رفض يسوع للعذراء
في مشهد رائع من فيلم مريم الناصرية تذهب العذراء في رحلة للبحث عن يسوع الذي كان يجول بين القرى والنجوع مُعلنًا بشارة الملكوت. تجده أخيرًا في منزل سمعان الفريسي والجموع تحتشد وتتلف حوله في شكل دائرة. أرادت العذراء، التي كانت برفقة عائلتها، أن تدخل لترى يسوع فمنعها أحد الشباب الواقف لتنظيم الحشود ومنعها من الدخول بعد اِمتلاء منزل الفريسي بالجموع. طلبت عائلة يسوع من الشاب ابلاغه بأن أمه وعائلته يطلبونه في الخارج، دخل الشاب ليُخبر يسوع ودخلت خلفه مريم وعائلتها خلفه. نظر يسوع إلى أمه بحب كبير، ثم جال ببصره في الجموع من حوله قائلا: “مَنْ هيَ أُمّي ومَنْ هُم إخوَتي؟”، ثم أشار إلى إمراة عجوز وقال: “هذه هي أمي” وإلى شابة تجلس أمامه: “هذه هي أختي”، وإلى شاب آخر: “هذا هو أخي”، “مَنْ يَعمَلُ بمشيئةِ الله هوَ أخي وأُختي وأُمّي” (مرقس 3: 31- 35).
سيطرة نظرة حيرةٌ شديدة على وجه العذراء، وتقدم أحد أفراد عائلتها ليقودها إلى الخارج قائلا لها: “لقد تبرأ منك أمام الناس فماذا تنتظرين، لنعود إلى الديار”. هنا تحولت نظرة العذراء إلى نظرة يصعب وصفها، دلت النظرة على اضراب مشاعرها ثم لمعت عينيها بصورة تكشف توصلها إلى قرار نهائي جلب لها السلام والسكينة الداخلية. رفضت العذراء والخروج والعودة إلى الناصرة، فضلت أن تبقي مع يسوع بشكل جديد، ليست كأمه الجسدية، بل تلميذته قائلة “هو الآن ربي وإلهي”.
فهمت العذراء ما يقصده يسوع، لم يكن موقفه رفضًا لها، بل تأسيسًا لعلاقة جديدة. عندما جال يسوع بنظره وأشار إلى عائلته الجديدة كان يؤسس عائلةً جديدة لا تعتمد فيها العلاقات على رباط الدم والقرابة الأسرية، بل على أساس الملكوت الجديد المختلف تمامًا على الواقع البشري المعروف. انفصال يسوع عن علاقته الجسدية بالعذراء كأبن لها، لم يكن نبذًا للأم التي تحملت كل شيء في سبيله منذ لحظة الحَبَل به، وليس لعدم قبول عائلته لرسالته العلنية، لكن ليُعلن أن ملكوت الله قد حل الآن، والعلاقات التي تربط أفراد عائلة الملكوت علاقات مختلفة تقوم على الارتباط والاتحاد بالله وحده.
المعيار الأساسي لأسرة الملكوت الجديدة، ليست القرابة الجسدية، بل من يعمل بمشيئة الله: “مَنْ يَعمَلُ بمشيئةِ الله هوَ أخي وأُختي وأُمّي”. لقد وضح يسوع في تعاليمه وأمثلته معنى ملكوت الله، خاصة في العظة على الجبل، فملكوت الله هو عائلة واحدة يسودها السلام والعدالة: “عَامِلِ الناسَ بما تُحِبُّ أنْ يعامِلوكَ به”. ملكوت تسود فيه المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف والصلاح والأمانة والوداعة والعَفاف، وليس الحسد والعداوة والشقاق والغيرة والغضب والدنس والخصام والتحزب. ولا يكفي أن نعترف أن يسوع هو إلهنا، يجب أن نثبت حبنا له. ويخبرنا يسوع عن كيفية القيام بذلك: “إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاِحْفَظُوا وَصَايَايَ!” (يوحنا 14: 15). الارتباط بأسرة الملكوت يعنى أن نعيش الآن مثلما سوف نعيش في ملكوت الله المستقبلي.
ليست القرابة الجسدية هي الأساس بل شجاعة الإيمان، لذا كانت العذراء هي أول تلاميذ المسيح في ملكوته الجديد.