رعويات الشباب (8): منهجية العمل الرعوي
إعداد الخطة
بعد أن تم تحديد الهدف فإن الخطوة التالية هي إعداد الخطة والتي فيها يتم تنظيم الموارد المتاحة اللازمة لخلق الظروف المثالية لبلوغ الهدف.
للوصول إلى الأهداف يلزم تحليل الموقف الراهن والقراءة الجيدة لواقع المستهدفين بالوسائل التي سبق الاشارة إليها لتحديد الاحتياجات التدريبية: كالملاحظة المباشرة، المقابلات الشخصية، الاجتماعات الفردية والجماعية، مجموعات التركيز، استمارات الاستبيان، مراجعة البيانات والبرامج السابقة.
حيث إن الهدف العام للبرنامج الرعوي هو إعادة تنظيم الهوية الشخصية حول يسوع المسيح للوصول إلى التكامل بين حياة الشاب المسيحي وإيمانه. فإن نقطة الإنطلاق هي دائما من خلال طرح الأسئلة التي يطرحها الشباب حول الخبرات التي يعيشونها. فالتساؤل النابع من خبرات الحياة اليومية يعبر عن رغبة قوية للشخص في عيش ملء الحياة وفي السعادة، لذا يسأل عن معنى حياته وسر الوجود.
١. كيفية تنظيم الهوية الشخصية
أ- الوجود البشري في حالة نزوج نحو الآخر
“ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟”، هذا سؤال معلم الشريعة ليسوع في لوقا ١٠: ٢٥- ٣٧. ويسوع يُرحبُ بالسؤال ويُجيب، مُشيراً إلى الشرطين الأساسسين اللذين تفرضهما الشريعة: محبة الله ومحبة القريب.
بالرغم من إجابة يسوع إلا إن معلم الشريعة يواصل النقاش حول موضوع يعرف أن فيه شكوك وآراء كثيرة: من هو القريب؟ ويسوع يُجيب، فيقلب المواضع. الأمر ليس سرداً قائمة تُحدد مَنْ هو القريب ومن ليس هو، بتحديد للشروط الموضوعية للمُنطَلَق. المسألة لا تتعلق بالآخرين، بل بالسلوك الشخصي تجاه كل شخص آخر. في الواقع، يسوع يطلب من كل شخص “أن يكون قريباُ”. إنّه يحوّل حالة القرابة أو الغرابة الجسدية إلى دعوة للتساؤل حول الحرية والمسئولية الشخصية.
دعوة يسوع تتضمن تحديات كبيرة. فالآخر غالباً ما يكون لا صوت له: ليس لديه حتى القوة ليطلب المساعدة. ورغم ذلك، في حالته هذه بالذات، هو في حالة آمرة لكل إنسان. يسوع يمنحه صوتاً، فيدعو لتقبل الصرخة الصامتة التي يُطلقها من يُعاني ويحتاج للدعم. هذا الصوت يستطيع سماعه فقط مَنْ يعيش التعاطف والرأفة. هذا السلوك، الذي يُجسد وجود تعاطف الله وحنانه تجاه كل إنسان، يتيح تفسير الاتصال بالآخر ويحث كُلٍ منّا على أن يكون قريباً لكل شخص نلقاه في حياتنا.
إنّنا نبني وجودنا فقط لو تقبلنا “الخروج” من ذواتنا، من المركزية، وتحولنا تجاه الآخر. إذاً، الوجود في المفهوم الإنجيلي، هو خروج متوجه نحو الآخر، مُعتَرَف به على أنّه معيار للحياة الشخصية. لذلك، الحياة اللا مركزية ليست محكّاً لتجربة “تطبيق” ما أدركناه، لكي نستحق بذلك عطية الحياة الجديدة. إنّما هي تفجير حياتنا اليومية كلها، لأنّنا موجودون من أجل الحب وملتزمون ببناء الحياة من خلال ايماءات الحب.
إنّ إجابة يسوع لم تحل مسألة القريب فحسب، بل فتحت بتوسع لمعلم الشريعة ولنا نحن أيضاً شيئاً من سرّ الله.
مُعلم الشريعة كانت لديه شكوك تجاه مسألة القريب فقط. كان يعتقد أنّه يعلم كل شيء عن الله: كان معلماً للشريعة، خبيراً في اللاهوت حاصل على كافة المؤهلات المعترف بها رسمياً، ولهذا سأل يسوع عن مسألة القريب فقط. لكن يسوع غيّرَ له مضمون ما طرحه على مائدة الحوار. فبعد أن انتقد الفكرة عن القريب، أجرى له عملية غسيل مخ ليفرغه من معتقده بشأن الله.
الله غير المرئي يصير حاضراً في شخص الفقير الذي تركه اللصوص مُلقى في الطريق بين الحياة والموت، كشخص يحث على الرأفة والحب. ويصير حاضراً في شخص السامري الذي يتحنن تجاه المعاناة، كشخص يوصل الحب.
