادتهم، بل انما الله هو الذي أبقى الجماعة مُتحدة. في الواقع، ليست وحدة الهدف هي التي تؤلف الجماعة، ولا المحبة المتبادلة، وإنما دعوة الله للجميع.

أنت مدعو كشخص فريد
أنت مدعو… أنت لم تختار أن تصبح مكرسًا، فعندما ظهر السيد المسيح لبولس في الطريق إلى دمشق: “فقالَ له الرَّبّ: «اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل”. ولم يدعه الابن فقط، بل الآب أيضاً. وهو بنفسه قال عن هذا “ولكِنَ الله بِنِعمَتِهِ اَختارَني وأنا في بَطنِ أُمِّي فدَعاني إلى خِدمَتِهِ. وعِندَما شاءَ أنْ يُعلِنَ اَبنَهُ فيَّ لأُبشِّرَ بِه بَينَ الأُمَمِ” ( غل ١ : ١٥ – ١٦ ).

لم يدعه الآب والابن فقط، بل الروح القدس أيضاً: «أَفرِدوا بَرْنابا وشاوُلَ للعَمَلِ الَّذي دَعَوتُهما إِليه». (أع ١٣/ ٢) إذن فقد دعي من الثالوث الأقدس. عبارة افرزوا لي تعني على أن التكريس هو لمن أفرزهم الله لهذا العمل، لمن وقع عليه الاختيار ليعلنوا في حياتهم صورة ابنه، يسوع المسيح.

هل نتذكر توقيت ذلك اللقاء؟ يوحنا كان يتذكر اللقاء جيداً، لأنه لقاء غير حياته تماما، حتى إنه يذكر الساعة بالتحديد بعد أكثر من ستون عاما على الحدث: “وكانَ يوحنَّا في الغدِ واقِفًا هُناكَ، ومعَهُ اَثنانِ مِنْ تلاميذِهِ. فنظَرَ إلى يَسوعَ وهوَ مارُّ وقالَ: «ها هوَ حمَلُ الله». فسَمِعَ التلميذانِ كلامَهُ، فتَبِعا يَسوعَ. واَلتَفتَ يَسوعُ فرآهُما يَتبَعانِهِ، فقالَ لهُما: «ماذا تُريدانِ؟« قالا: رابـي (أي يا مُعَلِّمُ) أينَ تُقِـيمُ؟ قالَ: «تَعالا واَنظرا». فذَهَبا ونَظرا أينَ يُقيمُ، فأقاما معَهُ ذلِكَ اليوم، وكانَتِ السّاعةُ نحوَ الرّابعةِ بَعدَ الظُّهرِ” (يو ١: ٣٥- ٣٩).

أحيانا نشعر، كما شعر موسى، عندما تقابل مع الله في لهيب النار في وسط العليقة في (خر ٣: ٤). لقد شعر موسي بالعجز وأنه ليس مؤهلاً لهذا الاختيار. إلا أنها كانت دعوة الله له. قدم موسى أعذار كثيرة، تعالوا بنا نرى كيف تعامل الله مع هذه الأعذار.

العذر الأول: من أنا (خر ٣: ١١)
كانت مشكلة موسى مع هويته. كان يشعر بعدم الكفاءة. كان يعتقد أن الله اخطأ في اختياره. وكان رد الله: لا يهم من أنت، لقد دعوتك، أنا سأكون معك.

العذر الثاني: من أنت (خر ٣: ١٣)
هنا كانت مشكلة موسى في فهمه لعلاقته بالله. لم يكن يعرف الله المعرفة الكافية ليقدمه للناس. كانت علاقته مع الله ضعيفة. كان رد الله «أَنا هو مَن هو»، بمعنى أنا الكائن الدائم. أنا كل ما تحتاجه

العذر الثالت: ماذا لو لم يسمعوا ويصدقوا؟ (خر ٤: ١)
هنا كانت مشكلة موسى قلقه الداخلي. كان قلقًا من رد فعل الشعب تجاهه. كان رد الله:”لا تقلق، سأسير معك خطوة بخطوة، وفي النهاية سوف يستمعون إليك. ثق بي”

العذر الرابع: أنا لستُ صاحب كلام (خر ٤: ١٠)
كانت مشكلة موسى هنا مع عدم كفاءته. من الذي سيتبعه إن كان لا يجيد التحدث بلباقة؟ كان رد الله عليه: “من صنع للإنسان فما؟ أنا مصدر قدرتك ومواهبك.

العذر الخامس: اعرف أنك تستطيع أن تجد شخصًا آخر بدلاً مني (خر ٤: ١٣)
كانت مشكلة موسى هنا في صغر النفس. لقد قارن بينه وبين آخرين أكثر كفاءة منه، وبدأ يشعر بالدونية. كان رد الله عليه، اجعل هارون يذهب معك… لكنى دعوتك أنت

لقد اختارك الله بالرغم من ضعفك وعدم كفاءتك، وقلقك وعيوبك. ولكي ينجح المكرس في التناغم مع الجماعة عليه أن يثق في دعوة واختيار الله له، وأن يشارك الآخرين في الضعف، فمن يحب يضعف ولا يخجل من عيوبه. كما يقول ديدييه: “إن الجماعة تبنى كما يُبنى البيت من حجارة مختلفة. ولكن عجينة الأسمنت المشكلة من بودرة الأسمنت والرمل هي التي تجمع الحجارة بعضها ببعض. وهما مادتان سريعتا التلف! ريح خفيفة تذريهما. هكذا في الجماعة، اتحادنا مركب من أضعف وأفقر ما فينا. ولكن الله يستخدم كل هذا لأجل اسمه القدوس.

في كل واحد منا ناحية مشرقة، مهتدية. ويوجد أيضًا مناطق مظلمة. فالجماعة ليس مكونة من مجموعة قديسين، بل من كل العناصر الكائنة فينا والتي تحتاج إلى تغير وتطهير وإصلاح. في الجماعة أناسٌ مضطربون نفسيًا. يحملون في نفوسهم صدمات واضحة، اضطروا، بسبب تمزقات أصابتهم في الصغر، أن يحوطوا أنفسهم بحواجز ضخمة.

فالحل ليس في ارسالهم إلى طبيب نفساني، ولا في اخضاعهم للمعالجة العقلية. فأشخاص كثيرون مدعوون لأن يعيشوا حياتهم كلها في هذه الحواجز والصدمات. إنهم هم أيضًا أبناء الله، وبإمكان الله أن يعمل خيرًا للجماعة بواسطتهم وبواسطة اضطراباتهم.

أنت مدعو في جماعة مدعوة
يختار الله شخص ما لخدمته، ولكنه في الغالب يدعوه داخل جماعة. يدعو أشخاص مختلفين جدًا بسبب ثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية وأوطانهم. وأجمل الجماعات في الواقع، هي التي تضم هذه التنوعات في الأفراد وفي الطبائع. فذلك يضطر كل واحد أن يتخطي مشاعر الانجذاب والنفور لكي يحب الآخر المختلف.

فلو أعطي لهؤلاء الأشخاص أن يختاروا لما اختاروا العيش معًا. من الناحية البشرية يبدو ذلك تحديًا مستحيلاً. ولكن بما أن ذلك يبدو مستحيلاً، تراهم يؤمنون بأن الله هو الذي اختارهم لكي يعيشوا في هذه الجماعة. وعندئذ يصبح المستحيل ممكنًا. فلا يعتمدون على كفاءاتهم الإنسانية، أو على تعاطفهم، وإنما على أبيهم الذي دعاهم لا، يعيشوا معا، وهو يعطيهم نعمة التغير ، يعطيهم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا، لكي يصبحوا شهودًا للمحبة. الأمر الذي كان مستحيلاً من المنظور البشري، يصبح ممكنًا ليصبح علامة على أن حبهم ينبع من الله، وأن يسوع المسيح حي: “ويعرف الناس جميعًا أنكم تلاميذي إذا أحب بعضكم بعضًا” (يوم ١٣: ٣٥).

وقد اختار يسوع، في جماعته الأولى، رسلاً مختلفين كل الأختلاف: بطرس، ومتى (العشار)، وسمعان (الغيور) ويهوذا.. فلو لم يدعهم المعلم لما عملوا معًا. فلا وجود لجماعة مثلى, يجب أن نحب الناس الذين وضعهم الله بجوارنا، فهم علامة لحضوره معنا. فلو أُعطينا أن نختار لكنا اخترنا أشخاصًا أكثر فرحًا وأكثر ذكاءً. ولكن هؤلاء هم الذين اختارهم لنا الله وأعطانا إياهم. ومعهم يجب أن نخلق الوحدة ونعيش الرجاء.

