صدمة يونان
هوايتي الأولى هي قراءة الروايات الأدبية وتشدني كثيرًا الحبكة الدرامية التي يصنعها المؤلف ليصل بالقارئ من موقف لآخر حتى سطر النهاية. عندما قرأت نبوءة يونان للمرة الأولى شعرت إني أمام حبكة درامية مشوقة للغاية فكنت ألتهم السطور رغبةً في أن أصل إلى نهاية القصة. طلب الله من نبيٌ يدعى يونان الذهاب إلى مدينة نينوى، المدينة العظيمة، لدعوتها إلى التوبة بعد تعاظم الشر فيها. إلا إن يونان رفض وتوجّه إلى الجهة المُعاكسة، إلى أقصى الغرب، حيث ترشيش. لماذا رفض يونان الذهاب وعصيان الله: هل شعر بثقل المسئولية فخاف أن يذهب؟ أم اعتقدَ إنه لا فائدة من ذهابه إلى تلك المدينة، لأنهم شعبٌ وثنيَ شرير، لن يستمع لكلامه؟
هرب يونان فاستخدم الله قوة الطبيعة، البحر الهائج والحوت، ليُعيد يونان إلى صوابه ويُكمل ما أرسله من أجله. وصل يونان إلى المدينة العظيمة التي يلزم ثلاثة أيام لعبورها من شمالها إلى جنوبها. لكنه اختصر مسيرته ليوم واحد فقط مهددًا الشعب الذي صادفه في سفره القصير: “بعد أربعين يومًا تُدمَّرُ نينوى!”. غريب تصرف يونان، أنقذه الرب من تلاطم الأمواج الهادرة ومن أسنان الحوت، وبالرغم من ذلك لم يتعظ، لم يؤدي رسالته كاملة، لم يعظ كل الناس، ولم يبشر في كل المدينة. سافر فيها ليومٍ واحد فسمعه البعض من سكان المدينة، ولم تصل الرسالة إلى باقي سكانها.
هدّد يونان بأن المدينة ستدمَّر، واعتبر أنّ عليه أن ينتظر فقط أربعين يومًا ليرى الدمار الذي يرسله الله. ولكن مضت الأربعون يومًا، ولم يحدث شيء لنينوى، والسبب هو أنّ سكان المدينة تابوا إلى الربّ: نادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا، وصرخوا إلى الله بشدّة. وترجّوا أن يرجع الله ويندم. صعد يونان لمكانٍ عال لينظرَ مصير المدينة البائسة. كان الجو رطبًا ساخنًا جدًا، فنصبَ مظلة تحميه من قيظ الشمس الملتهب. أعد الرب خروعة نبتت بسرعة فارتفعت فوق يونان لتحميه من أذى الشمش الحارقة. لكن سرعان ما يبست الشجرة الوليدة فضربت الشمس رأس يونان فأُغمي عليه وطلب الموت لنفسه بعد أن غضب بشدة على الشجرة التي كانت له حماية من هذا الطقس الصعب.
في نهاية الرواية فيوضح الله ليونان لماذا غفر للوثنيين: “أشفقتَ أنتَ على اليقطينةِ الـتي لم تتعبْ فيها ولا ربَّيتَها، وإنمَّا طلَعَت في ليلةٍ ثُمَ هلَكَت في ليلةٍ أفلا أُشفِقُ أنا على نينَوى العظيمةِ الـتي فيها أكثرُ مِنْ مئةٍ وعشرينَ ألف نسْمةٍ لا يعرِفونَ يمينَهُم مِنْ شِمالِهِم، فَضلاً عَنْ بَهائِمَ كثيرةٍ؟ هنا نكتشف سبب رفض يونان الذهاب إلى نينوى في البداية. ليس خوفًا من المسئولية، أو إنه لا فائدة فالشعب فاسد وقاسي، لكن لأنه كان يعلم أنَّ الله يغفر. فلماذا يُتعب نفسه؟ هذا ما قاله للربّ بعد أن صفح عن نينوى، المدينة الخاطئة. “قُلتُ وأنا بَعدُ في بلادي إنَّكَ تفْعلُ مِثلَ هذا” (يون 4: 2). تأكّد يونان أنَّ الله كثير الرحمة ونادم على فعل الشّر. ولكنّه تردّد: ربّما سيعاقب هذه المدينة التي زرعت الأرض قتلاً ودمارًا! ولكنّ الله لم يتبدَّل: هو الاله “الحنون والرحوم والطويل البال”.
تعرى رواية يونان المؤمنين به اليوم عندما يظنون إنهم خيرٌ من آخرين يختلفون معهم في الإيمان أو العقيدة. لان رحمة الله هي لجميع البشر، هكذا يوضوح يشوع بن سيراخ: “رَحمَة الإِنسانِ لِقَريبه أَمَّا رَحمَةُ الرَّبِّ فلِكُلِّ ذي جَسَد” (سيراخ 18: 13). فرحمة الله للجميع، وليس لمجموعة محددة: “الرَّبُّ رؤوفٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة. لا على الدَّوامِ يُخاصِم ولا لِلأبَد يَحقِد لا على حَسَبِ خَطايانا عامَلَنا ولا على حَسَبِ آثامِنا كافَأنا. كما يَرأَفُ الأَبُ ببَنيه يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه لأنَّه عالِمٌ بِجِبلَتِنا وذاكِرٌ أَنَّنا تُراب” (مزمور 102: 8-10 و13-14)