إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الرحمة في الكتاب المقدس

0 6٬461

أولا: تعابير الرحمة

عندما تُحدد أسفار العهد القديم الرحمة فهي تستعمل تعبيرين لكل منهما معنى يختلف اختلافًا دقيقًا عن الآخر . هناك أولاً لفظة “حسد Hesed التي تدل على مشاعر “طيبة” وعميقة التي تربط كائنين معًا. . كلما نشأت هذه المشاعر بين اثنين من الناس أراد الخير أحدهما للآخر، وكانا في الوقت عينه، أمينين وفيين. وإذا كانت لفظة “حسد” تعني “نعمة” أو “محبة” أيضا، فإن ذلك ناشيء عن هذه الأمانة.

كلما استعملت لفظة “حسد” في العهد القديم للحديث عن الرب، فإنها تشير دائما إلى العهد الذي أبرمه الله مع إسرائيل. وكان ذلك العهد عطية من الله ونعمة لإسرائيل. لذا تأتي “حسد” مقترنة كثيرًا بلفظة “امت” (أي نعمة وأمانة) فيعبرا اللفظتين عن شيء واحد (ر. خروج 34: 6؛ 2 صموئيل 2: 6؛ 15، 20؛ مز 24: 10؛39: 11 – 12؛ 85 : 11؛ 139: 2، ميخا 7: 20). “ما سأفعَلُهُ لا أفعَلُهُ لأجلِكُم يا شعبَ إِسرائيلَ، بل لأجلِ إِسمي القدُّوسِ الذي دنَّستموهُ بَينَ الأمَمِ وحيثُ حللتُم” (حزقيال 36: 22). ولهذا لا يستطيع إسرائيل المكبّل باثم حنث العهد أن يجرؤ على طلب “حسد” الله من باب العدالة (الشرعية)، ولكن يمكنه ويجب عليه أن يثبت على الأمل والثقة بأنه سيظفر بذلك، لأن إله العهد مسؤول في الواقع عن محبته. وثمرة هذا النوع من المحبة إنما هو الغفران واستعادة النعمة وتجديد العهد الباطني.

فالرحمة ليست عاطفة عابرة فحسب تتضمن الرأفة والشفقة، بل أيضًا التزام عملي ملموس وخلاق يُعبر عن الأمانة تجاه الطرف الآخر، حتى إذا لم يتلزم الأخير، فيبقي المُحب أمينا. كما نقرأ في مزمور 89: 2- 3: “بِمَراحِمِ الرَّبِّ لِلأبدِ أَتَغنَى وإِلى جيلٍ فجيلٍ أُعلِنُ بفَمي أَمانَتَكَ لأَنَّكَ قُلتَ: «الرَّحمَةُ تُبْنى لِلأبد وفي السَّمَواتِ ثَبَّتَّ أَمانَتَكَ»”؛ كذا في أرميا 31: 3: “مِن بَعيدٍ تَراءَى لِيَ الرَّبّ أَحبَبتُكِ حُبًّا أَبَدِيًّا فلِذلك آجتَذَبتُكِ بِرَحمَة”.

اللفظة الثانية التي يستعملها العهد القديم لوصف الرحمة هي “رحاميم Rehamîm ولا يختلف معناها إلا قليلاً عن لفظة “حسد”. وفيما “حسد” توضح ميزات الأمانة للذات، ومسؤولية الإنسان عن محبته الخاصة (وهي صفات الذكر نوعًا) فإن “رحاميم” تدّل أصلاً على محبة الأم (الرحم – حشاء الأم). وتنشأ عن الرباط الأوثق الأصيل بين الأم والطفل، علاقة خاصة أعني محبة فريدة. ويمكن القول عن هذه المحبة أنها مجانية وليست ثمرة أي استحقاق. وهي لهذا السبب تحدث ضرورة باطنية: إنها من متطلبات القلب. وهذا تنوّع شبه “أنثوي” لتلك الأمانة “الذكرية” للذات المشار إليها بلفظة “حسد”. إن لفظة “رحاميم” وفقًا لهذه القاعدة النفسية تولّد عدة مشاعر من بينها الطيبة والحنان وطول الأناة والشفقة والمسارعة إلى الغفران.

يصف العهد القديم الرب الإله بمثل هذه الصفات، عندما يستعمل للحديث عنه لفظة “رحاميم”:  إنّا نقرأ في أشعيا: “هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هَؤُلاَءِ يَنْسِينَ وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ”. (أشعيا 49: 15). وقد أعربت نصوص العهد القديم بصور مختلفة، عن هذه المحبة الأمينة التي لا تغلب بفضل ما للأمومة من قوة عجيبة: حينًا كالانقاذ من المخاطر، وعلى الأخص من الأعداء، وحينًا آخر الصفح عن الخطايا، سواء أكانت خطايا الأفراد أم خطايا إسرائيل بأجمعه، وأخيرًا كالإسراع في تحقيق الوعد والأمل (الأخروي) برغم عدم الأمانة البشرية على ما نقرأ في هوشع: “إنيّ أشفي ارتدادهم، وأحبهم تبرعًا (هوشع 14: 5).

ثانيًا: الرحمة في العهد القديم

أعلن الرب لموسى النبي انَّ الله “إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف” (خروج 34: 6-7). وتعود رحمة الله الى امانته بالعهد “أَتَّخِذُكم لي شَعبًا وأَكونُ لَكم إلهًا” (خروج 6: 5) إذ دخل الله في عهد مع شعبه فإنه مرتبط به الى الابد برحمته “إِحمَدوا الرَّبّ لأَنَّه صالِح لانَّ للأبدِ رَحمَتَه” (مزمور 107: 1) “فإِنَّ عِندَ الرَّبِّ الرَّحمَة وعِندَه وَفرَةَ الفِداء” (مزمور 30: 7). “لِذلك يَنتَظِرُ الرَّبُّ لِيَرحَمَكم ولذلك يَتعالى لِيَرأَفَ بِكم لِأَنَّ الرَّبَّ إِلهُ عَدْلٍ لِجَميعِ الَّذينَ يَنتَظِرونَه” (إشعيا 35: 18).

