إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

حياة القديس أنطونيوس البدواني – الجزء الأول

0 2٬176

 

القسم الأول

حياة القديس أنطونيوس البادواني

 

 

الفصل الأول

في مولد ونشأة القديس أنطونيوس

تعد مدينة لشبونة إحدى أهم مدن البرتغال وقد ذاع صيتها وكثرت الروايات التاريخية من حولها وقيل أن منشأها الأول يعود إلى “أليشة بن ياران بن يافث بن نوح”، وعليه يكون وجودها قريب من زمن الطوفان، وقال غيرهم أن مؤسسيها الفينيقيون، وعلى كل حال فهي تحتل مكانة متقدمة بين أهم مدن أوربا.

كانت لشبونة كرسي أسقف منذ القرن الخامس إلى سنة 1390م حيث رفعت إلى درجة كرسي رئيس أساقفة ثم إلى بطريركية بأنعام خصها به البابا اكليمنضوس الحادي عشر سنة 1716م.

والشاهد أن لشبونة على جمال مبانيها وغر محاسنها وزهر مفاخرها أنها أضحت مسقط رأس صانع العجائب مارأنطونيوس الشهير بالبادواني.

ولد القديس أنطونيوس في عائلة شريفة الحسب والنسب، فأبوه “مارتن فنسان دي بوليون”، كان من أعيان المدينة ورجال الحكومة ومن أعز فرسان الفنس الثاني ملك البرتغال، ووالدته “ماريا تريزا دي طاوره”، يرجع نسبها إلى ملك استوريس “فريلان”، أبا الملك الفونس الملقب بالعفيف.

من هذين الأبوين الكريمين ولد قديسنا، مجد البرتغال وفخر الرهبانية الفرنسيسكانية، والكوكب الدري لبيعة الله الكاثوليكية المقدسة، في 15 آب “أغسطس” سنة 1195م، أي عيد أنتقال سيدتنا مريم العذراء بالنفس والجسد إلى السماء، وقد كان جالسًا سعيدًا على كرسي ماربطرس في ذلك الوقت البابا كاستينس الثالث، وفي زمن “صانشيو الاول” ملك البرتغال.

وقد أعتبر ميلاد القديس أنطونيوس في ذلك اليوم فألاً حسنًا بما سوف ينفرد به هذا المولود، ابن النعمة، من فائق المحبة والإكرام لسلطانة السموات، ثم إرشاده إلى شملها إياه بأخص عنايته وكذلك بالتجائه إليها واحتمائه بها، من كوارث الحياة وآفاتها الروحية والمادية.

في اليوم الثامن لميلاده حمل إلى كنيسة العذراء مريم الكائنة بالقرب من دار أبيه والتي تحتوي على ذخيرة للقديس والشهيد منصور، وهناك نال أول الأسرار في حياته، سر المعمودية المقدسة، ودُعي باسم هرنندس أو فرديناند.

ومما يذكر عن غرائب وعجائب طفولته أنه إذا بكى أو أجهش للبكاء، كانت والدته تحمله عند أقرب نافذة مشرفة على كنيسة العذراء التي نال فيها سر المعمودية، ولوقته كان يكف عن البكاء، ويمد ذراعيه نحو الكنيسة.

كانت أمه “ماريا تريزا” لا يغيب عن ناظريها ما لوليدها من نوادر تقترب من الخوارق الأمر الذي جعلها تتوسم فيه نفسًا ميالة إلى حب الخير وأعمال الخير، ولذلك عزمت على تربيته تربية مسيحية أمينة صادقة، تربية خليقة بوالدة متدينة تقية عالمة بما أوصى به سليمان الحكيم في سفر الأمثال “رب ابنك في طريقه فاذا شب أيضًا لا يحيد عنها” (أمثال 22: 6).

أخذت الوالدة في بداية الأمر تتلفظ له مرارًا باسم يسوع الحلو وفي يقينها أن “ليس اسم آخر تحت السماء ممنوحًا للناس به ينبغي أن نخلص” (أعمال 4: 12)

وتشفعه باسم مريم والدة الله معجلة له التعرف بهذه الأم الحبيبة التي قال عنها الأب الساروفي القديس بونافتتورا “بمعرفتها حق المعرفة يحصل الإنسان على أصل عدم الموت”.

لعبت “ماريا تريزا” دورًا بالغ الأهمية في سنوات حياة ابنها القديس أنطونيوس الأولى، كانت تبذل أقصى العناية والرعاية لتضعه على طريق الأدب والتقوى، تتلو على مسامعه تارة الصلاة الربانية، وطورًا السلام الملائكي، وأحيانًا أخرى تشرح له فروض الدين وأساسيات الإيمان ومحاسن الفضيلة ليسير على نهجها، ثم تبين له ما تنهي عنه العقيدة المسيحية الكاثوليكية، والمخاطر التي يتوجب عليه أن يتجنبها.

هذه التعاليم التي كانت السيدة “ماريا تريزا” تغذي بها نفس ابنها فرديناند، قد أمست كبذور ثمينة وقعت في أرض جيدة، وسقيت بندى النعمة السماوية، فأعطت عاجلاً أثمارًا غزيرة غير عادية، منها أنه فضلاً عن طبيعته وشخصيته المهذبة الرصينة، التي ازدان هو بها، كهدوء الطابع، ووفرة الحشمة، وأنقياده السلس لوالديه، فقد شوهد أيضًا منذ نشأته محبًا لأفعال البر والعبادة المقدسة، نشيطًا في ممارستها بتقوى يكثر من زيارة الكنائس والأديرة ويرق قلبه للبؤساء والمساكين.

على أن الفضيلة التي أحبها منذ نعومة أظافره كانت الطهارة، زينة الفضائل المزدهرة وبهجتها المشرقة، فإنه لما إنجلى له ذات يوم ما لهذه الفضيلة من جليل القدر وعظيم الحظوة عند الله وملائكته بادر بلا توقف إلى نذر عفته على الدوام حبًا بمثال الطهارة الأذكى سيدتنا مريم العذراء، وهو لم يكن يومئذ قد جاوز سنوات عمره الخمس، وقد جاء ذلك النذر المبكر، كإشارة سماوية، على أن هذا الصبي سرعان ما سيهجر العالم وأباطيله، ليتشح برداء الرهبنة، سالكًا الطريق الأوفى والأعظم وسيلة للترقي في معارج الكمال المسيحي.