نحن مثل السامري، لدينا الحياة الأبدية، لأنّنا بفعل الحب نلتقي مع الله، السبب الوحيد في خلاصنا.
الله هو الأساس الأسمى لهذه الدعوة، دعوة الحب الذي يأتي من صمت الآخر. إنّنا نُظهره، ونعرفه، ونحبّه بمقدار ما نقبل الفقير ونخدمه بكل مواردنا.
كل هذا يقودنا إلى بُعد السرّ الذي يُغلِّف وجودنا والذي نلتزم بالاعتراف به في المسيرة الصعبة نحو هويتنا.
هذا الأمر تذكره أيضاً صفحة أخرى من الإنجيل. في متى ١٧: ١٤- ٢٠ يفشل التلاميذ في اخرج الروح النجس، فلا يقدم المسيح للتلاميذ الخائبين طريقة أفضل لتساعدهم في مهمتهم، إنّما أشار إلى ذلك الإيمان القليل الذي يمكنه تحريك الجبال. يبدو كأنّه يقول: لا توجد علاجات أكثر دقة يمكن تركيبها؛ بل الأمر يتطلب طفرة نوعية، بالانتقال مما يُرى ويُجرّب إلى السرّ الكامن في الداخل. عند هذا المستوى فقط، بطريقة نهائية ومضمونة، الغلبة على الموت المستحيلة تصير ممكنة.
ب- مستوى ثبات للهوية الشخصية المطلوبة
إن مهمة العمل الرعوي هي مساعدة الشاب في اكتساب هوية تمتاز بنوع من الثبات أمام عالم سريعُ التغير، في بيئة اجتماعية وثقافية متغيرة ومتبدلة دومًا تترك بصماتها عليه وتفرض عليه أن يتكيف معها بقوة. في الموقف الراهن، المتسم، على العكس مما كان ا لماضي القريب، بالتعقيد والتعددية، تشكيل الهوية وثباتها يقاومهما بشدة تأثير زعزعة الاستقرار الذي تشيعه السمات النمطية في زماننا هذا.
في ظل هذا العالم المضطرب فإن إعادة تشكيل هوية الشخص حول يسوع المسيح، يعنى إمكانية تشكيل أشخاص قادرين على الاستسلام بين ذراعي الله، بسلوك الطفل الذي يستسلم لحُب الأم. فلا يُبحث الثبات لا في ردة الفعل تجاه المؤثرات المتغيرة، ولا في الضمانة القادمة من المبادئ في عالم مُعقد، بل يكمن في شجاعة الاستسلام لركيزة، مرجوة بشكل خاص، وتفوق ما يمكنني تشكليه واختباره. الشخص الحي يتفهم ذاته ويتعرف عليها يومياً في خبرة حقيقية للتسليم، يتقبل ضعف وجوده كمحدودية لصيقة ببشريته.
الركيزة المرجوة هي الحياة، التي تُفهمُ تدريجياً في سرّ الله. التصرف الهشّ والمُغامِر بقبولها هو قرار بتقبل مغامرة شخصية متوجهة بكليتها نحو خطة موجود مسبقاً، تفوق وتوجه خُطى الوجود وتحكم عليها.
إعادة تشكيل أشخاص قادرين على التسليم يعني، بالتالي، إعادة تشكيل النسيج الإنساني. بل يعني أيضاً تأصيل الشرط الذي لا غنى عنه لحياة خبرة مسيحية ناضجة. هناك ضرورة أن نصبح أطفالاً لكي نصير راشدين. وهذا ما أوصانا يسوع به: “الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات” (مت ١٨، ٣). إنّنا نُريد أن يحتفظ الراشد بالبريق والمسئولية والحرية، خصوصاً بينما ننغمس في رجاء “يؤمن دون أن يرى”. أمّا الطفل، فنبحث فيه عن الشجاعة في المخاطرة، والحرية في النظر للأمام، والثقة غير المشروطة في شخص اختبرنا فيه الحب والاستعداد المُبالغ فيه للمشاركة: وفي الأساس، إرادة تناول أكثر الأمور جدية أيضاً.
ت- القدرة الباطنية
الهوية الشخصية هي نظام متماسك من القيم، التي لا يرثها الشخص بالميلاد، وإنما يكتسبها بالمقارنة والتعليم والممارسة العملية. إن مهمة العمل الرعوي هو بناء القناعات الشخصية الصحيحة التي يُعبر عنها في إطار السلوكيات العملية. تلك العملية التي من خلالها يتم عودة الشخص من جديد إلى باطنه، إلى ذلك المكان الذي يدوي فيه روح يسوع الذي يقوده إلى ملء الحق.
تكوين الشخص يحدث عندما تتشكل مصفاة أو “فلتر” يمكن من خلالها التحقق مما يُقبل وتقييمه وكيفية ردة الفعل بمقتضاه. هكذا يكون البحث ليس في مجالات محمية وأيضاً لا يخشى تعددية العروض والمقترحات، بل يعرف المرء أن يتقبلها أو يرفضها انطلاقاً من أمر يعرف أنّه حاسم ومحدد في بنيان شخصيته.
هكذا يكون تشكيل الهوية واقعاً شخصياً واجتماعياً في الوقت نفسه. بكلمات أخرى، تشكيل الهوية يعتمد على مجهود الشخص وحده ويرتبط بكثافة بنسيج المجتمع الذي يُعبِّرُ فيه عن ذاته وتأثيره واشتراطاته. لذلك، التكوين في وسط بيئة مليئة بالتعقيدات والتعددية، يتطلب كشرط لإمكانية تحققه ولأصالته، التزاماً باستعادة كل شخص للقدرة على تفهم ذاته و إخراجها من صمت داخليته.
ث- تأهيل الشاب لإتخاذ القرار
في أي إتّجاه يجب تحفيز الشجاعة على اتخاذ القرارات القوية والملزِمة؟ كنيسة المجمع الڤاتيكاني الثاني اكتشفت أنّ مركز الحياة الجديدة للمسيحي يكمن في المشاركة الشغوفة في قضية يسوع. بهذا المفهوم يمكننا إعادة صياغة النماذج الأخلاقية القديمة وفي نفس الوقت نطلب تغيير الحياة جذرياً، توبة كبيرة مثل تلك التي فعلها القديسين.
القرار هو من أجل ملكوت الله. هذه هي “اللؤلؤة الثمينة” التي للحصول عليها يجب أن يكون المرء مستعداً لبيع كل شيء يمتلكه. ملكوت الله هو ملء الحياة لكل إنسان. هذا الملء كله هو ثمرة سعي الله الحثيث والفاعل لإنشاء حياة حيث يكون الموت. إنّه هبة منه، مجانية وغير متوقعة. بل إنها هبة خاصة: تحث وتدعم التعاون المسئول لكل إنسان ذو إرادة صالحة، فتحمِّس على تحقيق كل التزام لأجل الحياة “طبقاً لقصده”.
بالمقارنة مع يسوع الناصري نكتشف موضوع قرارنا، ونوعيته والشروط التي تجعله قراراً أصيلاً. لقد بذل يسوع حياته، كأعظم تقدمة حب، متقبلاً عواقب وجود يميل بكليته للإلتزام بإعادة الحياة والرجاء، باسم الله، لجميع البشر. “إعطاء الحياة” هو الشرط الأساسي لكي تكون الحياة في ملئها ووفرتها بالنسبة للجميع. مَنْ يلتزم بهذا، يعرف أنّ نتيجة تعبه دائماً “تفوق” كل خطة بشرية وكل إنجاز. فالنتيجة تأتي من مستقبل الله، حيث تكفكف كل دمعة بشكل حاسم ونهائي.
مَنْ يُريد الحياة ويعيش حياته باذلاً إياها لأجل الجميع، يزرع الصليب في وسط حياته. يعرف تعطف الله لأجل حياة الجميع، ويعلن استعداده، بالأفعال، لبذل حياته، كعلامة عظمى على التزامه، الملموس والزمني، لأجل الحياة.
٢. تقديم المقترحات من خلال اكتساب الخبرات
العمل على اكتساب الخبرة هي طريقة، ذكية وناضجة لتقديم مقترحات. مَنْ يحث الآخرين على القيام بخبرات محددة، في الواقع هو يقدم مقترحات صعبة وخطيرة. عندما يُقدم المقَتَرح من خلال خبرة، يجد شحنة خصوصية جداً من الدلالية. يُصبح قادراً على التغلب على التلذذ باللامبالاة وكذلك، وهذا ليس أقل خطورة، التلذذ بنوع من التسامح المزيف الذي يبدو أن التعددية تقتضيه، لكي يدق فعلياً على أوتار الوجود. القوة التواصلية، التي تبثها الخبرة، تحث تلقائياً على اتخاذ قرارات مُلزِمة ومثيرة للاهتمام، حتى في وقت قلة العمل في مجال التخطيط.
ما معنى اكتساب خبرة؟ وما هي الظروف التي تترجم القيام بأعمال معينة والاشتراك في أحداث محددة إلى خبرة واقعية؟
لقد أجريت دراسات مطولة لموضوع الخبرة في المجال التربوي والراعوي. ويمكن إجمالاً القول بأنها التفسير الذاتي لمعطيات موضوعية. التفسير يعني إعمال فكرنا في الواقعي والحقيقي، وجمع وتوضيح ما فهمناه وعرفناه من الحقيقة المُختَبرة، التي استشفها فكرنا. ومن جهة أخرى، يُضفى الحقيقة التي اختبرناها مزيدًا لنا، عما أكتسبه الآخرون من خبرات تختلف عن خبراتنا. وأخيرًا، الذي اكتسب خبرة يشعر بالحاجة لتوصيلها، لذاته وللآخرين. يروي ما حدث له فتُحَرِّك روايته شيئاً جديداً. لكي يسرد الرواية ( بالتعمق بطريقة تأملية فيما عايشه ويوصله للآخرين)، يستخدم لهجة أو لغة ما. وقد يستغل مجموعة من الإشارات اللغوية المتراكمة في التطور التقليدي للغة، أو قد يشعر بحافز يدفعه لوضع أنظمة جديدة من الرموز لأنّه تأكد من أن ما لديه منها يكفي.
الخبرة المعاشة والمنقولة للآخرين، تُثري المجموع، لأنّها تُعطيهم رموزاً جديدة وتجتذب تلك الرموز الموجودة نحو الحقيقة الملموسة.
٣. الكرازة من خلال “رواية” قصص تُساعد على الحياة
الكرازة، مثل أي عملية تواصل، يكون البنيان اللغوي فيها ذو طبيعة رمزية والطريقة التي يتحقق بها الاتصال تعمل كمؤشر تفسيري للمضمون ذاته. بل، في الوقت نفسه، الكرازة لا تستمد أصالتها من اتفاق المتحاورين ولا تضمن تأثيرها بناء على التكيف مع القواعد اللغوية العادية. الكرازة هي الإعلان، اعتماداً على قوة الروح الغير مفحوصة، بأنّ الله هو الرب الأوحد وأنّه فقط بابنه يسوع المسيح يمكننا حيازة ملء الحياة. الوسيلة اللغوية المستخدمة أيضاً هي خصوصية تماماً: مبنية على أفعال وأقوال، متشابكة بعمق. الأفعال هي نتاج الحياة وتحول الواقع إلى منطق ملكوت الله الذي استهلّه يسوع. أمّا الكلمات فهي الترجمة الإيمانية لهذه الإيماءات إلى بشارة واضحة لا مثيل لها، ” فليس هناك بشارة حقة مالم يعُلَن يسوع الناصري ابن الله، وتعليمه وحياته، ومواعيده، وملكوته، وسر شخصه” (إنجيل الحياة، بند٢٢).
عملية اتصال ذات طابع رمزي
في الكرازة ليست كل كلمة وكل حركة هي الحقيقة التي يُبَشّر بها، بل مجرد آية على سر المحبة والخلاص العظيم. أن ما نقوله وما نفعله هو مجرد إشارة لقرار وضع الله في مركز حياة المرء. فما نخبر به، يعبر بطريقة ملموسة وبمصداقية، عن شيء ما يظل غامضاً، متداخلاً في ذلك النطاق الحميم والعميق جداً الذي يكون المرء فيه بمفرده وجهاً لوجه مع ذاته.
هذه المعلومة يجب أن نفهمها جيداً، لأنّه منها ينطلق كل بحث يتعلق بالنماذج المتجددة للكرازة.
تستخدم الكرازة الرموز التي تربط ما يُرى وما لا يُرى بقوة تذكيرية خاصة جداً، فلا تكون هناك حاجة لشرح وتفسيرات كثيرة وكبيرة. التذكير بالحقيقة يكون شبه تلقائي وطبيعي، خصوصاً بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في داخل المجال الثقافي نفسه.
فعندما يستخدم الكارز هذا التعبير “الله أب”، فإنّه يقصد بكلمة “أب” معلومة متعلقة بخبرة الأبوة. الإشارة “أب” (الكلمة وخبرة الأبوة) تُبيّن، تستحضر رمزياً الموضوع الحقيقي: الله كأب. مع ملاحظة أن الاشارات التقرب من المعنى لكنها لا تعطي معناها الخفي والسري. فهناك معنى آخر، يفوق المعنى الشائع والمعروف طلما الأمر متعلق بسر الله.
في الكرازة نكون بطريقة خاصة في موقف تكون فيه الحقيقة قريبة وبعيدة في الوقت نفسه، حاضرة وغائبة في نفس الوقت. ما يمكنني رؤيته ولمسه والشعور بتأثيره ويجعل حقيقة ما تتوارد في ذهني، حاضرة وغائبة، لكنها تشمل ضمناً في هذا أن تكون، بطريقة ما، حاضرة وقريبة.
ما الإشارات التي تستخدم للكرازة؟
لاحظنا أنّ الكرازة، مثل كل تواصل بين الأشخاص، تقوم من خلال إشارات. ولدينا الكثير من الإشارات المتاحة، التي توفرها لنا الثقافة التي نحن منغمسون فيها. ولدينا ما تسلمناه من معيشة أولئك الذين عايشوا نفس الشغف بالكرازة من قبلنا. كما يمكننا أيضاً أن نبتكر، مستثمرين خيالنا الواسع الذي نحن أثرياء به. فأية إشارات تستخدم للكرازة؟
إنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأيّة إشارة أن تجعل سرّ الله ماثلاً بطريقة تامة وحصرية. خصوصاً وأنّ قوتها التذكيرية ليست أبداً معلومة موضوعية، كأنّه يكفي عرض الإشارة لضمان فعاليتها. لذلك يلزمنا دائماً شيء ما يكون بكامله في جانب الموضوع: إيمان قادر على تجاوز غموض الإشارة للوصول إلى الحقيقة المعنية.
