إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

القديس بونافنتورا

0 444

القدّيس بونافنتورا

(1) 

إخوتي وأخواتي الأعزّاء،

أودّ اليوم التحدّث عن القديس بونافنتورا دي بانيورِدْجو (Bonaventura da Bagnoregio). أبوح لكم بأنّني أشعر بشيء من الحنين في طرحي لهذا الموضوع لأنّني أتذكّر الأبحاث التي قمتُ بها في شبيبتي عن هذا الكاتب بالذات، الذي أكنّ له تقديرًا خاصًّاً. فقد كان لمعرفتي به تأثيرٌ كبير على تنشئتي. وقبل بضعة أشهر، قمت بكلّ سرور برحلة حجّ إلى مسقط رأسه، بانيوردجو، تلك البلدة الإيطاليّة الواقعة في مقاطعة لاتيوم والتي تحفظ ذكراه وتكرّمها.

وكونه وُلد سنة 1217 وتُوفّي سنة 1274، فقد عاش في القرن الثالث عشر، في فترة ألهم فيها الإيمان المسيحيّ، المتغلغل في الثقافة والمجتمع الأوروبيّين، العديد من الأعمال الخالدة في حقول الأدب والفنون البصريّة والفلسفة واللاهوت. ومن بين الشخصيّات المسيحيّة العظيمة التي ساهمت في نشوء هذا التناغم بين الإيمان والثقافة، يمتاز بنوع خاصّ بونافنتورا. إنّه كان رجلَ عمل وتأمّل وتقوى عميقة وإدارة رشيدة.
كان اسمه جوفانّي من فيدينسا. ويخبرنا بنفسه أنّ حادثةً حصلت معه عندما كان شابًّا تركت أثرًا كبيرًا في حياته. فقد أُصيب بمرض عضال لدرجة أنّ والده، الذي كان طبيبًا، لم يكن يأمل في شفائه. فالتجأت أمّه إلى شفاعة القديس فرنسيس الأسّيزيّ، الذي كانت قداسته قد أُعلنت قبل
وقت قصير، وشُفي جوفانّي.

أصبحت شخصيّة فقير أسّيزي مألوفة أكثر لديه بعد بضع سنوات عندما كان في باريس لتلقّي العلم. كان قد حاز على شهادة في الفنون والصناعات يُمكننا اليوم مقارنتها بشهادة لمعهد ثانويّ مرموق. حينئذ، وعلى غرار العديد من شبّان الماضي والحاضر، طرح جوفانّي على نفسه سؤالاً مهمًّا: “ماذا عليّ أن أفعل في حياتي؟” وحيث كان مُعجَبًا بشهادة الحميّة الإنجيلية للإخوة الأصاغر الذين كانوا قد وصلوا إلى باريس سنة 1219، فقد قرع جوفانّي باب الدير الفرنسيسكانيّ لتلك المدينة، وطلب قبوله في أسرة تلاميذ القديس فرنسيس الكبيرة. وبعد سنوات عديدة، فسّر أسباب خياره. فقد رأى في القدّيس فرنسيس وفي الحركة التي أنشأها عمل المسيح. وكتب يقول في رسالة وجّهها إلى أخ آخر: “أعترف أمام الله أنّ ما جعلني أحبّ أكثر حياة الطوباويّ فرنسيس هو أنّها تشبه بدايات الكنيسة ونموّها. فقد بدأت الكنيسة بصيّادي سمك بسطاء، واغتنت بسرعة بملافنة بارزين وحكماء؛ ولم يقُم إيمان الطوباويّ فرنسيس على حكمة البشر، بل على المسيح” (Epistula de tribus quaestionibus ad magistrum innominatum, in Opere di San Bonaventura. Introduzione generale, Roma 1990, p. 29).

ولهذا ارتدى جوفانّي الثوب الفرنسيسكانيّ، حوالي سنة 1243، واختار اسم بونافنتورا. وسرعان ما تمّ توجيهه إلى الدراسة، فارتاد كلّيّة اللاهوت في جامعة باريس، حبث تابع دروسًا تتطلّب جهدًا حثيثًا. وحاز على مختلف الشهادات المطلوبة في السلك الأكاديميّ، مثل بكالوريا الكتاب المقدّس والأحكام. فقد تعمّق بونافنتورا بدراسة الكتاب المقدّس وأحكام بياترو لومباردو، وكتاب لاهوت تلك الحقبة، وأهمّ مؤلّفات رجال اللاهوت. وبفضل تواصله مع الأساتذة والتلاميذ الذين جاؤوا إلى باريس من كلّ أنحاء أوروبّا، نمّى تأمّلا خاصًّا وحساسيةً روحيّةً ذات قيمة. وخلال السنوات التالية، نجح في ترجمها في أعماله وعظاته، ما جعله من أهمّ رجال اللاهوت في تاريخ الكنيسة. من المفيد التذكير بعنوان أطروحته التي ناقشها للتأهيل لتعليم اللاهوت، licentia ubique docendi، (جواز التعليم في كلّ مكان) كما كانوا يسمّونها في تلك الفترة. فقد كان بحثه يحمل عنوان “مسائل حول معرفة المسيح”، ويبيّن هذا الموضوع الدور الأساسيّ الذي لعبه المسيح دومًا في حياة بونافنتورا وتعليمه، حيث يمكننا القول إنّ فكره كان يتمحور حول المسيح.

في تلك السنوات، قام في باريس، مدينة بونافنتورا بالتبنّي، جدلٌ عنيف ضدّ الإخوة الأصاغر، التابعين للقديس فرنسيس الأسّيزي، وضدّ الإخوة الواعظين التابعين للقديس دومينغو غوثمان. فقد كانت هناك اعتراضات على حقّهم في التعليم في الجامعة، وكذلك شكوكٌ حول صحّة حياتهم المكرّسة. فالتغييرات التي أحدثتها الرهبنات المتسوّلة في فهم الحياة الرهبانيّة، والتي تحدّثتُ عنها في تعاليم سابقة، كانت بالطبع مبتكرة لدرجة أنّ البعض لم يستطع فهمها. تُضاف إلى ذلك كلّه، كما يحدث أحياناً حتّى بين أشخاص أتقياء، دوافع مردّها الضعف البشريّ كالحسد والغيرة. كان بونافنتورا، ورغم كونه محاصَرًا بمعارضة الأساتذة الجامعيّين الآخرين، قد بدأ التعليم في كرسيّ اللاهوت عند الفرنسيسكان، فكتب مؤلّفًا بعنوان “الكمال الإنجيلي” يردّ فيه على منتقدي الرهبنات المتسوّلة. وبيّن فيه كيف أنّ الرهبنات المتسوّلة، وخاصّة رهبنة الإخوة الأصاغر، بممارستها نذور الفقر والعفة والطاعة، تتّبع نصائح الإنجيل. بعيدًا عن هذه الظروف التاريخية، يبقى التعليم الذي قدّمه بونافنتورا في هذا العمل وفي حياته معاصرًا: فالكنيسة تصبح أكثر إنارة وروعة بفضل أمانة دعوة أبنائها وبناتها الذين لا يطبّقون المبادئ الإنجيليّة فحسب، بل هم مدعوّون أيضًا، بنعمة الله، إلى احترام النصائح الإنجليّة حتّى يشهدون هكذا، ومن خلال أسلوب حياتهم الموسوم بالفقر والعفّة والطاعة، بأنّ الإنجيل هو مصدرُ فرح وكمال.

خفّت حدّة الخلاف، لفترة معيّنة على الأقلّ، وتمّ الاعتراف رسميًّا ببونافنتورا كعلاّمة وأستاذ في الجامعة الباريسيّة سنة 1257 بفضل تدخّل البابا أسكندر الرابع الشخصيّ. لكنّه اضطرّ إلى الاستقالة من هذا المنصب الرفيع لأنّ المؤتمر العام للرهبنة عيّنه في تلك السنة مدبّرًا عامًّا.

قام بهذه المهمّة على مدى 17 عامًا بحكمة وتفانٍ، فزار الأقاليم وكتب إلى الإخوة وتدخّل أحيانًا بشيء من القسوة للقضاء على بعض التجاوزات. وعندما باشر بونافنتورا بهذه الخدمة، كانت رهبنة الإخوة الأصاغر قد نمت بصورة مُذهلة: حيث كانت تضمّ أكثر من ثلاثين ألف أخٍ في كلّ أنحاء الغرب، إضافة إلى إرساليّات في شماليّ إفريقيا والشرق الأوسط وحتّى في بكين. وكان يتعيّن تعزيز هذا الانتشار، ومنحه وحدة عمل وروح في أمانة تامّة لموهبة فرنسيس. فقد سُجِّلت، داخل صفوف أتباع القديس فرنسيس الأسيزي، أشكالٌ مختلفة لتفسير رسالته، ما شكّل خطرَ الانشقاق. ولتلافي هذا الخطر، وافق وصادق المؤتمر العام للرهبنة في ناربون عام 1260 على نصّ اقترحه بونافنتورا، يجمع ويوحّد القوانين التي كانت تنظّم حياة الإخوة الأصاغر اليوميّة. لكن بونافنتورا كان يشعر بحدسه أنّ الأحكام القانونيّة، مهما استلهمت الحكمة والاعتدال، لا تكفي لضمان تآلف الأرواح والقلوب. فقد كان من الضروريّ مشاطرة المُثُل والدوافع عينها. لذلك رغب بونافنتورا في تقديم موهبة فرنسيس الأصيلة، وحياته وتعليمه. هكذا جمع، باندفاع كبير، وثائق متعلّقة بفقير أسّيزي وأصغى بانتباه إلى ذكريات الأشخاص الذين عرفوا مباشرةً فرنسيس. فنشأت هكذا سيرة حياة قدّيس أسيزي، دقيقة من الناحية التاريخيّة، تحمل عنوان Legenda Maior أُلّف منها أيضًا مختصرٌ سُمّي بـ Legenda Minor. وعلى عكس الكلمة الإيطاليّة، لا تُشير كلمة Legenda اللاتينية إلى نتاج الخيال بل تعني نصًّا موثوقًا تجب قراءته رسميًّا. وفي الواقع، رأى المؤتمر العامّ للإخوة الأصاغر الذي عُقد في بيزا سنة 1263، في السيرة التي كتبها القديس بونافنتورا الصورة الأصدق للمؤسّس، فأصبحت سيرة حياة القدّيس الرسميّة.

ما هي صورة القدّيس فرنسيس النابعة من قلب ابنه وخلفِه المتفاني، القديس بونافنتورا، وقلمِه؟ النقطة الرئيسيّة هي أنّ فرنسيس هو alter Christus مسيح آخر، رجلٌ بحثَ عن الله بشغف. وفي حبّه له الذي يدفع إلى الاقتداء به، تشبّه فرنسيس بالمسيح تشبّهًا كاملاً. كان بونافنتورا يشير بهذا المثال الحيّ إلى كلّ أتباع فرنسيس. وهذا المثال، الصالحُ لكلّ مسيحيّ في الماضي والحاضر وإلى الأبد، أشار إليه أيضًا سلفي المكرّم يوحنا بولس الثاني كبرنامج لكنيسة الألفيّة الثالثة. حيث كتب في رسالته “نحو ألفيّة جديدة” أنّ هذا البرنامج “يتمحور حول المسيح بالذات الذي يجب أن نعرفه ونحبّه ونقتدي به لكي نحيا فيه الحياة الثالوثيّة ولكي نغيّر معه التاريخ حتى يكتمل في أورشليم السماويّة” (العدد 29).

شهدت حياة القديس بونافنتورا سنة 1273 تبدّلا آخر. فقد رغب البابا غريغوريوس العاشر في سيامته أسقفًا وتعيينه كردينالاً. وطلب منه أيضًا الإعداد لحدث كنسيّ مهمّ، ألا وهو المجمع المسكونيّ الثاني في ليون، الذي كان يهدف إلى إعادة توطيد الشركة بين الكنيستين اللاتينيّة واليونانيّة. فكرّس القدّيس نفسه لهذه المهمّة لكنّه لم يتمكّن من رؤية اختتام هذه القمّة المسكونيّة لأنّه تُوفّي خلال انعقادها. هذا وكتب مُوثّقٌ بابويّ مجهول الهويّة مديحًا لبونافنتورا يقدّم لنا صورة فائقة الحسن عن هذا القدّيس العظيم واللاهوتيّ الممتاز: “إنّه رجلٌ صالح وأنيس وورع ورحيم ومُفعم بالفضائل، ومحبوب من الله والبشر… فقد وهبه الله نعمة كبيرة بحيث أنّ كلّ من رآه كان يشعر بمحبّة لم يكن القلب يستطيع حجبها” ( J.G. Bougerol, Bonaventura, in A. Vauchez, Storia dei santi e della santità cristiana. Vol. VI. L’epoca del rinnovamento evangelico, Milano 1991, p. 91).

فلنتأمل في إرث هذا القدّيس، ملفان الكنيسة، الذي يذكّرنا بمعنى حياتنا بالكلمات التالية: “على الأرض… نستطيع التأمّل بالعظمة الإلهيّة بواسطة التفكير والتبصّر؛ أمّا في السماء، وبواسطة الرؤية، عندما نُصبح شبيهين بالله، وبفضل النشوة… سندخل في فرح الله” (La conoscenza di Cristo, q. 6, conclusione, in Opere di San Bonaventura. Opuscoli Teologici /1, Roma 1993, p. 187).

(2)

لقد تحدّثت الأسبوعَ الماضي عن حياة القدّيس بونافنتورا من بانيوردجو وشخصيّته. أودّ هذا الصباح مُتابعة التعريف به، متوقّفًا عند بعض مؤلّفاته وعقيدته.
كما سبق وقلت، من مناقب القديس بونافنتورا أنّه فسّر شخصيّة القدّيس فرنسيس الأسّيزي بأصالة وأمانة، وهو قدّيسٌ كان يكرّمه ويدرسُه بحبّ كبير. خاصّةً وأنّه كان قد ظهر، زمنَ القديس بونافنتورا، تيّارٌ من الإخوة الأصاغر، كانوا يُسمّونهم بـ “الروحانيّين”، يعتبر أنّه قد تمّ، مع مار فرنسيس، تدشين مرحلة جديدة كليًّا من مراحل التاريخ، وأنّ “الإنجيل الأبديّ” المذكور في سفر الرؤيا قد ظهر ليحلّ مكان العهد الجديد. كان هذا الفريق يؤكّد أنّ الكنيسة قد استنفدت دورَها التاريخيّ، وأنّ مكانها ستحلّه جماعةٌ كاريزماتيّة مؤلّفة من أشخاص أحرار يقودهم من الداخل الروح القدس، هم “الفرنسيسكان الروحانيّون”. تكمن في أساس أفكار هذا الفريق كتاباتُ أباتٍ سسترسنسيّ، هو يواكيم (جواكّينو) دا فيوري، توفّي عام 1202. كان هذا الراهب يؤكّد في أعماله على الوقع الثالوثيّ للتاريخ، حيث كان يعتبر العهد القديم زمن الآب، يتبعه زمن الابن، زمن الكنيسة. وأنّه يتعيّن أيضًا انتظار الزمن الثالث، أي زمن الروح القدس. وبهذا الشكل كان يتمّ تفسير كلّ التاريخ كتاريخِ تطوّر: من قساوة العهد القديم، إلى الحرّيّة النسبيّة في زمن الابن، في الكنيسة، وصولاً إلى حرّيّة أبناء الله الكاملة في زمن الروح القدس، الذي سيكون أيضًا، وأخيرًا، زمن السلام بين البشر وزمن المصالحة بين الشعوب والأديان. كان يواكيم دا فيوري قد ولّد الأمل بأنّ بداية زمنٍ جديد ستأتي بفضل رهبنة جديدة. من ذلك نفهم كيف أن مجموعة من الفرنسيسكان اعتقدت بأنّ القديس فرنسيس الأسّيزي هو رائد الزمن الجديد وأن رهبنته هي جماعة الزمن الجديد، جماعة زمن الروح القدس، التي تترك وراءها الكنيسة التراتبيّة، لتبدأ كنيسة الروح الجديدة، غير المرتبطة بالهيكليّات القديمة.
كان هناك إذًا خطر كبير في سوء فهم رسالة القديس فرنسيس، ولأمانته المتواضعة للإنجيل والكنيسة، وكانت تترتّب على هذا الالتباس نظرة مغلوطة للمسيحيّة في مجملها.

