إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

أيام الخلق الأولى-اليوم الأول

0 973

اليوم الأول:
فى أحد أقسى سجون الأشغال الشاقة على وجه الأرض قررت الإدارة شراء حصان ليساعد فى بعض المهام الخاصة كنقل المؤن والمياه، وكان ضمن السجناء كثيرون ممن يفهمون فى أمور الخيل، أوكلت لهم الإدارة وهم فى الأغلال مهمة اختيار الحصان الأفضل من بين عشرات الخيول التى أخذت تتوافد إلى ساحة المعتقل مع بائعيها، وكان السجناء حول زملائهم خبراء الخيول ينتظرون بفارغ الصبر وصول كل حصان جديد ويستقبلونه بفرح كفرح الأطفال. وبرز من بين الجميع خبيران تُركت لهما المهمة وتجمَّع حول كل منهما حزب من المتحمسين للآراء التى يبديها فى كل حصان يفحصه.

تعالت أصوات الجدل بين الفريقين وكان هناك دائما ميل للتصالح والوصول إلى قرار مشترك. ومن بين ثلاثة خيول وصلت لتصفية السجناء الحماسية النهائية تم اختيار حصان جميل صغير السن قوى البنية، ثم بدأت المساومة على السعر مع صاحب الحصان والتى شارك فيها كل السجناء بالتلويح والتصايح، وطالت المساومة واحتدمت حتى بدأ السجناء يضحكون من أنفسهم ويقول كل منهم للآخر: «كأننا سندفع من جيوبنا». كأننا نريد أن نوفر لخزينة السجن»!

لا لم يكونوا سيدفعون من جيوبهم ولا كانوا يفكرون فى تحقيق وفر لخزينة السجن، «فلماذا إذن يهتم سجين مبهوت ومقهور ولا يجرؤ على رفع صوته فى أبسط الأمور، لماذا يهتم بشراء هذا الحصان أو ذاك كأنما هو يشتريه لنفسه؟» هذا السؤال طرحه دوستويفسكى فى كتابه بالغ الإيلام وسحر التعبير «ذكريات من منزل الأموات»، وأجاب عنه بقوله: «لقد كانوا ممتلئين بسرور عارم لأنهم يستطيعون أن يشتروا حصانا كما يفعل أحرار الناس، فكأنهم يشترون لأنفسهم وكأن ثمن الحصان سيدفعونه من جيوبهم الخاصة»، هذه هى المسألة: أن يختاروا.. أن يتمتعوا بالحق فى الاختيار، فحق الاختيار لا يستمتع به إلا إنسان حر.

فأول وصية قالها الله للإنسان هي الحق في الاختيار نجدها في أول صفحات الكتاب المقدس في سفر التكوين: “واوصى الرب الاله ادم قائلا من جميع شجر الجنة تاكل اكلا و اما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تاكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت”. الوصية الأولي الحق في الاختيار، تأكل من جميع شجر الجنة، لكن إذا أكلت من شجرة معرفة الخير والشر موتا تموت. وفي سفر التثنية يؤكد الرب حرية اختيار الإنسان بأن يعيش معه أو ينفصل عنه إذ قال: “انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر … أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك” (تثنية٣٠: ١٥ـ٢٠).

في عظة القديس أنطونيوس البدواني عن قصة الخلق، يربط أنطونيوس بين تأمله في لليوم الأول للخليقة وبين حق الإنسان في الاختيار. في أول آيات الكتاب المقدس نقرأ في رواية الخلق، أن الأرض كانت خاوية خربة، وعلى وجه الغمر ظلام وروح الرب يرف على وجه المياه. قال الله “ليكن نورٌ، فكان نور وفصل الله بين النور والظلام، وسمى الله النور نهاراً، والظلام سماه ليلاً”. قبل كل شيء هناك النور، حيث هناك نور، تزهر الحياة، ويتحول الخراب إلى كون.. خلق الله الكون في ستة أيام، ثم استراح الله في اليوم السابع، يوم السبت.