كشف الله عن هويته “إله واسع الرحمة” (أفسس 2:4) لشعبه عبر تاريخ الخلاص. وسنتعرض هذا الكشف في المحطات التالية:

  1. التكوين: الإنسان مجبول من الرحمة الإلهية (تكوين 2، 3)

تُظهر قصة الخلق خلقة الإنسان بطريقة مختلفة عن باقي الكائنات: “وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً” (تكوين 2: 7). ويعكس تعبير “النفس الحية” إن الإنسان ليس تطورًا بيولوجية من كائنات أخرى، بل يستمد الروح من الله مباشرة الذي يقترب منه بصورة حميمة وينفخ في أنفِهِ نسمة حياة، عطية الحرية التي تجعله صورةً لخالقه مسئولاً عن حاضره ومستقبله.

إلا إن الإنسان يستخدم حريته بصورة خاطئة فيفصل عن الله ويبحث عن هويته الشخصية بعيدًا عنه. فيُظهر الله رحمته، في صورتها الأولى، من خلال صناعته لأقمصة من جلد ليُلبس الإنسان قبل أن يُخرجه، عاريًا، من الجنة. رافقت الرحمة الإلهية الإنسان فلم يتركه الله ليواجه مصيره وحده، فيرسل ابنه الوحيد في ملء الأزمنه ليُخلص الإنسان ويُرجعه مرة أخرى إليه.

  1. الخروج: الرحمة الإلهية قريبة من البشر (خروج 3: 7- 8، 10)

يصف سفر الخروج معاناة الشعب في أرض مصر تحت نير العبودية لفرعون وتحريره بواسطة موسى عن وجه الله الرحيم: “فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه،8 فنزَلتُ لأُنقِذَه مِن أَيدي المِصرِيِّين وأُصعِدَه مِن هذه الأَرضِ إِلى أَرضٍ طَيِّبةٍ واسِعة، إِلى أَرضٍ تَدُر لَبَنًا حَليبًا وعَسَلاً” (خروج 3: 7- 8). فيتحرك الله بدافع من محبته ورأفته ليُخلص شعبه، فيختار موسى ويوصيه قائلا: “هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ” (خروج 3: 10).

يُظهر الله عظمته من خلال مرافقة خروج الشعب عبر ضربات عشر تُصيب فرعون ورجاله، إلى أن يعبر موسى وشعبه بسلام: “أُنشِدُ لِلرَّبِّ فإِنَّه تعَظَّمَ تَعْظيمًا. الفَرَسُ وراكِبُه في البَحرِ أَلقاهُما (…) وبنَفَسِ مِنخَرَيكَ تَراكَمَتِ المِياه. الأَمواجُ كالسُّورِ آنتَصَبَت والغِمارُ في قَلبِ البَحرِ جَمَدَت” (خروج 15: 1، 8).

تُرافق رحمة الله الشعب لمدة أربعين عامًا في مسيرته عبر الصحراء بالرغم من تمرد شعب إسرائيل مرارًا عليه. بقي الله أمينًا لوعده إلى أن يدخل يشوع بالشعب إلى أرض الموعد. لمرة أخرى تقود الحرية الإنسان إلى دروب بعيدة عن الله، الذي يُرسل الأنبياء لهداية الشعب من جديد. يقسو قلب الإنسان فيرفض تحذيرات الأنبياء: “مِن يَومَ خَرَجَ آباؤُكم مِن أَرضِ مِصرَ إِلى هذا اليَوم، ما زِلتُ أُرسِلُ إِلَيكُم جَميعَ عبيدِيَ الأَنبِياءِ بِلا مَلَل، فلَم يَسمَعوا لي ولم يُميلوا آذانَهم، بل صلَّبوا رِقابَهم، وزادوا في عَمَلِ الشَّرِّ على آبائِهم. فتُكَلِّمُهم بِهذه الكَلِماتِ كُلِّها فلا يَسمَعونَ لَكَ، وتَدْعوهم فلا يُجيبونَكَ. فتَقولُ لَهم: هذه هي الأُمَّةُ الَّتي لم تَسمَعْ لِصَوتِ الرَّبِّ إِلهِها ولَم تقبَلِ التَّأديب. قد ذَهَبَت عَنهُمُ الأَمانَةُ وآنقَطعَت عن أَفْواهِهم” (إرميا 7: 25- 27). فتكون النتيجة إن يضع الشعب نفسه في مأزق أشد ضراوة من عبودية مصر فيتعرض إلى السبي بعيدًا عن أرضه.

  1. السبي: الرحمة الإلهية والعهد الجديد (إرميا 31: 31- 34)

يأتي الخروج الثاني للشعب مع سبي بابل. يتولى الأنبياء مهمة الإعلان عن العهد الجديد والذي يُعلن الله عن تدخله مرة ثانية في حياة الشعب الرازح تحت نير الأسر والتهجير بعيدًا عن وطنه، فيحرره ويعود به إلى أورشليم مرة أخرى. يعلن الأنبياء عن العودة تُمثل علامة على محبة الله التي تتجاوز خطيئة الإنسان.

في أشعياء 40: 1- 22 يعلن الله عن تعزيته الكبرى لشعبه: “أَعَزُّواعَزُّوا شَعْبي يَقولُ إِلهُكم خاطِبوا قَلبَ أُورَشَليم ونادوها بأَن قد تَمَّ تجَنُّدُها وكُفِّر إِثمُها ونالَت مِن يَدِ الرَّبِّ ضِعفَينِ عن جَميعِ خَطاياها”. يكشف حزقيال إن شريعة الرب ستُكتبُ في قلوب البشر، عوضًا على لوحي الحجز، هكذا يمكن للإنسان أن يُدرك رحمة الله وينال الغفران: “وأُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا. جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم” (36: 26)؛ وهذا ما نجده واضحًا في نص إرميا 31, 31- 34.

غرق الشعب في عبادة إلهة غريبة واتبع رغبات قلبه، فيهدد الله شعبه بالعقاب لمخالفته وصاياه: “بل كُلُّ واحِدٍ بِإِثمِه يَموت، وكُلُّ إِنْسانٍ يأكُلُ الحِصرِم، تَضرَسُ أَسْنانُه”. لكن رحمة الله تتغلب، فيعلن عن تجديده العهد مرة أخرى، وبصورة جديدة، فيكتب الشريعة في قلب الإنسان. فالقلب المتمرد يُصبح، بفضل الرحمة الإلهية، طائعًا له. عندما يختبر الإنسان رحمة الله في عمق كيانه، يتجاوب مع محبة الله في أفعاله الخارجية.

يُلخص البابا بولس الثاني في رسالته الرسولية: الغني بالمراحم “Dives in Misericordia” مسيرة الرحمة الإلهية للشعب في العهد القديم بقوله: “كان إسرائيل، شعب ذلك العهد المبرم مع الله، وهو عهد غالبا ما حنث به. وعندما كان يدرك خيانته – وما أعوز إسرائيل على مدى تاريخه الطويل أنبياء ورجال أيقظوا هذا الضمير – كان يلتمس الرحمة. ولنا على ذلك في العهد القديم عدة شواهد.

ويمكننا أن نستذكر، في ما نستذكر من أحداث ونصوص لها أهميتها: بدء تاريخ القضاة (قضاء 35: 7- 9)، وصلاة سليمان في مناسبة تدشينه الهيكل (1 ملوك 8: 22- 53)، وجانبا من نبؤة ميخا (ميخا 7: 18- 20) وتأكيدات أشعيا المعزّية (أشعيا 1: 18؛ 51: 4- 16)، وصلوات العبرانيين في الأسر (ر. باروك 2: 11-3: 8)، وتجديد العهد بعد الخروج من الأسر (نحميا 9).

وأن يكون الأنبياء قد ربطوا في تبشيرهم بين الرحمة – التي غالبًا ما تحدّثوا عنها بسبب خطايا الشعب – وصورة محبة الله، فهذا أمر له مدلوله الكبير. لقد أحبّ الله إسرائيل محبة انتخاب خاص أشبه شيء بمحبة زواجية (هوشع 2: 21- 25؛ أشعيا 54: 6- 8). ولهذا فإنه غفر له خطاياه حتى المروق والخيانة. وإذا وجد لديه توبة صادقة وارتدادا مخلصا، تاب على شعبه ورد عليه النعمة (ر. إرميا 31: 20؛ حزقيال 39: 25- 29). وتعني الرحمة في تبشير الأنبياء محبة شديدة خارقة تتغلب على الخطيئة ومروق الشعب المنتخب.

وعندما كان الرب يغتاظ من مروق شعبه ويعقد العزم على تركه وشأنه، كان حنانه وسخاء محبته له، يدفعانه إلى التغلب على غضبه (ر. هوشع 11: 7- 9؛ إرميا 31: 20؛ أشعيا 54: 7)”.

  1. الله الغيور على شعبه: هوشع

يكشف سفر هوشع النبي غنى رحمة الله في العهد القديم. عاش هوشع، أول الأنبياء الصغار، في القرن الثامن قبل ميلاد المسيح في وسط فساد أخلاقي وعبادة آلهة غريبة سيطرا على شعب إسرائيل (ر. 2 ملوك 14: 23- 17: 41). فيتزوج هوشع من امرأة عاشت في ظل المعابد الكنعانية ومارست البغاء المكرس الذي فيه يتحد رجلٌ بامرأة مكرسة للإله بعل، فيرمز اتحادهما إلى اتحاد السماء بالأرض ومَنًح الأرض الخصب والحياة. عرف هوشع ان امرأته زانية ولا دواء لها، ومع ذلك تزوجها، ولما تركته استعادها بعد أن دفع المال للمعبد الذي تكرست فيه ليستردها. عاملها بالحب لا بالغضب، وفرض عليها العزلة علَّها تفكر وتتوب.

هكذا فعل الله مع شعبه: ” يومَ كانَ إِسرائيلُ فَتًى أحبَبْتُهُ، ومِنْ مِصْرَ دعوتُ اَبْني. كُلَّما دعوتُه هربَ مِنْ وجهي. ذبَحَ بَنو أفرايم لِلبَعلِ وبَخروا لِلأصنامِ، وأنا الذي عَلَّمَهُمُ المَشْيَ وحمَلَهُم على ذِراعِهِ، لكنَّهُم لم يَعتَرِفوا أنِّي أنا أصلَحتُ حالَهُم. جذَبتُهُم إليَ بِحبالِ الرَّحمةِ ورَوابِطِ المحبَّةِ، وكُنتُ لهُم كأبٍ يرفعُ طِفْلاً على ذِراعِهِ ويَحنو علَيهِم ويُطعِمُهُم. لا يَرجعونَ إلى أرضِ مِصْرَ، ومَلِكُ أشُّورَ يكونُ مَلِكَهُم لأنَّهُم رفَضوا أنْ يَتوبوا. ويَحِلُّ السَّيفُ في مُدُنِهِم ويُتلِفُ أرزاقَهُم ويُفنيهِم لِمَعاصيهِم. يُبطِئونَ في الرُّجوعِ إليَ ويَحمِلونَ النِّيرَ ولن يَرفَعَهُ أحدٌ. كيفَ أتَخلَّى عَنكُم يا بَيتَ أفرايمَ؟ كيفَ أهجرُكُم يا بَني إِسرائيلَ؟ أأجعَلُكُم مِثلَ أدْمةَ وأعامِلُكُم مِثلَ صَبوييمَ؟ قلبي يَضطَرِبُ في صَدْري، وكُلُّ مَراحِمي تَتَّقِدُ. لن أُعاقِبَكُم في شِدَّةِ غضَبي، فأُدَمِّرَكُم بَعدُ يا بَني أفرايمَ، لأنِّي أنا اللهُ لا إنسانٌ، وقُدُّوسٌ بَينَكُم فلا أعودُ أغضَبُ علَيكُم” (هوشع 11: 1- 9).

نلاحظ في النص ما يلي:

  • في الأعداد 3- 4 نجد ملخص لرحمة الله، فهو يُحب ويعتني بشعبه كأم تعلم طفلها المشي وتحمله على ذراعها. وكأب يرفع طفله ويحنو عليه ويطعمه.
  • في الأعداد 8- 9 هناك وصف لعدم تخلي الله عن بيت أفرايم لأن الله قريب من الإنسان وتنتصر رحمته على عدله الذي يتطلب القصاص من تخلي الشعب عنه وعبادتهم للأصنام. كيفَ أتَخلَّى عَنكُم يا بَيتَ أفرايمَ؟ كيفَ أهجرُكُم يا بَني إِسرائيلَ؟
  • أأجعَلُكُم مِثلَ أدْمةَ وأعامِلُكُم مِثلَ صَبوييمَ؟ لا لن يعاقب الله شعبه على خطيئته، بل تتقد مراحمه في قلبه ويُظهر طبيعته من محبة ورحمة تجاه شعبه.

عاش هوشع مغامرة شجاعة وفريدة في حياته الزوجية، عاش اختبارًا أفهم فيه الإنسان ما في قلب الله. وسيعبر القديس بولس عن هذه الحقيقية حين يقول: “ولمَّا كُنا ضُعَفاءَ، ماتَ المَسيحُ مِنْ أجلِ الخاطِئينَ في الوَقتِ الذي حَدَّدَهُ الله. وقلَّما يَموتُ أحدٌ مِنْ أجلِ إنسانٍ بارٍّ، أمَّا مِنْ أجلِ إنسانٍ صالحِ، فرُبما جرُؤَ أحدٌ أنْ يموتَ. ولكنَ الله بَرهَنَ عَنْ مَحبَّتِهِ لنا بِأنَّ المَسيحَ ماتَ مِنْ أجلِنا ونَحنُ بَعدُ خاطِئونَ ” (روم 5: 6- 8).

  1. الكتب الحكمية: الرحمة والخلق الجديد

الرحمة هي ميزة الله ومن خلالها تُظهر قدرته بشكل خاص، لهذا نجد أهتمام سفر المزامير بكشف قلب الله المحب تجاه الخطأة والمعوزين، حيث يسود صلاح الله على قصاصه. إن إلى الأبد رحمته” هي اللازمة التي تكرّر بعد كل آية من المزمور 136 بينما تُروى قصة وحي الله. بقوّة الرحمة، تحمل أحداث العهد القديم كلها قيمة خلاصيّة عميقة. الرحمة تجعل تاريخ الله مع إسرائيل تاريخ خلاص. يبدو أن التكرار المستمر: “إن إلى الأبد رحمته”، كما يكرّر المزمور، يرغب بأن يكسر دائرة المكان والزمان ليُدخل كلّ شيء في سرّ الحب الأبدي. كما ولو كنا نريد القول بأنه ليس في التاريخ فقط بل وإلى الأبد أيضًا سيكون الإنسان على الدوام تحت نظر الآب الرحيم. وليس من وليد الصدفة أن يكون شعب إسرائيل قد أراد أن يُدخل هذا المزمور، “التهليل الكبير” كما يسمّونه، في الاحتفالات الليتورجية الأكثر أهميّة (مرسوم اليوبيل 7).

هكذا نقرأ في مزمور 57: 11 “فقَد عَظُمَت رَحمَتُكَ إِلى السَّمَوات وحَقُّكَ إِلى الغُيوم”. وفي أقصر المزامير، نجد قصة شعب إسرائيل كلها في هذه الكلمات: “سَبِّحي الرَّبَّ يا جَميعَ الأمَم واْمدَحيه يا جَميعَ الشّعوب لأَنَّ رَحمَتَه علَينا عَظيمة وصِدقَ الرَّبِّ قائمٌ أَبدًا. هلِّلويا!”.

الخلاصة:

ويُستنتج من هذا كله أن الرحمة ليست صفة من صفات الله وحسب، لكنها تميّز حياة شعب إسرائيل بأُسره وعلاقتهم مع الله. إنها جوهر مالهم من دالة حميمة على ربهم، وجوهر حوارهم معه. وتظهر الرحمة، على هذا الوجه، في جميع أسفار العهد القديم، ظهورًا غنيًا بالمعاني. ويشيد العهد القديم برحمة الرب بعبارات متقاربة المعنى (كما سبق أن أوضحنا)، ولكنها، وإن تمايزت فيما بينها، لكنها تصب في مفهوم واحد يرمي إلى الإفصاح عن غنى الرحمة الفائقة الطبيعة لله تجاه شعبه.

تتعارض الرحمة، نوعا ما، مع العدالة الإلهية وتظهر من خلال النصوص المقدسة إنها الأقوى والأعمق. ويعلّم العهد القديم أن العدالة، برغم أنها تعتبر فضيلة حقا لدى الإنسان وكمالا فائق الطبيعة لدى الله، فهي مرتبطة بالمحبة التي هي “أسمى”، فهي الأولى والأهم. وتتجلّى أولوية المحبة وسموها بالنسبة إلى العدالة وتقدمها عليها (وهذا ما يميز الوحي كله) في الرحمة، تمام التجلي. وبدا ذلك واضحا لكتبة المزامير والأنبياء بحيث أن لفظة عدالة دلّت على الخلاص الذي أتمه الرب برحمته (راجع مز 39: 11، 97: 2 – 3؛ أشعيا 45: 21؛ 51: 5، 8؛ 56: 1).

“فالرحمة إذن تختلف عن العدالة، لكنها لا تضادّها، إذا سلّمنا – على ما يفعل العهد القديم – بوجود الله في تاريخ الإنسان وبارتباطه، بوصفه مكوّن الكائنات، بخلائقه برباط محبة فريد. وتنفي المحبة بطبعها الحقد وشهوة الإساءة إلى من أعطته يوما ذاتها: “أنتَ يا ربُّ تُحِبُّ الوُجودَ كُلَّهُ، ولا تُبغِضُ شيئًا مِنْهُ وإلاَ لما كُنتَ أوجَدْتَهُ” (حكمة 11: 25). وتكشف هذه الألفاظ عن الأساس العميق الذي ترتكز عليه العلاقة القائمة بين عدالة الله ورحمته بالنسبة إلى الإنسان والعالم، وتعلّمنا فضلا عن ذلك أنه يجب البحث عن أصول هذه العلاقة المحيية وأسبابها البعيدة بالعودة إلى “البدء” داخل سرّ الخلق. وتعلن مسبقا، وفقا لظروف العهد القديم، الكشف عن الله الذي “هو محبة” (1 يوحنا 4: 16)” (الغني بالمراحم: بند 4(.

ثالثًا: الرحمة في العهد الجديد

“فإِنَّ للأبدِ رَحمَتَه”: هكذا يهتف المرنم في المزمور 136 بقلب ممتلئ بالفرح متذكرًا فعال الله مع شعبه. تُعيد العذراء في نشيدها الخالد إيمان شعب إسرائيل: “ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه” (لوقا 1: 50). هكذا يبدأ العهد الجديد معلنًا إن الله “هو الغني بالمراحم” (أفسس 2: 4) الذي كشف يسوع المسيح في ذاته عن الآب ومحبته ورحمته: “أَبو الرَّأفَةِ وإِلهُ كُلِّ عَزاء” (2 كورنثوس 1: 3).

  1. تجسد الرحمة

إن الله الذي “مَسكِنُه نَورٌ لا يُقتَرَبُ مِنه وهو الَّذي لم يَرَه إِنسان ولا يَستَطيعُ أَن يَراه” (1 تيموتاوس 6: 16) تجسد وتجلي في ابنه الوحيد، يسوع المسيح: “الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه” (يوحنا 1: 18). أبرز المسيح صفة الألوهة التي حددها العهد القديم “بالرحمة” مستخدمًا تعبيرات مختلفة. وقد أعطى السيد المسيح تقليد العهد القديم في الرحمة الإلهية مفهومًا أبديًا، ولم يتحدث عنها ويشرحها بالتشابيه والأمثال وحسب، لكنه جسدّها بذاته، قبل كل شيء وكأنه ألبسها شخصه. وهذا يعني أنه هو نوعًا ما الرحمة ومن رآها ووجدها فيه، تجلّى له الآب بصورة خاصة، على أنه “غنيّ بالرحمة” (أفسس 2: 4).

في أول ظهور له في مجمع الناصرة يستشهد السيد المسيح بما قاله أشعيا: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرَّبّ” (لوقا 4: 18- 19). إن هذه العبارات هي، حسب لوقا، أول إعلان مسيحاني للكلمة المتجسد، ستعقبه أعمال وأقوال أطلعنا عليها الإنجيل. وقد جعل المسيح، بهذه الأفعال والأقوال، الآب حاضرًا بين الناس. وإنه لمن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن هؤلاء الناس كانوا، على الأخص الفقراء الذين يحتاجون إلى أسباب العيش، وأولئك المسلوبي الحرية، والعميان الذين تتعذر عليهم مشاهدة جمال الكائنات، والذين يعانون نفسيًا أو يسامون الظلم الاجتماعي، وأخيرًا الخطأة. لقد صار المسيح بالنسبة إلى هؤلاء الناس، على الأخص، علامة لله الذي هو محبة. لقد صار علامة الآب. ويستطيع أناس عصرنا أن يروا الله في علامة منظورة من هذا النوع (الغني بالمراحم: بند 3).

ومن المفيد كذلك أن نلاحظ أنه، عندما دنا من يسوع الرسولان اللذان أرسلهما يوحنا المعمدان إليه ليسألاه: “أَأَنتَ الآتي أَم آخَرَ نَنتَظِر؟” (لوقا 7: 19) عاد إلى ذلك الاستشهاد الذي دشّن به رسالته التعليمية في الناصرة، فأجابهما قائلاً: “اِذهَبا فأَخبِرا يوحَنَّا بِما سَمِعتُما ورَأَيتُما: العُمْيانُ يُبصِرونَ، العُرْجُ يَمشُونَ مَشيًا سَوِيًّا، البُرصُ يَبَرأُونَ والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومونَ، الفُقَراءُ يُبَشَّرون. 23وطوبى لِمنَ لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثرَة” (لوقا 7: 22- 23).

وقد أظهر يسوع، على الأخص، بطريقة حياته وأعماله كيف جعل المحبة حاضرة في هذا العالم الذي نعيش فيه: المحبة الفاعلة التي تتجه إلى الإنسان وتشمل كل ما يكوّن إنسانيته. وتتجلّى هذه المحبة، أكثر ما تتجلّى، كلّما كان هناك مرض وظلم وفقر، وحتى كلّما تناول الأمر “الحالة الإنسانية” التاريخية التي تبيّن، بمختلف الطرق، ما يعاني الإنسان من ضيق، ويشكو من ضعف جسدي ومعنوي. وإن ما تتجلّى به المحبة من طريقة وما تتخذه من مجال هو ما يسمّى بلغة التوراة “الرحمة”.