لم يتجاوز فرديناند العاشرة من عمره حتى فكر أبواه في أن يعهدا بأمر تخرجه في العلوم الأولى إلى كهنة الكنيسة الكاتدرائية، حيث كانت مدرسة تجمع بين جدرانها أولاد شرفاء المدينة وأعيانها.

هناك إنقاد فرديناند بطيبة خاطر إلى تدبير والديه، وأخذ ينكب على الدراسة وتحصيل العلوم من جهة، كما أجتهد في عبادة ومحبة فاديه من ناحية أخرى، إلى أن أحرز في سنين قلائل قصب السبق على زملائه علمًا وفضيلة.

مكث أنطونيوس في تلك المدرسة زهاء خمس سنوات، وفي مدة إقامته هذه بدأت المعجزات تظهر للعيان في سنوات حياته الأولى، ومنها أنه فيما كان ذات مرة عاكفًا على الصلاة، مستغرقًا في التأمل، أن لم يطق عدو البشر أن يشاهد فتى غض نضر البشرة، يسلك هكذا بطهارة وعبادة مضطرمة بهذا القدر، إذ اتخذ الخداع الإبليس هيئة كلب، فظهر له بهذه الصورة على أمل أن يرعبه ويثنيه عن صلاته، إلا أن فرديناند لم يعبأ بحيل الماكر ولم تذعره مناظره القبيحة، ولم يكن منه إلا أن مد يده، وهو ساكن الجأش، هادي البال، فرسم بإصبعه إشاره الصليب المقدس على بلاط درجة الخورس الرخامية التي كانت بجانبه[1]، فأنطبعت للحال عليه تلك العلامة المقدسة، مما جعل الشيطان يفر مهزومًا ويولى الأدبار خائبًا خاسئًا عن بصره.

ورغم أن كتَّاب سيرة قديسنا الحبيب لم يتركوا الكثير من الأخبار عن سيرة حياته الأولى، إلا أن ما وصلنا منها كما تقدم يشير إلى مجمل أعمال صباه، الذي كان بعيدًا عن الطيش والنزق، وقريبًا بل وفي عمق التقوى والفطنة، والبر والقداسة، ما ينطبق عليه قول الحكيم “كنت صبيًا فطينًا ورزقت نفسًا صالحة” (حكمة 19:8).

 

الفصل الثاني

أنطونيوس يهجر العالم ويلتحق بالرهبنة الأغسطينية

لما بلغ فرديناند الخامسة عشر من عمره ورأى المخاطر التي تحدق بالنفس المسيحية وما تنصبه من فخاخ للطهارة المقدسة، ورأى أيضًا مستنيرًا بأنوار النعمة الإلهية كيف أن الحياة عزها زائل ونعيمها حائل، وأتفق مع سليمان الحكيم على أن كل شيء باطل وقبض الريح، عزم أن يهجر العالم وينخرط في سلك الآباء الأغسطينيين الذين كان لهم دير قريب من لشبونة، وقد كانت لهم منزلة خاصة عند الجميع لقداسة سيرتهم وتميزهم الروحي والعلمي. وعليه فذات نهارٍ، وبعد أن قدم فريناند الصلوات والابتهالات إلى الله تعالى لكي تتحقق مشيئته في حياته، أقبل على والديه وكاشفهما بما أراد من الرهبنة.

لم يكن الأمر يسير على والديه، ذلك أنه يعني لهما ابتعاد هذا الابن الطيب، المبارك، الحامل لأجمل الصفات الروحية والإنسانية، إلا أنهما بالرغم من ذلك كله لم يقفا في طريق دعوته، ولم يقاوما إرادة الرب الداعيه له، متذكرين قول أشعياء النبي “ويل لمن يخاصم جابله” (أشعياء 9:45).

فاز إذن فرديناند بالموافقة والبركة من والديه، فمضى فرحًا مسرورًا إلى دير الآباء القانونيين، وقد طلب إلى رئيسهم الانضواء إلى جمعيتهم وأجيب بطيبة إلى ملتمسه.

اتشح فرديناند بالثوب الرهباني في شهر آب “أغسطس” من عام 1210م شاكرًا الله شكرًا حميمًا على ما أختصه بمثل هذه النعمة الفريدة وأقصاه عن مخاطر ومعاثر هذه الدنيا الغرورة، متدبرًا حق التدبر قدر وسمو دعوته الجديدة وما تقتضيه منه لا من عمل الصالحات وتجنب إهانة الخالق وغيظه فقط، بل أن يسعى أيضًا وراء الكمال المقدس الواجب طلبه والجد في تحصيله على كل راهب بلا استثناء قد نذر النذور الرهبانية كما هو معلوم ومقرر.

لم يعد فرديناند يكتفي بسابق أعمال التقوى والعبادة التي كان يمارسها وهو في العالم، بل أضاف إليها رياضات أخرى كان يباشرها بنشاط وإتقان بعد أن يتم مع زملائه المبتدئين واجبات حالتهم الجديدة، ممارسًا بالخصوص أعمال فضيلتين هما للنفس الراغبة في تحصيل الكمال المسيحي بمثابة جناحين تستطيع بهما أن تبلغ مبلغًا رفيعًا من البر والقداسة، وهما فضيلتي الإماتة، باطنية كانت أم خارجية، والصلاة العقلية. غير أنه لم يكن يقدم على عمل من الأعمال النسكية إلا بعد أخذ موافقة مرشده الروحي أو رئيسه، وهو بهذا الانقياد لمن كانوا ينوبون في أمره مقام الله عز وجل قد غدا على ثقة من قبول الله تعالى لها ومكافأته عليها، وتحاشى في الوقت ذاته مكائد الشيطان الذي يحاول كثيرًا أن يغري نفوس الساعين إلى الكمال بتطرف أفعالهم الروحية، ما يمكن أن يأتي بنتائج روحية سلبية لا أيجابية لاحقًا.

قضى فرديناند سنة الابتداء في جد ونشاط حثيثين، لا سيما في مطالعة وتعليم قوانين الرهبنة من جهة، وفي الترقي عبر سلم الفضيلة من ناحية أخرى، إلى أن أنقضت سنة الاختبار وقد أختبره لفيف من الرهبان في نهاية العام ووجدوا أنه أهلاً لنذر قانونهم. فنذره وقلبه ملئ بالسرور لتخصيص ذاته نفسًا وجسدًا لخدمة الله ومحبته حياته كلها، ولارتباطه بوثاق نذور الطاعة والفقر والطهارة التي من شأنها أن تضمن له الظفر والغلبة على أعداء الإنسان الألداء، أي الجسد والعالم والكبرياء. لأنه كما كتب يوحنا الحبيب: “كل ما في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة” (1يوحنا 16:2).