وكما كان النور هو أول الأشياء التي أوجدها الله في العالم القديم، كذلك كان نور القيامة أول مظاهر العهد الجديد. نقرأ في أنجيل القيامة، خاصة أنجيل القديس يوحنا، إنه في اليوم الأول بعد السبوت.. بعض الترجمات الغير دقيقة تنص على: “في اليوم الأول من الأسبوع”. خلق الله العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع وبعد قيامة الرب يسوع.. خلق العالم الجديد.. ملكوت السموات الجديدة، مدينة أورشليم السمائية.. “حيث لا ليل هناك، فلا يحتاجون إلى ضوء المصباح او للشمس، لأن الرب الإله يكون نورهم وهم سيملكون إلى أبد الدهور” (رؤ ٢٢/٥). “المدينة لا تحتاج إلى نور الشمس والقمر، لأن مجد الله ينيرها والحمل هو مصباحها” (رؤ٢١/٢٣). مع قيامة الرب يسوع بدأت الحياة الجديدة، حيث لا موت ولا فناء، لا حزن ولا صراخ، ولا وجع لأن الأشياء القديمة قد زالت..

في القيامة يتحقق بشكل أسمى ما يصفه نص التكوين كبدء كل الأشياء. يقول الله من جديد: “ليكن النور!”. قيامة المسيح هي دفق نور. القائم بالذات هو النور، نور العالم. مع القيامة ينتشر نور الله في العالم وفي التاريخ. يحل نور النهار. وحده هذا النور – يسوع المسيح – هو النور الحق، الأكثر إشعاعًا من ظاهرة النور الطبيعي. هو النور الصافي: الله بالذات الذي يولد خليقة جديدة في حضن الخليقة القديمة، ويحول الخراب إلى كون. ونعلم من العهد الجديد أن هذا النور هو حكمة الله الآب الذي ينير كل إنسان أتي إلى العالم (يو ١/٩) الساكن في نور لا يدني منه (١تمو ٦/١٦). عن هذا النور يقول كاتب الرسالة إلي العبرانيين: “هو بهاء مجده وصورة جوهره حامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عب ١/٣)، أنا نور العالم , من يتبعني لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة ” (يوحنا ٨: ١٢)

هل أعيش في اليوم الأول بعد السبوت، يوم القيامة حيث نور القائم من بين الأموات ينير حياتي؟ يقدم لنا القديس انطونيوس البدواني منهج روحي متكامل لنعيش في هذا اليوم الأول بعد سبوت راحة الرب. منهج يجعلنا نشترك في خليقة الله الجديدة. يقوم المنهح على مقارنة الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم بفضائل ستة متى عاشها الإنسان يستطيع أن يدخل مدينة أورشليم الجديدة، مدينة الملكوت التي ينيرها الحمل الذبيح، نور العالم. يبقي فقط القرار في يد الإنسان، أن يختار بين طريقين.

يقارن أنطونيوس بين اليوم الأول الذي خلق فيه العالم وبين أول الفضائل التي تمكن الإنسان من أن يدخل إلى المدينة المقدسة. أول الفضائل هي: إهتداء القلب. في اليوم الأول خلق الله النور، وقبل أن يخلق الله النور نقرأ: “على وجه الغمر كان هناك ظلام”. لكي يبدأ الإنسان مسيرته الروحية فأن أول الخطوات هي إهتداء القلب. فعندما يبعد الإنسان عن الله، مصدر النور، الله نورُ لا ظلام فيه، يبقي الإنسان في ظلام، لذلك قال عن نفسه: “أنا نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة (يو ٨/١٢). الإنسان البعيد عن الله تكون حياته في ظلام “ان كان احد يمشي في النهار لا يعثر لانه ينظر نور هذا العالم و لكن ان كان احد يمشي في الليل يعثر لان النور ليس فيه” (يو ١١/٩-١٠). يقول لنا يوحنا الإنجيلي في رسالته الأولى: “نكتب اليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملا، وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه و نخبركم به ان الله نور و ليس فيه ظلمة البتة، ان قلنا ان لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب و لسنا نعمل الحق”.

