إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

آلهة الشطرنج: أسياد الكون

0 1٬037

يعلن الكتاب المقدس بكل صراحة أنه يوجد إله واحد، وهو الذي خلق كل شيء آخر بداية من الملائكة في السماء حتى حبات الرمل على الشاطيء (تكوين 1: 1). عندما أعطى الله وصاياه للشعب كانت الوصية الأولى تحذر من عبادة الآلهة الأُخرى: أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ… لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي. لا تَصنَعْ لَكَ مَنْحوتاً ولا صورةَ شَيءٍ مِمَّا في السَّماءِ مِن فَوقُ، ولا مِمَّا في الأَرضِ من أَسفَلُ، ولا مِمَّا في المِياهِ مِن تَحتِ الأَرض. لا تَسجُدْ لَها ولا تَعبُدْها”.

مَن الإله؟ الإله، في اللغة “المعبود” الذي يؤمن الإنسان إن منه يستمد الحياة وهو سبب وعلة وجوده. وحده القادر على خلاصه ومساعدته والإعتناء به.

تقول الوصية بأن لا تصنع لك منحوتًا ولا صورة شيء مما في السماء أو الأرض. …”المنحوت هي مادة، كالخشب أو البرونز أو النحاس، تم نحتها وتشكيلها لتصبح على الهيئة المطلوبة. هي تمثال لشيء ما. يقول الرب لا تصنع لك منحوتًا، لا تصنع لك لشيء مادي، شيء ملموس. لا تصنع لك صورةً! لكن ما هي الصورة؟ المقصود بالصورة هنا هي التي تنطبع في ذهنك، شيئاً ما في عقلك، تحتفظ به ذاكرتك لشيء ما في السموات والأرض.

لماذا يطلب الله أن لا تصنع لك منحوتًا أو صورة لشيء ما في ذهنك؟ لأن مكان الله في حياة الإنسان لا يمكن استبداله بشيء أخر على الاطلاق.. لا منحوتاً من مادة من المواد، ولا صورة من الصورة لأي شيء كان. لذا يحذر الكتاب من عبادة الآلهة الكاذبة لأنه ليس هناك إله إلا الله الخالق: “أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلَهَ سِوَايَ” (إشعياء 45: 5)، “قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلَهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ” (إشعياء 43: 10).

يقول الرب: “لا تصنع منحوتاً أو صورة“، ويُكمل: “لا تسجد لهالا تعبدها“. الكلمة الأخيرة يجب أن تفهم بمعانا الحرفي تماما.. لا تكون عبداً لشيء مادي أو صورة من الصورة التي في ذهنك.

يصنع الإنسان إله كاذب يعتمد عليه عندما يضع في ذهنه صورة من الصور، فكرة من الأفكار، ويعتقد إنها وحدها القادرة على إعطائه الحياة. عندما يزرع إنسانٌ فكرة داخله فإنه يصنع صورة إله يتعبد إليها، إلى الدرجة التي يُصبح فيها غير متحكم في ذاته، فتفرض الفكرة إرادتها عليه، لا يري في حياته شيء سوى تحقيق تلك الفكرة المسيطرة عليه، يبذل الكثير من الجهد والتضحية بذاته وبالآخرين في سبيل الوصول إليها.

لنأخذ فكرة مثل فكرة العمل. العمل شيء جيد ورائع، يحقق الإنسان من خلاله ذاته وطموحه ويشارك الله في الخلق. لكن إذا كون شخص صورة في داخله مفداها: “حياتي ستتغير تمامًا عند حصولي على الوظيفة”، “سأكون سعيدا للغاية”، لأن حياتي بدون عمل هي دون قيمة. قيمة الحياة يحددها العمل. يبدأ الشخص في تكوين الفكرة والإيمان بها والسجود لها، فيخصص كل وقته للعمل، ويقدم ذبائح لأجل الوصول إلى هذا الهدف، بدءً من نفسه، مرورًا بعلاقاته مع أسرته، خاصة الزوجة والأطفال، وعلاقاته مع الآخرين. يخسر الشخص أسرة تشكو من غياب الآب، فلا يجالس أطفاله. يفكر فقط في تحقيق ذاته على حساب الآخرين من إجل إله “العمل” الذي يعتقد إنه يعطيه الحياة. لكن العمل لا يعطي الحياة.

ما هو إلهك اليوم؟ ما هو الشيء الذي تطلبه بكل جوارحك وترغب فيه بشدة؟ 

“الإنسان هو صانع للآلهة” كما يقول مارتن بوبر. فالإلهة هي تلك الأشياء التي تحتل مركز حياة الإنسان وتشغل تفكيره، الحقيقة ليس هناك ملحدين، ولا غير مؤمنين أبدًا، هناك مؤمنين بآلهة معتقدين إنها ستجلب لهم السعادة. هذا ما حدث مع الشعب في البرية، صنعوا عجلا مسبوكًا من ذهب.

إذا قرأت قصة العجل الذهبي، كما وردت في الإصحاح 32 من سفر الخروج، التي تظهر كقصة مضحكة، فالشعب ينتظر موسى، لا شيء يشغله، فجمعوا كل الحلي والأقراط الذهبية وسلموها إلى هارون الذي صنع عجلاً ووقفوا أمامه قائلين: “هذا هو إلهنا، العجل هو الحل”. رقصوا وفرحوا حول العجل، أكلوا وشربوا. لماذا؟

يأتي الحدث والشعب تاه في الصحراء لمدة ثلاثة شهور. تاه في مكان حيث لا ماء ولا طعام، ولا مكان يأوى إليه، لا يصادف أحد، إنه في عزلة تامة. الصحراء هي مكان الخوف وعدم الأمان، هناك شيء غير منتظر يمكن أن يحدث فجأة. شعر الشعب العبراني بخوف شديد وعدم أمان فلا طعام مؤكد، فالمن ينزل يوم بيوم، هو لا يضمن أبدًا أن ينزل في الغد. حالة قلق شديد عاشها الشعب، خاصة مع غياب القائد الذي كان يعطي الأمان، موسى في رحلته على الجبل للقاء الله.

في هذا المكان القفر بحث الشعب عن شيء ما يتعلق به، شيء ما يعتقد إن بإمكانه أن يمنحه الأمان، الغذاء، شيء ما يستمد منه الحياة. ذهبوا إلى هارون قائلين: “«قُمِ اَصنَعْ لنا آلِهَةً تسيرُ أمامَنا. فهذا الرَّجلُ موسى الذي أخرَجنا مِنْ أرضِ مِصْرَ لا نعرِفُ ماذا أصابَهُ». نريد أن نرى شيئًا محددًا ملموسًا يُشعرنا بالأمان وينقذنا من الخوف الذي يتملكنا. العمل يعطيني الأمان، شيء ملموس، يعطيني الحياة. لكن الحقيقة أنت الذي تعطي حياتك للعمل وليس العكس. أملك متجر يعطيني الحياة فهو يعمل جيدًا، وتنسى أنك أنت من يجعل المتجر يعمل جيدًا وليس العكس. أنا جميلة، أرى نظرات الاعجاب في عيون الآخرين، الحقيقة إنك صنعت إله وأصبحتِ عبدة له، عبدة لنظرات الآخرين، إذا لم ينظر إليك الآخرين فأنتِ غير موجودة، ستكتأبين وتشعرين بعدم الرغبة في الحياة. ماذا تفعلين عند اضمحلال مظاهر الجمال بفعل السن أو لظروف أخرى.

“فنزَعَ جميعُ الشَّعبِ حَلَقَ الذَّهَبِ التي في آذانِ نِسائِهِم وجاؤوا بِها إلى هرونَ. فأخذَها منْ أيديهِم وأذابَها وسَكبَها في صَنَمِ على صورَةِ عِجلٍ. فقالَ الشَّعبُ: «هذِهِ آلِهتُكُم يا بَني إِسرائيلَ، آلِهتُكُمُ التي أخرَجتْكُم مِنْ أرضِ مِصْرَ»”. لماذا أختاروا صورة العجل وليس أسدًا أو ذئبًا؟

الإجابة نجدها في رمزية العجل الدينية في الثقافات القديمة. كان العجل (أبيس) إلهًا للخصوبة والتفوق في النسل ورمزًا إلى القوة الجسدية في مصر القديمة. ظهرت روح الإله العظيم (بتاح) على الأرض على هيئة عجل، فهو رمز العبادة والتدين للإله مبدع الحياة. كان العجل يُمَثلْ دائمًا واضعًا قرص الشمس ما بين قرنيه دليل على المجد والعظمة. وأخيرًا صُنع من ذهب!

عبرَ الإنسان قديمًا عن إيمانه بالآلهة باستخدم الرموز. لذا فاختيار شعب إسرائيل للصورة العجل لم يكن صدفةً أو للتسلية، وإنما عبروا عن رغبته في استدعاء الآلهة التي عرفوها في مصر لحمايتهم في ظل الظروف الصعبة التي تحيط بهم، من غياب القائد، والخوف من هجمات وحوش الصحراء، والقلق اليومي من عدم توافر الماء والطعام والخوف من الفناء والموت في تلك البرية الموحشة.

استدعوا خمس آلهة من خلال صورة العجل وهي:

  • إله الجنس للتغلب على خوف الفناء والموت في البرية.
  • إله القوة التي تشعرهم بالأمان وعدم الخوف من هجمات الأعداء أو الوحوش في البرية.
  • إله المال الذي يؤمن كافة احتياجاتهم ويجعلهم يتمتعون بالخيرات المادية والثراء وعدم العوز.
  • إله المجد والشهرة فالشعب العبراني ليس أقل شائنًا من الشعوب المحيطة به، بل يتفوق عليها.
  • أخيرًا العبادة الزائفة تلك الآلهة: “فبكَّروا في الصَّباحِ وأصعَدوا مُحرقاتٍ وقدَّموا ذبائِحَ سلامَةٍ وجلسوا يأكلُونَ ويشرَبونَ، ثمَ قاموا يمرَحونَ”

تُعبر الآلهة عن رغبات البشر الدفينة لشيء ما يعوض النقص الذي يشعرون به. الرغبة في الأمان، الصحة، المال، الجنس، النسل، السعادة. الآلهة هي اسقاطات للصور والأفكار الناتجة من شعور الاحتياج والنقص لأمر ما.

عَبرَ الإنسان عن تلك الآلهة في كل شيء من حوله، في كل شيء صنعه نجد أثرًا للإيمان بالآلهة وطلب معونتها. في المعابد، في الأدب، في الفن، حتى في وسائل الترفيه واللعب. لنأخذ مثلا في لعبة الشطرنج، التي نجهل حقيقة كيفية نشأتها، فهي تصور خمس قطع، إلى الملك The King، فندهش إن كل قطعة حملت دلالة خاصة ورمز معين لإله من تلك الآلهة التي آمن بها البشر.

تعمل قطع الشطرنج بروح الفريق لحماية الملك والحفاظ عليه من هجمات الفريق الأخر. لكل قطعةٍ ثِقَل وقوة ودور خّير يتمثل في المحافظة على حياة الملك. هي بمثابة القوة الخّيرة التي أُعطيت للإنسان ليستخدمها لصالحه من أجل الحفاظ على حياته. كلٍ منّا هو الملك الذي وهبه الخالق تلك القدرات والمواهب والامكانيات ليحفظ حياته من هجمات العدو، التي متى عَرف كيف يوظفها كَسب حياته، ومتى فشل في توظيفها التوظيف الجيد دَمرت حياته وخَسرَ كل شيء.

  1. البيدق- Pawn (إله الجنس) 

أصغر القطع هي البيدق (عسكري المشاه)، وهي ترجمة متصرفة باللغة العربية للكلمة الإنجليزية Pawn التي تعنى رهن. تتحرك البيادق حركات بسيطة لتحمى الملك وتمنع قوة الشر من الاقتراب منه. أَما إذا رهنت البيادق وقتها لمتعتها الخاصة، للأفكار الأثيمة الخاصة بالجنس والإباحية، وانصرفت عن حماية الملك، فإن سيسقط سريعًا. فإذا استسلم ذهن الإنسان لخطايا الفكر فإن أمر إزالة التخيلات الذهنية الهائجة من الفكر أصعب كثيرًا من إزالتها من الفعل[1]: “لأنَّ مِنَ القَلبِ تَخرُجُ الأفكارُ الشَّرّيرةُ” (متى 15: 19). إن رهن الذهن للأفكار الشريرة فسوف يؤدى عجز الإنسان عن التخلص منها، رغم جميع المحاولات، إلى معاناة إنسانية كبيرة تتمثل في عدم الثقة بالنفس والشعور بالإحباط للفشل في الخروج من دائرة الفكر الشرير. يكتب الطبيب النفساني السويسري الفرنسي تشارلز بودوان Charles Baudouin ما يلي: “عندما يعاود انتباهنا إلى الوقوع أسير الأفكار هذا مرة بعد أخرى، فسوف يخيّل لنا أنه ليس بإمكاننا بعد الآن أن نصرف انتباهنا عن ذاك الشيء الذي علقنا به. أما الشيء التالي الذي سوف يحصل فهو أن هذه الفكرة تتجسّد إلى درجة ما بحيث لا نعتقد أنه في وسعنا التحرّر منها بعد الآن. فنرى هنا أن الإيحاء آخذ بالعمل. وعند هذه المرحلة لا يمكننا الآن في الحقيقة أن نفعل أي شيء لتحسين الوضع. لذلك نرى أننا قد قمنا شخصيا وبصورة لا إرادية تقريبا بصنع إيحاء العجز في داخل نفوسنا”.

على الإنسان إذن التحرر من الأفكار الأثيمة حتى لا يسقط في بئر إدمان التفكير الإيباحي والعادات الخاطئة والتفكير السلبي في الجسد. فالجسد مقدس، والمشاعر والأحاسيس واللذة ليسوا بالعار ولا موضوع خوف أو خجل. خلق الله الجسد على صورته ومثاله، يستحق الراحة والاستجمام واللهو والفرح والاعتناء والعاطفة والحب. فعندما تجسد الله وصارًا إنسانًا، صار في كل إنسان: “كنت جائعاً فأطعمتموني عطشاناً فسقيتموني… الله موجود في كل انسان وهو موجود في انا. العالم النفسي يونغ يشدد على هذه النقطة عند المسيحيين. اذا امنت بكل قدرتي ان الله موجود في كما هو موجود في كل انساناً تمكنت من ان احبب نفسي وان احبب الاخرين واستطيع بذلك ان اكون اسعد الناس لانني سأعي وجود الله في حياتي ويكون اساس كل لقاء مع كل انسان”. لنتذكر قول يسوع “كلما اجتمع إثنان باسمي أكون بينهم”. الله اصبح معنا وداخلنا عندما قبل أن يتجسد. فلينظر الإنسان إلى نفسه وللاخرين من خلال نظر الله لي ولكل ابناءه.

لذا على الإنسان أن يجتهد لاكتساب عفة الفكر والجسد، والتي تعنى التوازن العاطفي، وليس الامتناع عن الجنس، أي المشاعر العفيفة التي تساعد الإنسان وشريكه على تحقيق الذات. هي تنظيم الميول والغرائز والعواطف الجنسية لكي تفسح المجال لبنيان علاقة متوازنة مع الآخرين. فالحياة الجنسية عند الإنسان هي مجموعة من الغرائز الاندفاعية الجزئية، وليست غريزة جنسية غير مجزأة. بمعنى أن الإنسان ليس آلة إفراغ شحنات شهوانية، بل هو اندفاع لغرائز جزئية يمكن توجيهها واستغلالها في تحقيق الإشباع، حتى لو لم يكن هناك لقاء جنسي. العفة هي أن يمتنع عن أمتلاك الآخر وعن الذوبان فيه. هي أيضا عيش التوازن بين كل أبعادي الإنسانية وهي عيش التوازن بعلاقاتي مع نفسي، مع الاخر ومع الله.

  1. الرخ- Castle (إله المال)

القطعة الثانية من قطع الشطرنج هي الرخ-الطابية، وهي ترجمة متصرفة بالغة العربية للكلمة الإنجليزية  Castleالتي تعنى القلعة. تُشير القلعة إلى البناء الفخم الذي يُعبر عن الثراء. فالملوك قديما كانوا يبنون القلاع الضخمة التي تعبر عن مدى ثرائهم. تُشير القطعة إذن إلى سطوة إله المال. المال في ذاته شيء خّيِر ابتكره الإنسان لتسهيل المعاملات والتبادل التجاري مقارنة بأسلوب المقايضة التبادلي القديم القائم على تبادل السلع مباشرة. ويأتي معنى كلمة العملة من كلمة التعامل، ويقصد بها شكل المال الذي يتم التعامل التجاري به. يُعد المال هو أهم اختراعات البشر لتسهيل حياتهم ومعاملاتهم اليومية.

إن عالم اليوم تعتمد فيه الحياة على المال بشكل أساسي، الذي يُعد أكبر المشكلات التي يواجهها الإنسان فقيرًا أو غنيًا لأن كل شيء قائم الآن على المال.  يُشكل موضوع المال اليوم الشاغل الرئيسي لعقل أي إنسان بسيطاً كان أم ثرياً، فالبسيط يسعى لدّخل أفضل من المال لكي يحسن ظروفه الحياتيه، والثري يطمع لزيادة مدخولاته الربحية طمعاً في زيادته غنّى. إن هذه الغريزة الطامعة ليست خليقة الله الحسنة، بل هي وليدة ونتيجة للخطية. عندما حذر يسوع من محبة المال واصفاً إياه كسيد، لم يقصد المجتمع الذي كان يعيش به فقط، بل إنما الغريرة الإنسانية الطامعة والطامحة نحو الغنى المادي التي يرونها أساس السلطة.

عندما تطغو محبة المال على الإنسان تجعله عبدً لها، لذا حذر الرب من السقوط في عبادة المال: “لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدُمَ سَيَّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ أحدَهُما ويُحبَّ الآخَرَ، وإمّا أنْ يَتبعَ أحدَهُما ويَنبُذَ الآخَرَ. فأنتُم لا تَقدِرونَ أنْ تخدُموا الله والمالَ” (متى 6: 24). قد يتنازل الإنسان على أفضل الفرص في حياته للتقرب لله بسبب المال، كما في قصة الشاب الغني. فنرى الإنسان عندما يجعل المال أولوية في حياته قادراً على التضحية بعائلته وأولاده بقضاء الوقت معهم ليس فقط مع الله لأجل زياده ثرائه. بل وأيضاً قد يؤدي به الأمر لأرتكاب خطايا في حق قريبه الإنسان. فيمكننا أن نرى مثلاً واقعياً اليوم في حياتنا من خلال قادة المافيات ورؤساء شركات تصنيع وبيع الأسلحة الذين لا يفكرون بمدى الخطر الذين يلحقونه بالإنسانية جمعاء، بل بمدى الأرباح التي سوف يحققونها على حساب تلك الأرواح التي ستحصدها هذه الأسلحة.

يخدع المال الإنسان فيجعله يستغنى عن الله ويعتقد إن ما يحصل عليه هو وليد جهده فقط: “تَقولُ: أنا غَنِيًّ وأنا اَغتَنَيتُ فما أحتاجُ إلى شيءٍ. ولكِنَّكَ لا تَعرِفُ كَمْ أنتَ بائِسٌ مِسكينِ فَقيرٌ، عُريان وأعمى (رؤ 3: 14- 17). الغني الحقيقي هو من يؤمن بأن الله هو مصدر كل الخيرات، وإن ما يحصل عليه من مالٍ هو مال ظلم لأنه لا يملكه بل فقط مؤتمن عليه. في تفسيره لمثل قاضي الظلم (لوقا 16: 1- 13) يُشدد ذهبي الفم على هذا المعنى بقوله: “مال الظلم هو كل ملكية يعتقد الإنسان أنه سيّدها بينما هو يسلبها من مالكها الوحيد، الله. كل مدبّرٍ مؤتمن، وكيل، على إدارة هذا المال حين يُحوَّل نفسه إلى مالكٍ له يُصبح عندئذ سيداً على مال ظلم. وبالتالي يقول المسيح أننا بالحقيقة نصنع صدقاتنا من ماله هو، وليس من مالٍ لنا. لقد وهب الله الخيرات الحرة للجميع وقدم الخيرات الاقتصادية إلى الناس، وهي ملكه، ليُحسنوا توزيعها. حُسنُ التوزيع هذا يساعد على المحبة والنمو الأخلاقي. الخيرات المادية هي بمثابة “الوديعة” و”الوكالة” التي يؤتمن عليها الإنسان، وحسن توزيع الخيرات المادية هو الذي يُحدد ما إذا كان الله هو السيد أم المال في حياته. فإذا نظر إلى المال على إنه ملكية خاصة به جعل من المال إلهًا يتعبد إليه.

لكي لا يسقط الإنسان في عبودية المال عليه أولاً أن لا يقلق بشأن المال. لقد أفرد الرب يسوع جانب كبير من كلامه لتحذير من القلق بشأن الغد، فالقلق هو إيمان بالشيطان، كما نقرأ في المزمور 37. مما لا شك فيه إن اختيار عدم القلق بشأن المال لأمرٌ يحتاج إلى إيمان واثق في عناية الله، وقدرٌ من الإرادة والقوة التي تسمح للإنسان بالعمل الجاد في سبيل كسب قوته اليومي والاستثمار الجيد لوزناته وامكانياته التي تفيده في الحياة. يبقي المال دائمًا وسيلة للعيش الجيد والسعادة لكنه ليس السعادة في ذاتها.

  1. الوزير- Queen (إله التسلط)

ثالث قطع الشطرنج التي تسعى لحماية الملك هي الوزير، Queen. تُعبر القطعة عن دور الوزير في الحفاظ على حياة الملك، دور السلطة الخيرة والحكيمة التي تصل عند البعض إلى التسلط. السلطة في حد ذاتها هي ضرورة لإتخاذ القرار التي في صالح الملك، الإنسان، وتعمل على حفظ حياته. تتطلب السلطة مهارات خاصة من كفاءة وفكر وثقافة وقدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات السليمة في توقيتات مناسبة. أما التسلط فهو الاستفادة الكاملة من موقع السلطة والتجبر والأنانية واجبار من يقع تحت نطاق هذه السلطة على تنفيذ القرارات دون النقاش أو تبادل الآراء مما يتسبب في ضرر نفسي بالغ بالواقعين تحت نير المتسلط.

قد أظهرت الكثير من الدراسات أن الثقافة وأساليب التنشئة الاجتماعية تلعبان دورا أساسيا محوريا في تشكيل الشخصية المتسلطة. الشخص المتسلط هو شخص الذي يتمتع بقليل جدًا من المرونة في التعامل مع الآخرين، يتعامل معهم وكأنهم مسخرون لتلبية رغباته، ولا يعترف بحاجات الآخرين ورغباتهم ولا يحترم أحيانًا إنسانيتهم. كما أنها مستعدة لعمل أي شيء في سبيل أن تظل الأشياء تدور في فلكها وتحت سيطرتها. الشخصية المتسلطة ضعيفة في أعماقها تتستر خلف جمودها وسلطويتها من أجل قمع الآخرين. هي شخصية عاجزة عن النقاش المرن والديمقراطي وعاجزة على تقبل الآخرين وتقبل الحقائق كما هي.

إله التسلط هو إله قاسي على الآخرين الواقعين تحت سلطة الشخصية المتسلطة التي تسعى إلى إخضاع الآخرين له بصفة دائمة. يظهر التسلط في الأوامر الناهية والنقد غير البناء للآخرين والعتاب أو اللوم المستمر وعدم الاعتراف بإنجازات والتقليل من قيمتها وتبخيسها. الأمر الذي يفقد الآخرين الثقة بأنفسهم وبما يستطيعون إنجازه، وقد يصل بهم الأمر فقدان القدرة على المبادرة ويستسلمون ولا يعودون يقدمون الإنجازات والأفكار طالما أن نتيجة عملهم معروفة لهم مسبقاً، أي طالما يعرفون أن نتيجة عملهم لن تحقق لهم الاعتراف والنتيجة الاجتماعية والمادية المرغوبة. غالبًا ما يتصور الدكتاتور المتسلط بإنه هو المُلهم وإنه هو الإله.

صحِّح الربّ يسوع مفهومَ السلطة وغايتَها في الكنيسة والمجتمع والدولة. إنّها تضحيةٌ بالذات وخدمةٌ وتفانٍ في سبيل الخير العام. هذه الممارسة للسلطة مطلوبة بالدرجة الأولى من المسيحيِّين الذين دُعوا بحكم المعمودية للسَّير على خطى المسيح ولاعتماد نهجه، كما ذكره ليعقوب ويوحنا، وهو نهجُ بذلِ الذات في الخدمة العامة، فسمّاه “شربَ كأس الألم والاصطباغَ بمعمودية الدَّم”. وشجبَ الربُّ، في الوقت عينه، كلَّ استبداد وتسلّط في ممارسة السلطة: “تعلمون أنّ الذين يُعتبرون رؤساءَ الأمم يسودونها، وعظماء الشعوب يتسلّطون عليهم. أمّا أنتم فليس الأمرُ بينكم هكذا. بل من أرادَ أن يكونَ فيكم عظيماً، فليكن لكم خادماً” (مر10: 43). وقدّم ذاته المثالَ والقدوةَ لكلِّ صاحب سلطة: “إبن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدم ويبذل نفسه فداءً عن كثيرين”(مر10: 45).

  1. الفيل- Bishop (إله التدين الزائف)

القطعة الرابعة من قِطع الشطرنج هي قطعة الفيل وهي ترجمة غير دقيقة للكلمة الإنجليزية، Bishop، التي تعنى حرفيًا “أسقف”. يأتي الإله الرابع  ليعكس حال رجال الدين، والإنسان العادي عندما يُسيطر عليه التدين الظاهري. يسقط الإنسان تحت نير إله “التدين الظاهري أو الشكلي” عندما يعيش بإزدواجية، فهو مطالب بالظهور أمام الناس بصفته الدينية التي تعطيه هالة من الوقار يلاحظها في نظرات من حوله فتشبع غروره  و تشعره بالزهو، بل قد يحاكم الآخرين ويتهمهم بالتقصير في أداء واجباتهم الدينية ويضعهم فى مكانة أدنى من مكانته. ومن جهة أخرى،  حين ينفرد بنفسه، يجد أن الخطية أصبحت فعلا معاشا، يفعله فى الخفاء و يتلذذ به و لا يشعر بتبكيت للضمير لأن لديه قناعة زائفة بأنه يرضى الله من جهة أخرى.

ينبع التدين الشكلي المظهري من الخوف والشعور بالذنب، وغايته القصوى هي إعجاب وتقدير الناس من حوله.  وهو يستهلك كل طاقات المتدين للتخلص من هذا الشعور ولتحقيق تلك الغاية.  ولكي يتخلص المتدين من الشعور بالذنب فهو يقيم علاقة وثيقة بالفرض دون أدنى احتياج للعلاقة مع مَن وضع الفرض، أي يقيم علاقة قوية بالوصية في حد ذاتها، دون علاقة مع الله واضع الوصية. لذا يُشدد أصحاب التدين الزائف على أعمال تنفيذ الوصايا بطريقة جامدة دون أن يعيش جوهر المسيحية وهي محبة الجميع، بدءً من القريب ووصولاً إلى محبة الأعداء.

لقد حارب المسيح أصحاب التدين الشكلي، أولئك الذين يعبدون المظاهر الخارجية للدين دون جوهره: “الوَيلُ لكُم يا مُعَلَّمي الشَّريعةِ والفَرّيسيٌّونَ المُراؤونَ! تُعطُونَ العُشْرَ مِنَ النَعْنعِ والصَعتَرِ والكَمّونِ، ولكنَّـكُم تُهمِلونَ أهمَّ ما في الشَّريعةِ: العَدلَ والرَّحمةَ والصَّدقَ، وهذا ما كانَ يَجبُ علَيكُم أنْ تَعمَلوا بِه مِنْ دونِ أن تُهمِلوا ذاكَ” (متى 23: 23). وصفهم الرب يسوع بالقادة العميان لأن الفرد يتعود على مغايرة ما في القلب عما على الشفتين، فيخفي نيَّته الخبيثة تحت شعار المهاودة ويتمسّك بالشكلياّت وهذا ما ندعوه رياء. وليس الرياء الديني مجرد كذب، بل هو أيضا غش للغير بقصد كسب تقديره عن طريق ممارسات دينية لا تكون النيّة فيها بسيطة. فيبدو المرائي كأنه يعمل من أجل الله، في حين أنه يعمل في الواقع من أجل ذاته والاهتمام “بالظهور أمام الناس” كما جاء في تعليم السيد المسيح عن رياء المرائين “جَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم”(متى 23: 5)، فجاء تأنيب يسوع شديد اللهجة تجاههم ” أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نُبؤءتِه عَنكم إِذ قال: “هذا الشَّعْب يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي. إِنَّهُم بالباطِلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعلِّمونَ مِنَ المَذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيَّة”(متى 15: 7 -8).

  1. الفارس- Knight (إله الشهرة)

أخر قطع الشطرنج هي الفارس أو الحصان، وهي ترجمة للكلمة الإنجليزية Knight، وهي تدل على الرغبة الشديدة في الشهرة. فالفارس يتخطى كافة الموانع التي يجدها في طريقه في سبيل وصوله إلى هدفه. إلا إن هذه الرغبة الجامحة في تحقيق الذات يمكن أن تصل بالإنسان إلى توقٍ شديد إلى الشهرة، فيدور في فلك هذا الإله الذي يسيطر على كثيرين. الجميع يريد أن يحقق نوعًا من الشهرة، فالرغبة في الشهرة هي رغبة أصلية داخل النفس البشرية لأن يشعر إنه مهمًا، يحصل على مكانة عالية في عمله، أن يكون بارزًا في شيء ما. لكن هذه الرغبة الطبيعية لدى كل إنسان تتحول إلى رغبة مدمرة متى كان تحقيق الطموحات الشخصية يتم على حساب الآخرين قد تنطوي على جانب عدائي يتمثل بالرغبة في إبعاد المنافسين المحتملين وتدمير من يعتبرونهم ( أخوة أعداء) وكثيراً ماتختبئ هذه الشخصيات وراء قناع الانفتاح والمودة والتعاطف.

‏”الرغبة في الشهرة هي الرغبة في أن يموت المرء مكروها ولا يموت منسيا”، كما قال الفيلسوف إميل سيوران. أن الرغبة في الشهرة تُخفي وجود أحباط أو عجز، وأضطراب غير مُشخص، يضرب جذور في النفس البشرية ويعود إلى خلل ما في تقدير الذات، فيكون البحث عن الشهرة وسيلة لإثبات الذات. في فترة المراهقة تزيد حدة البحث عن الشهرة لدى الشبيبة كنتاج عن البطالة أو الفراغ أو سوء استخدام الوقت, كما أن الرغبة في الشهرة تشعر الإنسان بالحماية وبأن لديه مقاومة نفسية لكل التغييرات الجسدية والاجتماعية, وفي الوقت نفسه تمنحه الإحساس بالثقة والقوة وتدفعه إلى المضي قدماً.

يرد بعض الأطباء الرغبة الجامحة في تحقيق الشهرة إلى الحرمان من حنان الأم، لذلك يندرج حلم الشهرة في إطار عملية إعادة التأهيل العاطفي، وجدير بالذكر أن مجتمعنا مولع بالشهرة كما أن ثقافتنا المجتمعية تمجد المظاهر مايجعل الفرد دائم التخوف من نظرة الآخرين إليه، لذلك يرغب معظم الناس في تبني أشكال افتراضية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ليظهروا ليس كما هم على حقيقتهم إنما كما يحبون أن تكون حقيقتهم.

إن الطموح فضيلة تمنح مالكها الامكانية في تحقيق أهدافه في الحياة وتساعده على النجاح، لكن يجب الحذر من الجنوح في الطموح حتى السقوط في عبادة إله الشهرة الذي يرتبط بالنقص البشري. أظهر الرسول يوحنا يومًا، إنه يمتلك هذا النوع من الطموح. فقد كانت لديه رغبة جامحة في نيل مركز رفيع،‏ حتى انه تجرّأ هو وأخوه ان يطلبا من يسوع مركزا بارزا في الملكوت.‏ (‏مرقس ١٠:‏٣٧‏)‏ لكنّ موقف يوحنا تغيّر بعد فترة من الوقت.‏ ففي رسالته الثالثة،‏ انتقد بشدة ديوتريفس الذي كان «يحب ان يكون الأول».‏ (‏٣ يوحنا ٩،‏ ١٠‏)‏. لذا من الواجب الانتباه إلى طغيان هذا الإله وتشويهه لفضيلة طبيعية كالطموح البشري والرغبة في التمييز والنجاح.

[1] يشرح الأخصائي النفسي فيكتور كلين كيف يدمن الناس المحتوي الإباحي، يبدءون في البحث عن مواد أكثر إباحيةً وإثارة، ثم بعد ذلك أشياء أكثر شذوذاً حتى يلجئون في النهاية لممارسة كل ما قد شاهدوه. وهو يؤكد أن ”الذكريات التي تنتج عن خبرات حدثت في أوقات بها استثارة عاطفية (بما فيها الاستثارة الجنسية) تنطبع في العقل بواسطة أحد الهرمونات المصاحبة للأدرينال هو إبينيفرين، وهذه الذكريات من الصعب جداً إزالتها“ وهذا البحث يؤكد إلي حد كبير سهولة إدمان الإباحية. وبحث أخر يظهر أن ردود الأفعال البيوكيميائية والعصبية في الشخص المستثار جنسياً تطلق إبينينفرين هرمون الأدرينال في المخ، ولهذا فإن الإنسان يتذكر بمنتهي السهولة المشاهد الإباحية التي مرت عليه منذ سنين عديدة. ففي رد فعل للذة، تطلق نهايات الأعصاب مواد كيميائة تعزز رغبة الجسم في تكرار حدوث اللذة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد