إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

مسيرة تلميذي عماوس (1)- التهيئة

0 1٬484

لوقا 24: 13- 35

يسجل القديس مرقس كلمات قليلة عن لقاء تلميذي عماوس بالرب يسوع، ففي صبيحة الأحد، وبعد أن ظهر الربّ القائم من بين الأموات للمريمات، يقول: “وظهَرَ يَسوعُ بَعدَ ذلِكَ بِهَيئَةٍ أُخرى لاَثنَينِ مِن التلاميذِ وهُما في الطَّريقِ إلى البرِّيَّةِ. فرَجَعا وأخبرا الآخرينَ (الموجودين في العليّة)، فما صدَّقوهُما” (مرقس 13: 12- 13).

أما القديس لوقا، فقد أسهب في وصف هذا اللقاء الخاص، بين التلميذين والربّ القائم من بين الأموات، وحاول التقليد الكنسي تفسير ذلك الإسهاب في الوصف، بأن لوقا كان أحد هذين التلميذين، ولهذا أشار إلى اسم أحدهما: “كليوباس” ولم يّشر إلى نفسه، تواضعًا منه، كما فعل القديس يوحنا في إنجيله. يضعهم التقليد الكنسي ضمن السبعين رسولاً الذي أرسلهم يسوع في لوقا 10: 1-12.

في مسيرتنا مع تلميذي عماوس، سنحاول أن نكتشف مسيرتهم الإيمانية من: الانجذاب ليسوع وتعاليمه ثم دعوته لهم، وصعوبات قرار اتباع المسيح، حتى يصلا في النهاية إلى التعرف على المسيح القائم. هي دعوة كل مكرس، الذي يمر بحياته المكرسة بكافة المراحل التي مر بها الصديقان منذ سماع صوت الدعوة إلى الاكتشاف الحقيقي لله في الحياة الرهبانية.

كانَ اَثنانِ مِنَ التلاميذِ:

لا نعرف بالضبط كيف التقى كليوباس وزميله بيسوع، ومن الأفضل أن نستعمل مخيلتنا لكي نتصور الأحداث الكتابية فندرك بهذا الشكل الأحداث الأكثر قربًا من الواقع. يقول الوحي الإلهي: “كانَ اَثنانِ مِنَ التلاميِذ”، هما “تلميذان” إذن كسائر التلاميذ الذين دعاهم يسوع الذين اختارهم في حياته الأرضية. دعا المسيح البعض بهذه الكلمة: “اتبعني” فتركا البعض عائلاتهم وممتلكاتهم وأرضهم. ترك التلاميذ الأربعة (متى 4: 18- 21) شباكهم وعائلاتهم وتبعوه. هناك لاوي الذي ترك مائدة الجباية وتبعه. تبعه التلاميذ دون أن يطرحوا أسئلة وبدون أي تردد. قد تكون الدعوة تغيير مفاجئ، انبهار لا يمكن تفسيره، لقد وقعوا في الحب، فتغيّر تفكيرهم وتخلو عن كل شيء فجأة وتبعوه.

لكن صمت الأناجيل والوحي الإلهي عن ذكر تفاصيل الدعوة لا ينفي أن تكون هناك علاقة سابقة بين المعلم والشخص المدعو. جميع الدعوات في الكتاب المقدس لم تأتي من الفراغ، فدعوة إبراهيم مثلا، تبدأ من نقطة طلب الرب منه أن ينطلق. إلا إنها لم تأتي فجأة، يمكننا أن نفكر في علاقة سابقة وعميقة بين الله وإبراهيم، إلا أن النص الكتابي لا يهدينا هذه التفاصيل، بل ينطلق فورًا من النداء الجذري “انطلق“. فهو “ترك” يلمس “الأرض، العشيرة والبيت الأبوي، أي كل ما يلمس الإطار المعيشي الأساسي لحياة إبراهيم. يركز الوحي الإلهي على نتيجة العلاقة التي فيها يظهر التغيير الجذري في حياة المدعو.

في دعوة إبراهيم، التي نجد فيها كل خلاصة جميع معاني التلمذة الحقيقية، يستخدم الوحي الإلهي كلمة: “انطلق” (تك 12، 1). الكلمة في العبرية “لِكْ لِكَا” لها معنين الأول: هو الترك المادي، للأرض، العائلة، للعشيرة. فينطلق إبراهيم “مكانيًا”، فهو “ترك” يلمس “الأرض، العشيرة والبيت الأبوي، أي كل ما يلمس الإطار المعيشي الأساسي لحياة إبراهيم، العائلي، والاجتماعي والاقتصادي: العشيرة، العقلية، الثقافة، إلخ.