 إنّ القديس بونافنتورا، الذي أصبح عام 1257 مُدبّرا عامًّا للرهبنة الفرنسيسكانيّة، وجد نفسه أمام توتّر خطير داخل رهبنته نفسها بسبب مؤيّدي تيّار “الفرنسيسكان الروحانيّبن” المذكور، الراجع إلى فكر يواكيم دا فيوري. ولكي يُجيب على هذا الفريق ويُعيد الوحدة إلى الرهبنة، درس القديس بونافنتورا كتابات يواكيم دا فيوري الأصليّة والكتابات المنسوبة إليه، واضعًا نصب عينيه ضرورة التعريف بشخصيّة قدّيسه المحبوب فرنسيس ورسالته بشكل صحيح، ليقدّم بهذا الشكل نظرةً صائبة حول لاهوت التاريخ. عالج القديس بونافنتورا المشكلة في كتابه الأخير، وهو مجموعة محاضرات إلى رهبان مدرسة باريس، بقي غير مكتمل ووصل إلينا بواسطة نُسخ المستمعين تحت عنوان هيكسيميرون Hexaëmeron أي الشرح المجازيّ لأيام الخلق الستّة. كان آباء الكنيسة يعتبرون أيّام الخلق الستّة أو السبعة كنبوءة عن تاريخ العالم، عن تاريخ البشريّة. وتمثّل الأيام السبعة بالنسبة إليهم سبع حقبات تاريخيّة، تمّ تفسيرها في وقت لاحق كسبع ألفيّات. فمع المسيح، نكون قد دخلنا في الألفيّة الأخيرة، أي الحقبة السادسة من التاريخ، التي سيتبعها سبت الله الكبير. يعتمد القديس بونافنتورا هذا التفسير التاريخيّ للعلاقة بين أيّام الخلق، ولكن بشكل حرّ ومبتكر جدًا. فبالنسبة إليه، تجعل ظاهرتان وقعتا في زمانه من الضروريّ القيام بتفسير جديد لمجرى التاريخ:
الظاهرة الأولى: شخصيّة القدّيس فرنسيس، الرجل المتّحد كليًا بالمسيح لدرجة مشاركته بالسمات (أي جراحات المسيح المصلوب)، كما لو كان مسيحًا آخر alter Christus؛ ومع القدّيس فرنسيس الجماعة الجديدة التي أسّسها، والمختلفة عن الرهبانيّات المعروفة حتى ذلك الوقت. تتطلّب هذه الظاهرة تفسيرًا جديدًا، كواقعٍ جديد من الله ظهر في ذلك الحين.
الظاهرة الثانية: كان موقف يواكيم دا فيوري، الذي كان يبشّر برهبانيّة جديدة، وبحقبة تاريخيّة جديدة كليًا ذاهبًا ما وراء وحي الكتاب المقدس، ما يتطلّب جوابًا.

كمدبّر عام للرهبنة الفرنسيسكانيّة، رأى القدّيس بونافنتورا فورًا أنّ الرهبنة، مع المفهوم الروحانيّ الذي أوحى به يواكيم دا فيوري، لم تكن سهلة التدبير، بل كانت تسير بشكل منطقيّ نحو الفوضى. وكانت لهذا الأمر نتيجتان:

النتيجة الأولى: إنّ الضرورة العمليّة لوجود بُنًى ولانخراط الرهبنة في واقع الكنيسة التراتبيّة، الكنيسة الحقيقيّة. كانت بحاجة إلى أساس لاهوتيّ، لأنّ الآخرين، أي الذين يتبعون المفهوم الروحانيّ، كانوا يعرضون أساسًا يبدو لاهوتيًّا لموقفهم.

النتيجة الثانية: رغم أخذه بعين الاعتبار الواقعيّة الضروريّة، لم يكن من الواجب فقدان الجديد الذي أتت به شخصيّة القديس فرنسيس.

كيف أجاب القديس بونافنتورا على هذه الضرورة العمليّة والنظرية؟ حول جوابه يمكنني أن أقدّم ههنا ملخّصًا هيكليًّا غير مكتمل في بعض نقاطه:

يرفض القدّيس بونافنتورا فكرة الوقع الثالوثيّ للتاريخ. فالله واحدٌ لكلّ التاريخ ولا ينقسم إلى ثلاثة آلهة. وبالتالي، فالتاريخ واحد، ولو كان مسيرة – وحسب القديس بونافنتورا – مسيرة تطوّر.

يسوع المسيح هو كلمة الله الأخيرة – وفيه قال الله كلَّ شيء، مانحًا ذاته وقائلاً ذاته. والله لا يستطيع أن يقول أكثر من ذاته ولا أن يمنح أكثر من ذاته. الروح القدس هو روح الآب والابن. فيسوع يقول بنفسه عن الروح القدس: “… وهو يذكّركم بكلّ ما قلته لكم” (يوحنّا 14، 26)، “يأخذ ممّا لي ويعلنه لكم” (يوحنّا 16، 15). لذلك ليس هناك من إنجيلٍ آخر أسمى، وليس هناك من كنيسة أخرى يجب انتظارها. لهذا يجب على الرهبنة الفرنسيسكانيّة أيضًا أن تنخرط في هذه الكنيسة، في إيمانها، وفي تنظيمها التراتبيّ.

هذا لا يعني أن الكنيسة جامدة، متوقّفة في الماضي تأتي بجديد. يقول القدّيس في رسالة De tribus quaestionibus إنّ “أعمال المسيح لا تعدَم ولا تزول بل تنمو” (Opera Christi non deficient sed proficiunt). وهكذا يقدّم القديس بونافنتورا علانيّة فكرة التطوّر، وهذا أمرٌ جديد بالمقارنة مع آباء الكنيسة وغالبيّة معاصريه. فبالنسبة للقدّيس بونافنتورا، لم يعد المسيح، كما كان بالنسبة لآباء الكنيسة، نهاية التاريخ، بل محوره؛ مع المسيح لا ينتهي التاريخ، بل تبدأ حقبة جديدة. هناك نتيجة أخرى هي التالية: حتى ذلك الوقت كانت تسيطرالفكرةُ التي تقول إنّ آباء الكنيسة يمثّلون قمة اللاهوت المطلقة، وإنّ كلّ الأجيال اللاحقة تستطيع أن تكون فقط من تلاميذهم. يعترف القدّيس بونافنتورا أيضًا بأنّ الآباء هم معلّمين للأبد، لكنّ ظاهرة القدّيس فرنسيس تقدّم له اليقين بأنّ كنز كلمة المسيح لا ينفذ وأنّ أنوار جديدة يمكنها أن تظهر في الأجيال الجديدة أيضًا. ففرادة المسيح تضمن أيضًا جديد وتجديد كلّ حقبات التاريخ.

تنتمي الرهبنة الفرنسيسكانيّة بالطبع – كما يشدّد بونافنتورا – إلى كنيسة يسوع المسيح، إلى الكنيسة الرسوليّة، ولا يمكن أن تشيّد روحانيّة خياليّة. ولكن في الوقت نفسه، الجديد الذي أتت به هذه الرهبنة فعّالٌ بالمقارنة مع الرهبانيّة التقليديّة، وقد دافع القدّيس بونافنتورا – كما قلت في تعليم الأسبوع الماضي – عن هذا الجديد ضد هجمات الإكليروس العلمانيّ في باريس: لا يملك الفرنسيسكان ديرًا ثابتًا، فيحضروا في كلّ مكان ليُعلنوا الإنجيل. فإنّ قطع العلاقة بالإقامة الثابتة، التي هي ميزة الرهبانيّة، لصالح طريقة ألين جديدة، كان قد أعاد للكنيسة ديناميتّها الإرسالية.

قد يكون من المفيد هنا أن نقول إنّ هناك في يومنا أيضًا نظريّاتٌ تعتبر أنّ كلّ تاريخ الكنيسة في الألفيّة الثانية كان انحطاطًا مستمرًّا؛ ويرى البعض الانحطاط مباشرةً بعد العهد الجديد. بالواقع إنّ أعمال المسيح لا تعدَم بل تنمو (Opera Christi non deficient sed proficiunt). ماذا كانت لتكون الكنيسة من دون الروحانيّة الجديدة للسيسترسنسيّين والفرنسيسكان والدومينيكان، ومن دون روحانيّة القديسة تيريزا من آفيلا، ويوحنّا الصليب وسواهم؟ اليوم أيضًا يمكننا أن نقول: أعمال المسيح لا تعدم بل تنمو (Opera Christi non deficient sed proficiunt). يعلّمنا القدّيس بونافنتورا سواء التمييز الضروريّ، والقاسي أيضًا، أوالواقعيّة اليقظة أوالانفتاح على المواهب الجديدة التي يهبها المسيح لكنيسته بواسطة الروح القدس. وبينما تتكرّر فكرة الانحطاط هذه، تتكرّر أيضًا الفكرة الأخرى، فكرة “الأوتوبيا الروحانيّ”. نعرف أنّ كثيرين، بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، اعتقدوا أنّ كلّ شيء صار جديدًا، وأنّ هناك كنيسة أخرى، وأنّ كنيسة ما قبل المجمع قد انتهت وأنّ هناك الآن كنيسة “أخرى” بالكامل. إنّها أوتوبيا فوضويّة! والحمد لله أنّ ربابنة سفينة بطرس الحكماء، البابا بولس السادس ويوحنّا بولس الثاني، قد دافعوا من جهة عن جديد المجمع، ومن جهة أخرى، وفي الوقت نفسه، عن فرادة واستمراريّة الكنيسة، التي هي دومًا كنيسة خطأة، ودومًا مكان نعمة.
بهذا المعنى، تبنّى القديس بونافنتورا، كمدبّر عام للرهبنة الفرنسيسكانيّة، خطَّ تدبير كان فيه من الواضح أنّ الرهبنة الجديدة لم تكن لتستطيع، كجماعة، أن تعيشَ على نفس مستوى “السموّ الإسكاتولوجيّ” للقدّيس فرنسيس، والذي كان يستبق فيه العالم العتيد، ولكن – من خلال الانقياد، في الوقت نفسه، إلى الواقعيّة السليمة والشجاعة الروحيّة – عليها أن تقترب قدر الإمكان من التحقيق الأكمل لعظة الجبل، التي كانت بالنسبة للقديس فرنسيس بمثابة “القانون”، مع اعتبار محدوديّة الإنسان الموسوم بالخطيئة الأصليّة.

نرى بهذا الشكل أنّ أمر الحكم لم يكن عملا فحسب للقديس بونافنتورا، بل كان فوق كلّ شيء تفكيرًا وصلاة. ونجد في أساس تدبيره الصلاة والتفكير؛ فكلّ قراراته تنتج عن التأمّل، عن الفكر الذي تُنيره الصلاة. ورافق اتّصاله الحميم بالمسيح دومًا عملَه كمدبّر عام ولذا فقد ألّف عددًا من الكتب اللاهوتيّة الصوفيّة، التي تُعبّر عن روح تدبيره وتبيّن نيّة تدبير الرهبنة من الداخل، أي ليس فقط بواسطة الأوامر والهيكليّات، بل بقيادة النفوس و إنارتها وتوجيهها صوب المسيح.

أودّ أن أذكر، من بين كتاباته التي هي روح تدبيره والتي تدلّ إلى الطريق الذي يجب أن يسير فيه الفرد والجماعة على السواء، كتابًا واحدًا هو أهمّها، Itinerarium mentis in Deum، وهو عبارة عن “دليل” في التأمّل الصوفيّ. نشأت فكرة هذا الكتاب في مكان معروف بروحانيّته العميقة، هو جبل فيرنا، حيث تلقّى فرنسيس السِمات. يعرض الكاتب في المقدّمة الظروف التي كانت وراء هذا الكتاب: “بينما كنت أتأمّل في إمكانيّات ارتقاء النفس نحو الله، ظهر لي، من بين أشياء أخرى، ذلك الحدث المُذهل الذي حصل للطوباويّ فرنسيس، أي رؤية السيرافيم ذي الأجنحة على شكل المسيح المصلوب. وفيما كنت أتأمّل بهذا، أحسست أنّ هذه الرؤيا تقدّم لي الانتشاء التأمّليّ الذي خبره الأب فرنسيس وكذلك الطريق الذي يقود إليه” (Itinerario della mente in Dio, Prologo, 2, in Opere di San Bonaventura. Opuscoli Teologici /1, Roma 1993, p. 499).

