تاريخ الحياة المكرسة (3) – المصادر الأساسية لتاريخ الرهبنة1
تتعدد المصادر الأساسية لتاريخ الرهبنة، ما بين كتابات الرحالة الذين زاروا مصر في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وسجلوا مشاهداتهم وحواراتهم مع مَن التقوا بهم من الرهبان. وهناك كتابات المؤرخين الكنسيين أمثال بالاديوس وكاسيانوس. كذلك سير الآباء الأولين أمثال أنطونيوس وباخوميوس. إلا أن أول المصادر، وأهمها من الناحية التاريخية، هي أقوال الآباء أنفسهم التي عبروا من خلالها عن نمط حياتهم وأنظمتهم الرهبانية وتنقسم إلى:-
أولا: الأبوفثجماتا باتروم apofqegmata Patrum
“الأبوفثجماتا باتروم” كلمة مركبة من كلمتين “أبوفثجماتا “apofqegmata اليونانية وتعني: “أقوال” و”باتروم Patrum” اللاتينية وتعني “آباء” أو “شيوخ” وبالتالي تعني “أقوال الآباء أو الشيوخ”. جُمعت هذه الأقوال شفهيا أولاً، ثم سُجلت في أوقات لاحقة على شكل “مذكرات” بقصد تهذيب ومنفعة أجيال من الرهبان والنساك. هي التاريخ الأهم والأكثر تأثيرًا في تاريخ الكنيسة. وتوجد في ثلاث مجموعات أساسية:
- أقوال رُتبت أسماء قائليها وفق الحروف الأبجدية: وتضم النص الأبجدي اليوناني الموجود في البترولوجيا اليونانية PG ويقع في 950 قولا على وجه التقريب، وهناك بعض المخطوطات الأخرى التي تصل بعدد الأقوال إلى الألف تقريبا. تحتوي هذه المجموعة على أقوال كل أبٍ على حدة مرتبة أبجديًا حسب أسماء أصحاب هذه الأقوال، وقد ترجمت من اليونانية إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الحديثة. ونشر Coteller النص اليوناني مستندًا إلى مخطوطتين فقط (Reg 2466- Reg 2615)[1].
- أقوال لا يعرف اسم قائليها: هي ورادة في عدة مخطوطات أهمها (Coislin 126, 283, Beroll. Phill 1624, Paris 890. Caterina 450) هذا النوع لا يذكر أسماء أصحاب الأقوال، وفيه بعض التصنيف والتبويب، نشر منها Nau نصف هذه الأقوال تقريبا[2]، وأكمل المهمة مؤخرًا [3] J. C. Guy.
- أقوال مقسمة بحسب الموضوع: يُقسم هذا النوع إلى 22 فصلاً، وهو لايازال محفوظًا إلى الآن في النص الأصلي، إلا إنه لم يُنشر بعد. لدينا ترجمة لاتينية قام بضبطها بيلاجيوس الأول (555-560م)، ويوحنا الثالث (560- 573م)، في القرن السادس الميلادي. من الأقوال الـ 950 المنشورة في الفرع الأبجدي، هناك 420 قولاً في الفرع المنهجي المرتب وفق المواضيع. لكن هناك 37 قولا لا تظهر في الفرع الأبجدي، وهناك بعض الأقوال الموجودة في مخطوطات أخرى مأخوذة من إبيفانوس، وإيـﭭـاجريوس وكاسيانوس. كما يحوي هذا النوع 270 قولاً لا يُعرف صاحبها[4].
كانت هذه الأقوال جوابًا عن سؤال: “ماذا أعمل؟” أو جوابًا عن توسل: “قل لي كلمة لأخلص”، أو كانت تأتي بعد الفاتحة: “قال الأب فلان”. وحتى في الحالة الأخيرة كانت هذه الأقوال تجيب عن تساؤلات مطروحة، وقلما كانت تنبع من إرادة الشيوخ الذاتية. وقد يأخذ القول، أحيانا، شكل حوار قصير. كل قول في حد ذاته نص صغير. والآباء ضد الأقوال الطويلة، لأجل هذا غاب عن المجموعة السرد الطويل والمواعظ الطويلة.
- العناصر الأدبية التي نصادفها في الأقوال
- القول: نقرأ باستمرار عبارة “قل لي كلمة”. فينطقون بأقوال قصيرة، فعلي سبيل المثال: “اصمت، ولا تقم وزنًا لنفسك”، أو “أمام كل ألم يعتريك، النصر هو الصمت”، “التشتت هو بدء الشرور” (بيمين 37، 43). وأحيانا أخرى يكتفون بكلمات الكتاب بدل أن ينطقوا بأقوالهم.
- النادرة (الطرفة): سرد قصير لحدث غير مهم، إنما له معنى خاص. كما في سيرة يوحنا الكولوفي (11) الذي حاك حبلاً يكفي لصنع خوصًا لسلتين، إلا أنه صنع بها سلة واحدة ولم ينتبه إلا حينما وصل إلى النهاية، لأن فكره كان منشغلاً بمعاينة الله.
- الصورة الرمزية: تظهر عادة من خلال المثل أو القصة كمثل الأب أشعيا الذي ذهب مرة إلى حقل وقال للفلاح: أعطني قمحًا. أجابة الفلاح: وهل زرعت أنت أيضًا يا أبتِ؟ قال له الأب أشعيا: كلا. فقال الفلاح: كيف تريد إذن، أن تحصد من حيث لم تزرع؟ فقال الأب: إذا لم يزرع الإنسان ألا يتقاضى أجرًا؟ أجابة الفلاح: كلا. وهكذا عاد الأب أدراجه إلى قلايته. فلما رأى الأخوة سألوه لماذا فعل هكذا. قال لهم الأب: لقد فعلت هذا للعبرة، حتى يفهم من لا يعمل أنه بدون العمل لا ينال جزاء من الله (أشعيا 5).
- المعجزات والرؤى: هناك سرد موجز لبعض المعجزات، ووصف رؤى بعض الشيوخ الذين وصلوا إلى حالة الاختطاف.
- كيفية تحرير مجموعة الأقوال
نُقلت تلك الأقوال شفهيًا من لسانٍ إلى لسان: “قال الأب فلان إن الأب فلانًا زار الأب فلان”. والسامع يرافقهم عقليًا ويتعلم منهم. كانت الأقوال منتشرة في البرية بشكل واسع لتثقيف الأخلاق وتربية النساك الجدد. قُدمت في البداية بشكل سردي بسيط وغير متقن، لأنهم ابتغوا المنفعة المشتركة. ولكن عدد ترتيبها وتصنيفها لم يساعد على استخدامها وحفظها غيابيًا. لذلك تم ترتيبها في أوقات لاحقة بأسماء قائليها على نحو أبجدي، وتم ترتيب الأقوال غير المعروف قائلها في فصول وفقا للمواضيع.
إن الأقوال الموجودة في النوع الأبجدي اليوناني مصدرها أساسًا، الآباء الذين عاشوا في الإسقيط، وكان أغلبهم من الفلاحيين المصريين الأقباط الذين يجهلون الثقافة العالمية. يصل عدد الشيوخ في هذه المجموعة إلى 132 شيخًا، ينتمون بمجملهم إلى القرن الرابع، والنصف الأول من القرن الخامس (تحديدًا من 320- 410م). ظهر هؤلاء النساك في منطقة الأسقيط، جبل النطرون، بقيادة عمّون، وقد كان معاصرًا للقديس أنطونيوس الكبير، وقابله في مناسبات عديدة.
بالإضافة إلى أنطونيوس الكبير الذي له 38 قولا، هناك مكاريوس المصري الذي عُرف كقائد المتوحدين، وكتب عنه أيضا بلاديوس وروفينوس وله 41 قولاً. هناك كذلك أكثر من 29 قولاً حفظت باسم الأب ثيوذوروس الفرمي الذي يذكره كسيانوس بثيوذوروس الإسقيطي. وترك لنا أرسانيوس 44 قولا، وسيسوى 52، وأغاثون 30، وموسى 18، ويوحنا الكولفي 40. ولكن تنسب أكثر الأقوال إلى الأب بيمين، 187 قولاً، الأمر الذي يشير إلى نشاط تلاميذه في ترتيب أقواله. في حين لم يجد باخوميوس سبيلاً لهذه المجموعة التي تتحدث عن النسك التوحدي، لا للشركة الرهبانية، ولكن عندنا قول لكل من التلميذين أوسيوس وبنثايسوس.
- محتوى الأقوال العام
صدرت هذه الأقوال لتقديم حياة النسك التوحدية، ومع ذلك هناك مقاطع تتعلق بالحياة المشتركة، التي قُدمت وكأنها في موضع أدنى. تقدم الناسك في جهاد مستمر ومسيرة حرب، فمثل هذه العبارات بصورة متكررة: “أخ حورب بالوقيعة”، “أخ حورب بالزنى”. الحرب يشنها الشيطان مع خدامه الذين هم رفقاء دائمون للنساك. فلا يثير هذا الحضور ألمًا واضطرابًا عند الكاملين، إنما يثير الحزن عند ذوي الخبرة القليلة. تمثل الشياطين الحاضرة في كل مكان أحيانا الأهواء مشخصة. وحضورها أمر ينبغي على الإنسان أن يتحاشاه، لأن محاربتها تجعله أكثر امتحانًا واختبارًا. يجب عليه أن يسمح للأهواء بالدخول، لكن للحال ينبغي أن يحاربها (يوسف بنفو 3). سلاحه الصلاة والصوم والعمل اليدوي والتوبة، خاصة الأخيرة.
ليس هناك مكان للانشغال بالمسائل العقائدية التي يرونها عديمة النفع وتثير الشقاقات والأحقاد. يهربون من مناقشة الكتاب المقدس، لئلا يؤول الجدل إلى انقسام الرأي. يأتي ناسك غريب للأب بيمن، وعندما بدأ ذاك بالكلام عن الكتاب المقدس، فأشاح الأب بوجهه ولم يجبه بشيء، وما أن سأله في الأهواء حتى أصبح غزير الكلام (بيمن 8).
- العمل اليدوي: هو الوسيلة التي يؤمّن بها النساك معيشتهم الفقيرة. الأب بيمين (بيمين 8) كان فخورًا، لأنه، مذ صار راهبًا حتى مماته، ما أكل خبزًا لم يخرج من يديه. جميع النساك عاشوا من تعبهم، ورأوا العيش على حساب الآخرين عار. لذلك مارسوا الخياطة والحصاد وجدل الزعف. لم يقوموا بتنظيم مشاريع زراعية، لأن ذلك يخلق مقتضيات هي من خاصة الملاكين فقط. قال أحد الأخوة للأب بيمين إنه يزرع حقله، ومن انتاجه يحسن ويتصدق، فأجابه الشيخ بأن هذا لا يليق براهب (بيمين 22)، لأنه يسهم في إثرائه. العمل له فائدة روحية، فهو يُلجم الأهواء، فكلما مارس الناسك العمل اليدوي بالصلاة، لن تستطيع الأفكار الشريرة أن تسود ضميره.
- الإقلال من الطعام: كان أيضًا وسيلة لضبط الأهواء. كان القانون أن يأكل الراهب وجبة طعام واحدة. وشرع النساك يعملون دون تناول الإفطار، ثم يتوقفون عن العمل في الثالثة بعد الظهر أو في السادسة مساءً ليأكلوا. طعامهم كان فقيرا، من خبز وزيت وملح. أما في الأعياد والزيارات فكان الطعام يحوي الخضروات والأطعمة المجففة. وكان ثمة رهبان يأكلون مرة كل يومين، وآخرون كل أربعة أيام، إلا أن هذا يُحسب مغالاة غير طبيعية. ينبغي أن يكون الطعام عملاً ثانويًا لا عملاً رئيسيًا، ولكي يدافع الأب بيور عن هذا الرأي دفاعًا رمزيًا كان يأكل وهو يمشي (بيور 2).
- الفضيلة: التي تقدر أن تقود بيسر وسهولة إلى الكمال الخُلُقي هي التواضع الذي يُدعي تاج الذهب (أور 9). لأن الناسك يسحق، بهذه الفضيلة مشيئته الذاتية ويلتزم مشيئة الله. والطاعة نتيجة التواضع، لهذا فمن الطبيعي أن يفتش الناسك عنها في شكلها المطلق، حيث تنتفي الأنانية انتفاء كليًا.
- الصمت: رأى النساك في الصمت السلاح الفعال للنصر على محاربة الشر : “كثيرا ما ندمت عندما تكلمت، لكني ما ندمت أبدًا عندما صمت” (أرسانيوس 40). ولكي يقتني الأب أغاثون الصمت أمضى ثلاث سنين وهو يضع حصوة في فمه (أغاثون 15). كانت الصلاة هاجس النساك وشغلهم، إلى جانب التأمل الداخلي ودراسة النصوص. يجتمعون لصلاة القداس يوم الأحد، ويقيمون الصلاة الخاصة ثلاث مرات في الصباح، وفي المساء والليل. ولم يكن العمل عندهم عائقًا دون الصلاة.
- التواضع: كان آباء البرية قساة على أنفسهم، فعاشوا بصرامة، وقادهم تواضعهم إلى لوم ذواتهم وازدراء نفوسهم بشكل متواصل. لما طلب بعض الولاة أن يروا الأب موسى، سألوه هو نفسه كيف يجدونه، فقال لهم: “ماذا تريدون من هذا المجنون” (موسى 8). لكنهم كانوا مترفقين بالآخرين، فالأب موسى عندما دُعي إلى اجتماع في الإسقيط للنظر في أمر أخ قد خطىء، حمل على ظهره كيسًا من الرمل مثقوبًا، وكان يجيب الذين يسألونه بأن خطاياه تتساقط كالرمل وهو لا يراها، لكنه يأتي اليوم ليحكم على خطايا الآخرين. فعفى عن الأخ دون نقاش (موسى 2). ويتجاوز بيمين عن أخ وهو في حالة خطيئة متظاهرًا إنه لا يراه (بيمين 113).
[1] Apophthegmata Patrum – serie alfabetica, PG 65, 71- 440; in: B.j. Cotelier, Ecclesiae graecae monumenta, t-I, 1677, Migne, LXV, 71-440. بنيوتيس خريستو، أقوال الآباء الشيوخ، لبنان 1990
[2] F. Nau, Apophthegmata Patrum, in “Les Revue de l’Orient Chrétien”, 1907-19013.
[3] Apophthegmata Patrum – ms. Coislin 126, in: J. C. Guy, Les Apophthegmes des Pères du desert, Bellefontaine 1966.
[4] Apophthegmata Patrum – serie sistematica PG 65, 855- 1022; in: C. Dion, Les Sentences des Pères du désert, vol. I, II, III, IV, Céneré, 1966-1976.