عندما يتقابل يسوع مع التلاميذ الأربعة على شاطئ البحيرة يقول لهما: اتبعاني.. فترك التلاميذ القارب ووالدهما وتبعاه. هو “ترك” للحياة العائلية والاجتماعية والمادية. كل الدعوات تتضمن هذا “التخلي” عن كل ما يلمس الإطار المعيشي الأساسي للإنسان، مثل دعوة فرنسيس الأسيزي. فكل دعوة للتكريس تحمل في عمقها هذا الطلب “بالانطلاق” الإطار المعيشي والتخلي عن حياة طبيعية معتادة.

هكذا تلميذي عماوس، فلا يمكن أن نتصور سوى علاقة عميقة بينهما بين يسوع قبل أن يُرسلهما ضمن السبعين رسولاً. لقد دعاهم يسوع، كسائر التلاميذ، فتخليا عن حياتهم العائلية والاجتماعية، عن أعمالهم طموحاتهم وتبعا يسوع.

سنتاول هذا اليوم المعنى الأول، المعنى الشائع للتخلي “الترك”. لكن هناك معنى آخر للكلمة العبرية “لِكْ لِكَا”: هو “انطلق نحو ذاتك“. توقف إبراهيم في حياته الطويلة عند المعنى الأول، ولم يكشف المعنى الثاني إلا في مرحلة متقدمة من حياته الروحي وخاصة في تقدمته لابنه اسحق كذبيحة. كذلك توقف التلاميذ قبل القيامة عند المعنى الأول.. “ترك” كل شيء مادي واجتماعي واتباع المسيح، ولم يكتشفوا المعنى الثاني إلا بعد القيامة. هكذا الحال مع فرنسيس الأسيزي الذي “ترك” كل شيء واتبع يسوع، لكنه لم يصل إلا على جبل لافرنا، في نهاية حياته، إلى العمق المطلوب للمعنى الثاني لكلمة: “انطلق- لِك لِكا”.

في مسيرة تلميذي عماوس سنخصص فقط هذا اللقاء للمعنى الأول المعروف وهو “الترك” الذي يتعلق بالإطار المعيشي للحياة، الممتلكات والعائلة. وسنخصص كافة اللقاءات في هذه المسيرة الروحية إلى المعنى الثاني: “الانطلاق نحو الذات”، وهو الانطلاق الأصعب الذي نخشى أن نقوم به. وفي رأي أن سبب أزمة الحياة المكرسة حاليا إنها تتوقفت عند المعنى الأول وحده، لكن اتباع المسيح هو كلا الأمرين: التخلي الخارجي والانطلاق نحو الذات لاكتشاف الله.

الوجود البشري كدعوة للخروج

من حيث كونهما أثنين من التلاميذ السبعين الذي تحدث لوقا عنهما في الإصحاح العاشر. دعا المسيح التلميذين إلى الانطلاق والتخلي عن الحياة الطبيعة المعتادة، عن الممتلكات والأهل، عن الحيز الجغرافي والانطلاق نحو مكان آخر، قائلاً لهم: “اَذهَبوا، ها أنا أُرسِلُكُم مِثلَ الخِرافِ بَينَ الذِئابِ”. انطلقوا.. لِك لِكا.. انطلقوا بعيدًا على الأرض والعشيرة والممتلكات.

فهم التلميذيان، مِثلَ إبراهيم، دعوة يسوع بمعنى “الترك”، فتخليا عن أشياء كثيرة. وبالفعل حملت دعوة يسوع للشباب المرسل كل متطلبات الاتباع المعروفة، خاصة التخلي عن كل شيء لأجل الرسالة. التخلي عن خيرات العالم لأجل البحث عن الكنز الحقيقي. ” لا تَحمِلوا مِحفَظَةً، ولا كِيسًا، ولا حِذاءً”. فانطلقا التلاميذ وتخلوا عن الحياة الطبيعية المُعاشة لأجل اتباع المسيح. لكن كان تخلي محورًا في معنى وحيد، المعنى الظاهري.

كل دعوات يسوع كان للخروج الجذري. فالمعلم الإلهي لم يكن له مكان يسند فيه رأسه، هكذا أيضًا التلميذ. “فدَنا مِنهُ أحَدُ مُعلَّمي الشَّريعةِ وقالَ لَه: “يا مُعلَّمُ، أتبَعُكَ أيْنَما تَذهَبُ”. فأجابَهُ يَسوعُ: “للثَّعالِبِ أوكارٌ، ولِطُيورِ السَّماءِ أعشاشٌ، وأمّا اَبنُ الإنسانِ، فلا يَجِدُ أينَ يُسنِدُ رأسَهُ” (متى 8: 19- 20). القصد ليس في إنه لا يجد مكان يسند فيه رأسه، وليس لديه أهل وأقرباء، فالمسيح كان لديه الأهل والأقرباء الذي يعيش معهم، إنما المقصود إن هناك عمل كان يجب أن يعمله ويكلمه إلى التمام. تأتي كلمة “يسند” في اللغة اليونانية (klino–klino ) مرة أخرى بمعنى “نَكَّسَ” عندما يأخذ يسوع الخل، وهو على الصليب، فقال: :«قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ «أسند رأسه» وَأَسْلَمَ الرُّوحَ (يوحنا 19: 30).

يدعو يسوع المُكرس، التلميذ، إلى الخروج من واقعه الطبيعي المعاش ليعهد إليه عملاً عليه أن يتمه ويصل به إلى الكمال. ما هو هذا العمل، وما هي تلك الرسالة التي يعهدها المسيح للمُكرس؟ ما هي رسالتنا في الحياة كمُكرسين؟؟؟

لماذا أختار المسيح التلميذان

لماذا يدعو المسيح البعض لهذا النوع من “الانطلاق”، للتخلي عن الأرض والعشيرة والأهل؟ ما هي المهمة التي يجبُ على المدعو اتمامها والتي تمنعه أن “يسند” رأسه قبل أن يكملها؟

تَظهر تلك المهمة في الدعوة الأولى في الكتاب المقدس، دعوة إبراهيم، والتي تُلخص منطق الله في اختيار البعض: وقالَ الرَّبُّ لأَبْرام: اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ. وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ، وأَلعَنُ لاعِنيكَ وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض” (تكوين 12: 1- 3).

الاختيار مجّاني: “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي”. لا فضل للشخص المُختار في اختياره، يتم اختياره ليكون: “تكُونُ بَركَة” لأجل الآخرين، “وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض”. المهمة التي تُبرر اختيار شخص ما هي: أن يكون بركة للآخرين. والتجربة الكبرى في الحياة المكرسة عندما يظنُ المكرس أن شخص “مستحق” لاختيار الله له، كما وقع شعب اسرائيل في هذه التجربة. وفي  مثل الفرّيسيّ والعشّار في لوقا 18، العبرة والمثل. وتعليم بولس عن الخلاص بالإيمان لا بالأعمال “لئلاّ يفتخر أحد بأعماله” (أفسس 2: 9) فيزدري الآخرين.

حقق يسوع غاية الاختيار تلك في حياته: أن يبلغ بالبركة إلى كلّ البشر. لذلك يقول بولس: “تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح فقد باركنا كلّ بركة روحيّة في السموات في المسيح” (أفسس 1: 3).

يتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض

جميع من اختارهم الله لأجل هذا الهدف: أن يكونوا سبب بركة للآخرين، وبهم تتبارك كل شعوب الأرض. هكذا يوصى تلميذي عماوس عندما أرسلهم ضمن السبعين رسولا: “أَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ”. اِحملوا السلام والبركة للجميع. فالمُكرس مدعو لأجل أن يكون امتداد لحضور المسيح وسط شعبه، والكاهن امتداد لحضور المسيح الراعي الذي يرعى شعبه. نحن كمكرسين وكهنة دعانا المسيح لأجل أن يكلم البشر اليوم بصوتنا، أن يقدس الإفخارستيا ويغفر الخطايا بواسطتنا، ويحب بقلبنا، ويساعدهم بأيدينا، ويخلصهم بفضل جهودنا.

هل أنت سبب بركة؟ هل أنت راعي أم أجير؟ كم مرة في حياتك المُكرسة كنت سبب بركة للآخرين؟ كنت راعي يهتم بالخراف تجتهد للحفاظ على القطيع، تصلي لأجل قطيعك، كما فعل موسى بعد أن خطأ الشعب وعبدوا العجل: “فإمَّا تغفِرُ خطيئَتَهُم أو تَمحوني مِنْ كِتابِكَ الذي كتَبتَهُ”. أو مثل داود، الذي أخطأ باحصاء الشعب فيصلي قائلاً: “أنا الذي خطِئتُ، وأنا الذي فعَلتُ السُّوءَ، وأمَّا أولئِكَ المَساكينُ كالخرافِ فماذا فعَلوا؟ فَعاقِبْني، عاقِبْ بَيتَ أبي”.

ليس هناك مهمة للمدعو إلا أن يكون سبب بركة للآخرين، ليس له عمل آخر. إذا اهتم بأعمال آخر وتراجعت مهمته الأساسية فإنه يُسلم رعيته للذئاب. هو كأب أسرة، هو يعمل لأجل توفير السُبل المناسبة لرعاية أبناءه. لكن ماذا يُفيد الأبناء أهتمامه بالعمل أكثر منهم؟ هل مهمتي الأساسية وشغلي الشاغل هو أن أكون سبب بركة ومن خلالي يتبارك الآخرين؟

إذ ضاعت المهمة الأساسية وسط اهتمامات عديدة، إدارية وتنظيمية؛ إذ أصبحت أجير وليس راعي فلا مجال للاحباط! فالله يثق بك، يراهن عليك، الله لا ييأس أبدًا من أنك ستنتبه يومًا! الله لا ييأس أبدًا. المشكلة عندما نرفض بوعي واصرار إرادة الله لنا ومخططه بأن نكون أداة بركة للناس، لا أداة لعنة.

لنأخذ العبرة من سفر صموئيل الأول: فالله يختار شاول ويعده ليكون بركة للناس، سيكون سبب خلاص للشعب: “أُرسِلُ إليكَ رَجلاً مِنْ أرضِ بنيامّينَ، فاَمسَحْهُ رئيسًا على شعبي إِسرائيلَ، فيُخلِّصَ شعبي مِن أيدي الفلِسطيِّينَ”. ثم يتخلى الله عن شاول ويختار داود. والمدهش إن أخطاء داود أكثر من أخطاء شاول، وبالرغم من ذلك يتخلى الله عن شاول ويرذله، في حين يتسامح مع داود. لماذا؟ لأن شاول غلبه العناد والمكابرة ورفض إرادة الله باصرار ووعي كامل. طلب الله منه أن يُحطم العدو تمامًا: “فاَذهَبِ الآنَ واَضرِبْ بَني عماليقَ، وأهلِكْ جميعَ ما لهُم ولا تَعفُ عَنهُم، بلِ اَقتُلِ الرِّجالَ والنِّساءَ والأطفالَ والرُّضَّعَ والبقَرَ والغنَمَ والجمالَ والحمير” (1 صمو 15: 3).

لكن شاول صحح بذكائه ما راه “غريب” في إرادة الله، فعفا عن أجاج ملك العماليق، واحتفظ ببعض الغنم والبقر لنفسه. هذا كلام الوحي الإلهي في هذا الموقف: “أبالمُحرَقاتِ مَسرَّةُ الرّبِّ وبِالذَّبائِحِ؟ أم بِالطَّاعةِ لِكلامِهِ؟ الطَّاعةُ خيرٌ مِنَ الذَّبيحةِ، والإصغاءُ أفضَلُ مِنْ شَحمِ الكِباشِ. فالتمَرُّدُ خطيئَةٌ كالعِرافَةِ، والعِنادُ جريمةٌ كِعبادَةِ الأوثانِ”.

في حين أن داود لم يدافع عن نفسه، بل يعترف: “خطِئتُ إلى الرّبِّ”، ” ذبيحتي لكَ يا اللهُ روحٌ مُنكَسِرةٌ، والقلبُ المُنكسِرُ المُنسَحِقُ لا تحتَقِرُهُ”. وحَمل فوق كتفيه نتائج وتوابع خطيئته، فيسجد أمام الله منسحقًا مدركًا عظيم خطيئته. يقبل داوود الألم الناتج عن خطيئته، مؤمنا بأن الله أب حنون، فكما اختاره وجعله ملكًا وأنقذه من يد شاول، سيقبله وسيغفر له خطأه.

هكذا نحن فالله لا ييأس منا أبدًا متى اتضاعنا أمامه واعترفنا بخطئنا بأننا لم نكن سبب بركة في جميع أوقات حياتنا. لكن إذا رفضنا إرادة الله تلك بإصرار ووعي كاملين.. عندها سنقع في مشكلة شاول

الله لا ييأس منك أبدًا. الله لا ييأس منك أبدًا.

قد يعجبك ايضا
اترك رد