إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

العظة الأولى للأب رانييرو كانتلاميسا في زمن الصوم

0 895

بحضور البابا بندكتس السادس عشر والكوريا الرومانية

وجها المحبة: غريزة الحب والمحبة

وجها المحبة
في عظات هذا الصوم، أود متابعة ما سبق لي أن بدأت به في زمن المجيء وتقديم إسهام متواضع للتبشير الإنجيلي الجديد للغرب المعلمن، الأمر الذي يشكل الآن الشغل الشاغل للكنيسة جمعاء، وبخاصة للأب الأقدس بندكتس السادس عشر.

هناك مجال تعمل فيه العلمنة بطريقة متفشية وسلبية، وهو مجال المحبة. فعلمنة المحبة تقوم على فصل المحبة البشرية بكافة أشكالها عن الله، واختزالها بشيء “دنيوي”، حيث يبدو الله “غريباً” وإنما أيضاً مزعجاً.

لكن مسألة المحبة هذه ليست مهمة فقط للكرازة الإنجيلية، بمعنى أخر في العلاقات مع العالم؛ وإنما أيضاً وبخاصة للحياة الداخلية للكنيسة، لتقديس أفرادها. هذا هو المنظور الذي توجد فيه الرسالة العامة “الله محبة” التي كتبها الأب الأقدس بندكتس السادس عشر، والتي فيها نضع نحن أيضاً أنفسنا في تأملنا.

المحبة تعاني من فصل مشؤوم ليس فقط في ذهنية العالم المعلمن، وإنما أيضاً بالمقابل بين المؤمنين وبخاصة بين الأنفس المكرسة. من خلال تبسيط الوضع إلى الحد الأقصى، يمكن وصفه على النحو الآتي: في العالم، هناك غريزة حب ومحبة؛ وبين المؤمنين، غالباً ما توجد المحبة من دون غريزة الحب.

إن غريزة الحب من دون محبة هي محبة رومنسية، وفي أكثر الأحيان عاطفية، إلى حد العنف. إنها محبة غرامية تختزل الآخر بشكل محتوم إلى سبب متعتها، وتجهل كل أبعاد التضحية والإخلاص ووهب الذات. لا داعي هنا للتركيز على وصف هذه المحبة، لأننا أمام واقع نشهده يومياً ويتفشى بطريقة مستحوذة عن طريق الروايات والأفلام والقصص الخيالية المتلفزة والإنترنت والمجلات العاطفية الرديئة. هذا ما تفهمه اللغة العامة بشأن كلمة “محبة”.

من المفيد لنا أن نسعى إلى فهم معنى محبة من دون غريزة الحب. في الموسيقى، هناك تمييز يمكنه مساعدتنا على تكوين فكرة: التفريق بين الجاز الحار والجاز الساخن. لقد قرأت في مكان ما هذا التمييز للنوعين، على الرغم من أنني أعلم أنه ليس الوحيد. الجاز الحار هو الجاز المشبوب بالعاطفة، المحرق، المعبر، المؤلف من ميول ومشاعر وبالتالي من عواطف وارتجالات مبتكرة. والجاز البارد هو الجاز الذي انتقل إلى الاحترافية: فالمشاعر تصبح رتيبة، والتقنية تحل محل الإلهام، والبراعة محل العفوية.

من خلال هذا التمييز، تبدو لنا المحبة من دون غريزة الحب كـ “محبة باردة”، محبة “سطحية”، من دون مشاركة الكائن كله، محبة مفروضة من قبل الإرادة أكثر مما هي منبثقة من ميل قلبي حميمي، الانزلاق في قالب معد مسبقاً بدلاً من ابتكار قالب فريد، كما أن كل كائن بشري فريد أمام الله. إن أفعال المحبة تجاه الله تدفع إلى التفكير بأعمال المحبة الخاصة ببعض العشاق الذين يكتبون إلى الحبيبة رسائل منسوخة من أحد الكتيبات.

إن كانت المحبة الدنيوية جسد من دون روح، فإن المحبة الدينية الممارسة على هذا النحو هي روح من دون جسد. الكائن البشري ليس ملاكاً، وروحاً بحتة؛ هو روح وجسد متحدان جوهرياً: كل ما يفعله، بما فيه فعل المحبة، يجب أن يعكس هذه البنية. إن تعرض العنصر المرتبط بالزمن والوجدان للإنكار أو الكظم بشكل مطلق، تكون النتيجة مزدوجة: إما يقاوم المرء بصعوبة شعوراً منه بالواجب، ودفاعاً عن صورته، وإما يسعى إلى تعويضات مشروعة نوعاً ما وصولاً إلى الحالات الأليمة التي تحزن الكنيسة حالياً. فلا يمكن إنكار وجود مفهوم مشوه ومحرّف للمحبة وراء العديد من الانحرافات الأخلاقية للأنفس المكرسة.

لدينا إذاً دافع مزدوج وإلحاحية مزدوجة لإعادة اكتشاف المحبة في وحدتها الأصلية. المحبة الفعلية والتامة هي لؤلؤة موجودة بين مصراعين هما غريزة الحب والمحبة. لا يمكن فصل بعدي المحبة من دون تدميرها، تماماً كما لا يمكن فصل الإيدروجين والأوكسجين من دون حرمان الذات من مكونات الماء.

فرضية التعارض بين المحبتين
المصالحة الأكثر أهمية بين بعدي المحبة هي تلك التي تتم واقعياً في حياة الأفراد؛ لكن، في سبيل أن تكون ممكنة، يجب أن نبدأ بمصالحة غريزة الحب والمحبة نظرياً أيضاً، في العقيدة. هذا ما سيسمح لنا بخاصة بأن نعرف في النهاية معنى هذين المصطلحين اللذين كثيراً ما يساء استخدامهما وفهمهما.

اتخذت المسألة أهمية مع ظهور مؤلف نشر في كل العالم المسيحي الفرضية المقابلة لتعارض شكلي المحبة. إنه كتاب اللاهوتي اللوثري السويدي أندرز نيغرن المعنون “غريزة الحب والمحبة” . يمكن تلخيص فكره بهذين المصطلحين. تشير غريزة الحب والمحبة إلى حركتين متعارضتين: الأولى (eros) تشير إلى صعود وارتقاء الإنسان نحو الله والإلهي كما لو أنه خيره ومصدره؛ والأخرى، المحبة (agape)، تدل على انحدار الله إلى الإنسان من خلال تجسد المسيح وصلبه، وبالتالي الخلاص المقدم للإنسان من دون أي استحقاق واستجابة من جهته، ما عدا الإيمان وحده. العهد الجديد قام باختيار محدد مستخدماً للتعبير عن المحبة مصطلح agape ومستبعداً بشكل مطلق مصطلحeros.

القديس بولس هو الذي جمع وصاغ عقيدة المحبة هذه بمنتهى الشفافية. بعده، ووفقاً لفرضية نيغرن، اختفت هذه المسألة النقيضة على الفور تقريباً لتفسح المجال أمام محاولات جمع. وسرعان ما دخلت المسيحية في اتصال ثقافي مع العالم اليوناني والرؤية الأفلاطونية، مع أوريجانوس قبلاً، حتى وُجدت إعادة تثمين لغريزة الحب كحركة ارتقائية للنفس نحو الخير ونحو الإلهي، كجاذبية عامة يمارسها الجمال والإلهي. هنا، سيكتب ديونيسيوس الأريوباجي المنحول “الله غريزة الحب” مستخدماً هذا المصطلح بدلاً من مصطلح المحبة الوارد في جملة يوحنا الشهيرة (١ يو ٤،١٠.(

في الغرب، هناك جمع مشابه يقوم به أغسطينوس مع عقيدته عن المحبة المفهومة كعقيدة محبة الله للإنسان المنحدرة والمجانية (لا أحد تحدث بقوة أكثر منه عن “النعمة” !) وإنما أيضاً كتوق الإنسان إلى الخير وإلى الله. ومنه ينبثق الإعلان: “اللهم، لقد جعلتنا لك، وقلبنا قلق ما لم يسترح بك” ؛ ومنه أيضاً، تنبثق صورة المحبة كـ “ثقل” النفس الذي يجذب، كقوة الجاذبية نحو الله الذي تجد فيه النفس الراحة والسرور . وبالنسبة إلى نيغرن، كل ذلك يدخل عنصر محبة الذات، والمصلحة الخاصة، وبالتالي عنصر الأنانية الذي يدمر مجانية النعمة؛ هذا يعني الوقوع ثانية في الوهم الكافر القائم على جعل الخلاص كصعود إلى الله بدلاً من أن يكون انحدار الله المجاني الذي لا دافع له، نحونا.

ويعتبر نيغرن أن أسرى هذا الجمع المستحيل بين غريزة الحب والمحبة، بين محبة الله ومحبة الذات، هم أيضاً القديس برناردوس عندما يحدد الدرجة السامية لمحبة الله كـ “محبة الله للذات” وكـ “محبة الذات فقط لله” ، والقديس بونافنتورا مع “مسار الروح الارتقائي نحو الله”، والقديس توما الأكويني الذي يعرف عن محبة الله المنتشرة في قلب المعمّد (رو ٥، ٥) كـ “المحبة التي بها يحبنا الله، وبها يجعلنا نحبه” (amor quo ipse nosdiligit et quo ipse nosdilectores sui facit) . هذا يعني أن الإنسان المحبوب من الله يستطيع بدوره أن يحب الله ويعطيه من ذاته، مما يقوض المجانية المطلقة لمحبة الله. على المستوى الوجودي، نجد الانحراف عينه، وفقاً لنيغرن، مع العلم الروحاني الكاثوليكي. إن محبة العلوم الروحانية مع طاقات غريزة الحب الرائعة، ليست بالنسبة إليه سوى محبة حسية رفيعة، محاولة لإقامة علاقة تبادل مزهو في المحبة مع الله.

من بدد اللبس وسلط الضوء على المسألة النقيضة البولسية الواضحة جداً، كان بحسب المؤلف، لوثر. إذ أسس التبرير على الإيمان وحده، لم يستبعد المحبة، caritas، عن الوقت التأسيسي للحياة المسيحية، كما ينسب إليه اللاهوت الكاثوليكي؛ بل حرر المحبة، agape، من عنصرeros، غريزة الحب غير الصحيحة. بصيغة “الإيمان وحده” واستبعاد الأعمال، ترتبط لدى لوثر صيغة “المحبة وحدها”، مع استبعاد غريزة الحب.

لا يحق لي أن أحدد إن فسر المؤلف بشكل صحيح عند هذه النقطة فكر لوثر الذي – لا بد من قول ذلك – لم يطرح أبداً المسألة كصراع بين غريزة الحب والمحبة، كما فعل فعل بالمقابل بين الإيمان والأعمال. مع ذلك، من المعبر أن كارل بارث يصل في أحد فصول “مجموعة العقائد الكنسية” إلى النقطة عينها التي توصل إليها نيغرن، وهي تناقض لا يقهر بين غريزة الحب والمحبة، ويكتب: “حيثما تظهر المحبة المسيحية، سرعان ما يبدأ الصراع مع المحبة الأخرى، ولا يكون لهذا الصراع نهاية” . وأقول أننا إن لم نكن في صدد لوثرية، فإننا بالتأكيد أمام لاهوت جدلي، لاهوت المأزق، المسألة النقيضة وليس مسألة الحصيلة.

إن تداعيات هذه العملية هي عولمة وعلمنة غريزة الحب. ففي الواقع، وفيما كان لاهوت معين يبعد غريزة الحب عن المحبة، كانت الثقافة الدنيوية سعيدة من جهتها بإبعاد المحبة عن غريزة الحب، أي بإخلاء المحبة البشرية من كل رجوع إلى الله وإلى النعمة. لقد قدم فرويد تبريراً نظرياً مختزلاً المحبة إلى غريزة الحب وغريزة الحب إلى شهوانية، إلى مجرد نزوة جنسية تكافح كل قمع وكبت. إنها المرحلة التي تختزل فيها المحبة اليوم في العديد من مظاهر الحياة والثقافة، بخاصة في عالم التسلية.

قبل سنتين، كنت في مدريد. وفي الصحف، لم يكن هناك حديث إلا عن معرض فني كان يقام في المدينة تحت عنوان “دموع غريزة الحب”. كان عبارة عن معرض تحف فنية على خلفية جنسية – لوحات، رسوم، ومنحوتات –؛ وكان الهدف من ذلك تسليط الضوء على الرابط الذي لا يُفصم والذي يقوم في تجربة الإنسان المعاصر بينeros وthanatos، بين المحبة والموت. إلى هذا الاستنتاج نصل عند قراءة مجموعة قصائد “أزهار الشر” لبودلير أو “فصل في الجحيم” لريبمو. فالمحبة التي بطبيعتها ينبغي أن ترشد إلى الحياة، تستطيع على العكس أن ترشد إلى الموت من الآن فصاعداً.

العودة إلى الحصيلة
إن كنا لا نستطيع أن نغير بين ليلة وضحاها فكرة العالم عن المحبة، نستطيع مع ذلك أن نصحح الرؤية اللاهوتية التي تشجعها وتعطيها شرعية بطريقة لاشعورية. هذا ما قام به الأب الأقدس بندكتس السادس عشر على نحو نموذجي مع الرسالة العامة “الله محبة”. فهو يعيد التأكيد على الحصيلة الكاثوليكية التقليدية معبراً عنها بمصطلحات عصرية. “ففي الواقع، erosوagape، – المحبة الصاعدة والمحبة المنحدرة – لا يسمحان بانفصالهما كلياً عن بعضهما البعض (…). الإيمان البيبلي لا يبني عالماً موازياً أو عالماً معارضاً للظاهرة البشرية الأصلية التي هي المحبة”، بل “يقبل كل الإنسان، متدخلاً في بحثه عن المحبة التي تطهره، وكاشفاً له في الوقت عينه أبعاداً جديدة” (رقم ٧-٨). غريزة الحب والمحبة متحدتان عند مصدر المحبة أي الله: “هو يحب، ويمكن وصف محبته من دون شك كغريزة حب هي مع ذلك محبة في الوقت عينه وبشكل تام” (رقم ٩).

ويفهم المرء الترحيب الإيجابي الذي لقيته هذه الوثيقة الحبرية في البيئات العلمانية الأكثر انفتاحاً ومسؤولية. فهذه الرسالة العامة تعطي رجاء للعالم. وتصحح صورة الإيمان الذي لا يؤثر في العالم إلا بطريقة سطحية من دون أن يتغلل فيه، من خلال استخدام الصورة الإنجيلية للخميرة التي تخمر العجينة؛ وتستبدل فكرة ملكوت الله الآتي ليدين العالم بفكرة ملكوت الله الآتي لإنقاذ العالم، انطلاقاً من غريزة الحب التي تعتبر القوة المسيطرة.

أعتقد أن هناك إمكانية لتقديم تأكيد من وجهة النظر التفسيرية للرؤية التقليدية سواء كانت الرؤية اللاهوتية الكاثوليكية أو الرؤية الأرثوذكسية. يستند مؤيدو فرضية التنافر بين غريزة الحب والمحبة إلى كون العهد الجديد يتلافى بعناية – وبطريقة متعمدة على ما يبدو – مصطلح غريزة الحب، مستبدلاً إياه دوماً وفقط بالمحبة (ما عدا بعض الاستخدامات النادرة لمصطلحphilia، الذي يشير إلى المحبة الصداقة).

هذا صحيح ولكن المستنتجات التي نستخلصها ليست صحيحة. يفترض المرء أن مؤلفي العهد الجديد كانوا يعرفون كليهما، معنى مصطلح erosفي اللغة المشتركة – غريزة الحب “المبتذلة” – ومعناه الرفيع والفلسفي مثلاً في نتاج أفلاطون، غريزة الحب “النبيلة”. في اللغة الشعبية، كانت غريزة الحب تشير نوعاً ما إلى ما يدل عليه اليوم عند التحدث عن شهوانية أو أفلام جنسية، أي إرضاء الغريزة الجنسية، إهانة الذات أكثر مما هي رفع الذات. في المعنى النبيل، كانت تشير إلى محبة الجمال، القوة التي تحكم العالم وتدفع كل البشر نحو الوحدة، أي هذه الحركة الصاعدة نحو الإلهي التي يعتبرها اللاهوتيون الجدليون متعارضة مع الحركة المنحدرة للإلهي نحو الإنسان.

من الصعب القول بأن مؤلفي العهد الجديد الذين يخاطبون أشخاصاً بسطاء وغير مثقفين، أرادوا تحذيرهم من غريزة الحب لدى أفلاطون. لقد تلافوا مصطلحeros للسبب عينه الذي يتلافى لأجله اليوم الواعظ المصطلح الجنسي، أو إن كان يستخدمه، يستخدمه بالمعنى السلبي. ذلك لأن هذه الكلمة تشير في زمن كهذا الزمن إلى المحبة في مظهرها الأكثر أنانية وحسية . إن ريبة المسيحيين من غريزة الحب تفاقمت بالدور الذي كانت تؤديه غريزة الحب في الشعائر الديونسيوسية المتحمسة.

ما أن أصبحت المسيحية على اتصال وفي حوار مع الثقافة اليونانية في ذلك العصر، حتى سقطت فوراً كل العوائق بالنسبة إلى مصطلح غريزة الحب. وكثيراً ما يستخدم لدى الكتاب اليونانيين كمرادف للمحبة، ويستخدم للدلالة على محبة الله للإنسان، وعلى محبة الإنسان لله، محبة الفضائل ولكل شيء جميل. وفي سبيل الاقتناع بذلك، تكفي مراجعة المعجم الآبائي اليوناني للامب . إن نظام نيغرن وبارث هو نظام مبني على التطبيق الخاطئ للحجة المسماة “ex silentio” (من الصمت).

غريزة حب للمكرسين
إن إصلاح غريزة الحب يساعد بخاصة البشر العشاق والأزواج المسيحيين، مظهراً جمال وكرامة المحبة التي توحدهم. ويساعد الشباب على اكتشاف سحر الجنس الآخر ليس كأمر غامض يجب عيشه بعيداً عن الله، وإنما على العكس، كهبة من الخالق لفرحهم، إن تم عيشه بحسب مشيئته. ويشير البابا أيضاً إلى هذه الوظيفة الإيجابية لغريزة الحب حول المحبة البشرية، عندما يتحدث عن درب تطهر غريزة الحب التي تنقل من الانجذاب المؤقت إلى “أبدية” الزواج (رقم ٤-٥). لكن إصلاح غريزة الحب يجب أن تساعدنا، نحن أيضاً، المكرسين الرجال والنساء. لقد تحدث بداية عن الخطر الذي تعيشه الأرواح المكرسة: خطر محبة باردة لا ينحدر من الفكر إلى القلب كشمس الشتاء التي تنير ولا تدفئ. إن كانت كلمةeros (غريزة الحب) تعني اندفاعاً، رغبة، انجذاباً، ينبغي علينا ألا نخاف من المشاعر ونحتقرها ونكظمها. وبشأن محبة الله – كتب

غيّوم دو سان تييري – فإن شعور المحبة (affection) هو أيضاً نعمة؛ ففي الواقع، ليست الطبيعة هي التي تنشر فينا شعوراً مماثلاً .

تزخر المزامير بعطش القلب إلى الله:”إليك يا رب أرفع نفسي…”، “نفسي عطشى إلى الله، إلى الإله الحي”. “كن إذاً منتبهاً – يقول كاتب غيمة الجهل – إلى عمل النعمة الرائع في نفسك. إنه اندفاع غير منتظر يظهر من دون إخطار ويرشد مباشرة إلى الله كشرارة تبرز من النار… المس غيمة الجهل الكثيفة بالسهم القاطع لرغبة المحبة، ولا تتحرك من هناك، مهما حدث” . ويكفي لذلك تفكير، بادرة من القلب، أو صلاة قصيرة.

ولكن كل هذا لا يكفينا، والله يدرك هذا الأمر أفضل منا. نحن مخلوقات، نعيش في الزمن وفي جسد؛ ونحن بحاجة إلى شاشة نعكس عليها محبتنا التي ليست فقط “غيمة الجهل”، أي غطاء العتمة الذي يحتجب وراءه الله الذي لم يره أحد والذي يسكن في نور يصعب بلوغه…

إننا ندرك جيداً الإجابة عن هذه المسألة: لذلك تحديداً، منحنا الله قريبنا لنحبه! “إن الله ل يره أحد من الناس قط. ولكن، حين نحب بعضنا بعضاً، نبين أن الله يحيا في داخلنا… لأن الذي لا يحب أخاه وهو يراه، لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه” (١ يو ٤: ١٢، ٢٠). ولكن، ينبغي علينا أن نحرص على عدم إغفال واقع حاسم. قبل الأخ الذي نراه، هناك آخر نراه ونلمسه أيضاً: إنه الله الذي صار جسداً، يسوع المسيح! بين الله والقريب هناك الكلمة المتجسد الذي يجمع الطرفين في شخص واحد. وفيه تجد محبة القريب أساسها: “فإلي صنعتموه”.

ماذا يعني كل هذا لمحبة الله؟ أن المحور لغريزة حبنا، لبحثنا، لرغبتنا وانجذابنا وشغفنا، يجب أن يكون المسيح. “المحبة البشرية محددة مسبقاً للمخلص منذ البدء، كما لشكلها وغايتها، كصندوق كبير وواسع لاستقبال الله (…). رغبة النفس تتوجه فقط إلى المسيح. فهناك مكان استراحته لأنه وحده الخير والحق وكل ما يلهم المحبة” . هذا لا يعني تقييد أفق المحبة البشرية بنقلها من الله إلى المسيح؛ هذا يعني محبة الله كما يريد أن يُحب. “فإن الآب نفسه يحبكم، لأنكم أحببتموني” (يو ١٦، ٢٧). هذه ليست محبة وساطة، كالوكالة مثلاً، ومعناها أن من يحب يسوع، هو “كما لو” أنه يحب الآب. لا، إن يسوع هو وسيط فوري؛ ومن خلال محبته، نحب الآب بفعل الواقع. “من يراني، يرى الآب”، ومن يحبني يحب الآب.

صحيح أننا لا نرى المسيح، لكنه موجود؛ لقد قام من بين الأموات وهو حي وقريب منا؛ وحضوره هو أكثر واقعية من حضور الزوج الأكثر حباً والقريب من زوجته. هذه هي النقطة المهمة: يجب أن أفكر بالمسيح ليس كشخص من الماضي، بل كالرب المائت والقائم الذي أستطيع التحدث إليه ومعانقته إن أردت، واثقاً بأن قبلتي لا تنتهي على ورق أو خشب صليب بل على وجه وشفتين من لحم حي (ولو أنه مروحن) سعيدة بقبلتي.

يعتمد جمال وكمال الحياة المكرسة على نوعية محبتنا للمسيح. فوحدها قادرة على الحماية من تشتت قلبنا. يسوع هو الإنسان الكامل؛ ويتمتع لدرجة عالية للغاية كل الصفات والنقاط المهمة التي يبحث عنها رجل لدى امرأة، وتبحث عنها امرأة لدى رجل. إن محبته لا تعفينا بالضرورة من دعوة المخلوقات وبخاصة من سحر الجنس الآخر (مما يشكل جزءاً من طبيعتنا التي خلقها والتي لا يريد تقويضها)؛ هو يعطينا مع ذلك القدرة على التغلب على هذه الانجذابات بفضل جاذبية أقوى. ويكتب القديس جان كليماك: “عفيف هو الذي يطرد غريزة الحب بغريزة الحب” .

هل كل ذلك يدمر مجانية المحبة مدعياً أنه يعطي لله شيئاً مقابل محبته؟ هل يبطل النعمة؟ أبداً، وإنما بالعكس، يعلي شأنها. ماذا نعطي إذاً لله إن لم يكن ما تلقيناه منه؟ “ونحن نحب، لأن الله أحبنا أولاً” (١ يو ٤، ١٩). المحبة التي نعطيها للمسيح هي محبته لنا التي نردّها نحن، كما يفعل الصدى مع الصوت.

أين هي إذاً جدة وروعة هذه المحبة التي نسميها غريزة الحب. الصدى يرجّع لله محبته الخاصة، وإنما تكون محبة مجمّلة وملونة ومعطّرة بحريتنا. وهذا هو فعلاً ما يريده. حريتنا ترد له الجميل بالكامل. وليس فقط هذا، فالقديس كابسيلاس يكتب “يشعر بأنه مديننا عندما يتلقى منا هبة المحبة مقابل كل ما منحنا” . إن الفرضية التي تقول أن غريزة الحب والمحبة متعارضتان تستند إلى تناقض شهير آخر، التناقض بين النعمة والحرية، وأكثر من ذلك إلى إنكار الحرية لدى الإنسان المخلوع (إلى “الإرادة المسترقة”).

أيها الآباء والإخوة الأجلاء، لقد حاولت أن أتخيل ما قد يقوله يسوع القائم من بين الأموات لو أتى الآن للجلوس هنا مكاني، كما كان يفعل في حياته على الأرض عندما كان يدخل إلى المعبد يوم السبت، وشرح لنا شخصياً المحبة التي ينتظرها منا. أريد أن أشارككم ببساطة ما كان سيقول برأيي؛ وهذا ما سيساعدنا على فحص الضمير حول المحبة:

المحبة الحارة:
هي وضعي دائماً في الصدارة.
هي السعي إلى إرضائي في كل آن.
هي مطابقة رغبتك مع رغبتي.
هي العيش أمامي كما أمام صديق، مؤتمن، زوج، والشعور بالسعادة.
هي القلق إن كنت تفكر أنك بعيد عني.
هي الشعور بسعادة كبيرة عندما أكون معك.
هي الاستعداد على بذل تضحيات كبيرة لكي لا تفقدني.
هي تفضيل العيش فقيراً ومجهولاً معي على العيش غنياً ومشهوراً من دوني.
هي التحدث معي كما لو أنك تتحدث مع أعز صديق لك، كلما كان ذلك ممكناً.
هي الثقة بي عندما تفكر بمستقبلك.
هي الرغبة في الضياع فيّ كهدف وجودك.

إن كان لديكم انطباع مثلي أنكم بعيدون عن هذا الهدف، لا تيأسوا. هناك شخص يستطيع أن يساعدنا على بلوغه إن طلبنا منه ذلك. دعونا نكرر للروح القدس بإيمان: Veni, SancteSpiritus, repletuorumcordafidelium et tuiamoris in eisignemaccende،هلم أيها الروح القدس، واملأ باطن قلوب مؤمنيك، وأضرم فيهم نار محبتك.

روما، الاثنين ٢٨ مارس ٢٠١١ (Zenit.org)

قد يعجبك ايضا
اترك رد