إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (11): كاسيانوس

0 933

الحياة النسكية في الغرب

ساهم القديس أثناسيوس الكبير بشكل مباشر في تَّعريف الغرب بأنماط الحياة المكرسة التي انتشرت في مصر في بداية القرن الرابع خلال زيارته إلى روما عام 340م، مصطحبًا معه زكاوس وتواضروس، تلميذي القديس أنطونيوس لحمل شكواه ضد الأريوسيين. كما كان لكتابه عن القديس أنطونيوس عظيم الأثر في شيوع الحياة النسكية الرهبانية، والذي تُرجم سريعًا إلى اللاتينية لأجل مسيحي الغرب.

من ناحية أخرى، يمكن القول بأن الغرب عرف الحياة المكرسة من دون تأثير مباشر من الشرق من خلال ظاهرة النساك والعذارى والأرامل الذين كانوا يحفظون بعض الممارسات الرهبانية الأولى، كما سبق أن أشرنا. يتكلم أوسابيوس القيصرى على العيش النسكي في العزلة في القرن الثالث لمجموعات الزهاد الأولون الذين كانوا يفضلون العيش في جماعة على عيش حياةٍ توحدية منفصلة عن العالم. وهناك أمبروزيوس الذي بدأ حياة الزهد، مع مجموعة من تلاميذه في عام 353م، وقت أن كان أسقفًا لميلانو، وهناك التقي القديس أغسطينوس للمرّة الأولى.

وقيل إن أوسابيوس أسقف فرسلي، من العام 344 وحتى وفاته 371، أسس أول جماعةٍ رهبانية نسكية في الكنيسة اللاتينية. وبما أنّه نُفيّ إلى الشرق في العام 355، لأنه رفض التوقيع على إدانة القديس أثناسيوس في مجمع ميلانو، من المحتمل أنه أسس الجماعة بعد عودته من الشرق في العام 363م. وهناك بولينوس النولي الذي أسس ديرًا للأخوة في العام 395م ببرشلونة. والقديس مرتينوس التوريّ، الذي يُعد أول راهب أسقف في الغرب، حيث أسس جماعة نصف توحدية في عام 371م عندما صار أسقفًا لمدينة تور. ومن شدة تكريم القديس مرتينوس واعتباره مؤسس الحياة الرهبانية النسكية وشفيعها، كرس القدس بندكتوس كنيسة على اسمه في جبل كاسّينو[1]. كما أسس القديس هيرونيموس أديرةً للنساء والرجال وأدارها حتى موته في العام 420م. وتبعت الأديرة قوانين القديس باخوميوس التي ترجمها في عام 404.

  1. يوحنا كسيانوس

يعتبر يوحنا كسيانوس أحد أعظم الكتّاب الروحيين في القرن الخامس، ومعه حدث أعظم انتشار للحياة النسكية في الغرب. ولِدَ في الغالب في إقليم البلقان، رومانيا، حوالي العام 360م. التحق في شبابه، مع صديقه جرمانوس بدير في بيت لحم. وبعد فترة قصيرة ذهب مع صديقه لزيارة رهبان مصر. قضى سبع سنوات ببرية الإسقيط إلتقى فيها بإيـﭭـاجريوس ومشاهير الآباء الرهبان وقد جاءت أغلب مناظراته ثمرة لهذه الزيارات. ثم عاد الصديقان إلى بيت لحم، لكنه لم يبقى فيها إلا مدةً قصيرة ثم عاد إلى الإسقيط في عام 368 أو 369م هربًا من اضطهادات ضد الرهبان. ذهب إلى القسطنطينية حيث تأثر بالقديس يوحنا ذهبي الفن الذي سامه شماسًا، وسام صديقه جرمانيوس كاهنًا. عند نفى يوحنا ذهبي الفم ذهبا الصديقان معًا إلى روما ليطلبا تدخل البابا، إنوسنت الأول، من أجل أسقفهم المنفي.

خلال رحلته إلى جنوب أوروبا، مكث في أحد الأديرة، التي سبق أن أسسها القديس مرتيونس أسقف تور، ونظرًا إنه لم يكن هناك قانون حياةٍ يقبل به جميع الرهبان بعد، عكف كسيانوس على إرشاد الرهبان لمختلف أنواع الحياة النسكية التي أختبرها في زيارته لمصر، وأسس بدوره ديرًا للرجال بالقرب من مارسيليا، وآخر للنساء. وسرعان ما أنتشرت الحياة النسكية وضمت الأديرة الآلاف من الرهبان والراهبات.

  • كتابات كسيانوس

كان لتعاليمه الروحية في كتابيه: القوانين والمناظرات عظيم الأثر في انتشار الحياة النسكية في أوربا، خاصة في تمهيد الطريق أمام نظام القديس بندكتوس، منشئ أعظم رهبانيات الغرب المسيحي. مزج كسيانوس حياة الشركة ببعض أساسيات لحياة الوحدة، مؤسسًا بذلك لنمط حياة فريد، استقى منه بندكتوس، ثم كافة الأنظمة الرهبانية في الغرب هذا الشكل من الحياة النسكية.

في كتابه الأول “القوانين” تناول كسيانوس الجوانب الخارجية التنظيمية والطقسية للحياة الرهبانية فيبدأ بوصفه للزي الرهباني المكون من القميص القصير، وإسكيم الصوف ورداء الخارجي من جلد الماعز، والعصا وعدم إنتعال أحذية، موضوحًا مدلولها الروحي والطقسي. ثم يصف صلاة الرهبان (صلوات السواعي) وطريقة أدائها، وحدد عدد المزامير بإثني عشر مزمورًا في كل ساعة من ساعات الخدمة النهارية والليلية.

ينتقل كسيانوس إلى تقديم قوانين متدرجة لمن يريد أن يُصبح ناسكًا وممارسات الزهد المطلوبة منه. ثم يختتم كتابه بعرض تفصيلي للخطايا المميتة الثمانية التي عددها إيـﭭـاجريوس البنطي وهي: النهم، الزنى، الطمع، الغضب، الكأبة، الضجر، المجد الباطل، الكبرياء[2].

أما المناظرات الأربعة والعشرون فهي عملٌ متكامل قدم فيه كسيانوس خلاصة أفكاره الرهبانية للغرب. تُشكل المناظرات لقاءات مع قادة روحيين، يعالج فيها موضوعات روحية هامة مثل: نقاوة القلب طريق الملكوت[3]؛ التمييز الروحي؛ أنواع وطبيعة الحياة الرهبانية؛ الفتور الروحي؛  أنواع التجرد الثلاث؛ أنواع الصلاة الأربع؛ الكمال المسيحي؛ المواهب؛ ثمار التوبة؛ العفة والمعرفة الروحية.

  • غاية الحياة النسكية

إنّ غاية الحياة النسكية، بحسب كسيانوس، هي الكمال الداخلي للراهب، ولا يوجد هذا الكمال في طريقة الحياة الديرية بحد ذاتها، بل من فضائل الراهب نفسه. وجوهر الكمال هو المحبة التي يصل إليها الإنسان من خلال الزهد. يصل الراهب إلى الزهد من خلال ثلاث مراحل متتالية حتى يصل إلى كمال المحبة التأملية: الأولى هي نكران كل مُتع الدنيا وغناها وجحد الأمور الزمنية والاستخفاف بها. يولد هذا النكران اتضاعًا الذي يساعد الراهب في المرحلة الثانية التي تتلخص في نكران الذات وإماتة الشهوات والرذائل والعادات السلوكية الضعيفة وكل عواطف الجسد والنفس المنحرفة. إذا نجح في استأصال هذه الأخطاء تبزغ الفضائل في حياته كنبتة جديدة في الغصن فيكتسب نقاوة القلب التي تساعده على أن يصل إلى حالة الزهد الثالثة وهي صرف القلب عن كل الأشياء الحاضرة والمرئية والتركيز فقط في ماهو أبدي وغير مرئي. في المرحلة الأخيرة، النكران الثالث، يكف العقل عن الخضوع تحت ثقل تأثير الجسد، ويتنقى من العواطف الأرضية، فيرتفع حينها إلى السماء، من خلال التأملات المستمرة للأمور الإلهية، ويسمو بتأمل الحقيقة الإلهية، وينسى أنه لا يزال محبوسًا في الجسد الهش، ويفتتن بالله، ويجد نفسه مسلوبًا بحضوره، فلا تكون لديه أذنان للسماع ولا عينان للنظر، ولا يتأثر حتى بأعظم الأشياء المرئية[4]. ثمرة الزهد، بحسب كسيانوس، هي هبة صلاة المشاهدة التأملية.

يميز كسيانوس في كتاب المناظرات بين أربع أنواعٍ من الصلاة[5]:

  • صلاة طلب غفران الخطايا “الطلبات“، وهي خاصة بالمبتدئين في الحياة الروحية، الذين لا يزالون مضطربين بوخزات خطاياهم وتذكرها؛
  • صلاة العزم على الالتزام أمام الله بقصدٍ صالح “الصلاة“، وهي خاصة بالذين تقدموا في الحياة الروحية؛
  • صلاة من أجل خلاص النفوس “الابتهالات“، ويمارسها الذين نموا في المحبة وحب القريب.
  • صلاة الشكر على نِعَمٍ تم نَيلُها، وهي خاصة بالذين يتأملون الله في ما يسميه كسيانوس: “صلاة النار”، وهي صلاة تكون كلهيبٍ لا يُوصف، فيتقدم الإنسان في هذه المرحلة لله منسكبًا بطريقةٍ لا يُعبر عنها، طالبًا أمورًا عظيمةٌ لا ينطق بها فّمْ، بل ولا يقدر الذهن أن يسترجعها في وقت آخر[6]. هي تأمل الله الذي ينبغي جعله فوق كل استحقاق.

[1] جوردان أومان، دليل إلى قراءة تاريخ الرُّوحانية….، ص 79.

[2] بحسب التعليم الشائع هناك سبع خطايا مميتة: الكبرياء والبخل والدعارة والحسد والشراهة والغضب والكسل. قد ضم القديس غريغوريوس الكبير المجد الباطل والكبرياء ووضع الحسد بديلا للكأبة.

[3] يعتمد كسيانوس على منهجية واحدة في معالجة الموضوعات المختلفة تتمثل في ذكره لأهمية الفضيلة وشرحها من خلال أمثلة في الكتاب المقدس وحياة الرهبان لبيان كيفية اقتناء الفضيلة وعرض اعتراضات البعض عليها.

[4] Conferences, 3, 6.

[5] استقى كسيانوس الأنواع الأربع من صلوات يسوع فالأولى استخدمها يسوع عند قوله: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” (مت39:26).  والثانية بقوله: “لأجلهم أقدّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحق” (يوحنا 19:17). والثالثة: “يا أبتاهُ اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لوقا 34:23). والأخيرة: “أحمدك أيها الآب ربَّ السماءِ والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماءِ والفهماءِ وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرَّة أمامك” (مت25:11،26). ومن الممكن أن تستخدم الأنواع الأربعة في صلاة واحدة في وقت واحد، كما يعلم الرسول بولس: بل في كل شيءٍ بالصلوة والدعاءِ مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى الله” (فيلبي6: 4). بهذا رغب منا أن نفهم أنه يلزم في الصلاة والدعاء (الابتهالات) أن نقدم الشكر ممتزجًا بطلباتنا.

[6]  Conferences 9, 9-17.

قد يعجبك ايضا
اترك رد