الإنسان الذي يمشي في النور لا يعثر ولا يسقط لأن عيناه مبصرتان، أما الإنسان البعيد عن الله فأنه يمشي في الظلام، لأنه بعيد عن الله، فيسقط ويتعثر. “وصية جديدة اكتب اليكم ما هو حق فيه و فيكم ان الظلمة قد مضت والنور الحقيقي الان يضيء، من قال انه في النور و هو يبغض اخاه فهو الى الان في الظلم، من يحب اخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة، واما من يبغض اخاه فهو في الظلمة و في الظلمة يسلك و لا يعلم اين يمضي لان الظلمة اعمت عينيه” (١يو ٢/٧-٨). (قصة باولو كويلهو: كان أحد الأشخاص يمارس أسبوعيا صلاة الآحد في الكنيسة القريبة من سكنه. ولكن بعد أن وجد شيئا فشيئا أن الكاهن يكرر دائما الكلام نفسه، كف عن ارتياد الكنيسة. بعد شهرين، وفي ليلة شتوية باردة، زاره الكاهن، فقال لنفسه: “مما لا شك فيه أنه أتي محاولا أن يقنعي بالعودة”. تخيل أنه لا يستطيع ان يصرح بالسبب الحقيقي: المواعظ المكررة. ويجب عليه أن يجد عذرا. وبينما كان يفكر وضع كرسيين أمام المدفأة، ثم أخذ يتحدث عن الطقس. لم يتكلم الكاهن بكلمة، وبعد أن حاول الشخص عبثا أن ينعش الحديث، صمت بدوره. وبقي الاثنان صامتين، يتأملان النار، ما يقارب نصف الساعة. نهض الكاهن، وبمساعدة غصن شجرة لم يحترق بعد، أبعد جمرة من النار. وبما أن هذه الجمرة لم يعد لديها ما يكفي من الحرارة، أخذت تتخامد، فأعدها الكاهن بسرعة إلى وسط النار. نهض الكاهن ليخرج، ثم قال: طابت ليلتك. مهما كانت الجمرة متقدة فإنها ستنظفئ بعيدا عن النار).

عندما يكون هناك ظلام في حياة الإنسان تكون هناك الخطيئة. فضربة الظلام التي أوقعها الله على فرعون: “ثم قال الرب لموسي: مد يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر حتى يلمس الظلام، فمد موسي يده نحو السماء فكان ظلام دامس على أرض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاث أيام، ولكن جيمع بنى إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم (خر ١٠/٢١- ٢٣). الإنسان البعيد عن النور يعيش في ظلام، عاش فرعون وشعبه، أي الإنسان الخاطئ في ظلام لأنه بعيد عن الله، في حين تمتع شعب إسرائيل بالنور لأن الله كان معهم. وتنمو أعمال الشر في الظلام والتي عددها بولس الرسول في رسالته إلى رو ١٣/١٢: “البطر، والعهر، والخصام والحسد”. (الكوسة).

عندما يبدأ الخاطئ في مسيرة التوبة، تبدأ الظلمة في التبدد رويدا رويدا، مثلما الحال مع أشعة الفجر التي تبدد ظلام الليل. وهذا ما يقوله بولس الرسول إلى أهل أفسس: “لانكم كنتم قبلا ظلام، أما الآن فنور في الرب، اسلكوا كأولاد النور” (اف٥/٨). “قد تناهي الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أعمال النور (رو١٣/١٢).

يذكر أنطونيوس قصة يونان ليعضد فكرته في أن أهتداء القلب كنور الفجر الذي يبدد ظلام قلب الإنسان: “ثم اعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست” ففي زمن النعمة ومع اهتداء القلب فأن تأنيب الإنسان لنفسه يعمل مثل أسنان الدودة تأكل تلك الخروعة فتيبس.

بولس . وهو في طريقه إلى دمشق لمقاومة الذين يعترفون باسم المسيح وسَجنِهم ، وبينما هو قريب من أبواب هذه المدينة ، اختبر شاوول نورا عجيبا. فتراءى له على الطريق يسوع القائم من الموت. تحت تأثير هذا اللقاء تغير بولس تغييرا جذريا : فمِن مضطهد تحوّل إلى رسول ومن معادٍ للإنجيل إلى مرسَل. إن اللقاء مع المسيح حوّل حياة الرسول جذريا . فقد مسّه هذا اللقاء في الصميم من الكيان، وفتحه مليا على الحقيقة الإلهية . لقد قبل بولس حراً أن يعترف بهذه الحقيقة وأن يكرس حياته في إثر المسيح. عندما تلقى النور الإلهي ونال العماد ، صار كيانه العميق مطابقا لكيان المسيح؛ فتحولت حياته ووجد سعادته في الإيمان والثقة بمن دعاه من الظلمة إلى النور البهي ( ٢ تيموتاوس ١/١٢؛ أفسس ٥/٨؛ روما ١٣/١٢). فاللقاء بالإيمان ، مع القائم من الموت ، هو نور على درب البشر، نور يغير الوجود.

قد يعجبك ايضا
اترك رد