هل يمكن أن تكون كل الأشارات التي نعرضها جيدة؟ أم أنّ الأمر يتطلب جهداً تمييزياً حَذِراً؟ وهل يكفي لاستنتاج مدي فعالية الإشارة أنّها مأخوذة من الاستخدام المتكرر والموحد؟ أم أنّ تلك الحالية تسير بشكل جيد فقط لأنّها تبدو برّاقة وبليغة بالنسبة للأحاسيس السائدة؟
تواصل يستهدف المعنى وليس المعلومة
يجب أن نتوخى الخذر في أن هناك عمليات اتصال قوتها ودوافعها تعتمد على الجديد في المعلومات المنتشرة أو حقيقتها. مَنْ يبدأ العملية لا يهمه مستوى التأثير المرتب على المُخَاطَب، فحق التواصل يأتيه من واقع أنّه من المهم أن يتكيف مع المعلومات المنتشرة لأنّها توفر أخباراً ليست معروفة من قبل أو تعرض تأكيدات حقيقية موضوعياً.
لكن هناك عمليات أخرى تتصف وتُصنف حسب الاهتمامات التي تعرف كيفية إثارتها. مَنْ يتواصل يزعم بأنّه يقول شيئاً يهم محاوره لأنّه يتساءل حول معنى وجوده. بدون هذه الخبرة الذاتية، لا يُحدث التواصل التأثير المرجو.
الكرازة اتصال نمطي للنموذج الثاني. فهي تُساعد على الحياة: ترُدَّ الحياة لمَن يجد نفسه غارقاً في الموت وتُعطي أسباباً للإيمان بالحياة للذين يبحثون عنها بانتظار قَلِقْ. إنّها تُدوّي ككلمة مثيرة للاهتمام فقط لأنّها تهزّ أوتار أفق المعنى، فتُقدم بالإنجيل خطة تمنح رجاءً للوجود اليومي.
عندما أقول “الله أب” لشخص يمر بمحنة، ينوء كاهله بعبء الألم والقمع، لا أنشُرُ مجرد معلومة بزعم قول شيء جديد أو تكرار شيء حقيقي وهام، بل أفعل أكثر من ذلك بكثير. أخترق الهيكل العميق والحميم جداً لوجود هذا الشخص واقترح له سبباً للحياة وللأمل، بالرغم من خبرة الموت القاسية التي يُعاني منها.
إنّني أُكرر التأكيد بقوة ليس لأنّني أتصور أنّه “جديد” بالنسبة لمعارف المُخاطَب؛ ولا لأنّه يمثل بياناً “حقيقياً”، بل أعرضه لأجل اقتراح خبرة تتطلب البحث أو العجالة.
لهذا، اتصالات الإنجيل تقوم، بطبيعتها، في صُلب البحث الإنساني وإيجاد المعاني الإنسانية: تقتضيه وتستنفره وتُشبعه. إنّها لا تكون أصيلة فحسب عندما تُعطي معلومات حقيقية شكلياً ولا عاجلة فحسب لأنّها توصل أخباراً لولاها لكانت مجهولة؛ بل تكون أصيلة عندما تُختبر كأمر “معقول ومحسوس”: قادر على ضمان الحياة وإعطاء أسباب للأعتقاد في إتساقها وجودتها.
خبرة تصير رسالة
الكلمات، حتى تلك الكلمات البديعة الحكيمة، لا تكفي في الواقع للحديث عن الخبرة المسيحية وعن سرّ الله الذي يُشكلّ أساسها. عاقبة هذه الملحوظة ليست هي الصمت، بل “كلمة” مُختلفة، أكثر بلاغة بكثير. يسوع الناصري، “صورة” و”كلمة” الله غير المفحوص وغير المرئي، هو الكلمة الأبلغ بكثير من كافة كلماتنا، هو الكلمة الوحيدة التي تُحقق حضور الله بشكل جذريّ، وتُعبِّر عنه بامتلاء وتُثير دعوة تساؤلية. “من خلال حرية، واختيارات وإيماءات ووجود يسوع [..] يظهر وجه الله: باعتباره ذاك الذي يقبل ويُرحِّب بمَن ابتعد عنه، الذي يُقيم الوحدة مع الإنسان المنفصل عنه، الذي احبنا أولاً بينما كنّا لا نزال خطأة. وجه الله هذا، واسمه، قد أُعطي الآن للإنسان يسوع، فهو اسم الله، وجهه الذي التفت إلينا”.
يسوع هو كلمة الله الحاسمة لحياتنا بما كشفه لنا عن الله وبالطريقة التي التي أوصله بها إلينا. لنتأمل في صفحة الإنجيل التي سبق ذكرها لمرجعيات أخرى.
لقد طُرح على يسوع نفس السؤال الذي يطرحه الكثير من الشباب اليوم، عندما يتساءلون عن معنى وجودهم وعمّن يكشف لهم هذا المعنى: ” أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟”.
يسوع يُجيب على سؤال صعب وفيه تحدّي كبير بطريقة قد تبدو للوهلة الأولى غريبة على الأقل: “اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون، وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة” (مت١١، ٢-٦). قدَّم أوراق اعتماده، فوضع في المقام الأول الحياة الجديدة التي يُشيعها من حوله حضوره المُرَحِّب والمُحرِّر. رسالته هي خبرة حياة صارت رسالة.
الجماعة الكنسية اليوم مسئولة، على الأقل على المستوى النظري، عن هذه الضرورة. وتكفي قراءة البندين ٢١ و٢٢ من وثيقة “إعلان الإنجيل” التي تشرح أبعاد عملية الكرازة: بشارة يسوع الربّ تُعاش “كدليل ما نحن عليه من الرجاء” الذي تحقق: وهذه الدلائل تتجلى في كون المؤمنين “يُظهرون داخل الجماعة الإنسانية التي يعيشون وسطها، كفاءتهم على تفهم الآخرين وتقبلهم ومشاركتهم الحياة والمصير معهم، وتضامنهم مع جهود الجميع المشتركة في سبيل كل ما هو سام وصالح”. الكلمات الأخرى التي نتبادلها في الكرازة، هي ترجمة لهذه الدلائل. إنّها تأخذنا إلى الحقيقة، الأعمق والأكثر غموضاً، التي تمنح دلائل وإيماءات الرجاء التي تتحقق، في وسط محتوى ثقافي مُعين، طبقاً للقواعد التي أرستها الجماعة الكنسية في وثائقها الإيمانية.
إشارات تذكيرية وإشارات دلالية
إنّنا نبحث عن إشارات قادرة على ضمان إتصال مؤثّر، تتجه صوب معنى الحياة، كما ينبغي أن تكون الكرازة؛ نريدها إشارات تحترم حرية ومسئولية كل شخص، كما هو حال بشارة يسوع، ومنغرسة بعُمق في التقليد الكنسي.
والحدث يمكن أن تتحقق العلاقة بين الإشارة طبقاً لمناهج مختلفة. بتبسيط قليل للأمور، يُمكن تخيل أنماط الاتصالات ذات الخاصية الدلالية والأنماط ذات الخاصية التذكيرية.
سأذكر مثالاً يساعد على توضيح المسألة بشكل أفضل. مَنْ يبحث عن كتاب في مكتبة كبيرة، يمكنه استخدام نظام البطاقات التصنيفية، أو الحصول على تصريح بالدخول لقاعة ايداع الكتب. باستخدام نظام البطاقات التصنيفية، أقوم بمراجعة البطاقات حتى أجد بطاقة تعريف الكتاب المطلوب. هذه البطاقة تُعطيني معلومات ثمينة تُفيدني في العثور على الكتاب. الكتاب مازال ليس بين يديّ، لكنني قد ضمنت الوصول إليه. في هذه الحالة، العلاقة بين الإشارة (البطاقة) والمُشار إليه (الكتاب) وثيقة جداً ومحددة تماماً. البطاقة تُخبر بطريقة دلالية عن الكتاب. البطاقة يجب أن تتضمن معلومات دقيقة، ومتطابقة في التصنيف بحيث يسهُل الوصول إليها عند مراجعة نظام البطاقات.
إنجاز الكرازة يكون بنُسُق رمزي، فبأي ترتيب يكون؟ الجماعة الكنسية إذ تقوم بالكرازة هل تُطلق إشارات واضحة، تقود إلى الموضوع بشكل حتمي، أم تستخدم فقط الإشارات ذات الخاصية التذكيرية؟
هل محتويات الكرازة تكون “حقيقية” فقط عندما تُدلل على الحدث؟ أم يمكن أن تكون “حقيقية” أيضاً عندما تُذكِّرُ به؟ هنا لسنا بصدد التساؤل حول أيّة فرضية هي الأفضل. إنّنا نتساءل، قبل كل شيء، حول تلك الأقرب لقصد الله، المعترف به في يسوع.
غالبًا فإنّ الكلمة البشرية لا ترقى أبداً لدرجة التعبير عن موضوعية الحدث السريّ الذي تُظهره. بالكلمة المنطوقة يكون الحدث حاضراً وغائباً في الوقت نفسه: حاضراً في حقارة الإشارة وغائباً لأنّ الكلمة دائماً هي تعبير محدود ومُبهم. الحقيقة، الهامة جداً في مسيرة الإيمان، تكمن في العلاقة بين التعبير اللفظي والحدث: فليست كل الكلمات يمكن أن تُعبِّر عن موضوعية الحدث ولا يمكن لكل التعبيرات الموضوعية أن تُعبِّر عن الحدث بثراءه.
فحدث العشاء الأخير، اختلفت الرويات حوله فيما بين الأناجيل الإيزائية وإنجيل يوحنا ورسالة بولس الأولى لأهل كورنثوس. لأن في الحث يُعبر الشاهد بإيمانه وعاطفته، فهو لا يرغب في وصف الوقائع تاريخية، بل يقدمها كحدث خلاصي، يذكرها ويُحييها، لأنها الينبوع الوحيد والحاسيم للخلاص. بل يعبِّرُ عنها ويوسعها بكلمات إيمانه وبالحاجات الملموسة لدى من يقصدهم ببشارته.