في أعقاب إبرازه النذور الرهبانية لم يقم بهذا الدير إلا سنة واحدة، والسبب في كثرة تردد أقاربه وخلانه عليه، ولم يحب فرديناند هذه الزيارات والمخالطات الكثيرة للناس، خوفًا من أن تتشتت أفكاره المتجمعة وتخمد في فؤاده نار العبادة، فيقترب من العالم ذهنًا، بعد أن أبتعد عنه روحًا وجسمًا، وعليه لم يلبث أن قصد رؤساءه فأخبرهم بأمره وحاجته ملتمسًا إن حسن لديهم تبديل الإقامة بدير آخر، فاستصوبوا جميعًا طلبه وعينوا له دير “الصليب المقدس” في إحدى مدن البرتغال الشهيرة وتدعى Coimbra وبالعربية “قلمرية”.

 

الفصل الثالث

في إنتقاله إلى دير الصليب وإقامته فيه

بمجرد أن حصل فرديناند على موافقة رؤساؤه بتغيير إقامته، إلا وقام مسرعًا إلى محل سكناه الجديدة، أي دير الصليب المقدس في قلمرية، حيث وصل إلى هناك في أواخر شهر أيلول “سبتمبر” سنة 1212م، وهناك مكث نحو ثماني سنوات، أي حتى السادس والعشرين من عمره، وقد إهتم كثيرًا خلال تلك السنوات في أن يتيقظ على نفسه كي يبعد الفتور الروحي عنه، وللسير بلا كلل أو ملل في سلم الفضائل الرهبانية وارتقائه، متذكرًا على الدوام قول القديس بولس الرسول “أنسى ما ورائي وامتد إلى أمامي” (فيلبي 13:3).

وقد وقر في يقينه أهمية الإنكباب على الدروس الفلسفية واللاهوتية والكتاب المقدس وكتابات الآباء وغيرها من العلوم الروحية، عالمًا أن التقوى وقداسة السيرة إن كانتا من أخص ما تتطلبه حالة الكهنوت السامية، فالعلم هو أيضًا من مقتضياتها ولوازمها الكبرى، حتى إذا تهاون الكاهن أو تقاعس عن الجد في طلبه وتحصيله، يحرم من أن يرمقه العلي بعين الرضى والمسرة، ويفرزه بعيدًا عن شركة خدامه الأمناء العاملين في إعلاء مجده، إما باستقامة سيرتهم أو بسناء علومهم، واضعًا أمام عينيه ما جاء في هوشع النبي “من أجل أنك رذلت العلم فارذلك أنا لئلا تكهن لي” (هوشع 6:4).

لم يكن هدفه من الانصباب والانكباب على العلم هو تحقيق شهرة عالمية، تصيب غيره بالغرور، بل جل غايته أولاً وقبل كل شئ مجد الله الأعظم، ثم بنيان نفسه، ثم منفعة وخير قريبه.

ولما كان فرديناند بأنوار العلم الإلهي مزدانا بحضور الذهن وتوقده وعجيب الذاكرة وتفتحها، ولأن أمر تثقيفه في العلوم كان موكولاً إلى أساتذة بارعين، فقد أمسى في بضع سنين بارعًا تحريراً في الفلسفة، وجهبذًا في اللاهوت والكتاب المقدس.

هذا الأمر تؤكده السجلات التاريخية لدير الصليب المقدس، فنقرأ ما كتب هناك ذات مرة بتاريخ عام 1222م ما نصه: “كان وقتئذ بين رهبان دير الصليب المقدس الأب المحترم أنطونيوس واسمه قبلاً فرديناند مارتيني، وهو لا جرم رجل شهير وعالم فاضل، متحل بعقود العلم الوافر، ومملوء من مجد المآثر والمفاخر”.

كان فرديناند يحفظ عن ظهر قلب الكتاب المقدس، ولا سيما المقاطع الحكمية التي أوردها آباء الكنيسة لإيضاح آياته الكريمة، ورسخ ذلك كله في ذهنه بقية حياته الطاهرة.

لم يقتصر قديسنا على الإشتغال بالصلاة والدروس مكتفيًا بها وحدها، بل كان أيضًا عند تفرغه منها يباشر بنشاط أعمال فضيلتي التواضع والمحبة اللتين تزين وأنفرد بهما كل أيام حياته، إذ لم يكن يجهل أنه كانت أولاهما بمثابة أساس لبناء الفضائل الشامخة، والثانية ليست هي إلا غاية الوصية والناموس بتمامه.

وأما كم كانت هذه الأعمال مقبولة لدى الله وحاصلة على تمام رضاه سبحانه فيتضح من حقيقة هاتين المعجزتين اللتين صنعهما الله عز وعلا، على يد صفيه مارأنطونيوس حين إقامته بدير الصليب المقدس هذا.

المعجزة الأولى كانت تتمثل في حالة أحد الرهبان الذي منيَ بداء غريب كان يسبب له حالة من الهذيان والهيجان بشكل محزن له ولجميع إخوانه الرهبان، في هذه الاجواء المؤلمة أخذ فرديناند يتضرع بملء الثقة إلى الله تعالى ليخلص أخيه الراهب من هذه الحالة المرثى لها، وفي عمق الصلاة والإنخطافساس  بالروح أوحى الرب إليه بأن عدو البشر هو وراء تلك الحالة، ضاعف فرديناند من ابتهالاته إلى الله الآب الحنون، ثم عمد إلى المريض فغطاه بأطراف ردائه، وبمجرد أن فعل، وبدا وكأن الشيطان قد مسته صاعقه من جراء رداء القديس، وللتو تخلى عن المريض ضاجًا ضجة مريعة، تاركًا في حجرته رائحه كريهة، وللحظتها نهض الراهب من فراشه صحيحًا سليمًا شاكرًا هو وأخواته الله تعالى شكرًا حميمًا، على ما أتاه بيدي حبيبه أنطونيوس.

