إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

مسيرة تلميذي عماوس (5)- الإيمان بالكلمة

0 984

(5) المرحلة الثالثة: الإيمان بكلمة الله 

النص الكتابي: يوحنا 4: 46- 54

يقول القديس أغسطينوس: “أنت أقرب إليَّ من نفسي”. فالله شَّكل صورته داخل كيان الإنسان، ومهمة الكنيسة إنها تُظهر هذه الصورة الموجودة وتجعلها واضحة حتى يستطيع الإنسان، في مسيرة حياته الإيمانية، أن يتشكل على مثال هذه الصورة في حياته العملية.

المعركة الحقيقية هي داخل قلب الإنسان، حيث الله، يكشف بنعمته، مدى بعد الشخص عن تلك الصورة متى تعلق قلبه بآلهة غريبة. في اللقاء السابق، فحصنا قلوبنا وحياتنا لنعرف درجة البعد عن تلك الصورة المحفورة داخل كياننا. إن نبذ تلك الآلهة المسيطرة هو الطريق إلى الوصول إلى تلك الصورة، إلى تشكيل حياتنا على مثالها، كما يقول المزمور 80: “لا يَكُنْ عِندَكَ إِلهٌ غَريب ولا تَسْجُدْ لإِلهٍ دَخيل لأَنَّي أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذي أَصعَدَكَ مِن أَرضِ مِصْر افْتَحْ فَمَكَ وَاسِعًا فَأَمْلأَهُ خَيْرًا” (مز 80: 10- 11).

” افْتَحْ فَمَكَ وَاسِعًا فَأَمْلأَهُ خَيْرًا”، إذا أردت أن تعيش ملء الحياة، إذا أردت أن تصل إلى تلك الصورة المحفورة داخلك، لا يكن عندك إلهٌ غريب ولا تسجد لإلهٍ دخيل، تحرر من الآلهة الكاذبة.

في مسيرتنا مع تلميذي عماوس، وصلنا إلى ضرورة تطهير حياتنا من الآلهة الكاذبة، من تلك الصور التي تملء مخيلتنا وتجعلنا نتعلق بها فتسرق منا الحياة. نتصور إنه في تحقيق هذه الصور تكمن سعادتنا، لكننا نكتشف إن تلك الآلهة التي نعبدها لا تحقق لنا شيء أبدًا.

في التأمل الشخصي اكتشفنا تلك الآلهة الخاضعين لها، والتي استبدلناها بالإله الحقيقي في حياتنا بالرغم من تكريسنا، من نذورنا التي تعاهدنا فيها أمام الله بأننا نتبعه في طاعة كاملة، وفقر جذري، وعفة وبتولية طاهرة. علينا أن نتخلص منها إذا إردنا أن نتبع يسوع بصورة حقيقية وجذرية.

إلا إن هذا ليس نهاية المطاف:

هناك أمرٌ أخر علينا أن نقوم به حتى نستطيع الغوص في المياه المقدسة. في هذه المرحلة تغمر المياه الجسم البشري حتى الحقويين، ولنا القرار، أن نغامر بالعوم، أن نثق في إن المياه سترفعنا كليًا، أم نعود إلى الشاطئ. هناك شيء ما يجب أن نثق به، شيء ما يحملنا كالمياه متى وثقنا به.

العمق الثالث: المياه إلى الحقوين (حزقيال 47: 4)

في المقطع الإنجيلي الذي سمعناه، يعود يسوع إلى الجليل، بالقرب من الناصرة. في كفر ناحوم، جاء إليه رجل من حاشية الملك. أي ملك؟ في محاكمة يسوع أرسله بيلاطس، بعد أن علم إنه من الجليل، إلى هيرودس الذي نزل إلى أورشليم في ذلك الوقت. أرسله إلى “رئيس الدول” في ذلك الوقت، إلى الحاكم. إلى حفيد هيرودس الأب الذي أمر بمذبحة الأطفال الأبرياء، في بيت لحم، وقت ميلاد المسيح. الحاكم هو هيرودس، والرجل الذي يطلب آية من يسوع، هو من حاشية هيرودس، أي رمز قوة الدولة والحاكم في ذلك الوقت. لدي الرجل ابن مريض بمرض عضال. مرض الابن مصدر قلق وحزن وألم لذلك الرجل. وفي وقت الألم الصعب هذا يلتقي الرجل بيسوع.

الرجل عسكري منضبط، واجه الكثير من المشكلات طوال حياته وخاض الكثير من المعارك، فهو رجل السلطة، لكنه اليوم أمام مشكلة لا يقوى على احتمالها. يكتشف أن الملك الأرض الذي يخدمه، سلطة هيرودوس، لا تستطيع أن تصنع له شيئًا في مشكلته الخاصة. يعيش لحظات، مثل تلك التي نعيشها في حياتنا الشخصية، لحظات نكتشف فيها أن الملك الذي يسيطر على حياتنا، الذي نعبده ونجله لا يستطيع أن يقدم لنا شيئًا.

فكل المال الذي ادخرته، وضحيت بالكثير من أجله جمعه، لا يفيد لأنك وسط اهتمامك بجمع المال لم تنتبه إلى فقدان حياتك الرهبانية، سوء علاقاتك مع الجماعة الرهبانية، لم تعد مصدر بركة للشعب الذي أئتمنك الرب عليه، منذ أن دعاك.

العلاقة العاطفية والجنسية التي تورطت فيها لأجل أن تكسر قيود الوحدة التي تشعر بها، لن تفيدك شيئًا فمازلت تشعر بالوحدة التي أصبحت أثقل وأصعب، هناك قلق مبهم وعدم رضى، وشعور قاسي بالضياع تحمله في قلبك.

السلطة التي بحثت عنها بكل الطرق، فتملق البعض وقمت بشويه صورة آخرين لأجل أن تصل إلى ما ترغب فيه، سيأتي وقت، وقت إلمٍ وتجربة، لن تفيدك سلطتك ومركزك الذي وصلت إليه. كرجل الملك!

توجه الرجل إلى يسوع طالبا منه أن ينزل قبل أن يموت ولده. أمام مرض الابن ليس هناك شيء أكثر أهمية، أمام مرض الابن اضمحلت في نظر الرجل كل السلطات التي يملكها والتي يمثلها كخادم وأمين سر الملك هيرودس.

عند الارتباط بالآلهة الكاذبة هناك شيء ما يمرض داخلك، شيء ما يُشرف على الموت .

سافر الرجل من كفرناحوم إلى الناصرة، في مسافة تقدر 32 كيلومتر، على قدميه ليرى يسوع، لقد أخبروه إن يسوع حول الماء خمرًا، صنع الكثير من المعجزات، لا بد إن لديه حل لمشكلة ابنه. يجري كالمجنون لهذه المسافة الطويلة ليتقابل مع يسوع. اتخيل رجل محطم، محبط، منهك القوى، يتوسل باكيًا. إلا أن يسوع يرفض القيام بمعجزة. المعجزات لا تفيد شيئًا في حياة الإيمان. إذا لم يتغير القلب لن يتغير شيئًا أبدًا.

ننتظر أحيانًا معجزات للتغلب على عبادة الآلهة في حياتنا والتخلص منها. ليس هناك معجزات، فقط تغير القلب، فقط أن نثق بكلمة الرب يسوع التي وجهها إلينا عندما دعانا إلى خدمته. لم يخطئ الله في اختيارنا، فهو عالم بضعفنا وهشاشتنا، ولن يغير رأيه أبدًا، فهو أمينٌ: “وإذا كُنا خائِنينَ بَقِيَ هوَ أمينًا لأنَّهُ لا يُمكنُ أنْ يُنكِرَ نَفسَهُ” (2 تيموثاوس 2: 13). المشكلة هي في تغير قلب الإنسان المتقلب والغير ثابت.

خاطبني يسوع يومًا قائلًا: “اتبعني“، هو يعلم ضعفي، لكنه يثق بي. يثق إني قادر على التخلص من الآلهة. المشكلة إني أنا الذي لا أثق فيه، لا أثق في كلمته!!

قال يسوع كلمة واحدة للرجل: هل تثق بي؟، هل تثق بكلمتي؟ “اَذهَبْ! اَبنُكَ حَيُّ”.

فآمَنَ الرَّجُلُ بِكلامِ يَسوعَ وذهَبَ إلى كَفْرناحومَ. (آية 50).

آمن الرجل بكلام يسوع وليس بالمعجزة أو الآية. لقد جاء ليسوع ليقنعه بأن ينزل معه إلى كفرناحوم ليشفى ابنه، إلا أن يعود إلى منزله وحيدًا، لكنه واثقًا في كلمة يسوع، قابلاً أن يعود أدراجه وليس لديه شيء سوى كلمة.

في مسيرة عودته، يتلاقي مع خدمه الذين يكررون ذات كلمة يسوع: “اَبنَكَ حيُّ”. إذا كان لديك طفلٌ مريضٌ وأوشك على الموت، ويُخبرك أخرين بأنه تعافى، فما هو أول سؤال يخطر على بالك؟ يسأل الرجل: “متى تَعافى؟”. يُظهر السؤال إن هناك شيء ما أكثر أهمية يبحث عنه الرجل، فالشفاء تم في ذات الوقت الذي نطق فيه يسوع بكلمته. فالشيء الأول الذي يكتشفه الرجل هي كلمة يسوع!! فهم الرجل إن القضية الأساسية هي الإيمان بكلمة يسوع، لقد نوه المسيح إن هناك طريق آخر، طلب أن يؤمن بكلمته ويقبلها: “هل تؤمن أنت بكلمتي؟”.

“فتَذكَّرَ الأبُ أنَّها السّاعةُ التي قالَ فيها يَسوعُ: «اَبنُكَ حيُّ«. فآمَنَ هوَ وجميعُ أهلِ بَيتِهِ” (الآية 53).

هل نؤمن دون علامات حسية؟ الفعل “يؤمن” يدل على الاستناد على شيء ما: “أَمِنْتُ فأَنا أَمِنٌ، وآمَنْتُ غيري من الأَمْن والأَمان. والأَمْنُ: ضدُّ الخوف. والأَمانةُ: ضدُّ الخِيانة. والإيمانُ: ضدُّ الكفر”. فالذي يؤمن يثق في الله ويعتمد على عنايته، فهو الذي يرعاه, هكذا يقول المزمور 124: ” المُتَوَكِّلونَ على الرّبِّ هُم كجبَلِ صِهيَونَ، لا يَتزعزَعُ بل يثبُتُ إلى الأبدِ”. فالمؤمن هو الذي يثق بثبات في عناية الرب له، غير متزعزع، غير متقلب.

انظروا مدي الغرابة فالرجل لديه مشكلة كبيرة، وهي مرض ابنه العضال، فيخرج من بيته في مسيرة طويلة لإيجاد حلٌ لمشكلته. فتعطى له “كلمة” فيؤمن بها، فيعود أدراجه واثقًا بها، فيصل إلى الإيمان الحقيقي. هو مثل أبرام الذي يتلقى كلمة: “سيكون لك ابنٌ“، فيقوم بمسيرة مع تلك الكلمة حتى يصل إلى الإيمان، بالرغم من التجربة القاسية التي تعرض لها ليتحرر من تعلقه بالابن. فالإيمان بالكلمة هو مفتاح الخلاص.

أمين سر الملك، يتلقى كلمة: ” ابنكَ حيٌّ”. القضية ليس في تقديم ذبائح، أو تحمل اماتات، هو الإيمان البسيط، وحفظه في القلب. هل تؤمن بي؟ هل تعتمد على كلمتي، تحفظها في قلبك وتعمل بها؟

خلق الله الكون كله بكلمة واحدة: “فليكن نورٌ فكان نور”؛ بكلمة واحدة غير يسوع حياة القائد الروماني بطريقة جذرية. فالكلمة تغير جذريا حياة الإنسان متى قبلها. تقبلت مريمُ كلمة، فتتحول في أحشائها إلى يسوع، ابن الله: “طوبى لَكِ، يا مَنْ آمَنتْ بأنَّ ما جاءَها مِنْ عِندِ الرَّبِّ سيَتِمُّ” (لوقا 1: 45).

طريق الخلاص غريب، تنتظر معجزات كبيرة، لكن الأمر بسيط للغاية: هي كلمة تصل إليك وتقبلها في قلبك. رجلٌ يعاني من مشكلة كبيرة، يعطيه يسوع كلمة، فيقبلها الرجل، ويحفظها في قلبه، ويبدأ مسيرة. هي مسيرة الإيمان، وهي واحدة للجميع. فكلمة واحدة لمست قلوبكم وتعمل على تغيير حياتكم. فكل شخص منكم لديه كلمة يؤمن بها.

في مسيرة الحياة، تدفعنا الخطيئة إلى نسيان الكلمة، أو التغاضي عنها، إلى فقدان حماسة الدعوة الأولى. سمعتم جميعًا في يوم ما، وفي ساعة محددة، تلك الكلمة “اتبعني”، هل مازلتم تؤمنون بها، أم تم اهمالها وسط انشغالات الرسالة والحياة.؟ قد تم اختيار يهوذا منذ اللحظة الأولى ليكون أحد الإثني عشر. يكتب الإنجيلي لوقا عنه عندما يُدرج اسمه في لائحة أسماء الرسل: “ويَهوذا الإِسخَرْيوطِيُّ الَّذي انقَلَبَ خائِنًا” (لوقا 6، 16). لذا فيهوذا لم يولد خائنًا ولم يكن خائنًا عندما اختاره يسوع ولكنه أصبح خائنًا!

إذا أمنت، فهذه الكلمة تحمل قوة داخلية خلاقة. قوة تجعل المكرس يتحمل أثقال كثيرة وآلام لا حصر لها. لأن يرتكز على صخرة، على جبال صهيون، فلا يتزعزع أبدًا. ليس هناك فضل للمكرس، ولا لقواه الشخصية ومواهبه الخاصة، بل للقوة التي تحملها الكلمة والوعد. كل شيء من خلال هذه الكلمة، وذلك الوعد. كم من المرات قد نسيتها؟ كم من المرات قد أجهضتها، تغاضيت عنها وأهملتها؟ إذا احتفظت بها في قلبك، سيُعطي لك ملء الحياة والسعادة الكاملة.

كالشخص الذي يرى حقلًا، الجميع يرى الحقل، لكنه وثق في “كلمة” قيلت له: “في هذا الحقل “كنزًا ثمينًا”، “فمَضى فباعَ كُلَ ما يَملِكُ واَشتَرى ذلِكَ الحَقلَ” (متى 13: 44). هذه هي الكلمة التي أُعطيت لك، وفي هذه الكلمة سرٌ الحياة. ففي هذه الكلمة حياتك وملئها.

في الإصحاح الثامن من إنجيل القديس يوحنا:

[43] لِماذا لا تَفهَمونَ ما أقولُهُ لكُم؟ لأنَّكُم لا تُطيقونَ أنْ تَستَمِعوا إلى كلامي.

[44] فأنتُم أولادُ أبـيكُم إبليسَ، وتُريدونَ أنْ تَتَّبِعوا رَغَباتِ أبـيكُم… هوَ يكذِبُ، والكَذِبُ في طَبعِهِ، لأنَّهُ كَذَّابٌ وأبو الكَذِبِ.

لماذا لا تبقي كلمتى داخلكم؟ لماذا لا تثقون فيما أقوله لكم؟ لماذا لا تختبروا كلمتى وتعملوا بها؟ لماذا يوجد صراع داخل قلوبنا؟

كلمة الرب لا تجد موضعًا، لأن قلوبنا مشغولة بكلمة أخرى، لأن هناك كلمة أخرى، قد زرعت في قلوبنا وأنبتت وأزهرت وضربت بجذورها في عمق كياننا.  بالعودة إلى يهوذا. أصبح يهوذا خائنًا بسبب سيطرة كلمة واحدة على تفكيره وتصرفاته: “الجشع“، لقد كان يهوذا مسؤولًا عن صندوق الجماعة، ولذلك اعترض في بيت عنيا عندما دهنت مريم قدميّ يسوع بطيب الناردين الغالي الثمن، وبهذا يكتب الإنجيلي يوحنا: لكن هذا لم يكن لاهتمامه بالفقراء، “بل لأَنَّه كانَ سارِقًا وكانَ صُندوقُ الدَّراهِمِ عِندَه، فَيختَلِسُ ما يُلقى فيه” (يوحنا 12، 6). وبهذا نفهم سؤاله لعظماء الكهنة: “ماذا تُعطوني وأَنا أُسلِمُه إِليكم؟ فَجَعلوا له ثَلاثينَ مِنَ الفِضَّة” (متى 26، 15).

شخص ما يريد أن يدخل، لكن هناك آخر يحتل مكانه، هناك “كلمة” أخرى تملء قلوبنا، هناك قناعات آخرى. يريد الرب أن يمنحنا إيمان قوي، لكن لدينا إيمان آخر. كلمة الرب هي نورٌ للطريق، لكن نستمد ما يضيء طريقنا من جمرة نار ملتهبة ستحرقنا في النهاية. تعيق تلك “الكلمة” الآخرى، بطريقة غير واعية، أن نسمع صوت الكلمة الحقيقية.

القضية هي أن تعرف ما هي “الكلمة” التي تشغل قلبك!! تلك الكلمة الكاذبة التي تؤمن بها بكل كيانك عوضًا عن الإيمان بكلمة يسوع المحيية. تُشكل تلك الكلمة كل قناعاتك، وكل إيمانك مستمد منها.

الكلمة الكاذبة

لكن ما هي تلك الكلمة الكاذبة التي تؤمن بها؟ هي خطيئتي الأصلية الخاصة بي، شيء ما أصبح أصلي وأساسي في حياتي، خطأ معين أصبحت أستمد منه كل شيء. من خلال هذه “الكلمة” التي تستوطنك أنت ترى الواقع، تسمع من خلالها كلام الناس، تتحكم تلك الكلمة في علاقتك بهم. تعمل هذه الكلمة كغيمة أمام عينيك فلا ترى شيء إلا من خلالها، ولا تسمع شيئًا ولا تفهم شيئًا ولا تتذوق شيئًا، إلا من خلالها. هي تحدد حياتك تمامًا.

ولكي نفهم المقصود بالكلمة الأخرى نعود إلى تلميذي عماوس: إنشغل قلب تلميذي عماوس بـ “كلمة” أخرى، أتصور إنها دخلت إلى قلبيهما بعد أن المهمة الرسولية التي عهدها إليهما يسوع في لوقا 10. في تلك المهمة رأى التلميذان عظمة الرسالة الموكلة إليهما، مع باقي الرسل السبعين: “يا رَبُّ، حتى الشَّياطينُ تَخضَعُ لنا باَسمِكَ”، سلطان عظيم أُعطي لنا، فكل شيء يخضع لنا، حتى الشياطين.

هناك البعض من المدعوين إلى الكهنوت يدفعهم أمرٌ أخر بخلاف خدمة الله والكنيسة. هناك دافع آخر وهو أن يكون “مركز” اهتمام الناس. إذا لم يلقى الشخص الاهتمام الكافي من العائلة، من والديه، كان مهمل تمامًا، فإن ما يدفعه إلى الخدمة الكهنوتية هي تلك الرغبة القوية المتأصلة بالنفس في أن يكون “مركز” اهتمام الناس. “الدافع” الذي يحركه هي دوافع “كلمة” آخرى كامنة ورغبة لم تحقق أبدًا “الرغبة في السلطة” وليس خدمة الله والكنيسة.

فلنقارن هذا النص بخاتمة العظة على الجبل، والتي فيها يحذر الرب يسوع من تلك “الكلمة” الأخرى التي يمكن أن تحتل قلب الإنسان: ” ليس كُلُّ مَنْ يقولُ لي: يا ربٌّ، يا ربٌّ! يدخُلُ مَلكوتَ السَّماواتِ، بل مَنْ يَعملُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ. سيَقولُ لي كثيرٌ مِنَ النّاسِ في يومِ الحِسابِ: يا ربٌّ، يا ربٌّ، أما باَسمِكَ نَطَقْنا بالنٌّبوءاتِ؟ وباَسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وباَسمِكَ عَمِلنا العجائبَ الكثيرةَ؟ فأقولُ لهُم: ما عَرَفتُكُم مرَّةً. اَبتَعِدوا عنَّي يا أشرارُ” (متى 7: 21- 23).

يأتي النص في سياق الدينونة الأخيرة، فمتى يكرر جملة: “يارب، يارب”, في مثل العذراى العشر والدينونة الأخيرة (متى 25: 11-15؛ 37- 44). نحن أمام لقب يُعطى للمسيح الممجد، الذي سيدين مَن عملوا “باسم” يسوع، وتتكرّر ثلاثة مرات لفظة “باسمك” قبل الفعل فتدلّ على نيّة واضحة. نحن أمام أشخاص يشعرون بشكل خاص أنه يُسمح لهم بأن يستعملوا اسم يسوع على مثال بطرس الذي اجترح معجزته الأولى “باسم يسوع الناصري” (أع 3: 6). إن الأعمال التي يعلن هؤلاء الناس أنهم عملوها هي معجزات حقيقية تجعلنا نتذكّر السلطات التي أعطاها يسوع للاثني عشر (10: 7- 8). عندئذٍ نفكّر أن الرب يشجب لا مواهبيين من أي نوع كانوا، بل تلاميذ ينعمون في الكنيسة بسلطة رسولية.

إن الكلمة التي أوردها لوقا في نهاية إرسال السبعين (أو: الاثني والسعبين) تلميذًا، تقدّم لنا تثبيتًا لما نقول (لو 10: 20): طردُ الشياطين ورؤية اسمنا مسجلًا في سفر الحياة هما شيئان مختلفان. سبب اختلافهما هو “الدافع”، أو “الكلمة” الحقيقية التي تُحرك الأفعال.

فرح تلميذي عماوس “بالسلطة” المعطاه، ولم يسمعا تحذير المسيح بأن الفرح الحقيقي في أن تكون أسمائهم مكتوبة في ملكوت السموات، أن ما يملء قلبهما هو الثقة في كلام الله، الذي يُزرع في القلب، فالذي يصغى إليه بإيمان ويثق به ينال الملكوت. انهارت أوهام السلطة في اخضاع كل شيء أمام عثرة الصليب، فلم يسوعبا إن الذي منحهم هذا “السلطان” على الأرواح، على صنع المعجزات يُعلق على الصليب دون مقاومة. أين إذن سلطانك، أين قوتك، أين جبروتك الذي منحتنا جزءً منه حتى إننا رأينا الشياطن يسقط مثل البرق أمامنا. لم تفيدهما “السلطة” في وقت التجربة، كما لم تفيد “السلطة” رجلُ الملك في وقت مرض ابنه.

لم يفهما إن المعيار هو الثقة في “كلمة” يسوع الذي أنبأ عن مسيرة آلامه وموته وقيامته بعد ثلاثة أيام.  لذا يوبخهم يسوع قائلا: “أما كانَ يَجبُ على المَسيحِ أنْ يُعانيَ هذِهِ الآلامَ، فيَدخُلَ في مَجدِهِ؟”.

هذا ما يوصيه القديس فرنسيس بقوله: “فَحَتَّى لَوْ مَلَكْتَ مِنَ النَّباهَةِ، وَالحكمَةِ ما مَكَّنَكَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ، وَمِنْ تَرْجَمَةِ كُلِّ لُغَةٍ، وَمِنَ الغَوْصِ في دَقـائِقِ الأُمورِ السَّماوِيَّةِ، لا شَيْءَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ يُعْطيكَ حَقَّ الاِفتِخار. فَشَيْطانٌ واحِدٌ قَدْ عَرَفَ مِنَ الأُمورِ السَّماوِيَّةِ، وَهوَ الآنَ يَعْرِفُ مِنَ الأُمورِ الأَرْضِيَّةِ، أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِفُ البَشَرُ أَجْمَعون؛ وكَذَلِكَ، لَوْ كُنْتَ الأَجْمَلَ، والأَغْنى بَيْنَ البَشَرِ، وحَتَّى لَوْ كُنْتَ تَصْنَعُ المُعْجِزاتِ الَّتي تَسْمَحُ لَكَ بِطَرْدِ الشَّياطينِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَنْقَلِبُ ضِدَّكَ، وَلَيْسَ لَكَ فيهِ شَأْنٌ، ولا يَحُقُّ لَكَ الاِفتِخـارُ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ.  ولَكِنْ، إِلَيْكُم ما نَسْتَطيعُ أَنْ نَفْتَخِرَ بِهِضُعْفُنا، وَحَمْلُنا، كُلَّ يَوْمٍ، صَليبَ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ المُقَدَّس (التوصيات 4- 8)

ضرورة فحص القلب للتعرف على الدافع الحقيقي

كيف لنا أن نفرق بين “الكلمة” الحقيقية و “الكلمة” الكاذبة. جميعًا نملك الكلمتين، لكن من أيهما تأتي دوافعنا؟ أفحص حياتك، وقم بمراجعة كل مرةٍ تعرضت لمشكلة كبيرة، خطيئة متكررة، ستجد إن هناك رابط واضح يجمع كلٍ مشاكلك. (من خلال رسالتي كمرشد روحي للبعض، لاحظت إن أحد الراهبات، تنتقد كثيرًا جماعتها الرهبانية ورؤسائها، مجمل شكواها من تصرفات الجماعة وتعلن إنها ترغب في تحسين الوضع لأن تحب الرهبنة وأخواتها. ثم أنتقلت إلى دير آخر، فكان الانتقادات كما هي، فالراهبة لديها مشكلة كبيرة في “التمركز حول الذات”. هناك دافع خفي، يأتي من “الكلمة” التي زرعتها بداخلها، هي لم تحب أحد قط، ولم تشعر بالحب يومًا. فالراهبة هي مكرسة “لكلمة” كاذبة، تحملها في قلبها دومًا). جميعًا لدينا خطيئة أصلية تُحدد وتتحكم في كل تصرفاتنا، علينا أن نتحرر منها.

ما هي “الكلمة” التي تحملها في قلبك وتُشكل الدافع كل تصرفاتك؟

ما هو الشيء الذي يسرق سلامة قلبك ونفسك، يمنعك من أن تشعر بالرضى. اِفحص قلبك وتّعَرف على ما به. فالخلاص كله يتعلق بالانتقال من الكلمة الكاذبة التي يزرعها إبليس داخلك، إلى الكلمة الحقيقية التي تؤدى إلى الملكوت.

 اِغلق الباب الذي تختبئ خلفه الخطيئة. في سفر التكوين، الإصحاح الرابع: فقالَ الرّبُّ لِقايينَ: “فالخطيّةُ رابِضةٌ بِالبابِ وهيَ تَتَلهَّفُ إليكَ، وعلَيكَ أنْ تسُودَ علَيها».

يقول الرب: احذر فهناك باب تدخل منه الخطيئة، عليك أن تسُودَ عليها ولا تفتح لها الباب. لكننا نفتح لها الباب، وأحيانا بطريقة لا واعية، تتكلم هذه “الكلمة” داخلنا، تدفعنا إلى التصرف وفقا لها.

علينا أن نتعلم فن الانتقال من “الكلمة” الكاذبة التي زرعها ابليس في القلب، إلى “الكلمة” المحيية التي يُعطيه إياه الله. يجب أن نتعلم كيفية العبور من هذه الكلمة الكاذبة إلى الثقة بالكلمة المحيية. أن نغلق الباب أمام الكلمة الكاذبة ونفتحه للكلمة الحقيقية المحيية.

في الرسالة الثانية إلى تيموثاوس نقرأ: “24فعَلى خادِمِ الرَّبِّ أنْ لا يكونَ مُشاجِرًا، بَل رَفيقًا بِجَميعِ الناسِ، أهلًا لِلتَّعليمِ صَبورًا، 25وديعًا في تأديبِ المُخالِفينَ، لعلَ الله يَهديهِم إلى التَّوبَةِ ومَعرِفَةِ الحَقِّ، 26فيَعودوا إلى وَعيِهِم إذا ما أفلَتوا مِنْ فَخِّ إبليسَ الذي أطبَقَ علَيهِم وجَعَلَهُم يُطيعونَ مَشيئَتَهُ.

ينصب إبليس فخًا للإنسان ويطبق عليه ويجعله يطيع مشيئته عندما يكون هناك الكبرياء، تمجيد الذات، الاعتقاد بأنه أفضل من الآخرين. ما هي الكلمة الكاذبة هي تلك الأفعال التي تثق إنها ضرورية لحياتك. فالإنسان لا يتصرف أبدًا بدون دافع، دون هدف.

قد يعجبك ايضا
اترك رد