يصعب إقناع الناس بأن المثالي لا يوجد، وبأن التوازن الشخصي والانسجام الذي يحلمون به لا يحصلان إلا بعد سنوات طويلة من النضال والآلام. فإذ كنا نفتش دائمًا عن توازننا الشخصي، وإذ غالينا في التفتيش عن سلامنا المنفرد، فلن نناله، لأن السلام هو ثمرة الحب، أي ثمرة خدمة الآخرين. إذا أردنا السلام الشخصي فعلينا أن نكف عن النظر إلى ذواتنا، وننظر إلى أخوتنا المقيمين معنا، لنفكر كيف نزيد محبتنا لهم. لا داعي لاضاعة الوقت في السعي وراء الجماعة الكاملة. لنكف عن النظر إلى النقائص التي في الآخرين وننتبه إلى نقائصنا التي تعوقنا عن المحبة.

لكن كيف يتم هذا التغير؟ كيف لمجموعة مختلفة أن تعيش معا؟
في الوصية ١٨ يقدم القديس فرنسيس توصيته للجماعة بقوله: “طوبى للإنسان الذي يُساندُ قَريبهُ في هَشاشتِهِ، بقدر ما يتَمَنَّى أن يُساندهُ قريبُهُ عندما يكون هو في حالٍ مُماثل”.

ينطلق القديس فرنسيس هنا من القاعدة الذهبية في مت ٧: ١٢ ” فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء”. أن نخرج خارج دائرة الأنانية والتمركز حول الذات للقاء الآخر. العبور من مفهوم “الجماعة من أجلي” إلى مفهوم “أنا من أجل الجماعة”. إنه العبور من الأنانية إلى المحبة، من الموت إلى القيامة: إنه الفصح، عبور الرب. إنه كذلك عبور من أرض العبودية إلى أرض الميعاد، أرض التحرر الداخلي.

من الأنا إلى النحن
يستخدم القديس فرنسيس أفعال لها دلالات خاصة وهامة للغاية. الفعل الأول هو: “يُساند” وهو يختلف عما يعلمه بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية: ” لِيَحمِلْ بَعضُكم أَثْقالَ بَعض وأَتِمُّوا هكذا العَمَلَ بِشَريعةِ المسيح” (غلا ٦: ٢). فكلمة “يُساند” تختلف عن كلمة “يحمل”، لأن حمل ثقل ما يعنى رفع شيء ما ثقيل الوزن بمشقة، اضطرار. أما فعل “يُساند” فهو يعبر عن القبول برضى وتلقائية تقدم المساعدة والعون. الدافع هنا مختلف، الدافع الوحيد هي المحبة.

يستخدم فرنسيس فعل أخر في وصيته لرهبانه: “هشاشة” والذي يعنى ضعف الإنسان شديد، وعدم المقدرة على ضبط التصرفات والتحكم في الانفعالات كالغضب والكراهية والحسد. هي مظاهر الضعف في طبيعتنا الإنسانية وليس ناتج لسؤء النية. فنقائص الآخرين تصبح مقبولة، لا تفسد سلامنا الداخلي، وهدوء جماعتنا الرهبانية.

المشكلة أننا نوازن بطريقة متحيزة بين “أوزان” الأثقال التي يجب أن نحملها، أو نساند حاملها، فإذا كان الأمر يتعلق بشخصي، كمثل أني لم أستطيع أتحكم في انفعالاتي مع القريب، فإني سرعان ما سأجد أعذار كثيرة وتفسيرًا للظروف التي دفعتني لهذا التصرف، وأطلب من الآخرين أن يتفهموا أسباب انفعالي. أما إذا حدث العكس ولم يتحكم القريب بإنفعالاته أمامي فسأجد نفسي غير متسامح ولا استطيع أن أقدر الظروف، وأسارع إلى الإدانة.

المساندة والقبول بضعف الطبيعة البشرية للآخر تعني الإصغاء للآخر، ووضع النفس مكانه، وفهمه، والإيمان بأننا نهمه. إنها جواب لندائه وحاجاته العميقة. إنها مشاركته البكاء والفرح، الفرح لحضوره والحزن لغيابه. هي أن أسكن فيه ويسكن فيّ. ونكون الواحد ملجأ للآخر. “المَحبَّةُ تَصبِرُ وتَرفُقُ، المَحبَّةُ لا تَعرِفُ الحَسَدَ ولا التَفاخُرَ ولا الكِبرِياءَ. المَحبَّةُ لا تُسيءُ التَّصَرُّفَ، ولا تَطلُبُ مَنفعَتَها، ولا تَحتَدُّ ولا تَظُنُّ السّوءَ” ٠(١كو ١٣: ٤- ٥). فالتدريب على المحبة يستغرق حياة بأكملها، لأنه يجب أن يدخل الروح القدس إلى كل تعاريج كياننا وخباياه، إلى كل الزوايا التي يعشش فيها الخوف والقلق والمقاومة والحسد.

قد يعجبك ايضا
اترك رد