أما المعجزة الثانية، فجرت عندما كان أنطونيوس يقوم خارج الكنيسة ببعض الخدمات الروحية، وقد سمع صوت الجرس الذي يقرع في القداس الإلهي، حين رفع القربان المقدس. ولما جثا على ركبتيه ليقدم له بكل ورع وعبادة فرض السجود والإكرام الحقيقي بهما فادي العالم جل ثناؤه، انفتحت للوقت الجدران التي تحول بين القديس ومذبح الكنيسة المقدمة عليه الذبيحة الإلهية، فعاين القربان المقدس وسجد له وكرمه بأحر عواطف التقوى والعبادة. ثم عادت الجدران إلى ما كانت عليه، تاركه علامة إنفراجها ذكرًا وشهادة لهذا الحدث الخارق النادر.

في سن الرابعة والعشرين من عمره أي عام 1218م سيم كاهنًا وهو لا يزال منخرطًا في سلك الرهبان الأغسطينيين. ورغم أن معاصري القديس أنطونيوس لم يتركوا لنا شيئًا من أمر تأهبه إلى درجة الكهنوت السامية، واستعداداته لتقريب الذبيحة الإلهية، إلا أنه يمكننا من وجه آخر أن نستشف حرارة إستعداده واشتعال عواطفه، وعمق عبادته الحارة عند مباشرته الأسرار الإلهيه مما أراه الله من عجيب الرؤيه في أثناء القداسات الإلهية التي كان يرفعها. في تلك الأوقات كانت “أوراقة” ملكة البرتغال، زوجة الملك ألفونس الثاني، المعروفة بتقواها وأعمال البر، قد بلغ إلى سمعها ما كان الأب الساروفي “فرنسيس الأسيزي” وأولاده يقومون به، من أعمال روحية وعبادات تقويه عند إختلاطهم بالمؤمنين، الأمر الذي دعاها لإستدعاء البعض منهم وبناء دير لهم بجانب المدينة التي يوجد بها دير الصليب المقدس “قلمرية”، حيث يوجد القديس أنطونيوس، وعلى بعد ميل واحد، واستوطنوا هذا الدير سنة 1217م.

منذ ذلك التاريخ نظر إليهم الناس هناك نظرة ملؤها الاعتبار والتقدير والاحترام، لما شاهدوا فيهم من بساطة التصرف، وطهارة المسلك، وحسن السيرة، ولما كان هؤلاء الرهبان الأفاضل يوافون بعض الأحيان دير الصليب المقدس لطلب مساعدات معيشيه كمجرى عادتهم وبمقتضى قانونهم، فقد عرفهم أنطونيوس، واقترب منهم، وأعجب أيما إعجاب بفقرهم الرهباني وزهدهم في مباهج الحياة وتواضعهم الموسومة به سائر أعمالهم.

وحدث ذات مرة أن أنتقل أحد هؤلاء الأبرار الرهبان، وكان لوقتها مار أنطونيوس على المذبح يقيم القداس، فرأى ذلك الراهب يرتفع مستويًا إلى السماء متلالئًا نورًا وبهاء. فعرفه للحال وأدرك معا سمو قداسة طريقته التي كفلت له خلود السعادة والمجد السماوي في فردوس ربه.

أثر هذا كله في نفسه أحسن تأثير وصار له كمحرك أول للانضواء تحت راية مار فرنسيس، غير أن ما أفضى به في آخر الآمال إلى دخول الرهبانية الفرنسيسكانية فهو ولا مراء وصول ذخائر الشهداء الفرنسيسكان الخمسة إلى مدينة قلمرية، أولئك الذين أمسوا الأساس الراسخ لدعوته وصيرورته الفرنسيسكانية، الأمر الذي يوجب علينا أن نفرد لهم فصلاً يستوفي على وجه الإيجاز أمر سيرتهم واستشهادهم وبعض الآيات التي صنعها الله عز وجل على أيديهم.

 

الفصل الرابع

في هيام مارأنطونيوس بالاستشهاد ودخوله الرهبانية الفرنسيسكانية

عندما وصلت من مراكش إلى قلمرية ذخائر الخمس شهداء الفرنسيسكان، وأدخرت في كنيسة دير الصليب المقدس، كان مارأنطونيوس في جموع المستقبلين لذخائر الشهداء، وقد حرك استشهادهم مشاعره لأن يقتدي بهم، آملاً أن يهرق هو أيضًا دمه إعلاء لمنارة الدين القويم على مثالهم.

كان أنطونيوس ذا حنكة وحكمة في الأمور الروحية وتعمق في الكتب الرسولية، وقد وضع أمامه ما أوصى به القديس يوحنا الحبيب: “لا تصدقوا كل روح بل اختبروا الأرواح هل هي من الله” (1يوحنا 1:4).

ومن ثم لم يلبث أن استند إلى ربه ملتمسًا الاستضاءة بأنواره الإلهية لتتحقق مشيئته في أمر انتقاله إلى الرهبانية الفرنسيسكانية، وما زال من أجل تحقيق هذه الغاية يمارس الصلوات، ويواصل التقشفات حتى انجلت له إرادة ربه في الإلتحاق بالرهبنة الفرنسيسكانية، فعند ذلك فاض قلبه سرورًا لله شكرًا حميمًا حتى إذا أقبل على ديره بعض الرهبان الفرنسيسكان لطلب الصدقة، خاطبهم هكذا: “إني لأرغب يا أخواتي الأعزاء الانضواء إلى رهبانيتكم وأتوق أن أرتدي بلا إبطاء ثوبكم المقدس، لكن على شرط أنه بعدما تتعطفون علي، بذلك وتختبرون تصرفي وسلوكي بينكم، أن تأذنوا لي في الإنطلاق إلى الجهات الغير مسيحية لأبذل أنا أيضًا حياتي في سبيل الرب وخلاص النفوس اقتفاءً لآثار شهدائكم المجيدة”.

نزل هذا الحديث في نفوس الرهبان الفرنسيسكان منزلاً سارًا وقد عرفوا ما لهذا الكاهن الشاب من قداسة بادية على وجهه ومحياه، وحددوا له موعدًا يوم الغد ليلبوا رغبته، ثم عادوا أدراجهم إلى ديرهم، أما الأب أنطونيوس فقد دخل من ساعته على رئيسه فكاشفه بأمر دعوته الجديدة، فطلب إليه مع الإذن لإتمام مراده بركته الصالحة.

وفي الغد أقبل الرهبان الفرنسيسكان إلى ديره، فالبسوه هناك ثوبهم المقدس في منتصف أو آخر تموز “يوليو” من سنة 1220م، وهو يومئذ في أوائل السادسة والعشرين من عمره.

ولم يكن أمر انضمامه إلى هذه الرهبانية الثانية ليجلب عليه لومًا وتثريبا بل حمدًا وثناءً، لأنه لم يترك حالته الأولى لإعتناق الثانية إلا لكون هذه الأخيرة أوفر كمالاً في وصاياها ومشوراتها، فضلاً عن أنه لم يفعل ما فعل إلا من قبل إلهام من الله سبحانه.

وقد وقع له قبيل خروجه من دير الصليب المقدس أن لقيه أحد آباء هذا الدير، وقد شق عليه تركه رهبانيته فابتداه بهذا الحديث: “مهلك يا حبيبي مهلك، فسوف تصير قديسًا”. فأجابه مار أنطونيوس بكل دعة وتواضع: “يوم يبلغك عني ذلك لا تقصر في أداء الشكر إلى الله تعالى”. فوقع منه هذا الجواب موقع نبؤة صادقة بحيث لم يمض على ذلك الحديث اثنتا عشرة سنة حتى أدرج البابا غريغوريوس التاسع اسمه في مدرج القديسيين كما سنرى لاحقًا.

ودع إذن قديسنا رهبان ديرالصليب المقدس وانطلق بمعية إخوانه من الرهبان الفرنسيسكان إلى ديرهم في منطقة “دي أليفارس” المشيد على اسم مار أنطونيوس الكبير، أبى الرهبان وكوكبهم المنير، فبدل اسمه الأول باسم هذا القديس لتكريمه إياه ثم ليطوي على قدر الإمكان أمره عن ذوي قرباه ومعارفه.

هناك صرف أنطونيوس الهمة لتعلم قانون الرهبانية الجديد، وتدبر فرائضه ومشوراته، حاذيًا حذو القديس سميه في أن يقف على فضيلة تتلألأ عما سواه في راهب من الرهبان، ليسير في نهجها، أو خصلة صالحة تفرد بها غيره ليكتسبها هو أيضًا لنفسه ويزدان بها، مكبًا خصوصًا على ممارسة ثلاث فضائل تتطلبها بعد الطاعة والفقر والعفة، حالة كل راهب فرنسيسكاني، وهي التواضع الذي يجعل الإنسان يتصاغر عند معرفته قدر نفسه فيحسب كل إنسان أعظم منه فضلاً وفضيلة، ثم البساطة التي هي النقاوة في كل قول وفعل. ثم الصبر الجميل في مضايق الأمور والمحن وضرورات هذه الحياة ومؤلماتها. مضت بضعة أشهر على الأب أنطونيوس في دير أليفارس، كان خلالها راغب في الاستشهاد وتبشير غير المسيحيين بالإنجيل المقدس، الأمر الذي جعله مؤهلاً بعد هذه المدة الوجيزة لأن ينذر نذور الرهبنة الفرنسيسكانية، ثم سمح له بالإرتحال إلى مراكش برفقة الأخ فيلبس الكثير الورع والتقوى، والذي ظهرت قداسته بدوره لاحقًا، ليؤانسه في سفره وإقامته بتلك الجهات.

وما من عجب في شأن إبرازه النذور الرهبانية قبل إنقضاء السنة برمتها إذ كان في ذاك الحين مفوض للرؤساء بالتفسيح في ذلك عند الحاجة والضرورة.

وفي أوائل كانون الأول “ديسمبر” 1220م، سافر كلاهما ولم يبلغا بلدة سبتة حتى أصاب مار أنطونيوس مرض ثقيل إستمر عليه كل فصل الشتاء، فلما رأى ذاته هكذا ضعيف البنيان هزيلاً لا طاقة له بمباشرة عمل من الأعمال التي أتى لهذه البلاد لمزاولاتها، عزم ورفيقه على الرجوع إلى بلاده لكن مع القصد الثابت بالرجوع إلى مراكش عند عودة الصحة والعافية إليه.

ركب أنطونيوس البحر هو ورفيقه، ولما أقتربت السفينة من أسبانيا أمل ركابها دخولها بأقرب وقت إلى دخول تلك الجزيرة “إيبيريا”، كما كانت تسمى وقتئذ، غير ان ريح قوية هبت غيرت خط سيرها فدفعتها إلى إحدى أكبر مدن صقلية وتدعى “مسينة”، فنزل القديس مع رفيقه بدير كان للرهبانية الفرنسيسكانية في تلك المدينة.

وعندما وقع له كل ذلك فكر بإخفاق سعيه في الفوز بإكليل الاستشهاد وقت إقامته ببلاد مراكش، وخيبة أمله في العودة إليها ثانية، تفهم أن الله سبحانه لم يمنع عنه تحقيق مراده أي الاستشهاد، إلا ليدعوه إلى نوع استشهاد آخر يتوقف على ممارسة أعمال الفضائل المحكمة أعمالها الصعبة الشاقة، على الانصراف عن مشيئة الذات، وعلى التخلص التام من هذا الجيل المعوج، وعلى الصبر إلى المنتهى، وعلى التبرر حتى الموت.

لم يكن في علم القديس أنطونيوس تدابير الله التي تفوق تدابير البشر، فقد دفعه الله عز وجل إلى إيطاليا ومنها      سيرسله لاحقًا إلى فرنسا ليحارب محاربة الواعظ الأروع بسيف كلمة الله موبقات الرذائل والمنكرات فيقتلها، وينبري انبراء المعلم الأبدع للبدع والهرطقات ليدحضها ويزيلها.

وهذا هو ما كتبه المعلم الساروفي القديس “بونافنتورا” في شأن تدابير العناية الربانية التي تورد وتقود العقل المسيحي مورد العجب والانذهال، فهي وإن لم تسمح برحمتها وغوامض أسرارها بإراقة دم عبده، إلا أنها لم تعرقل له السبيل في إتخاذ الوسائل واقتحام الأهوال للفوز بغايته وبأن لا يفقد مكافأة الاستشهاد الذي طالما تمناه وقد تاق إليه من صميم الفؤاد.


الفصل الخامس

ذهاب أنطونيوس إلى مجمع أسيزي ووصف حياته النسكية

بينما الأب أنطونيوس في دير “مسينة” وكان قد أخذ نصيبًا من الراحة، فعادت إليه درجة من درجات صحته، وإن لم يشفى تمامًا، علم من رهبان الدير أن هناك مجمع رهباني عام على وشك أن يلتئم في أسيزي، وقد أمر الأب الساروفي فرنسيس بافتتاح جلساته في عيد العنصرة الواقع حينئذ في 30 أيار (مايو) لسنة 1221م.

ورغبة من القديس أنطونيوس في مشاهدة أبيه فرنسيس وقصد اجتناء ثمار تعاليمه وإرشاداته، واحتذاء مثاله الفائق طهرًا وصلاحًا، استأذن رئيس الدير بالذهاب إلى أسيزي، فأذن له وللأخ فيلبس رفيقه. فوصلها الأب أنطونيوس لكن بعد أن ناله من السفر تعب ومشقة إذ لم يكن قد تماثل بالمطلق للشفاء من مرضه.

غير أن ما جرى في ذلك المجمع كان عجيباً، وغريباً بحساب العقول العادية، لكن التدابير الإلهية دائمًا ما كانت تنفذ لتحقيق مقاصد الله العليا.

ذلك أنه على الرغم من مناقب الأب أنطونيوس وخصاله الكريمة التي كانت معروفة عند كل آباء المجمع ومظاهر الإعتبار والإكرام من قبل لفيف الرهبان، وإلتفات خاص من لدن الأب المؤسس القديس فرنسيس، إلا أنه بقي في أعمال المجمع وحده بدون منصب أو وظيفة، ولم يختر ولا يعين في دير من الأديرة، الأمر الذي دعا البعض للتعجب.غير أن الأب الساروفي فرنسيس كان الله تعالى قد منحه بنوع خارق للطبيعة النظر في خفايا ضمائر أولاده والإطلاع على خبايا محاسن نفوسهم ومساوئهم، ليقود الرهبنة بطريقة آمنة، ولذلك لا يصدق أن تكون محاسن مارأنطونيوس قد بقيت خافية عنه، وإنما قد تظاهر فقط بإهمال شأنه وعدم الاكتراث به، وإن يكن من أشرق وأكمل الرهبان الحاضرين في ذلك المجمع. ولا سيما أن منزلة مارأنطونيوس كانت عالية عند مارفرنسيس، ذلك أنه كان إذا عرض له ذكر اسمه بحضرة الرهبان شفعه حالاً بلقب التشريف داعياه إياه “أسقفه”.

لكن الله عز وجل قد شاء هذا التدبير لما رأى فيه من تمجيد أعظم يؤول إلى عزته الإلهية وخير أوفر يعود منه على قديسه. ذلك أن الله سبحانه إذ إبتلى عبده أنطونيوس بالمرض من قبل ليثبطه عن اقتحام الاستشهاد في بلاد مراكش، ورمى به في هذه المرة أيضًا بأن لا يلتفت للأب أنطونيوس في هذا المجمع حتى يزداد رسوخًا في فضيلة التواضع التي ليس بدونها فضيلة وقداسة حقة.

كان تصرف رؤسائه وعدم مبالاتهم لأمره دافعًا لا لأن يغضب ويتذمر، بل دعاه بالحري إلى أن يقدم خالص شكره لله سبحانه الذي أهله لأن يكون في هذا الحال مماثلاً لفاديه ومعلمه الألهي ذاك الذي قال فيه أشعياء النبي أنه: “مهانًا ومخذولاً بين الرجال … وحقيرًا ومخضعًا” (أشعياء 3:53و4).

وبينما كان قديسنا على ذلك الحال إذ مر به صدفة بعد أن ختمت جلسات المجمع الأب غراسيانس الخادم الإقليمي لرومانيولا (ميلانو حاليًا)، ولم يكن على دراية تامة بالأب أنطونيوس وبفضائلة الروحية، إلا أن منظره الظاهر عليه دلائل الحشمة والوقار قد أثر التاثير الحسن في نفسه، فوقف في مكانه لحظات ثم قال لأنطونيوس: “كيف حالك يا أخي … لأي دير من الأديرة جرى تعيينك؟”.

قال أنطونيوس: إني لمتوقع أمر الرؤساء بالذهاب إلى حيث يشاؤون.

قال: “أكاهن أنت”، فأجاب أنطونيوس “نعم”.

قال: “أتمانع بالذهاب لدير مونتباولو فتقيم القداس الإلهي للرهبان الأخوة الذين يعيشون عيشة نسكية منفردة هناك”؟

قال أنطونيوس: “إني لمستعد أن أقيم بأي مكان تعينه لي الطاعة المقدسة”.

قال: “إذن أتبعني يا ولدي”. فانطلق به من فوره إلى الأب “إلياس الكرتوي” نائب الرهبنة العام فأذن له بالسفر إلى مونتباولو التي هي بمقربة من بلدة فورلي.

وصل الأب أنطونيوس إلى هذا الدير أواخر حزيران “يونيه” أو في أوائل تموز “يوليو” سنة 1221م، وقد استبشر هو بالإقامة به منذ أول يوم لوصوله إليه بما آنس في أولئك الرهبان من عمق التواضع وقداسة السيرة والحرص على الصمت، ومواصلة الصلاة ولاسيما العقلية، بجانب الالتزام الصارم بقوانين الرهبنة. فكان له ذلك داعيًا لا أن ينهج نهجهم فقط، بل أن يعزم أيضًا مع إعتبار ذاته الأقل فضيلة وبرًا على أن يسبقهم في طهر السير والمثل الصالح، مرتقيًا أمامهم سلم الكمال الساروفي، وعملاً بما أوصى به رسول الأمم بولس: “تنافسوا في الروحيات. تنافسوا في المواهب العظمى” (اكور 31:12).

وقد لمحت عينا الأب أنطونيوس كهفًا بالقرب من الدير كان لأحد إخوانه الرهبان يعيش فيه تأملاته، ويباشر صلواته، لذا سأل أنطونيوس بالمحبة هذا الأخ أن يتخلى له عنه، فأجاب بعد تكرار الطلب بالإيجاب، وفيه أقبل أنطونيوس كل يوم بعد إقامة القداس ومباشرة أعمال أخرى مع الأخوة كانت تقتضيها رسوم الرهبانية إلى كهفه الحبيب، ينزوي فيه مثابرًا الساعات الطوال من الليل والنهار على التأمل في حقائق الإيمان والنظر في الروحيات والإلهيات وخاصة في حياة المخلص الإلهي وآلامه المبرحة المقدسة.

كانت نفس أنطونيوس تذوب في التنعم بالإلهيات، وترتفع فوق الأرضيات، فيتجرد قلبه من كل شيء دنيوي، وتغمره كل أفكار السماء.

كان المجال خصب للرؤى الإلهية، التي كان الله تعالى يؤتيه إياها في أيام خلوته هذه، ومنها ما رواه الأب “بلوندليت”، عن أن العذراء مريم قد تراءت له يومًا في منسكه هذا، فرأت قلباً مكللاً منطبعة عليه صورة يسوع المصلوب وتحيط به حبال كتلك التي يرتديها الراهب الفرنسيسكاني حول وسطه، وقد كان المشهد دليل على قدم عبادة قلب يسوع الحلو، وشاهد أيضًا على ما كان قديسنا عليه من تأجج نار المحبة في فؤاده لقلب فاديه الإلهي.

لم يكن قديسنا العظيم أقل رغبة ونشاطًا في أعمال الإماتة والتوبة التي كان يمارسها لأسباب متعددة، أي إقتداءً بفاديه رجل الأوجاع، وكفارة عن هفواته وإن تكن طفيفة، وقهرًا للجسد المتمرد، وكبحًا للأميال والأهواء المنحرفة. ثم إلتماس النعمة لرد الخطأة إلى التوبة، وإرشاد الهراطقة وغير المؤمنين إلى صراط الدين القويم.

كان أنطونيوس يطيل السهرات في صلواته وتأملاته فلا ينام إلا النوم القليل، حتى إذا داعب النعاس أجفانه، إتخذ من الأرض فراشًا ومن الحجر وسادة. ولم يكن أكله سوى الخبز وشربه الماء فقط. وكان ذلك في وقته وبمقتضى الحاجة.

ولما رأى أنطونيوس الرهبان يباشرون بعد فروغهم من ساعات الصلاة والمفاوضات الروحية أعمالاً وخدمات مفيدة، أقبل هو يلوم نفسه ويقول: “أين أنا من هؤلاء الأخوة الأبرار مثال الحياة النسكية؟ … أين لي عمق تواضعهم والتعب الذي يتعبونه والمنافع التي يؤدونها بأعمال أيديهم؟ أفليس هم المجهدو أنفسهم، المرهقو أبدانهم وأنا خالي الذراع مستعذب الراحة؟ واخجلي لتهاوني، لا لست مستحقًا للخبز الذي أكله ولا بالإقامة فيما بين إخواني هؤلاء إن كنت لا أحذو حذوهم وأكد كدهم. ثم عمد على الأثر إلى الأخ الرئيس، فجثا على ركبتيه أمامه وإلتمس بحرارة الروح وببالغ الخزي والتواضع أن يأذن له بتعاطي أمور خدمته إقتداء بمن سواه من الرهبان. حتى إذا أذن له الرئيس بذلك قام كل يوم بعد قضاء واجباته وصلواته يطوف في الدير فيكنسه، ويدخل المطبخ فيرتبه، ويغسل أوانيه وصحونه، وقد اختص نفسه وحده بتلك الأعمال البسيطة، ولم يعد يفعلها أحد سواه كما أجازها له رئيسه وعلى هذا النمط كان يأكل خبزه بطمأنينة نفس وراحة ضمير أوفر من ذي قبل، فيذل منه الجسد ويجبره على الخضوع للروح والإنقياد لأوامره.

والشاهد أن إبليس وجنوده، حاولوا مرارًا وتكرارًا أن يثنوه عن تلك الرياضات المقدسة، وأفعال الإماتة، أو على الأقل ليلقوا عليه سبات الفتور حين ممارسته إياها. وكثيرًا ما سعوا ليغروه بما ليس فيه مرضاة الخالق، فلم يفلحوا، وطاشت بذلك أسهم مكائدهم، ولولا قدرة وإرادة الله عز وجل لأودوا بحياته الجسدية مرارًا. هذه القدرة الإلهية هي التي كانت تعضده أثناء تلك الغارات الجهنمية فتنعش صدره بوطيد الرجاء في التمسك بالغلبة على أولئك الأعداء، وفي هذا كان متذكرًا أقوال أنطونيوس الكبير، كوكب البرية، وأبو الرهبان “تيقنوا يا اخوتي إن إبليس ليرهب سهرات الأتقياء وصلواتهم ومسكنتهم الاختيارية ورفقهم وتواضعهم، ولا سيما حرارة حبهم للمسيح الرب. فإنه لمجرد إشارة الصليب المقدس يعتريه الخزي والفشل، ويولي من فوره مدبرًا عنهم”.

قضى أنطونيوس في دير مونتباولو تسعة أِشهر على هذا الحال، من سيرة المتواضعين البسطاء، فلا يشعر أحدًا من حوله ما أودع صدره من كنوز الحكمة السامية، والمواهب العظمى التي أوتيها، حتى رأى الله جلت حكمته أن هذا السراج الوهاج لا يليق به أن يلبث “موضوعًا في الخفية وتحت المكيال لكن على المنارة، لينير على كل من في البيت الذي هو كنيسة الله على الأرض”.

 

 

الفصل السادس

الطاعة كنز الحكمة الخفي عند الأب أنطونيوس

وقد حدث في تلك الأيام أن جاء من بلدة فورلي والتي ليست بعيدة عن منتباولو عدد من الرهبان الفرنسيسكان والرهبان الدومنيكان لقبول الرتب الكهنوتية، وحدد موعد لتلك السيامة المقدسة، التاسع عشر من آذار “مارس” من عام 1222م. أما مجئ الرهبان الفرنسيسكان فكان سببه بجانب السيامات المقدسة، عقدهم مجمعًا إقليميًا في ذلك الوقت.

وحدث لما أجتمع الآباء الفرنسيسكان مع الآباء الدومنيكان، أن إلتفت الخادم الإقليمي إلى أحد ضيوفه فسأله أن يسمعهم شيئًا من كلام الله الذي لم يفتأوا جميعًا تائقين إلى سماعه راغبين في إجتناء فوائده، فأبى هو معتذرًا وقد فعل كل رفاقه فعله، متذرعين بأنهم لم يكونوا قد استعدوا لعظة يعظونها في ذلك المجمع المهيب، وانهم على استعداد ليكونوا من المستمعين لا العكس.

وقد دفع ذلك المشهد الأب الرئيس في آخر الأمر أن يسأل الأب أنطونيوس أن يتولى العظة، ويبدو انه لم يكن قد استمع إلى الأب القديس من قبل فقال في نفسه، إن لم يكن على جانب من العلم والفصاحة، فإنه متصف في أضعف الأحوال بالطيبة واستقامة السيرة، وحرارة التقوى والعبادة.