وهكذا تصبح أجنحة السيرافيم الستّة رمزًا للمراحل الستّ التي تقود الإنسان تدريجيًّا إلى معرفة الله من خلال التأمّل بالعالم والمخلوقات، ومن خلال اكتشاف النفس لنفسها بواسطة قدراتها، وصولاً إلى الاتّحاد المُفرح بالثالوث من خلال المسيح، في اقتداءٍ بفرنسيس الأسّيزي. والكلمات الأخيرة من Itinerarium القدّيس بونافنتورا التي تُجيب عن كيفيّة الوصول إلى هذه الشراكة الصوفيّة مع الله يجب أن نضعها في أعماق قلوبنا: “إذا كنت تتوق الآن لمعرفة كيف يتمّ هذا (أي الشراكة الصوفيّة مع الله) فاسأل النعمة، لا العقيدة؛ الرغبة لا العقل؛ أنين الصلاة، لا دراسة الحرفية؛ الزوج، لا المُعلّم؛ الله، لا الإنسان؛ الضباب الكثيف، لا الوضوح؛ لا النور، بل النار التي تُضرم كل شيء وتقود إلى الله بالمسحات القويّة والعواطف المتّقدة… لِنلجْ إذًا الضباب، ونُسكتِ الهموم والأهواء والأوهام؛ ونعبر مع المسيح المصلوب من هذا العالم إلى الآب، كيما نستطيع أن نقول، بعد أن نراه، مع فيليبّس: هذا يكفيني” (نفس المرجع، الجزء السابع، 6).

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، فلنلبِّ الدعوة التي يوجّهها لنا القدّيس بونافنتورا، الملفان الملائكيّ، ولنتتلمذ على يد المعلّم الإلهيّ: فلنُصغِ إلى كلمته، كلمة الحياة والحقّ، التي تتردّد في صميم نفسنا. فلنُطهّر أفكارنا وأعمالنا، لكي يستطيعَ هو أن يسكن فينا، ونستطيعَ نحن أن نسمعَ صوته الإلهيّ الذي يجذبنا صوب السعادة الحقيقيّة.

(3)

أودّ في هذا الصباح، وفي متابعتي لتأمّل الأربعاء الماضي، التعمّق معكم بجوانب أخرى من تعليم القدّيس بونافنتورا من بانيوريدجو. إنّه لاهوتيّ بارز يستحقّ أن يوضع إلى جانب مُفكّر عظيم آخر، هو مُعاصره القدّيس توما الأكوينيّ. فكلاهما سبرا أسرار الوحي الإلهيّ من خلال تقييمهما لموارد العقل البشريّ، في ذاك الحوار المُثمر بين الإيمان والعقل الذي يميّز القرون الوسطى المسيحيّة. فإنّها جاعلا منها عصر حيويّةٍ فكريّة كبيرة وفي الوقت نفسه عصر إيمانٍ وتجدّدٍ كنسيّ، لا يحظر أحيانًا باهتمامٍ كافٍ. وتجمع بين هذَيْن القديسين المذكورين أوجُه شبهٍ أخرى، فبونافنتورا الفرنسيسكانيّ وتوما الدومينيكانيّ كانا ينتميان إلى الرهبنات المتسوّلة التي جدّدت بحيويّتها الروحيّة – كما ذكرت في التعاليم السابقة – في القرن الثالث عشر الكنيسةَ جمعاء وجذبت أتباعًا كثيرين. وكلاهما خدما الكنيسة بجهد وشغف وحب لدرجة أنّهما دُعيا للمشاركة في مجمع ليون المسكونيّ سنة 1274، وهي السنة نفسها التي تُوفّيا فيها: توما في طريقه إلى ليون، وبونافنتورا خلال انعقاد المجمع نفسه. وكذلك تمثالا القدّيسين في ساحة القديس بطرس هما في موازاة بعضهما، و وموضوعان تحديدًا عند بداية رتل الأعمدة انطلاقًا من واجهة بازيليك الفاتيكان: واحدٌ في الجهة اليسرى والآخر في الجهة اليمنى. ورغم وجود مظاهر الشبه هذه كلّها، نستطيع أن نلاحظ لدى هذين القدّيسين العظيمين مقاربتين مختلفتين للبحث الفلسفي واللاهوتي، وهذا ما يظهر فرادتهما وعمق تفكير كلٍّ منهما. أودّ الإشارة إلى بعض هذه الفوارق.
يتعلّق الفارق الأوّل بمفهوم اللاهوت. فكلا المعلّمَين يتساءلان إذا ما كان اللاهوت علماً عمليًّا أو نظريًّاً. يتأمّل القديس توما بإجابتين متناقضتين محتملتين. تقول الأولى: اللاهوت هو تأمّلٌ في الإيمان، وهدف الإيمان هو أن يصبح الإنسان صالحًا ويعيشَ وفق مشيئة الله. فيكون هدفُ اللاهوت الإرشاد على الدرب الصحيح الصالح؛ وبالتالي فإنّه علمٌ عمليّ. ويقول الموقف الآخر: يسعى اللاهوت إلى معرفة الله. نحن صنيعة الله؛ فالله يسمو فوق أعمالنا. الله يُبدع فينا الأعمال الصالحة. إذاً، لا يتعلق الأمر بأعمالنا ولا بأفعالنا، بل بمعرفة الله. يخلص القدّيس توما إلى أنّ اللاهوت يتضمن كلا الوجهين: إنّه علمٌ نظريّ ويسعى إلى التعرّف أكثر إلى الله، وعمليّ حيث يسعى إلى توجيه حياتنا نحو الخير. لكن هناك أولويّة للمعرفة، فعلينا أن نعرف الله أولاً، وبعدها يأتي العمل وفق مشيئة الله (Summa Theologiae Ia, q. 1, art. 4). وأولويّة المعرفة هذه بالنسبة للممارسة مثيرةٌ للاهتمام في توجّه القدّيس توما الأساسيّ.
أمّا إجابة القدّيس بونافنتورا فشديدة الشبه، لكنّ تعبيرها مختلف. يعرف القديس بونافنتورا الحجج نفسها لكلا الاتّجاهين، مثله مثل القدّيس توما، ولكنّه يقوم بتمييز ثلاثيّ للإجابة عن السؤال حول ما إذا كان اللاهوت علمًا عمليًّا أو نظريًّا، فيُوسّع بهذا الشكل الخيار بين النظريّ (أولويّة المعرفة) والعمليّ (أولويّة الممارسة)، مضيفًا إليهما موقفًا ثالثًا يدعوه بـ “الحكيم” مؤكّدًا أنّ الحكمة تشمل الوجهين. يتابع قائلاً إنّ الحكمة تبحث عن التأمل (كأسمى شكل من أشكال المعرفة) وتهدف إلى “ut boni fiamus” – أن نُصبحَ صالحين. هذا هو هدفها الخاصّ. (راجع Breviloquium, Prologus, 5). ثمّ يُضيف: “الإيمان موجودٌ في الفكر، بطريقة تخلق العاطفة. فمعرفة أن المسيح مثلا قد مات “من أجلنا” لا تبقى مجردّ معرفة بل تُصبح بالضرورة عاطفةٌ ومحبّة” (Proemium in I Sent., q. 3).
على الخط نفسه يتقدّم دفاعه عن اللاهوت، أي عن تأمّل الإيمان العقلانيّ والمنهجيّ. يسرد القديس بونافنتورا قائمةً من الحجج ضدّ الاهتمام باللاهوت: إنّها كانت منتشرة أيضًا لدى قسم من الإخوة الفرنسيسكان، ولا تزال موجودة أيضًا في زماننا. فالعقل قد يُفرغ الإيمان ويشكّل موقفًا عنيفًا تجاه كلمة الله، فيما يجب أن نصغي إلى كلمة الله لا أن نحلّلها (رسالة القدّيس فرنسيس الأسّيزي إلى القدّيس أنطونيوس البدواني). يجيب القدّيس على هذه الحجج المعارضة للاهوت والتي تظهر المخاطر الكامنة في اللاهوت قائلا: صحيح أنّ هناك طريقةً متغطرسة في عمل اللاهوت، وزهوًا للعقل يضع نفسه فوق كلمة الله. لكنّ اللاهوت الحقيقيّ، العمل العقلانيّ للاهوت الفعليّ الصحيح له مصدرٌ آخر مختلف عن زهو العقل. فمن يُحبّ، يرغب في التعرّف بشكل أفضل وأكثر إلى محبوبه؛ واللاهوت الفعليّ لا يلزم العقل وبحثه الذي يُحرّكه الزهو. بالعكس (sed propter amorem eius cui assentit) “تُحرّكه محبّة ذاك الذي منحه وافقته” (Proemium in I Sent., q. 2). إنّ العقل يريد أن يتعرّف بشكل أفضل إلى المحبوب. هذه هي غاية اللاهوت الأساسيّة. أولوية المحبة، بالنسبة إلى القديس بونافنتورا، حاسمة.

وبالتالي، يحدّد القدّيس توما والقديس بونافنتورا بطريقة مختلفة هدف الإنسان السامي، سعادته التامّة. يرى القدّيس توما أنّ الهدف الأسمى الذي تتّجه إليه رغبتنا هو رؤية الله. بهذا الفعل البسيط في رؤية الله، تُحلّ جميع المشاكل: فنحن سعداء ولا ضرورة لأيّ شيء آخر.

أمّا القديس بونافنتورا فيرى أنّ هدف الإنسان الأسمى هو محبة الله، اللقاء والاتّحاد بين محبّته ومحبّتنا. هذا هو بالنسبة إليه التعريف الأنسب لسعادتنا.

في هذا المسار، نستطيع القول إنّ المقولة الأكثر سموًّا لدى القدّيس توما هي الحقيقة، فيما هو الخير للقدّيس بونافنتورا. من الخطأ رؤية تناقض بين هاتين الإجابتين. فكلاهما يعتبران أنّ الحقيقة هي الخير، والخير هو الحقيقة؛ ورؤية الله هي المحبّة والمحبّة هي الرؤية. إنّهما تفصيلان مختلفان لرؤية مشتركة في الأساس. وكلا التفصيلين قد شكّلا تقاليد مختلفةً وروحانيّاتٍ مختلفةً فأظهرا خصوبة الإيمان في تنوّع تعابيره.

فلنعُد إلى القديس بونافنتورا. من الواضح أنّ التعبير الخاصّ بلاهوته، الذي قدّمتُ مثلا واحدًا فقط عنه، يُفسَّر انطلاقًا من الكاريزما الفرنسيسكانيّة. فقد أظهر فقير أسّيزي، بصرف النظر عن المناقشات الفكريّة في زمانه، أولويّة المحبّة خلال حياتّه كلّها، وكان أيقونةً حيّة تعشق المسيح، فأوجد صورة الربّ في زمانه. لم يُقنع معاصريه بكلماته بل بحياته. في كلّ أعمال القديس بونافنتورا، وفي الأعمال العلميّة والأكاديميّة بالتحديد، نلاحظ ونجد هذا الوحي الفرنسيسكاني، أي أنّه يفكّر انطلاقًا من اللقاء مع فقير أسّيزي. ولكن لفهم معالجة موضوع “أولوية المحبّة”، يجب أن نتذكّر مصدرًا آخر، أي أعمال المدعوّ “ديونيسيوس المنحول”، وهو لاهوتيّ سرياني عاش في القرن السادس توارى خلف اسم ديونيسيوس الأريوباغيّ مشيرًا بهذا الاسم إلى إحدى شخصيات أعمال الرسل (راجع 17، 34). كان هذا اللاهوتيّ قد أنشأ لاهوتًا ليتورجيًا ولاهوتًا صوفيًا، وتحدّث مُطوّلاً عن مختلف أجواق الملائكة. وقد تُرجمت أعماله إلى اللاتينيّة في القرن التاسع. في عصر القدّيس بونافنتورا – نحن في القرن الثالث عشر – ظهر تقليدٌ جديد أثار اهتمام القدّيس وسائر اللاهوتّيين الآخرين الذين عاشوا في ذلك القرن. هناك أمران أثارا انتباه القدّيس بونافنتورا.

الأمر الأوّل: يتحدّث ديونيسيوس المنحول عن تسعة أجواق ملائكيّة وجد أسماءها في الكتاب المقدّس وصنّفها على طريقته، من الملائكة العاديّين حتّى الساروفيم. يفسّر القدّيس بونافنتورا أجواق الملائكة هذه كدرجات في اقتراب الخليقة من الله. وهكذا يمكنها أن تمثّل المسيرة البشريّة، والصعود نحو الاتّحاد بالله. وما من شكّ لدى القدّيس بونافنتورا أنّ القديس فرنسيس الأسّيزي كان ينتمي إلى الجوق الأسمى، إلى جوق الساروفيم، أي أنّه كان شعلة محبّة نقيّة. وهكذا يجب على الفرنسيسكان أن يكونوا. لكنّ القدّيس بونافنتورا كان يعرف جيّدًا أنّ الدرجة الأخيرة هذه في الاقتراب من الله لا يمكن إدراجها في نظام قانونيّ، بل هي عطيّة خاصّة من الله. لذا فإنّ هيكليّة الرهبنة الفرنسيسكانيّة هي أكثر تواضعًا وواقعيّة. عليها أن تساعد الأعضاء على الاقتراب أكثر فأكثر من حياة ساروفيّة من المحبّة النقيّة. لقد تحدّثتُ الأربعاء الماضي عن هذه الخلاصة بين الواقعيّة الواعية والتجذّر الإنجيليّ في فكر القديس بونافنتورا وفعله.

الأمر الثاني: وجد القديس بونافنتورا في كتابات ديونيسيوس المنحول عنصرًا آخر، كان أكثر أهميّة له. بينما يرى القدّيس أغسطينوس أنّ الـ intellectus الرؤية بالفكر والقلب، هي آخر مقامة المعرفة، يقوم ديونيسيوس المنحول بخطوة أخرى: في الصعود نحو الله، يُمكننا الوصول إلى نقطة لا رؤية فيها للعقل. ولكن في ظلمة العقل، لا تزال المحبّة ترى. إنّها ترى ما يعجز العقل عن رؤيته. تتخطّى المحبّة العقل، إنّها ترى أكثر، وتدخل بعمق في سرّ الله. لقد فُتن القديس بونافنتورا بهذه الرؤية، التي كانت تتوافق مع روحانيّته الفرنسيسكانيّة. ففي ليل الصليب المظلم، تظهر عظمة المحبّة الإلهيّة كلّها؛ وحيث لا يعود العقل يرى، ترى المحبّة. قد تبدو الكلمات الختاميّة من “مسيرة العقل إلى الله”، في قراءة سطحيّة، تعبيرًا مبالغًا به عن تديّنٍم بدون مضمون؛ ولكن إذا ما قُرئت على ضوء لاهوت الصليب الخاصّ بالقدّيس بونافنتورا، فإنّها تبدو تعبيرًا واضحًا وواقعيًّا عن الروحانيّة الفرنسيسكانيّة: “إذا كنتَ تتوق الآن لمعرفة كيف يتمّ هذا (أي الشراكة الصوفيّة مع الله) فاسأل النعمة، لا العقيدة؛ الرغبة لا العقل؛ أنين الصلاة، لا دراسة الحرفية؛ … لا النور، بل النار التي تُضرم كل شيء وتقود إلى الله” (VII, 6). هذا كلّه ليس مناقضًا للفكر ولا للعقل: بل إنّه، فيما يفترض درب العقل، يسمو عليه في محبّة المسيح المصلوب. وبهذا التحويل الذي لروحانيّة ديونيسيوس المنحول، يضع القديس بونافنتورا نفسه في ريادة تيّارٍ صوفيّ عظيم رفع عاليّا العقل البشريّ ونقّاه. إنّها قمّة في تاريخ العقل البشريّ.

رغم لاهوت الصليب هذا، الناشئ عن اللقاء بين لاهوت ديونيسيوس المنحول والروحانيّة الفرنسيسكانيّة، علينا ألاّ ننسى أنّ القدّيس بونافنتورا يُشارك القدّيس فرنسيس الأسّيزي محبّته للخليقة، والفرح بجمال خلق الله. هنا، أذكر حول هذه النقطة جملة من الفصل الأوّل من “المسيرة”: “من لا يرى روائع المخلوقات التي لا تُحصى هو أعمى؛ ومن لا توقظه الأصوات العديدة هو أصمّ؛ ومن لا يُسبّح الله على كلّ هذه الروائع هو أبكم؛ ومن لا يرتفع أمام هذه الآيات الكثيرة إلى المبدأ الأوّل هو أحمق” (I, 15) . كلّ الخليقة تتحدّث بصوتٍ عالٍ عن الله، عن الله الصالح الجميل وعن محبّته.
إنّ حياتنا كلّها هي إذًا بالنسبة للقدّيس بونافنتورا “مسيرة”، مسيرة حج وصعود نحو الله. لكنّنا لا نستطيع الصعود نحو سموّ الله بقوانا الذاتيّة وحدها. يجب أن يساعدنا الله بنفسه، يجب أن “يرفعنا” إلى فوق. لذا فإنّ الصلاة ضروريّة. يقول القدّيس بونافنتورا إنّ الصلاة هي مصدر الارتقاء – “sursum actio”، فعلٌ يرفعنا إلى فوق. أختتم لذلك بالصلاة التي تبدأ بها مسيرته: “فلنصلِّ إذًا قائلين للربّ إلهنا: قُدني يا ربّ على دربك فأسير في حقيقتك. فليبتهج قلبي في مخافة اسمك” (I, 1).

البابا بندكتوس السادس عشر
تعليم الأربعاء 03-10-17 مارس (آذار) 2010

قد يعجبك ايضا
اترك رد