الكرازة تسعى لإقامة حوار متبادل، جاد ومستعد، حول معنى الوجود. لهذا، يضع الكارز في المقام الأول خبرته المباشِرة ويعزم، بقوة هذه الخبرة، على اختراق وجود الآخرين: “هيا، انتبه لما يُقال! إنّه أمر مهم لحياتك!”.
الرباط الوثيق الذي يربط الأحداث المروية بمسار الزمن، ويُحدث تشابك الحاضر مع ماضيه ومستقبله في القصة المروية، يفيض تلقائياً بهذه الدعوة “للانتباه”. هكذا تصبح الأحداث الهامة أمثلة تحفيزية. فالقصة المروية تدعو المُخاطب وتحفزه للتساؤل بنفس الكثافة التي يُشعر بها الكارز بمشاركته في الأمر. عند اشارة الكازر لوقائع بعواطف جياشة، تدفعنا “لحبها” والشعور بأنّها “وقائعنا” رغم أن أبطالها في زمن بعيد عن زماننا. فمن يروي القصة يُحب الحقيقة المروية ويجعل الآخرين يحبونها.
ما هو السرد الروائي؟
نموذج الكرازة يكون روائياً عندما يكون مبنياً على تواصل خبرة الراوي والذين تُروى لهم الرواية. في كثير من الأحيان يكون لدينا انطباعات قوية بالنغمة الرسولية في التعليم المسيحي العظيم الذي قاموا به، حسبما وثّقها سفر أعمال الرسل والرسائل. يوحنا، مثلاً، استهل رسالته بشهادة مهيبة: ” ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء. ذاك الَّذي سَمِعناه. ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا. ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة”(١يو١،١-٢). بولس أيضاً ذكر خبرته الشخصية حينما تكلم في المواضيع الرئيسية في كرازته (راجع مثلاً، ١كور١٥ و ٢كور ١٢).
هذا هو البُعد النوعي للبشارة المسيحية: ما يجب توصيله ناتج عن خبرة شخصية مباشِرة وموجّه نحو آخرين بقصد واضح وصريح في إثارة خبرات جديدة. أولاً، إنّها ليست رسالة منقولة، بل خبرة حياة صارت رسالة، في سلسلة غير منقطعة وردت إلينا من خبرة أساسية اختبرها بعض المؤمنين بيسوع.
مَنْ يروي يعرف أنّه يقوم بهذه المهمة فقط لأنّه نال الخلاص بالقصة التي يرويها؛ وهذا لأنّه قد سمع هذه القصة نفسها من آخرين. لذلك، كلمته هي جزء من حياة مُعاشة ومُفسّرَة ومُتحَولة إلى كلمات. القصة المروية لا تتعلق بمجرد أحداث أو أشخاص من الماضي، بل تتعلق أيضاً بالراوي وبمن يسمعونه، فهي قصتهم هم أيضاً بطريقة ما. مَنْ يروي القصة، يرويها باعتباره إنسان نال الخلاص، إنسان يروي قصته لكي يُشرك آخرين في هذه الخبرة عينها.
إتصال يدفع إلى التبعية
ثانياً، السرد الروائي يتسم بقصد واضح وصريح في مشاركة المخاطبين أيضاً في الخبرة المروية. فالكرازة، هي دائماً سرد لقصة تدفع إلى التبعية أو التلمذة. بمعنى أنّ بنيانها اللغوي لا يستهدف اعطاء معلومات بل يحُث على اتخاذ قرار حياة.
الدعوة للتغيير لا بُدّ من ضمانها لا لأنّها معلومات منتشرة مازالت غير معروفة، بل لأنّ المُخاطب مشمول في الموضوع بشخصه. لا يُمكن أن يمكث في اللامبالاة في مواجهة التحفيزات: ذراعا الأب مبسوطتان وهو ينتظر بلهفة عودة الابن الضائع للبيت، فتضطره لاتخاذ القرار بشأن الجانب الذي يريد الوقوف فيه. هنا ينشأ تكوين لا بمعيار الأمور الجديدة التي ظهرت، بل بالاعتراف بطابع الحياة الذي حثّ أولئك الذين اتخذوا قرار الانضمام لحركة المؤمنين.
إن محور الإتصال هو الدعوة إلى التبعية وإلى شجاعة التغيير، العلم وحده لا يَعود كافياً. الأمر يتطلب المشاركة الشخصية. فمَن عاش خبرة خلاصية، يقوم بروايتها لآخرين؛ وإذ يفعل هذا فهو يساعدهم على الحياة ويحدد طابع الحياة الذي يُمكن اتخاذه لكي يتمكنوا من المشاركة بفرح في حركة أولئك الذين يرغبون الحياة في خبرة يسوع الناصري الخلاصية.
اتصال يتوقع القليل مما يعلنه
النقطة الثالثة، الكرازة تكون روائية عندما تكون فيها القدرة على انتاج ما تبشر به، بأن تكون علامة خلاصية. القصصة تتجلى بمشاركة الأشخاص الذين يعزمون اليوم على معايشة ما يصنعون ذكره بشكل مكثف. هكذا تصير القصة رواية رجاء.
لكي يُمكن الحديث بطريقة محسوسة عن خلاص الله الذي هو يسوع، ينبغي أن نُظهر بالأفعال أنّه يمكننا أن ننمو رجالاً ونساء في الحرية والمسئولية، ونكون قادرين على المحبة المضحّية، ملتزمين بتحقيق العدالة، وشهوداً لمعنى الألم والموت. هكذا فقط، يمكننا أن نُظهر بفعالية “قوة الروح القدس، تلك القوة التي يمكن رؤيتها وسماعها” (راجع أع٢، ٣٣)، تلك القوة التي تُترجم إلى إيماءات لا تكون أبداً عَبَثًا (غلا ٣،٤). البشارة بالإيمان تعني إذاً، الرواية عن إله ” يَهَبُ الرُّوح ويُجْري المُعجِزاتِ” (غلا٣،٥)، وهذه الرواية تعتمد لا على ” أُسلوبِ الإِقناعِ بِالحِكمَة، بل على أَدِلَّةِ الرُّوحِ والقُوَّة” (١كور٢، ٤).
الجماعة الكنسية تُشارك في القصة وفي حياة الجميع، برفعها صرخة، بالقول وبالفعل، صرخة صادرة من عمقها تعلن وعد الله العظيم، المحدد: “هاءَنَذا آتي بالجَديد ولقَد نَبَتَ الآنَ أَفلا تَعرِفونَه؟” (أش٤٣، ١٩). هكذا يكون مَنْ يروي عن ذاك الذي ردَّ البصر للعميان وجعل العُرج يمشون، إنما يوفق أوضاع الحياة اليومية باجتهاده في شفاء العميان والعرج الموجودين اليوم. وحتى وإن كان يُبشّر بحرية حاسمة موجودة فقط في بيت الآب، فهو يحاول أنّ يُسبِّق بالعلامات في الحاضر الزائل.
كلمة الكرازة تُبين بالوقائع أعمال إله الحياة: الذي يعتِق ويشفي، ويرفع رؤوس الذين يرزحون تحت وطأة الأحداث الشخصية والجماعية؛ ويرُدُّ الكرامة للذين انتُزعت منهم؛ ويمنح للجميع حرية التطلع للمستقبل برجاء عامل، التطلع نحو تلك السماوات الجديدة والأرض الجديدة حيث تُكفكف أخيراً كل دمعة في العيون (رؤ ٢١).
الجماعة الكنسية تروي قصة ربّها
كلمة الكارز دائماً تكون قصة: قصة حياة، مروية لمساعدة آخرين على الحياة في الفرح والرجاء والحرية التي يعودوا أبطالها. في روايته تتشابك ثلاثة قصص: القصة المروية، وقصة الراوي، وقصة السامعين.
إنّه يروي نصوصاً من إيمان كنيسته: صفحات الكتاب المقدس، وقصص المؤمنين العظام، ووثائق حياة الكنيسة، والفكر الضميري الحالي للجماعة الكنسية فيما يتعلق بالمشكلات الأساسية في الوجود اليومي. في هذا العنصر الأول، أعرض بشجاعة وثبات، المقتضيات الموضوعية للحياة، مُعاد فهمها من جهة الحقيقة المُعطاة. الإيمان بالحياة، واستخدامها بحيث تقف ضد كل حالة موت، لا يمكن أن تعني بالتأكيد حل المقتضيات الأكثر جذرية ولا إفساح المجال لفوضوية البحث بلا آفاق وللذاتية المحضة.
كذلك، تكرار هذه القصة لا يعني استنساخاً لحدث بنفس الكلمات دائماً. بل بالعكس يتضمن المقدرة على التعبير عن القصة المروية في نطاق الخبرة الشخصية والإيمان الشخصي. لهذا يعثر الكارز في خبرته وفي عاطفته على الكلمات والمحتوى الذي يُعيد الحيوية والمُعاصرة لقصته. خبرته هي جزء لا يتجزأ من الرواية التي يسردها: إذ لا يمكن أن يتحدث بصواب عن حياة ربّه بدون أن يقول كل هذا بالكلمات المسكينة والملموسة في حياته.
هذا المقتضى أيضاً يُعيد صياغة جزء من حقيقة القصة المروية. ينتزعها من الصمت البارد الذي في البدايات ويغرقها في عاطفة الخلاص الحارة.
من جهة الخلاص، المستهدفون يصبحون أيضاً أبطالاً في القصة ذاتها. وجودهم يُعطى كلمة تقولها القصة: فهو القصة الثالثة من القصص الثلاثة المتشابكة في الرواية الكبيرة الواحدة