إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (5)- كتابات الرحالة 2

0 967

التاريخ اللاوذيكي لبلاديوس PALLADIUS, Historia Lausiaca

“التاريخ اللاوذيكي” لبلاديوس يُعد أهم الكتابات التي توصف الحياة الرهبانية في مصر في القرن الرابع الميلادي. بلاديوس هو أسقف هيلينوبوليس، وُلِدَ في غلاطية، بآسيا الصغرى، حوالى سنة 363 أو 364م. تثقف في الدراسات اليونانية واللاتينية كأبناء عصره. اعتنق الحياة الرهبانية حوالى سنة 386م بفلسطين. ثم انتقل إلى جبل الزيتون متدربًا على يد الأب إينوسنت مدة ثلاثة أعوام (ه. لوذ 48، 2)، وتذهب الدراسات النقدية[1] إنه تقابل خلال تلك الفترة مع روفينوس الذي قص له ما شاهده بمصر، فتأججت الرغبة لديه في السفر والتعرف بنفسه على حياة نساك صحاري مصر. في عام 388 وصل إلى الإسكندرية (ه. لوذ 44،1) والتقى بالأب إيسيذورس، الذي يبدو أن عهد به إلى ناسك متوحد يدعى دوروثاوس لتعليمه حياة النسك كما اعتادها الرهبان المصريون.

في عام 390م، رحل بلاديوس إلى نيتريا، وبعد عام انطلق متوغلا في صحراء كيليا حيث قضى بها تسع سنوات. اتبع بلاديوس منهج أنطونيوس الكبير، متوغلا في البراري مبتعدا على العالم. في صحراء كيليا عاش أولا مع مكاريوس الإسكندري (ه. لوذ 18،1)، ثم مع إيفاجريوس البنطي، الذي تأثر به بشدة، فكتب عنه كثيرا في كتابه هذا وخصص له الفصل 38 بأكمله، وظل جواره حتى نياحة ذلك الأخير في عام 399م. اضطر للعودة إلى فلسطين بسبب اعتلال صحته (ه. لوذ 36). سيم أسقفًا على هيلينوبوليس في بيثينية. وفي عام 403م يظهر بلاديوس مع يوحنا ذهبي الفم في مجمع السنديانة الذي عُقد بالقرب من مدينة خلقيدونية، الذي دعى إليه توفيلوس، بطريرك الإسكندرية ضد أفكار أوريجينوس، وتم فيه إدانة القديس يوحنا ذهبي الفم المعضد لتلك الأفكار. وُنفي القديس يوحنا ذهبي الفم، وظل في منفاه حتى تنيح. تعرض بلاديوس بدوره، كتلميذ للقديس يوحنا ذهبي الفم، ومحب لكتابات أوريجينوس، لاضطهادات عديدة من قِبل توفيلوس السكندري. أبحر عام 405م إلى روما ملتمسا مساعدة بالبابا إينوشنسيوس الأول. حال عودته إلى القسطنطينة عائدا من روما، بعد عام تقريبًا، قبض عليه الإمبراطور أركاديوس، هو ورفاقه، ونفاهم إلى سين (حاليا أسوان) بصعيد مصر.

بقي بلاديوس في منفاه بصعيد مصر حتى العام 413م، وتنقل بين المراكز الرهبانية في تلك النواحي حتى وصل إلى أنتينوي (الشيخ عبادة بملوي الحالية)، إلى أن عاد إلى غلاطية بعد إنتهاء موجة المعارضة للقديس يوحنا ذهبي الفم. ويرجح المؤرخون أنه كتب كتابه عن القديس يوحنا ذهبي الفم أثناء فترة صعيد مصر.

في حوالى عامي 419 – 420م، كان الحُكم الإمبراطوري قد تغير وجاء إلى حاشية البلاط رجل يُدعي لاوسُس (Lausus) في منصب القائد للحرس الخاص بالإمبراطور، فطلب من بلاديوس أن يدون له كل ما رآه وسمعه في حياته الرهبانية بصفة عامة. لا يعرف تحديدا تاريخ وفاته، ولكن الغالبية من الدراسيين يرجحونها قبل عام 431م، قبل انعقاد مجمع أفسس، لأن اسمه لم يرد ضمن أساقفة المجمع، في حين ورد اسم أسقف آخر لكرسيه.

