عيد القديس فرنسيس الأسيزي
نحتفل اليوم بعيد القديس فرنسيس الآسيزي، الذي وصفه الشاعر الإيطالي العظيم، دانتي أليغييري، بهذه الكلمات: “ولدت في العالم شمسٌ” في نشيد الحادي عشر من نشيد الفردوس. نال القديس فرنسيس جروحات المسيح الخمس في نهاية حياته واختبر حالات فائقة للطبيعة والقدرة على القيام بأمورٍ خارقة. هل لهذا السبب أُعلن فرنسيس قديسًا؟ ما هي القداسة؟ ومَن هو القديس. نظن أخوتي إن القديس هو إنسانٌ لا يخطأ، هو صاحب الخبرات الباطنية والقدرة على القيام بالمعجزات. مَن يُظهر قدرات لا يمتلكها الآخرين (كقراءة الأفكار ورؤية المستقبل وغيرها) نَّعده قديسًا.
في إطار احتفالنا اليوم نأمل في توضيح مفهوم القداسة من خلال حياة فرنسيس، ومِن روايةٌ واحدةٌ فقط.
كان فرنسيس فارسًا وفي أحد الأيام، وهو يتجول في الحقول على حصانه، خارج أسيزي، رأى رجل مسكين أبرص شنيع المنظر مقبلاً عليه. فكر فرنسيس في الهرب سريعًا خوفًا من الرجل وبشاعة منظره. مرض الجذام مرضٌ مخيفٌ ومرعب. أتذكر منذ سنوات طويلة، إني بعد أن تحدثتُ مع مجموعة من الشباب على محبة القريب، قمتُ بتنظيم رحلة لهم إلى قرية مرضى الجذام الموجودة في العامرية بالقرب من الإسكندرية. كان معسكر المرضى يضم أكثر من مئتين من المرضي، بعضهم في ظروف مرضية صعبة. أصاب القلق الشديد الشباب وتحاشى معظمهم الاقتراب من المرضى. طلت نظرات الخوف الشديد من عيونهم، بالرغم من محاولات طمأنتهم. كانوا على حقٍ! فالمرض ذو سمعة سيئة، هو وصمة عارٍ وكان يدل على عقوبة إلهية لذنب عظيم ارتكبه الشخص في حياته. كان مرضى الجذام في الشريعة اليهودية يعدون موتى، وفي القرون الوسطى كان المرضى بهذه المرض منبوذين، يعلقون أجراس تطن لتحذير الناس متى ساروا في الطرقات. وفي زمن الملك فيليب الرابع، ملك فرنسا، بعد سنوات من موت فرنسيس، تم جمع المرضى وحرقهم رغبة في استأصال المرض بشكل نهائي.
خاف فرنسيس من الرجل واشمئزت نفسه من بشاعة منظره. خاض فرنسيس في لحظات أهم معاركه، كان عليه أن يهزم خوفه واشمئزازه من الرجل. فنزل عن جواد، وتقدم نحو الأبرص وقبله. كان الرجل مهمشًا بعفل المرض، منفصل عن الجماعة، يعيش كميت، يعاني من عدم القبول، محروم من العلاقات الطبيعة مع الآخرين. والحياة دون علاقات مع آخرين هي موتٌ. شخصٌ مُقيد في سجن مرضه، لا يتمتع بالحرية مثل الآخرين، والحياة بدون حرية داخلية وخارجية ليست حياة، بل هي موتٌ. شخصٌ دون عائلة، يعيش كغريب ولاجئ هو ميتٌ في نظر الجميع.
تغلب فرنسيس على خوفه واشمئزازه وقَبِل الأبرص فأعاد له كرامته واحترامه. لم يَّعد منبوذا، مهمشًا، متروكًا، موضعًا للاشمئزاز والنفور. أعاد للأبرص حياته الاجتماعية وعلاقاته الإنسانية مع الآخرين. امتلك فرنسيس روح القداسة، قبل أن يكلمه مصلوب سان دميانو، فالقداسة ليست معجزات وقدرات خارقة، هي فقط المحبة المُعاشة بالكامل. “إن الله محبة، ومن ثبت بالمحبة فقد ثبت في الله وثبت الله فيه” (1 يوحنا 4: 16). من يعيش المحبة بالملء ترشده المحبة، يرشده الله في طريقه، لأن الله محبة. مَن عرف وعاش المحبة وثبت فيها يصبح قديس. فالله وحده القُدوس. لا ترتبط القداسة إذن بالإنسان، بل بالله القدوس، ولا تتوقف على الإنجازات الأخلاقية للإنسان أو على قدراته، بل على مجد الله ونعمته ودرجة ثبات الإنسان في محبته.
عاش فرنسيس المحبة تجاه الجميع، تجاه المختلفين معه في العقيدة، فأتي إلى مصر إلى دمياط، طالبًا السلام في وقت كان هناك صراعٌ محتدم بين الشرق والغرب وكراهية متبادلة. عاش فرنسيس المحبة تجاه المخلوقات والطبيعة والحيوانات. عاش في سلام مع الكون ودعى جميع الكائنات أخوة له، وأعادنا بذلك إلى زمن السلام المشيحاني الذي وصفه أشعيًا النبي: “فيَسكُنُ الذِّئبُ معَ الخروفِ، ويبيتُ النَّمرُ بجانِبِ الجدْي. ويَرعى العِجلُ والشِّبلُ معًا وصبيًّ صغيرٌ يسوقُهُما” (أشعيا 11: 6ي). أصبح الماءُ أخ والنار أختٌ للإنسان، حتى الموت فهو أخ. تصالح فرنسيس مع الجميع لأنه أحب الجميع، عاش المحبة بالكامل، أو ملء المحبة، لأنه سبق أن ثبتَ في إله المحبة وثبت فيه الله.
القداسة، كما يقول البابا فرنسيس، لا تُشترى ولا نكتسبها من خلال قوانا البشرية، هي مسيرة للامتلاء بالمحبة الإلهية. هي دعوة موجهة لنا جميعًا: (فإن الله) اَختارَنا فيهِ -أي في المسيح- قَبلَ إنشاءِ العالَمِ لِنكونَ عِندَهُ قِدِّيسينَ بِلا لَومِ في المَحبَّةِ،” (أفسس 1: 4). الله وحده القدوس، وأصبح فرنسيس قديسًا لأنه عاش المحبة بلا لوم وثبت في الله وثبت الله فيه. وهذه الدعوة موجهة لنا جميعًا.