وهكذا كشف المسيح عن الله الذي هو آب، والذي هو “محبة” على ما أعلن القديس يوحنا في رسالته الأولى: (1 يوحنا 4: 16) لقد أظهر الله “غنيًا بالرحمة”، وقبل أن تكون هذه الحقيقة مادة تعليم، جعلها السيد المسيح واقعًا ماثلاً للعيان. وإحضار الله محبةً ورحمةً، هذه هي القاعدة التي رسخت في ضمير المسيح وركّز عليها مهمّته ورسالته كمسيح. وهذا ما تؤيّده تلك الأقوال التي فاه به أولاً في مجمع الناصرة ثم أمام تلاميذه والرسولين اللذين بعثهما يوحنا إليه.

واستنادًا إلى هذه الطريقة التي أعلن فيها السيد المسيح الله حاضرًا، والذي هو آب ومحبة ورحمة، جعل من الرحمة أحد مواضيع تبشيره الرئيسية. وعلّم هنا جريًا على مألوف عادته “بالأمثال”، على الأخص، لأنها أوفى بتوضيح جوهر الأشياء.

  1. أمثال يسوع 
    • الابن الشاطر

كلمة الشاطر لا تأتي بمعنى الشطارة والجدارة والدهاء والمهارة في تدبير الأمور. الشاطر هو الذي شطر أموال أبيه إلى قسمين مع أن نصيبه، بحسب الشريعة، هو الثلث والابن البكر له حظ اثنين. التسمية الأفضل لهذا المثل هو “الأب الرحوم” لأنه يكشف جوهر الرحمة الإلهية، برغم أننا لا نعثر فيه على لفظة “الرحمة”.  فالمثل يكشف سر الرحمة من خلال تلك المأساة التي تدور فصولها بين بطل القصة، الأب، بحبّه الملتهب ورحمته التي لا حدّ لها وبين تبذير الابن الأصغر وكبرياء الأكبر. إنه مثل الأب الحنون، أب وأمّ معًا لأنه يسع الكل في رحمَهِ.

الابن الأصغر، الذي تسلّم من أبيه نصيبه من ميراثه وغادر البيت ليبدّد ما ورث في بلاد بعيدة في البذخ والخلاعة، هو، نوعًا ما، رجل كل زمن، ابتداء من ذاك الذي أضاع ميراث النعمة والبرارة الأصلية. يُمثل الابن كلُّ حنث بعهد المحبة من جانب الإنسان، وكل فقدان للنعمة، وكل خطيئة. سئم الابن الحياة تحت سقف بيت أبيه، أراد الذهاب بعيدًا إلى حياة المغامرة، توجه إلى أبيه قائلاً، بصيغة الأمر: ” أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال”، أراد أن يرث أباه قبل أن موته، لم يتأثر بمحبة أبيه الذي أغدق عليه المال دون تردد، للدرجة التي أعطاه فيها مالاً أكثر مما يستحق، بحكم الشريعة. ولمّا “انفق الابن كل شيء… بدأ يفتقر”، وعلى الأخص لأن الجوع دهم “ذلك البلد” الذي سافر إليه، بعد مغادرته البيت الوالدي. فكان، والحالة هذه، يشتهي أن، “يملأ جوفه” ممّا تقع عليه يده، ولو “خروبًا تأكله الخنازير” التي كان يرعاها لحساب “أحد أبناء ذلك البلد”، وحتى هذا كان قد حرمه.

وينتقل التشبيه انتقالاً واضحًا إلى داخل الإنسان. ذلك أن الميراث الذي أخذه من والده كان خيورًا مادية. ولكن يبقى هناك ما هو أثمن منها بكثير، وهو كرامته كابن في البيت الوالدي وكان على تلك الحالة التي وصل إليها، بعد أن أنفق ماله، أن توقظه على هذه الكرامة المفقودة. فهو، دونما شك، لم يفكر بها قبلاً، عندما كان يسأل أباه أن يعطيه نصيبه ليتمكن من الذهاب إلى البعيد، ولا بدّ أنه كان يعيها عندما قال في نفسه: ” كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعًا!”. فهو يقيس حالته بقياس الخيور التي فقدها والتي كان “يملكها” الأجراء في بيته الوالدي. وتدل هذه الكلمات على ذهنيّته بالنسبة إلى الخيور المادية التي تخفي تحت ردائها مأساة كرامة مهدورة، وشعورًا ببنوّة مشتتة.

واتفق أخيرًا أنه اتخذ قرارًا فقال: “أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابنًا، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ” (لوقا 15: 18- 19). إن هذه الكلمات تكشف عن طبيعة المشكلة الأساسية وأبعادها. عندما ضاقت بالابن الشاطر حالته المادية التي أوقعه فيها طيشه وإثمه، نضج لديه شعوره بكرامته المضاعة. وعندما عزم على العودة إلى البيت الوالدي وعلى الطلب من أبيه أن يقبله بقوة ما له من حق بوصفه أجيرًا – بدا ظاهرًا أنه يتصرّف بدافع مما أصابه من جوع وشقاء، ولكنه دافع يتداخله إدراك لخسارة جسيمة: لقد أصبح أجيرًا في بيت أبيه، وهذا إذلال وعار كبير. ولكن الابن الشاطر كان مستعدًا لمواجهة مثل هذين الاذلال والعار، لإدراكه أنه لم يبق له من حق سوى أن يكون أجيرًا في البيت الوالدي. فأخذ قراره بملء معرفته لما استحق ولما يمكن أن يكون له حق فيه، وفقًا لقواعد العدالة. ويثبت هذا التفكير نشوء شعور بالكرامة المفقودة في خاطر الابن الشاطر، هذه الكرامة النابعة من علاقة الابن بأبيه. وهكذا عقد العزم على سلوك الطريق.

الأب هو الحنان، هو الرحمة، هو الرأفة، لقد تألم جدًا من الفراق ولم يمضِ يوم إلا وفكر في ابنه يتساءل ما هو مصيره؟ انتظره عودة ابنه بصر، وعندما راه، وهو لم يزل بعيدًا تحنّن عليه وانطلق نحوه وعانقه وقبله.. قبله كما هو برائحته النتنة، ولم يمهله حتى بأن يكمل اعترافه، الذي هيّأه وردّده على طريق العودة: ” يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ”. لم يسمع الأب كلام ابنه من فرط سعادته بل أخذ يأمر الخدم لكي يلبسوه الحلة الأولى، ثوب البر، والخاتم في إصبعه، رمز البنوة والمعاهدة، والحذاء في رجليه تثبيتًا لخطواته في طريق الصواب. أمر بذبح العجل المسمن وبدأ بالاحتفال: “أَقولُ لَكم: هكذا يَفرَحُ مَلائِكَةُ اللهِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوب” (لوقا 15: 10).

إذا تأملنا الحدث من منظور علاقة “المحبة” و”عدالة”، فإننا نلاحظ إي من اللفظتين لم ترد في النص الأصلي، ومع ذلك إن العلاقة القائمة بين العدالة والمحبة التي تتجلّى كرحمة، تندرج بإحكام في الدرس الذي يلقيه مثل الإنجيل، ويبدو واضحًا أن المحبة تتحوّل رحمة، كلّما وجب اجتياز الحدود التي ترسمها العدالة والتي غالبًا ما تكون دقيقة ضيقة. وبعد أن بدّد الابن الشاطر الاموال التي أخذها من أبيه، استحق، بعد عودته، أن يكسب معاشه بالقيام بعمل أجير في البيت الوالدي، وأن يجمع مجددًا شيئًا فشيئًا، بعض المال رغم أنه لن يجمع أبدًا ما يعادل على الأرجح، ما بدّده. وهذا، على الأقل، ما كانت: تقتضيه العدالة، وعلى الأخص، لأن هذا الولد لم يبذر نصيبه الخاص به من الميراث وحسب، لكنه، علاوة على ذلك، أهان أباه بسلوكه وصدمه(الغني بالمراحم: بند 6). ذهل الابن، العائد بخوف ليعتبر نفسه واحدًا من الخدم، من استقبال ابيه. أهكذا يلقاه والده بلا توبيخ ولا عتاب ولا دينونة؟ هذه هي الرحمة الإلهية التي تُكرس توبة الإنسان وترسخها، محبة أبدية تتحول إلى رحمة تُنحي العدل جانبًا.

يمثل موقف الأب من الابن موقف كل إنسان حنَّثَ بعهد المحبة، فقدَ النعمة بسبب الخطيئة. فما هو موقف الإنسان من أخيه؟ هذا ما عبر عنه المثل من خلال موقف الابن الأكبر، الذي يخدم كفريسيّ بصورة كمن يمنَّ فيها على أبيه لأنه لم يتجاوز وصيته. يتملكه الحسد فينتقد والده الذي ذبح العجل المسمن لأخيه ولم يعطيه إيّاه لكي يفرح مع أصدقائه. تصرفه هذا لا يدل على محبة حقيقية لأبيه، بل على الأرجح بقى بقربه كواجب فقط. ثم حكم على أخبيه بقساوة، بل وصل إلى درجة الافتراء، عندما أضاف تهمة إلى خطايا أخيه قائلا: ” أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا”، والمعلوم أن هذه العبارة لم ترد في النص. احتقاره لأخيه جعله يقول بلؤم “ابنك هذا” أي أنه أنكر نسبه لأخيه. عكس تصرفه قساوة قلبه تجاه أخيه. يطلب الآب أن نتمثل به: “كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم”. فأمام الرحمة الإلهية نرى ابنًا يعود إلى بيت أبيه مكرّمًا بفرح واحتفال وآخر يبقى خارجًا بفعل قساوة قلبه وتمرده ورفضه دعوة أبيه. يستدل الستار على مسرح الرواية والابن الأكبر لا يزال خارج البيت!

  • الفريسيّ والعشار

أشار يسوع نفسه إلى من يوجّه هذا المثل، بعد أن أعلن بكلّ حزن: “ولكِن، متى جاءَ ابنُ الإِنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟”، يقول إنّ هذا المثل هو: “لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس” (لوقا 18: 8-9). إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصلّيا، كلمة “صعدا” تعني أنّ الهيكل كان مبنيًّا على تلّة كانت قديمًا جبل موريّا (تكوين 22: 2؛ 2 أخبار 3: 1) حيث صعد إبراهيم ليقدم ابنه إسحق ذبيحة على حسب طلب الربّ. الفريسيّ هو من الوجهاء اجتماعيًا، ومن جماعة المتضلّعين من الشريعة، المتَّصفين بالتقوى، المواضبين على ممارسة فرائضهم الدينية بصورة تامّة.

الإنسان الآخر هو عشار أي يجسد في نظر الجماعة المعاصرة، الإنسان الخاطئ المنحطّ. لماذا؟ لأن العشارون كانوا يجمعون الضرائب للدولة الحاكمة، روما، هم خونة. والأكثر إن معظم العشارين كانوا يفرضون على القوم أكثر ممّا يتوجب عليهم ليدخروا لأنفسهم المال الزائد، فهم يُعتبرون سارقين، خيانة مبّطنة بالسرقة هذا بالتحديد ما يتّصف به هذا العشار الحقير الدنيء.

يصف يسوع صلاة كل منهما. يقف الفريسيّ مرفوع الرأس يعد أعماله الصالحة بكل فخر، يصوم مرتين في الأسبوع الإثنين والخميس (حسب التقليد اليهودي يوم صعود موسى إلى جبل الشريقة ونزوله منه)، ثم يعشّر كل ما يقتنيه، والمطلوب أقل من هذا بحسب الشريعة (تثنية 14: 22- 23)، لا ينسى أن يشكر الله، لا يشكره على نعمه، بل لأنه ليس مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة. ركز الفريسيّ على الصوم والتعشير وهي الأمور الظاهرة للمجتمع، أما باقي الخطايا الواردة في الفصل العشرين من سفر الخروج فتجاهلها، فالله وحده يفحصها بدقة وعدل.

أما العشار فكان يصلي بتواضع، ثلاث كلمات تصف صلاته:

  • وقفته ” فوَقَفَ بَعيدًا”، لا يجسر على الاقتراب من القدس، كمثل الأبرص الذي يشعر بنجاسته فينعزل.
  • حالته ” لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء” لأنه يخاف من الدينونة الإلهية.
  • وأخيرًا اعترافه بخطيئته ” كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: «الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ !».

أمام هذا المشهد، أتت النتيجة حاسمة والحكم واضحًا لا تردد فيه، إذ أعلن يسوع: “العشار نزل إلى بيته مبرّرًا دون الفريسيّ”. لماذا حكم يسوع على الفريسيّ بهذه القساوة؟ ماذا ينقص هذا الفريسيّ لكي يتبرّر؟

  • أولاً موقفه، هو موقف اقتحام للقدس بكبريائه وعجرفته ورضاه التام عن كل أفعاله وكل تصرفاته بتبجح وتكبر وكأنه يريد أن يمّنن الخالق بما قدمه.
  • ثانيًا في صلاته ضمير المتكلم هو البارز والمضحّم وهو المحور الوحيد “أنا وإنّي” همّه تعظيم ذاته لأن الأنانية مسيطرة في كلامه.
  • ثالثًا في صلاته احتقار للآخرين وترفّع عليهم، يحكم عليهم ويُحملهم الخطايا ويحتقر بخاصة هذا العشار. فمن سمح له أن يدين غيره؟ أين هي الرحمة من قساوة قلبه؟ أين هو العطاء المجاني في حياته؟

لماذا تبرّر العشار ولماذا قُبلت صلاته؟ صلاة العشار هي تمامًا على عكس صلاة الفريسيّ:

  • أولاً، يتمتم الصلاة لا يرفع صوته. كلماته تنطلق من صميم قلبه، من قلب خاشع متواضع منسحق كليّا. يقف بعيدًا لا يجرؤ على النظر إلى السماء.
  • ثانيًا، توبته عميقة حقيقية ليست مزيفة، وهي مصطحبة بخضوع كليّ أمام الرحمة الإلهية التي يأمل بها من كل قواه. أمام عظمة الله أدرك هذا العشار حقارته وسخافة أعماله وندم عليها وأعلن عن توبته متحسرًا على أعماله الرديئة، ملتمسًا الغفران من الله.
  • ثالثًا، ثقته بحنان الرب واتكاله على رحمته الفياضة التي تقبل توبة الخاطئ الصادفة وتُسامح إلى ما لا نهاية. أظهر العشار إيمانًا عميقًا بالله “الغني بالمراحم”.

 كشف السيد المسيح بهذا المثل عن محبة الله التي هي الرحمة، وطلب من الناس، في الوقت عينه، أن ينقادوا في حياتهم لما تلهمهم إليه هاتان المحبة والرحمة. وهذا المطلب هو ممّا يميّز الرسالة المسيحانية ويشكل جوهر الآداب والأخلاق الإنجيلية. وقد أعلن المعلّم ذلك، سواء أكان في الوصية التي وصفها بأنها، “أول الوصايا وأعظمها” (متى 22: 38) أم في صيغة بركة، عندما ألقى خطابه على الجبل فقال: “طوبى للرحماء فإنهم يرحمون” (متى 5: 7).

  1. الرحمة المُتّجلية في الصليب والقيامة

كشف يسوع عن عمق الرحمة الإلهية عبر تضحيته الفريدة على الصليب، وقبلها تلك الصلاة في بستان الجسمانية، أدخلت تغييرًا جوهريًا على مجرى الكشف عن المحبة والرحمة في رسالة المسيح المسيحانية. إن ذاك الذي “مَضى مِن مَكانٍ إِلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ” (أعمال 10: 38) “ويَشفِي النَّاسَ مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة” (متى 9: 35)، يبدو الآن هو عينه أنه يستحق الرحمة ويلتمسها فيما يُلقى القبض عليه ويُمتهن ويُحكم عليه ويُجلد ويكلّل بالشوك ويعلّق على الصليب بالمسامير ويلفظ أنفاسه الأخيرة في غمرة عذاب أليم. وما أشد ما كان هو في حاجةٍ إلى رحمة الناس الذين صنع إليهم الخير، ولكنّه لم يلقها منهم؛ لا بل إن أقربهم إليه لا يستطيعون إنقاذه من أيدي ظالميه ليتم في المسيح، في هذه المرحلة الأخيرة من المسيرة المسيحانية، ما قاله الأنبياء، ولا سيما أشعيا، في خادم يهوه “وبجُرحِه شُفينا” (أشعيا 53: 5).

يتجه المسيح، بما أنه إنسان يتألم، في بستان الزيتون وعلى الجلجلة، آلامًا لا تطاق، إلى أبيه، هذا الآب الذي بشرّ بمحبته للناس وأكّد لهم رحمته بمسلكه وجميع أعماله، ولكنه لم يستجيب له وهو الذي “لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا” (2 كورنثوس 5: 21). تألّم المسيح ومات من أجل خطايا العالم. وهذا في الحقيقة “فيض” العدالة، لأن ذبيحة الإنسان الإله “عوّضت” عن خطايا الإنسان. عدالة الله هنا تبع كلها من المحبة، محبة الآب والابن، لم تشأ أن يعاقب الإنسان على وز خطيئته، بل تحمل الكلمة المتجسد التكفير وحده ليُعيد الإنسان مجددًا بالمحبة والرحمة التي تمكن الإنسان من الاقتراب من الحياة والقداسة الناشئين من الله. وهكذا يحمل الفداء معه الكشف عن الرحمة في ملئها.

قد يعجبك ايضا
اترك رد