  1. أصالة نص “التاريخ اللوذياكي”

في عام 1898 نشر الأب باتلر نصًا للتاريخ اللوذياكي معتمدًا على مجموعتين من المخطوطات، يُطلق عليها اليوم  (G) وهو نص قصير، و (B) وهو نص أطول يحتوي مقتطفات عديدة من “هيستوريا موناخروم” للرهبان السبعة. اعتبر باتلر أن النص الأطول كتب بعد خمسين سنة من النص الأول. وصل النص القصير إلينا في مجموعة قليلة من المخطوطات، أهمها: Meursius, Leida 1616; Paris 1624; Firenze 1746; Paris 1866

  1. أسلوب كتابة النص

“التاريخ اللوذياكي” مجموعة من الروايات، مختلفة في أسلوبها الأدبي، تصف حياة ناسك وحيد أو مجموعة من النساك، في صورة قصصية، أو كمجموعة أقوال مثل ما يرد في الأفثجماتا باتروم. لم يهتم بلاديوس كثيرًا بقواعد اللغة وأنماط الكتابة الواحدة، وأساليب التعبير والبلاغة. وبعبارة أخرى لم يكن بلاديوس كاتبًا ماهرًا في عمله، هو مجرد راوٍ يدون ما سبق أن رآه من أحداث بقدر ما تسمح به الذاكرة بعد عشرين عامًا[2].

  1. أهمية “التاريخ اللوذياكي” لبلاديوس

للتاريخ اللوذياكي لبلاديوس أهمية كبرى لمعرفة تاريخ الرهبنة في العالم، لأنه لم يقتصر على ذكر ما رآه في مصر وحدها، بل تناول حياة النساك والمتوحدين في أقطار أخرى كفلسطين وبعض أقاليم آسيا الصغرى. ويعكس ما رآه عن الرهبان المصريين أهمية خاصة، نظرًا لطول الفترة التي قضاها بمصر، ناسكًا ثم منفيًا. اهتم بلاديوس بتقديم نماذج روحية حية ومعاشة وملموسة لحياة والنساك والناسكات، وغطى مساحة جغرافية شاسعة، لهذا يُعد عمله فريدًا في تاريخ الفكر المسيحي، على خلاف المؤرخين الكنسيين المعروفين أمثال: جيروم ويوسابيوس وسقراط وسوزومين اللذين أهتموا بتاريخ البدع والعقائد والأساقفة والشهداء.

وبالرغم من اهتمام بلاديوس بالجانب الروحي النسكي إلا أنه أشار في مواضع عديدة للنواحي المعيشية اليومية للنساك من ملبس ومأكل ومشرب وعمل. والمثير للاهتمام في النص إن كاتبه لم يحاول أن يرسم صورة مثالية للنساك، كما فعل روفينوس مثلا في شخصية بفنوتيوس، وإنما عرض بأسلوب مباشر وصريح للنواحي السلبية التي رأها في الرهبنة، وقدم أمثلة حية لمن التحقوا بها على أساس خاطئ، أو سقطوا تحت وطأة التجارب. تظهر الرهبنة في النص ليس كما صورها بعضهم “الطريق الأوحد” للوصول إلى الكمال المسيحي، ولكن هناك طرق عديدة “للعلمانيين” الذين فاقوا بعض النساك زهدًا وقداسة.

يقدم بنحو خاص أمثلة “صادمة” للبعض التي تكشف ضعف الإنسان ومحدوديته وصعوبات الحياة المشتركة. ففي الفصل الرابع والثلاثين نتعرف على عذراء تظاهرت بالجنون تحت وطأة تعاملات زميلاتها القاسية معها وكراهيتهنّ واستغلالهنّ لها، اطلقنّ عليها لقب: “ممسحة الدير” لأنهنَّ عهدنّ إليها بأحقر الأعمال وأشدها قسوة، وتعمدنَّ إهانتها وصفعها والنظر إليها باحتقار. كانت تلتقط الفتات المتساقط من المائدة، وتغسل أواني المطبخ، وغيرها من الأعمال الوضعية. ظهر ملاك للقديس بتروم يعنفه على افتخاره بنفسه قائلا له: “لماذا تفتخر بنفسك كتقي،وتعيش في مكان كهذا، هل تريد أن ترى امرأة أكثر تقوى منك، اذهب إلى دير النساء الطبانيسيات وهناك امرأة ترتدي تاجًا على رأسها، هي أفضل منك”. ذهب الناسك وعندما رآها انطرح تحت قدميها طالبا البركة، فحذرت الناسكات بتروم قائلات: “لا تجعلها تهينك يا أبي، إنها مجنونة”، فكشف لهنَّ الناسك العجوز عن الرؤية بأن تلك المرأة ليست مجنونة بل قديسة. انطرحن جميعن معترفات بخطئهن ورحن يقدمن التمجيد والإكرام فلم تحتمل المرأة فهربت ولم يعلم أحد أين ذهبت أو كيف تنيحت.

وهناك مثل أَخر لادعاء إحدى الناسكات على أخرى أمام الجميع بأنها سقطت في خطية الزنى مع غريب. وأمام صعوبة الاتهام الزور الذي لم تحتمله الراهبة، انتحرت بإلقاء نفسها في النهر. وتحت وطأة وخز تأنيب الضمير انتحرت الراهبة التي تكلمت بالزور على زميلاتها. أاما الأخريات اللواتي كنَّ يعلمن بأن الإدعاء باطل فقد تم حرمانهن من ممارسة الأسرار المقدسة مدة سبعة أعوام.

  1. مضمون النص

يقدم بلاديوس في الفصول الستة الأولى سير مجموعة من النساك الذين تقابل معهم في محطته الرهبانية الأولى بالإسكندرية، وهي بمثابة مقدمة للعمل الذي يقدمه. قلب العمل هو الفصول (7-15) التي يقدم فيها نمط حياة رهبان نتريا، والذي تأثر به كثيرا فيصل إلى القول: “في الساعة التاسعة من الممكن أن تقف وتستمع إلى انسياب التسبحة الصادرة من كل مسكن، حتى إن المرء يعتقد أنه صار فوق العالم، في الفردوس” (ه. لوذ 7: 5). يصف بلاديوس الجانب النسكي الروحي للرهبان فلم يتوقف أمام الظواهر فوق الطبيعية، المعجزات، أو الصراع المحتدم مع الشياطين.

في الفصل السابع يذكر بلاديوس عدد الرهبان في نتريا الذي يتجاوز خمسة آلاف راهب. وهو رقم غير مبالغ فيه بالنظر إلى نتيجة الحفريات التي قامت بها البعثات الفرنسية والسويسرية في المنطقة. الأب أنطون جيرمونت عثر على أكثر من ألف قلاية على مساحة ستة عشر كيلو متر مربعا، وضمت كل قلاية اثنين أو أكثر. من أين وفر هؤلاء الطعام في تلك المنطقة الجرداء؟ سؤال لم يغيب عن بلاديوس فأظهر في الفصل الثالث عشر شخصية أبولونيوس، التاجر الغني، الذي كرس حياته للانتقال بين نتريا والإسكندرية بغرض توفير ما يلزم الرهبان من أدوية أو أطعمة وغيرها من المستلزمات الضرورية.

يعمل الفصل السادس عشر كتمهيد لانتقال بلاديوس إلى الحديث عن صحراء الداخلية، الإسقيط، فيتكلم عن سير نتنائيل الذي لم يره، بل سمع عنه من آخرين. يبدأ مترددًا في الحديث عن سيرة مكاريوس المصري لعظم الأحداث التي سيرويها عنه، إلا أنه يقتبس قصة من التقليد الشعبي للحضارة اليونانية القديمة (ميتامورفوزي) عن المرأة التي يعشقها أحدهم، وإذ لم يكن قادرًا على إغوائها لجأ إلى السحرة يحولها إلى فرسة، فيلجأ زوجها إلى مقاريوس المصري  الذي يُعيدها امرأة مرة أخرى.

يتحدث بدءًا من الفصول 23 بلاديوس عن ضعفات النساك، فيروى ضعفه هو أولا عندما طغى عليه فكر محبة النساء وكيفية إرشاد باخون له. يتحدث عن عجرفة وكبراء فالنس (ف 25)؛ وسقوط راهبة (ف 28)؛ ومشاجرات الراهبات اليومية (ف 30). أما الفصول المخصصة لباخوميوس ويوحنا الليكوبولي فهي تظهر كفصول مستقلة لا تتبع التسلسل العام في النص، ويختلف الدارسون كثيرا على أصالة هذه الفصول. كذلك الفصل الخاص بمعلمه إيفجاريوس، الذي كان من المفترض أن يكون ضمن نساك نتريا، لكنه خصص له الفصل 38، ويرى الدارسون بلاديوس أضاف هذا الفصل متأخرا، وبعد انتهائه من كتابة النص الأصلي.

[1] PALLADIUS, Historia Lausiaca, in: Ch. MOHRMANN – C. J. BARTELINK (a cura di), Palladio. La storia Lausiaca, Milano 1976.

[2] R. T. Meyer, Palladius. The Lausiac History. Translated and annotated (ACW XXXIV), Westminster Maryl. 1965.

قد يعجبك ايضا
اترك رد