تحير قديسنا وحزن مما أوعز إليه فأورد لرئيسه حجة ظنها كافية ليعفيه من الحديث، إذ قال له إنه لم يقرأ في الرهبنة كتابًا سوى كتاب الفرض. وإن اشتغاله في هذه المدة إنما كان الخدمة في المطبخ وفي غير أماكن متواضعة من الدير، ومن ثم فهو ليس مستحقًا أن يفتح فاه في ذلك المحفل المهيب، فيتكلم فيه الكلام الروحي السديد.

لم يفلح أنطونيوس في احتجاجه لأن الرئيس قد أصر على رأيه فأجبره بصوت الطاعة المقدسة على إمتثال أمره. وعندما تذكر القديس أنطونيوس ما أوصى به الرسول بولس من “إطاعة المدبرين والخضوع لهم …” (عبرانيين 17:13)، وأن “الرجل المطيع يتكلم بالنصر” (أمثال 28:21)، ثم لم يلبث أن إبتدأ عظة كان موضوعها آية القديس بولس “المسيح وضع نفسه وصار يطيع حتى الموت، موت الصليب” (فيلبي8:2).

بدأ أنطونيوس عظته والخجل يملأه والوجل يشمله، ربما بسبب فرط تواضعه وعدم ثقته بعلمه ونفسه، لكن بما أن “الروح يهب حيث يشاء، وتسمع صوته، إلا أنك لست تعلم من أين يأتي ولا إلى أين يذهب” (يوحنا 8:3)، هكذا قد جرى مع الأب أنطونيوس، فإنه ما كاد  ينطق في عظته، حتى خلع عنه كل تهيب، فثبت عقله، وانطلق لسانه وأخذت تتدفق من شفتيه جداول الحكمة الصافية الرقراقة، وينثر من فمه درر الكتاب المقدس، جذب هذا الحديث قلوب وعقول مستمعيه، الذين في ذهولهم لم يكونوا يدرون مما يتعجبون في تلك الموعظة المرتجلة النفيسة … هل من عمق علمه في الكتاب المقدس وسعة إطلاعه على تعاليم آباء الكنيسة؟ أم عمق تواضع القداسة بإخفاءه مدة طويلة ما أدخره في صدره من كنوز الحكمة الإلهية؟ أم من حرارة التقوى التي جعلت كلماته تنطلق وكأنها أسهم نارية جارحة ومضرمة للقلوب البشرية؟.

على أنه في نهاية الأمر وجدوا أمامهم كاروزًا في أكمله قديسًا، أبى أن يتصف علمه إلا بالحشمة والغيرة والمحبة، مع أن حياته كانت مثالاً للبساطة والتواضع، وصرامة الآداب. ومع كون أنطونيوس متضلعًا في علم اللاهوت كاملاً، وفي فهم الكتاب المقدس شاملاً، فقد فضل أن يظهر أميًا جاهلاً، على أنه عالم أو معلم، وأن يتعاطى أعمال المطبخ المتواضعة، عوضًا عن أن يتبوأ من تلقاء نفسه منصبة التعليم الخطيرة.

وعليه فلما رأى الأب غراسيانس رئيس الأب أنطونيوس الاقليمي ما رأى في ذلك المشهد من مرؤوسه، فرح فرحًا عظيمًا، ففوض إليه الكرازة في كل مدن إقليميه، ثم كتب إلى الأب الساروفي فرنسيس الأسيزي يعلمه بتفاصيل أمره، وخاصة بما هو عليه من غريب التواضع وعجيب الحكمة.وقعت هذه البشرى عند القديس فرنسيس، أحسن موقع وأسعده، فوافق على كل ما دبره الأب غراسيانس، بشأن الأب أنطونيوس، وزاد على ذلك بأن وسع له أيضًا نطاق الكرازة في سائر أقاليم الرهبنة، ومنذ ذلك الوقت كان كلما جاءت سيرة اسم أنطونيوس أو ذكرت أمام القديس فرنسيس يدهو “أسقفي الأب أنطونيوس”، في إشارة إلى قدر تقديره واعتباره وإجلاله لهذا الابن المبارك.

وعلى هذا الطريق كان الله تعالى يختار صفيه أنطونيوس أختيارًا غير عادي لينشر كلمته الإلهية، بغير أن يتطفل من عند نفسه على هذه الخدمة السامية، مثبتًا تعليمه بكامل الإزدراء لمباهج هذا الدهر الحاضر، ومزينًا نفسه بطهر الأدب، وبر النفس، وعمق التواضع، والمحبة الحارة لله ولقريبه.

لم تكن السنوات الطويلة التي قضاها قديسنا في الخلوة والانفراد مواصلاً المطالعة – القراءة في الكتب المقدسة –  ومباشرة الصلوات، ومواظبًا على النظر في الإلهيات، سوى استعداد أراد الله به تعالى أن يهيئه لرسالته القادمة التي انحصرت على سعتها في ثلاثة إتجاهات:

  • الأول: إحياء روح الإيمان وجذور العبادة فيما بين المسيحيين بعضهم البعض، وكذلك تحبيب الكمال الإنجيلي لهم بسديد تعليمه ومثاله الصالح؟
  • الثاني: في مقاومة البدع والهرطقات واقتلاع آثارها.
  • الثالث: في الاجتهاد وصرف العناية إلى نجاح الرهبنة الفرنسيسكانية، مع التيقظ التام والالتزام الكامل بقانونها.

كانت تلك ركائز حياة القديس أنطونيوس، التي خولته مكانه سامية في الكنيسة المقدسة، ولهذا ليس غريبًا أو عجيبًا أن تطلق عليه ألقابا عدة، من بينها “بوق الروح المقدس” ، “تابوت العهدين”، “خزانة الكتاب المقدس”، “مطرقة الهراطقة”، “قتال الرزائل”، “الحجر الأساسي الثاني للرهبنة الساروفية”.

 

[1] لا تزال علامة الصليب المقدس موجودة حتى الساعة على هذه القطعة من الرخام ولا تزال تمثل المعجزة للعيان حتى الوقت الراهن وتلقى تكريمًا كبيرًا عبر التاريخ، لا لذاتها، بل لمجد الله ولإشارة الصليب المحي التي استخدمها القديس أنطونيوس لطرد الروح الشريرة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد