خميس الأسرار 2016
قبلَ عيدِ الفِصح، كانَ يسوعُ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه عن هذا العالَمِ إِلى أَبيه، وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه” (يوحنا 13: 1)
نحتفل أخوتي الأحباء بخميس العهد المزدحم بالأحداث المتوالية من غسيل يسوع لأرجل تلاميذه، إلى الوصيةالجديدة التي تركها يسوع لتلاميذه: “أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”، إلى خيانة يهوذا وإنكار بطرس، إلى حزن يسوع في البستان الزيتون، إلى الوليمة الأخيرة ليسوع مع تلاميذه وتأسيسه لسري الكهنوت الإفخارستيا.
كل حدث يستحق أن نستفيض في شرحه، ولكن الوقت لن يسمح إلا أن أتكلم عن حدث واحد، فاخترت العشاء وسر الإفخارستيا، سر الأسرار، وأعظم معجزات يسوع، كما قال توما الأكويني: تفوق كل العجائب بطبيعتها (الله نفسه مادّتها) وتسمو على كل المعجزات بديمومتها (لا تتوقّف). هي التجسّد المستديم. ذبيحة يسوع الخالدة. العلّيقة المشتعلة فوق الهياكل. خبز الحياة والمن الحقيقي النازل من السماء.
ما هي حقيقة هذا السر العظيم وكيف نفهمه؟
دعونا ننظر ما حدث عن قرب. قال: ” اِشتَهَيتُ شَهْوَةً شديدةً أَن آكُلَ هذا الفِصْحَ مَعَكم قَبلَ أَن أَتأَلَّم”. ثمّ أخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا : هذا هو جسدي الذي يُبذل من أجلكم. إصنعوا هذا لذكري. وصنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكأسِ بَعدَ العَشاءِ فقال: «هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم”. (لوقا 22: 15- 19). ما معنى أن يعطينا يسوع جسده لنأكله. ماذا يعنى أن يصير الله خبزا؟
صار الله إنسانا، في ليلته الأخيرة على الأرض، كان أحب خاصته الذين في العالم، فعزم على أن يبقى حاضرًا معهم على مرّ الدهور، حاضرًا في كل بقعة من بقاع الأرض. استعمل خياله الإلهي المُبدع واخترع الإفخارستيا، سر القربان الأقدس، ليبقى مع كل إنسان إلى الأبد. ماذا يعنى هذا؟
ما هو الخبز؟ شيء يفقد خاصيته تمامًا فيصير أنت، يُهضم تمامًا ليصير أنزيمات تغذي كل عضلة وعضو في الجسد عن طريق الدم. ما هو الأهم: الذي يأكل أم الطعام؟ فالطعام، كما هو واضح، هو في خدمة الآكل، يفقد الطعام هويته الذاتية تمامًا لأجل أن يعطى كل شيء للآكل. فالطعام يصبح أنت “الآكل”. لا يوجد شيء في الحياة يُصبح نحن مثل الطعام. فالملابس هي ملكك والمنزل الذي تعيش فيه هو ملكك، لكنه يبقي دائمًا شيء منفصل عنك، لكن الطعام يفقد هويته تمامًا ليُصبح نحن، يُصبح جسدك وقوتك، يصبح حياتك.
الله هو المأكل الحقيقي للإنسان، نعتقد إن الإنسان ضعيف جدًا، الله يطلب منه مجموعة من الالتزامات الأخلاقية وفروض الطاعة. لكن الحقيقة إنه هو الذي يرغب في أن يعطي ذاته للإنسان. يتوسل إليك يسوع: أنا الخبز الحقيقي والمشرب الحقيقي، كُلّني. أتوسل إليك أن تأكلني، أتوسل إليك أن تغير فكرتك عني، فأنا لا أريد شيء منك، أنا أرغب في أن أكون معك، قوتك، حركتك، طاقاتك، أكون حياتك.
نخاف كثيرًا من الله لكن سر الإفخارستيا يقول لنا شيئًا مختلفًا تمامًا، شيئًا أكثر عمقًا. فلنغير أفكارنا عن الله التي ورثناها من آبائنا وثقافاتنا. هو فقط خبز، طعام، يُقدم ذاته في هذه الصورة المتواضعة جدًا، بسيط، شيء يفقد كل خواصه الذاتية، هويته، لأجلنا. الله قطعة خبز تستطيع أن تهضمها لتصير خاصتك. يقول لك يسوع لماذا تأكل أشياء قابلة للفناء، لماذا تخافني؟
في هذا المقطع الإنجيل يعلن يسوع عن سر تجسده بالكامل، فهو يخاطب الإنسان قائلا: “أرغب في أن أكون شيء واحد معك، أريد أن أكون خبزك اليومي، أقبلني أن أكون معك، داخل أنسجتك الحية، أترك نفسك لُتحب. فيسوع هو الخبز الحقيقي الذي يعطي ذاته للبشر، هو خادم البشر، لا يُخفيه بعد، فلا تخاف الله أبدًا. يسوع هو الخادم.