إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

امتحان المعمدان

0 849

في عام 1992 حدثت زلزلة متوسطة في القاهرة، كنت وقتها بكنيسة سان جوزيف بوسط القاهرة التي تضررت بشدة من الزلزال. سقطت الكتلة الخرسانية التي تحمل الصليب من ذلك الارتفاع الشاهق فحطمت السلالم والبدروم. تضررت العمارات السكنية وسقط بعضها. خرج الجمع مذعورًا من المنازل إلى الشوارع التي لم تكن آمنة، أصيب الكثيرين في تلك اللحظات. لفت نظري وسط حالات الهرج والمرج والصراخ والعويل، أحد الأشخاص وهو يصرخ بالناس صائحًا: “توبوا أقتربت النهاية”! كان هذا مسيحيًا!

ما هي فكرتنا عن الله؟

يعتقد البعض إن الله ينتظر خطأ الإنسان ليحاسبه بشدةٍ وقسوة متى لم يتب عن خطيئته. جاء يوحنا المعمدان وطاف مدن اليهودية صارخًا في الشعب: “تُوبوا، لأنَّ مَلكوتَ السَّماوات اَقتربَ!” واستخدم لغة تحذيرية ليدفع الناس للتوبة: “ها هيَ الفأسُ على أُصولِ الشَّجَرِ. فكُلُّ شجَرَةٍ لا تُعطي ثَمرًا جيَّدًا تُقطَعُ وتُرمى في النّارِ” (متى 3: 10). الفأس جاهزةٌ للبتر والقطع، فالإنسان الذي لا يتوب ولا يؤتي ثمرًا جيدًا مصيره في نارٍ لا تطفئ. خطاب ديني يعتمد على الترهيب وبث روح الخوف من العقاب تدفع الشخص إلى تغير مسار حياته ويُعلن توبته عن أخطاءه. ثم يضيف المعمدان: “ويأخذُ مِذراتَه. بيدِهِ ويُنَقّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في مَخزَنِه ويَحرُقُ التَّبنَ بنارٍ لا تَنطَفئُ” (متى 3: 12). يأتي بيده المذرى، خشبةٌ ذات أطراف كالأصابع تُذرَّى بها الحنطة من القش.

كانت مفاجأة ليوحنا أن يرى يسوع يطوف القرى ليشفي المرضى ويُخفف أوجاع المتألمين، يجلس مع الخطأة ويأكل معهم، يغفر للمرأة الزانية، ويُخلص السامرية من حياة بائسة. لم يأتي مُرعبا، قاسيًا، مُعذبًا لمَن أخطأ، بل جاء ليُعطي الحياة: “أمَّا أنا فجِئْتُ لِتكونَ لهُمُ الحياةُ، بل مِلءُ الحياةِ” (يوحنا 10: 10).

هناك قسوة يتعامل بها الإنسان مع أخيه حيث تسود ثقافة اللاتسامح مع المخطئين، ويظن إن الله سيحكم على الجميع بنفس المعيار. مَرَّ المعمدان بامتحان صعب، كان عليه أن يتحرر من الفكر البشري ومعاييره الخاطئة ليعتنق فكر الله. أرسل يوحنا، وهو في السجن، تلاميذه ليسأل يسوع: “هلْ أنتَ هوَ الَّذي يَجيءُ، أو نَنتظرُ آخَرَ؟”. أجابه يسوع بأن فكر الله مُختلف عن فكر الإنسان، الله رحيم، حنان، لن يمسك بيده فأسٌ أو مذرى، لن يعاقب أو يحكم على أحد. أتى مخلصًا كما تنبأ عنه الأنبياء فذّكر يوحنا بعلامات مجيئه (شفاء العميان والعرج والبرص والصمّ، وإقامة الموتى، وتبشير الفقراء). لا يحكم الله على البشر، بل الإنسان هو الذي يحكم على نفسه (تطيس 3: 11). عَرف المعمدان فكر الله وعبر عن ذلك في ما ورد في إنجيل يوحنا: “لَه هوَ أنْ يزيدَ، ولي أنا أنْ أنقُصَ” (يوحنا 3: 30). التوبة الحقيقية إذن ليس في الامتناع عن الخطأ، لأن أعمال الإنسان لا تبرره دون النعمة، بل في قبول الله والتصاغر أمامه: “له أن يكبر ولي أن أصغر”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد