إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المُكَّرسة في الكنيسة الكاثوليكية

1٬239

المقدمة

تهدف الدراسات التاريخية بشكلٍ عام إلى إعادة تصور الماضي كما وقع في محاولة لفهم الحادثة التاريخية وظروف نشأتها والأسباب التي أدت إليها. إلا إن تحديد الحادثة التاريخية بدقة شيء متعذرًا لطبيعة الحادثة نفسها، فهي ظاهرة فريدة تحدث مرة واحدة في زمانها ومكانها وظروفها، لا تتكرر ولا تعيد نفسها ولا تخضع للتجربة أو الملاحظة المباشرة. فكل ما نعرفه عنها هو مصدر غير مباشر و غير كامل نستخلصه من بقايا آثار مادية أو سجلات مكتوبة أو روايات شفوية، غالبا ما تكون عرضة للتلف أو الضياع أو التزوير، بحيث يتعذر معها تطبيق القياس أو التعداد أو التعميم. لذا فإن الحقيقة التاريخية هي نسبية لأن ما بين أيدينا من مخطوطات أو سجلات، بالرغم من آصالته ومعاصرته للأحداث، إلا إنه لا يمكن أن يُعيد الحادثة التاريخية التي وقعت في الماضي إلى الحياة، الأمر الذي تصبح معه الإحاطة بجميع أبعاد المعرفة التاريخية و التعرف على مختلف أسبابها و ظروفها و مظاهرها و جزئياتها شيئا جزئيا و أمرا نسبيا .

تنطبق تلك الملاحظة الأولية على ظاهرة الرهبنة وعلى تلك الأنماط المختلفة من الحياة المكرسة التي ظهرت عبر تاريخ الكنيسة الطويل. بالرغم من الوفرة في السجلات والمخطوطات والآثار المادية المتنوعة الدالة على كُّلِ شكلٍ من أشكال التكريس إلّا أنه لا يمكن للباحث أن يؤكدّ على فرضية معينة بأنها هي التي تُفسر الحادثة التاريخية للسبب السابق ذكره. وهناك سببٌ آخر يضاعف إشكالية الدراسة التاريخية لظاهرة الرهبنة وهي كونها علاقة تتعلق بالمطلق، بالله ذاته، وتناول خبرات روحية بين الإنسان وربه، وهو أمرٌ غير قابل للقياس في كثير من الأحوال.

إشكالية الدراسات التاريخية لظاهرة الرهبنة حددت إلى حدٍ كبير هدف هذه الدراسة، فَخُصص جانبها الأكبر للقراءة “اللاهوتية” للأشكال التاريخية الرئيسية للحياة المُكَرسة التي ظهرت في تاريخ الكنيسة مُنذ نشأتها إلى اليوم، دون أن نغفل أسباب نشأة تلك الأنماط من الحياة وتطور مظاهرها عبر الزمن.

سنتوقف عند ستة أشكال “رئيسية” للحياة المكرسة هي:

  1. الحياة الرهبانية (النسكية وحياة الشركة): بدءً من مجموعات العذارى والنساك الواردة في الأناجيل وشهادات آباء الكنيسة الأوائل، إلى ظهور الرهبنة الشرقية في القرن الرابع، بنوعيها الرهنبة التوحيدية وحياة الشركة. ثم انتشارها في آسيا الصغرى وفي الغرب حتى التجديد الرهباني في أوائل القرون الوسطى. عند التعرض لتطور الحياة الرهبانية عبر القرون العشرة الأولى في تاريخ الكنيسة سنتوقف عند أسباب انتشار هذه الظاهرة في ربوع العالم المسيحي. وسنعرضَ لأهم المصادر الأساسية التي تؤرخ للحياة الرهبانية كالأبوفثجماتا باتروم، هستوريا موناخورم، التاريخ اللاوذيكي لبلاديوس، متوقفين عند أهم الشخصيات المؤثرة في ذلك التاريخ الطويل مثل: أثناسيوس، أنطونيوس، باخوميوس، شنودة، باسيليوس الكبير، الآباء الكبادوكيّون، يوحنا كسيانوس، أغسطينوس، بندكتوس، منهين هذا الجزء من الدراسة بإصلاح دير كلوني Clony ودير سيتوCiteaux   .
  2. الأخوة المتسولون: أحدثّ ظهور القديسين: فرنسيس الأسيزي ودومينيك تطورًا ملحوظًا في الحياة المكرسة، ليسَ لأنهما أحيَّيا حياة التقشف الإنجيلي التام فقط، بل لإندماجهم مع المجتمعات التي يعيشون فيها واهتمامهم بالتثقيف اللاهوتي والفلسفي للرهبان (حلتّ الدراسة كأداة نسكية بدلاً من العمل اليدوي للرهبان)، وخاصة لتغيرهم شكل التسلسل القيادي داخل الجماعات الرهبانية فأسست للاختيار الحر بين الأخوة المتساوون، لفترات محدود، على عكس الأفكار الطبقية السائدة في المجتمعات أنذاك وكانت اللبّنة الأولى لتأسيس النظام الديمقراطي السائد الآن في الدول المختلفة.

لعّل أهّم التأثيرات التي تركها الأخوة المتسولون كانت الدمج بين الحياة الرهبانية والحياة الكهنوتية والتي ميّزت الأخوة الوعاظ (الدومنيكان) مُنذُ البداية ثم لحق بهم الأخوة الأصاغر (الفرنسيسكان). أعاد الأخوة المتسولون الحياة الإنجيلية للرسل الأوائل بإورشليم فاهتموا بالوعظ بكلمة الله، واقامة الأسرار المقدسة، خاصة سرّ التوبة والمرافقة الروحية للمؤمنين فأضحت حياة الكمال الإنجيلي ممكّنة ويمكن دمجها مع الحياة اليومية في المدّن الحديثة وشكلت معيار القيم للمجتمعات المتحضرة الوليدة.

سنتوقف مليّا في هذا الجزء أمام أزمات الكنيسة في تلك الحقبة والتي أدت إلى ظهور رهبنتي الفرنسيسكان والدومنيكان، متتبعين لنشأتهما وتطورهما والأزمات التي عصفت بهما، إلى انقسام العائلة الفرنسيسكانية إلى ثلاث أفرع رئيسية. كذلك لإزدهار الدومنيكان على يد معلم الكنيسة الأول القديس توما الأكويني.

  1. الرهبانيات التّأملية: حدث ازديادًا ملحوظًا في المؤسسات الرهبانية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر. لم يكن بعضها جديدًا، بل تحديثًا وتكييفًا لرهبانياتٍ قديمة كالرهبنة الأغسطينية، وأخرى استوحت من الإخوة التسوليين، الدومينيكان والفرنسيسكان، فلاقت انتشارًا واسعًا، ونالت تأييد الكرسي الرسولي. فدفع هذا الأمر المؤسسات التأملية إلى موقع الدفاع، فظهرت حركة تجديد في الحياة النسكية التأملية، فظهرت قامات رهبانية كبيرة قادت العودة مرة أخرى إلى المنهج الصوفي في التعبد. لعّل أهم الشخصيات كانت القديس كاترينا السيانية وقطبي الرهبنة الكرملية: القديس تريزا الأﭬـيلية والقديس يوحنا الصليبي.
  2. الكهنة القانونيون: حَمِلَ ظهور القديس أغناطيوس دي ليولا وتأسيس جمعية يسوع تطورًا جديدًا للحياة المكرسة والذي تمثل في اِعطاء شكلاً مختلفًا لرجال الإكليروس القانونيون واهتمامه بحقل الإرساليات وتبشير البلاد النائية. ثم تلى ذلك ظهور جماعات مختلفة للكهنة، دون زي خاص، منطلقين للبشارة في نواحي المعمورة مهتمين ببناء الإنسان وتربيته وتثقيفه وحالته الصحية.
  3. الرهبانيات الخدمية: أتاحت النهضة الثقافية في أوربا حرية للمرأة للتعبير عن أفكارها ورغباتها فظهرت بذلك العديد من النساء اللواتي كان لهنَّ تأثيرًا واضحًا فى استقلال أديرة النساء عن أديرة الرجال، وأسّسنَّ أنماطا خاصة بهنَّ بمعزل عن أديرة وقوانيين الرجال. اهتمت تلك الأنطمة بالجانب الخدمي كالراهبات الأرسوليات وأنجيلا دي ميرتشي ماري ورد ولويزا دي مارياك وبنات المحبة اللواتي قدمّنَّ حياةً مسيحية حقيقية وسط العالم. ذهبنَّ حيثما يوجد الفقراء وتعليمهم، وبحثنَّ بأنفسهم عن حياة أفضل للفتيات وتمكين المرأة، وأقمنَّ فى منازل مؤجرة وسط الفقراء وكنَّ يذهبنَّ إلى أقرب كنيسة ويكرسنَّ وقتُهنَّ لخدمة الفقراء والمحتاجين.
  4. العلمانيون المكرسون: ظهر في القرن العشرين الكثير من الأخويات التي عمدت على الحضور الخفى والبسيط في بلدان الرسالات وفي وسط الشعوب الغير مؤمنة بهدف تقديس العالم على مثال حياة يسوع الخفية في الناصرة. ظهر بهذا نمطٌ جديدٌ من الحياة التأملية: الحياة التأملية المُعاشة في العالم، التي تستعمل الصمت وسيلةً للتأثير، والحضور طريقة التواصل، والفقر شهادةً على الحب الأخوي للفقير.

أدى إنغماس الأخويات وسط العالم إلى ظهور الحركات العلمانية كحركة العمل الكاثوليكي والشبيبة العاملة المسيحية وغيرها من المنظمات العلمانية التي عملت على تقديس الحياة اليومية المعتادة للإنسان المسيحي. تنوعت المؤسسات العلمانية ما بين نمط العذارى المكرسات، إلى جماعات إيمان ونور؛ وسان إيجديو؛ الفوكلارى؛ الموعوظين الجدد؛ الكلمة المتجسدة، وصولاً إلى المؤسسات العلمانية الإكليريكية.

وبالرغم من التنوع الكبير لهذه الأشكال الرئيسية إلا جميعها نتاج علاقة روحية وشخصية للإنسان مع الله التي من خلالها يدعوه لتقديس نفسه وتقديس الآخرين والبشرية جمعاء، لأن الله “يُريدُ أنْ يَخلُصَ جميعُ الناسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقِّ” (1تيموثاوس 2: 4)، ليّصيرَ “لِلناسِ كُلِّهم كُلَ شيءٍ لأُخلِّصَ بَعضَهُم بِكُلِّ وسيلَةٍ” (1 كورنثوس 9: 22). فكل شكلٍ من أشكال التكريس يكشفَ عن سرّ الله الذي الذي مّسَ قلوب العديد من الرجال والنساء عبر تاريخ الكنيسة. كشف هؤلاء المكرسون عن دعوة الله للحياة الجديدة. فلبوا نداءَ الله واندفعوا إلى الصحراء وأسسوا لمجتمعات الحياة الجديدة في المسيح يسوع.

وقبل أن نتناول كل شكلٍ من تلك الأشكال الرئيسية للحياة المكرسة عبر تاريخها الطويل علينا أن نبدأ بالتعريفات وبالإجابة على الأسئلة التالية: هل الرهبنة هي ظاهرة مسيحية؟ وما المقصود بظاهرة الرهبنة؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.