الحياة العاطفية (1)
الحياة العاطفية
نقطة انطلاق ضرورية عند تناول الحياة العاطفية هي سر التجسد وكيف نفهمه اليوم؟ أن نفهم عن سر ارسال الآب، ضابط كل شيء وخالق السماء والأرض، ابنه الوحيد إلى العالم ليُصبح إنسانًا، أي ليتجسد فيدخل ضمن تاريخ البشريّة ومن سلالة بشرية (لنتأمل بسلالة يسوع التي تتضمّن ملوك وخطأة ويهود وغير يهود… لقد التحم بالإنسانيّة دون تمييز). فبواسطة الروح القدس واتخذ جسمًا من امرأة اسمها مريم وهي عذراء.
هكذا نحن نعترف بيسوع المسيح ابن الله الذي اتخذ انسانيتنا بكليتها ما عدا الخطيئة، بل تجسّد لأجلنا لكي يخلصنا من خطايانا ويجعل منا أبناء وبنات لأبيه بالتبني، أخوة وأخوات له وهياكل لروحه القدوس. الله الكلي القدرة بذاته تجسد ليصير انسانًا بيننا وعاش في الناصرة فدعي اسمه يسوع الناصري منذ هذه اللحظة تبنى الله بشريتنا وهذا التبني لم يحدث مرة في التاريخ وحسب وإنتهى الحدث مع صعود يسوع المسيح بعد القيامة بل بقي هذا اللقاء بين الله والانسان حقيقي وحاضر حتى اليوم وداخل البشرية بأجمعها وبنفس الوقت داخل كل انسان. فالله صار انساناً وما زال يعيش مع وفي الانسان والانسان مدعو ليعيش فيه.
أراد الله أن يصير إنسانًا ليجعل الإنسان ابن الله، فيتمكن من أن يدخل بعلاقة حقيقية معه انطلاقًا من حقيقته الإنسانية. أصبح “عمانوئيل”، الهنا معنا سمح لنا أن نتعرف على حقيقته وأن نفكر بها وأن ندخل بعلاقة معه وبنفس الوقت أن نفكر هذه العلاقة.
نتيجة التجسد على حياتي الإنسانية
تبنى الله أبعاد الإنسان كلها فلمس المسيح بتجسده انسانيتي كلها في عمقها ووحدها وقدسها، بل “ألهها”. لقد تانسن الله ليطبع كل بعد من ابعادي بالوهيته. لقد أعطاني الله القدرة على توحيد أبعادي المختلفة وأن أصبح إنسانًا موحدًا وغير متناقض، فلم تعد حياتي الروحية متناقضة مع وجودي الجسدي والمادي. مشاعري وشهواتي ورغباتي ليست منفصلة عن كياني الانساني. هي جزء مني رغم انها ليست كل كياني الانساني فهذا الاخير يتخطاها ليشمل باقي الابعاد الفكرية والنفسية والروحية. اذا كان المسيح قد تجسد فلكي يقول لي ان جسدك ومشاعرك واحاسيسك وشهواتك ليسوا بالعار ولا موضوع خوف او خجل. والله خلق لي جسد وهو يستحق الراحة والاستجمام واللهو والفرح والاعتناء وخاصة العاطفة والحب. هذا “الأنا المتجسد” محتاج الي ان يشعر انه محبوب وانه قادر ان يحب بواسطة التعبير الجسدي ايضاً.
ما هو الجسد؟
ظاهريا وككل الأشياء الجسد محدود، يمكن أن يوصف كيميائيا وبيولوجيا.. لكن أهم ما يميزه هو الجلد الذي يُعد الكيس الذي يحتويني بالداخل. هذا الكيس يعزل الجسد مع كل ما ليس أنا. هذا التباين الرائع يكمن في كوني منغلق على جسدي وهو أيضا يوصلني بالآخر. جسدي هو تاريخي في حد ذاته، مسجل فيه كل حياتي. هو حضوري في العالم وخارج جسدي لا وجود لي في العالم.. فما هو الجسد إذن؟
الجسد هو وحدة حية مركبة من أعضاء مختلفة (رأس، يدان، رجلان…) ومن عناصر متعددة (دم، شعر، عظام، شرايين…) تجتمع كلها لتعطى الإنسان شكلاً خارجياً يحمل بعض الخصوصيات نسبة إلى اختلاف الأماكن والبيئات، الجسد هو الوجه الظاهري للإنسان وله ميزتان: عامة وخاصة، فالميزة العامة تعود إلى الطبيعة البشرية، إذ أن لكل إنسان جسد، أما الميزة الخاصة فتعود إلى كل فرد إذ أن لكل إنسان جسده الذي يتعلق به وهو مسئول عنه مباشرة.
يمتاز الجسد بأنه يستطيع أن يعبر عن حالة الإنسان الباطنية والداخلية، فما يعيشه الإنسان في تفكيره وفي شعوره وفي نواياه يسعى إلى إظهاره في الخارج بواسطة جسده… فيمتاز الجسد بالحركة، فهي طريق الحياة، وحركة الجسد هي في خدمة حياة الإنسان مثل: حركة الأكل تهدف إلى تغذية جسد الإنسان والاستمرار في الحياة، مثل آخر: الرياضة البدنية تهدف إلى ترويض الجسد وتشجيع النشاط، فكل وظائف الجسد تتصل بحياة الإنسان وتخدمها، لذلك فهي ليست محدودة بحركاتها الخارجية، بل تجد معناها الحقيقي بالعودة إلى مجمل حياة الإنسان في كافة جوانبها.
يُعد الجنس هو أسمى تعبير، بل هو لغة الجسد الأساسية التي تُعبر عن الإنسان ككل، تعبر عن نوعه، عن شخصته الفريدة ورسالته في الحياة. هو بخلاف الحيوانات التي يكون فيها الجنس نتاج غريزي للهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء فتحدد سلوك الحيوان الجنسي من خلال تأثيرها على الجهاز العصبي. أما في الإنسان فالوضع مختلف تمامًا، فتحدد العوامل النفسية والاجتماعية والقناعات البشرية السلوك الجنسي له. الحاجة الجنسية عند الحيوان في حالة رقاد ولا تظهر إلا بعوامل عضوية، أما عند الإنسان فلا وجود لإيقاع عضوي يُقنن النشاط الجنسي، ذلك لأن عوامل نفسية تلعب دوراً أساسياً لإثارة الغريزة الجنسية أو تهدئتها. كما إن استئصال الغدد الجنسية بعد البلوغ يزيل الغريزة الجنسية عند الحيوان ولكنه لا يزيلها عند الإنسان.
الإثارة الجنسية لدي الإنسان ترتبط دائما بتوجه نفسي يتم بصورة واعية أو غير واعية، يلعب فيها الخيال دوراً أساسياً. هذا ما بينه مثلا فرانسوا دويكارتس، أستاذ علم النفس في جامعة لياج، إذ يقول: ” يستطيع الخيال وحده أن يثير رغبات جديدة، حتى بعد علاقات جنسية موفقة”. ويستنتج أن: “الحساسية الجنسية عند الرجل والمرأة أكثر ديمومة مما هي عند الحيوان، أقل خضوعاً للإيقاعات الهورمونية”. ولهذا نجد أن الحساسية الجنسية غير مرتبطة حتى بالسن، فكثير من الشيوخ يفوقون الشباب حرارة في علاقاتهم الغرامية بسبب الخيال وحده. ونعلم اليوم أن معظم حالات العجز الجنسي والبرودة الجنسية “نفسية” وأن ظهور الرغبة وقوتها مرتبطان بأفكار ومشاعر الفرد على الأقل بمقدار ارتباطها بالعمليات الفيزيائية والكيميائية التي تجري في جسده. يرتبط الجنس إذن بالحياة العاطفية التي تدفع مشاعره وفكره نحو اللقاء بآخر.
ما هي الطاقة الجنسية:
الطاقة الجنسية هي طاقة اتحادية. فالإنسان هو ذلك الكائن الذي يسعى إلى إقامة شركة مع الآخرين لأنه يحس بأنه يكتمل ولا يحقق ذاته إلا بهذه الشركة. الطاقة الجنسية هي لغة البشر للتواصل والإتحاد. الغريزة الجنسية هي أن تدفع الكائن بكليته نحو الآخر في اتصال صميمي بالآخر. فالجنس ليس وظيفة بيولوجية فقط لأنه يقيم علاقة مع الآخر، وبالتالي حركة ذات معنى، به ومن خلاله يتوجه الإنسان إلى آخر، ويقيم علاقة عاطفية معه، ويحدث تقارب لا ينتهي بين كائنين. هذا ما نقرأه في سفر التكوين: “فيصيرا جسدا واحدا”.
الغريزة العادية هي حاجة إلى شيء، فإذا استُهلك هذا الشيء زال التوتر ورقدت الحاجة إلى حين. فالحاجة إلى الطعام تزول باستهلاك الطعام، كذلك الحاجة إلى الشراب، أما الجنس فهو سعي إلى شخص ويكون الاتحاد بين شخص وشخص وليس بين شخص وشيء، والشخص لا يسُتهلك وألا أصبح شيئا، إنما يُلاقي، يُتصل به. الغريزة العادية لا تقيم وزنا للشيء، وتتخذه وسيلة لإزالة التوتر، إنما طاقة الجنس هي اتحادية بين شخصين، يتطلب القيام بها قرار شخصي من الطرفين، دون أن يذوب أحدهما في الآخر.
إنها حركة تدفع الفرد للقاء الآخر: فالنزعة الجنسية الإنسانية لا تهدف إلى إزالة توتر عضوي وحسب. أن مجرد إثارة الفرد لأعضائه التناسلية الخاصة تكفي للحصول على انفراج عضوي ولكنه يترك في الإنسان شعوراً بعدم الارتياح. ذلك لأن الجنس يبغي ما هو أبعد من زوال التوتر العضوي، إنه يبغى الاتصال بالآخر، كما تشير عبارة “جماع” التي تستعملها اللغة للإشارة إلى العمل الجنسي. الإنسان يشكو من العزلة وهو يسعى من خلال سلوكه الجنسي، ولو لم يع ذلك، إلى إزالة تلك العزلة بإتحاد كامل بكائن آخر “يكمل به نقصه”، كائن يكون على صورته لكي يتاح له الاندماج به، ويكون مختلفا عنه، من حيث انه آخر ومن حيث أنه من الجنس الآخر. هذا ما صورته رمزيا تلك الأسطورة التي رواها افلاطون، أسطورة الاندروجين (الذكر- أنثي) والتي بمقتضاها كان في الأساس كائنات تجمع في جسد واحد أعضاء الذكر والأنثى إلا إن غضب الآلهة شطرها إلى شطرين، ومنذ ذلك الحين أصبح كل شطر يتوق إلى اللقاء بالشطر الآخر ليعيد معه الكيان الواحد الأصيل. وهذا ما نجده في سفر التكوين؛ الذي يقدم صورة بليغة عن العلاقة الوثيقة التي تشدّ الرجل والمرأة، فكل مهما متجه بطبيعته إلى الآخر لأنه ناقص بدونه، يحّن إلى الاكتمال به، حتى إذا اتحد به يؤلف واياه “جسداً واحداً”، أي وإياه يؤلف كياناً بشرياً حياً واحداً.
تدفع الطاقة الجنسية الرجل والمرأة إلى الإنصهار من خلال تداخل الأجساد، في لقاء صميمي، ولا تهدف إلى تفريغ توتر عضوي مزعج، بل إنها نشوة المرء الذي بلغ، باتحاده بالكائن المكمل له، درجة من الملء والاكتمال كان يصبو إليها بكل جوارحه، كما يقول إيرك فروم في كتابه: “فن الحب”.
(يتبع)