إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (14): التجديد الرهباني في أوائل القرون الوسطى

0 1٬023

إصلاح بندكتوس الأنياني

عندما اعتلى شارلمان العرش في العام 768م، رغب في توحيد أوربا تحت سلطة إمبراطورٍ واحد، والسلطة العالمية للكرسي الرسولي. عملَ على توحيد نصوص الكتاب المقدس، تم تدعيم الترانيم الغريغورية، وأدخِلت ترانيم جديدة وصلوات. وقامت الأديرة بدور هام في كل هذا التجديد والإصلاح. ففي الواقع، رغِبَ شارلمان في أن يرى الأديرة تتبع نظامًا واحدًا، نظرًا لتعدد الأنظمة والاختلاف البّين بين الأديرة في محيط الأمبراطورية الجديدة. فعهد المهمة الإمبراطور إلى ألبان فلاكو (توفى 804).الذي نظم ساعات الصلوات الجماعية، وساعات العمل لجميع الأديرة وفترات التأمل لتكون واحدة لجميع الأديرة.

إلا رغبة شارلمان لم تجد تطبيقًا فعليًا إلا مع إصلاح بندكتوس الأنياني، الذي حاول أن يكيّف الرهبنة البندكتي مع العصر الجديد والاحتياجات الجديدة، وقبِلَ العادات والتقاليد التي أُدخِلَت إليها.

ولِدَ بندكتوس في العام 750م، وصار راهبًا في العام 774، وأسس لاحقًا ديره في أنيان بالقرب من البيرينيه. كان شديد الميل في البداية إلى الحياة الرهبانية للقديس باخوميوس، إذ اعتبر قوانين القديس بندكتوس شديدة الرخوة. إلا إنه غير رأيه، وتبنى قوانين القديس بندكتوس كحلٍ وحيد. كان بندكتوس الأنياني مقتنعًا بأن الطريقة الوحيدة التي تجعل الأديرة تتفادى السقوط في الرخاوة هي اكتشاف أساسٍ من أجل تجديدٍ مستمرٍّ وتأمين نوعٍ من التنظيم المركزي.

حين صار لويس الأول، ابن شارلمان، إمبراطورًا في العام 814، عَّينَ لبندكتوس الأنياني زائرًا لجميع الأديرة، الذي أرسل رهبانًا من أديرته لإصلاح الأديرة الأخرى. بهذه الطريقة كون فيدرالية ديرية وهو لها “الأباتي الأعلى”. وألف أيضًا وثيقتين رهبانيتين: القواعد التنظيمية وهي تجميع للقوانين اللاتينية الموجودة، وقاموس القواعد، وهي تفسير لقوانين القديس بندكتوس، مع مقاطع موازية من قوانين الرهبانيات الأخرى، أهمها نظام باسيليوس وباخوميوس.

إصلاح دير كلوني Clony

شهد تلك القرون صراعًا بين الكنيسة وبين الامبراطورية الجرمانية. وكانت نتيجة ذلك الصراع أن ضعف حكم الأمبراطور واهتز مقام البابا من جراء التورط فى الشؤون السياسية مما أفقده بعضًا من نفوده الروح والأدبى دعا الكثيرون لإصلاح الكنيسة شعورًا منهم بتسرب الضعف إلى المؤسسات الكنيسة: فهناك تقلص في نشاط الأديرة الروحي فقد امتلك الرهبان الكثير من الأراضي والمنشات وإبتعدوا كثيراً عن روح الفقر الإنجيلي. لم تكن الصعوبات فقط داخل الأديرة بل كانت هناك صعوبات  متزايدة  فى الهيكل التنظيمى للكنيسة ككل بسبب التدخل المستمر للأمراء في اختيار الأساقفة، واستولى البعض على كنائس وأديرة، وظهرت السيمونية (متاجرة بالمقدسات) وخطايا ضد العفة بين الأكليروس، تعيين علمانيين رؤساء للأديرة.  وقد ترجحت الكنيسة طوال القرنّين الحادي عشر والثاني عشر بين الانحطاط والإصلاح، وانتصرت المسيحية المتجددة في عصر البابا غريغوريوس السابع (1073- 1085).

في وسط هذه الأجواء تأسس دير كلوني في العام 910م، والذي قام  بدور كبير فى الإصلاح الرهباني  وذلك بإحيائه المبادئ  الأساسية التى قامت  عليها قوانيين الرهبانية البندكتية مثل: الصلاة الدائمة وإكثار الممارسات الطقسية العمل المهنى واليدوي والحياة المادية الفقيرة والإماتات  الجسدية الإنتخاب الحر لرئيس الدير إستقلالأ عن الامراء والأساقفة. وقد ساهم الإصلاح الذى قام به دير كلوني بذلك فى إصلاح الكنيسة بوجه عام عن طريق إعلائه دور المقام البابوى وتاكيد خضوعه مباشرة للبابا وإقصاء الأمراء من التدخل فى الشئون الكنسية. كما أمتد تأثيره في الروحانية وحسب بل في الأدب أيضًا. إذ ما بدأه بندكتوس الأنياني أكمله كلوني، وأقام فيدرالية أديرة تحت إدارة دير كلوني وإرشاده. كان تشكيلُ فيدرالية أديرة كهذه ضرورة من أجل التخلص من هيمنة العلمانيين أو الأساقفة. وفي بعض الحالات، كانت الأديرة موضوعة تحت حماية الكرسي الرسولي، كما كان حال دير كلوني نفسه. فتحررت الأديرة من هيمنة العلمانية والسطلة المدنية، وكذلك تمّت حمايتها من تدخلٍ مُحتملٍ للأساقفة.

فى القرنين العاشر والحادي عشر أصبح دير كلوني رأس مؤسسة رهبانية إنتشرت فى أوربا كلها ولكن ظلت جميع الأديرة رغم تباعد مواقتعها الجغرافية تحت سلطة رئيس دير كلوني وما أسهم فى نفوذ دير كلوني خلال هذه الفترة  هو شخصية رؤسائه الأولين وطول فترة رئاسهم. أسهمت الإدارة المركزية للأديرة وتوحيد القواعد، وتطوير الطقوس، وتهذيب الثقافة الرهبانية على أساس الدراسة الكثيفة للكتاب المقدس والآباء، والاهتمام الكبير بأعمال النسخ[1]، والتوجه الصادق نحو التأمل، وأفعال المحبة الواسعة النطاق، إلى جانب الممارسة الرصينة للحياة التوحدية في تطور الحياة الرهبانية في ذلك الوقت.

انضمت أديرة عديدة، في فرنسا وبلجيكا وإنجلترا، إلى إيطاليا وألمانيا وإسبانيا إلى الإصلاح الكلوني، على الرغم من أنها أختلفت في بعض تفاصيل قواعد الحياة. وامتد تأثير تجديد الحياة الرهبانية إلى خارج الحصن، وساهم كثيرًا في إصلاح الكهنة الأبرشيين والمؤمنين العاديين.

العودة إلى الزهد ولنظام الحياة الشرقية

بغياب شمس القرن عشر، وبينما كانت الأديرة مزدهرة، ظهر رد فعلٍ معاكس. فقد أضحت الأديرة الكلونية مؤسسات ضخمة لم تعد تُشبع الرغبات العارمة بحياةٍ أبسط، أقل مؤسساتية، وأكثر خلوة، وأقل انخراطًا في العمليات السياسية والاقتصادية بالمجتمع. ظهرت رغبات في العودة إلى الحياة الرهبانية الأصلية، خاصة الزهد والتقشف الشديدين. فقاد الأمر إلى العودة إلى الحياة التوحدية على نمط الحياة النسكية في الشرق.

قبل مطلع القرن الحادي عشر لم يحدث أبدًا أن احتل شخص الناسك المتوحد مكانة هامة في الحياة الديرية الغربية، مثل التي حظى بها في العالم المسيحي الشرقي. فالممارسات التقشفية الصعبة لم تكن من خصائص الحياة البندكتية ودستورها الأصلى أو حتي فى الأديرة الكلونية. كانت العودة إلى الزهد والتقشف بمثابة ثورة صامتة أمام مظاهر الترف التي كانت تغلف  سماء الكنيسة فى ذلك الوقت. انسحب الكثيرون  فى قلالى منعزلة وتجمع الباقون فى جماعات ديرية استطاعت أن تطرح تناقضات قوية مع الحياة البندكتية السائدة. كانت ردة الفعل على المفاسد والتجاوزات في ذلك الزمن. فقد شعر المسيحيون داخل الحياة الديرية وخارجها بالحاجة إلى التوبة والهرب من العالم. فلم يكن أمرًا غير اعتيادي أن يتركوا أديرتهم ويصيروا متوحدين، ولا غير اعتيادي لأساقفة أن يتخلوا عن أبرشياتهم ليصيروا رهبانًا. وفي بعض الأحيان أزواج وزوجات انفصلوا بالاتفاق المتبادل، وكل طرفٍ ترك العالم من أجل الحياة الحبيسة والنسكية. ومَن لم يعتنقوا الحياة الرهبانية، ويشعرون دومًا بالحاجة إلى الزهد، يستطيعون الهروب من العالم مؤقتًا فيفرضون العزلة على أنفسهم، أو الحج، أو يبقون في البيت ويمارسون جلد الجسد.

بطرس دميانوُلد في العام 988 ودرس في راﭬينا والتحق بأحد أديرتها وصار رئيسًا له في العام 1044، وحين نال رتبة الكاردينال، كرس باقي حياته للإصلاح الأكثر ضرورة في الكنيسة. وشملت نشاطاته ثلاثة مجالاتٍ مميزة: إصلاح الكهنة الأبرشيين، وتجديد الحياة الرهبانية وتقويم العلاقات بين الكنيسة والدولة. كان نظامه لإصلاح الحياة الرهبانية صارمًا إلى درجة القسوة، فألح على الممارسات النسكية القاسية لبلوغ كمال المحبة والحكمة الإلهية. فدافع عن استعمال جلدالجسد وإماتات أخرى جسدية. وبالإضافة إلى الوفاء لصوات الفرض والسهر الليلي للصلاة، فكر في أن يفرض على الرهبان صومًا شبه مستمر، والتزاما بالفقر الصارم. كان مفهومه للحياة الرهبانية هو الانفصال عن العالم والتركيز على أمور الله وحياة التوبة والصلاة.

أما إصلاح الكنهة الإبرشيين فقد كافح الفساد الجنسي، وجهل الكنهة الرعويين، وتصحيح المفاسد السيمونية معتمدًا على تقديم الحجج اللاهوتية المستمدة من الكتاب المقدس والآباء والتشريعات الكنسية.

الكامالدوليس: فقد أسس القدس روموالد الكامالدوليس نظامه في العام 1010، وشجع على حياة التوحد الصارم. اتبع روموالد قوانين القديس بندكتوس بعد تكييفها مع الحياة التوحدية. كان يتم اختبار الراغب في التوحد لعدة أيام ثم يبرز المتوحد نذر الثبات. وبعدها يُقادُ إلى منسكه الخاصة، ويلبس الثوب الذي سيرتديه بعد أن يغلقه الأباتي. يقضي الناسك يومه في الصلاة، والقراءة، وجلد الجسد والسجود ترافقهما تلاوة صلواتٍ خاصة. وتم الإلحاح على الاعتدال الشديد في ممارسات التوبة، وعلى أن تُقاس بحسب قدرة الجسد على التحمل والاحتياج الشخصي إليها أو إلهامات النعمة.

كان للمنسك نافذتان أحداهما للمناولة، ويمكن أن يكون للمتوحد معبد يكرسه الأسقف من أجل الاحتفال الفردي بالقداس.

الكرتوسيّون: أسس القديس برونو من كولونيا (توفى في العام 1101) الرهبنة الكرتوسية في وادي الكرتوس La Chartreuse بالقرب من غرونوبل في العام 1084، وأمّن لأعضائها الحياة الحبيسة التي تُشبه نمط حياة المتوحدين المصريين. فالكرتوسيون ينقطعون تمامًا عن العالم، واهتمامهم الوحيد هو تنمية اتصالٍ مباشر وفوري مع الله والحفاظ عليه. البعد الجماعي للحياة الرهبانية في الدير الكرتوسي ضعيف جدًا، قائم فقط على الصلاة الليتورجية الجماعية. المسكن يُدعى “المنسكة” أو “البيت الكرتوسي”، لا الدير. استعمال جلد الجسد وأدوات التوبة الأخرى مسموح، بموجب إذنٍ من الأباتي. ويتم تأمين كل ما يحتاج الكرتوسي إليه لأجل صحته وعمله وصلاته، فلا يحتاج إلى مغادرة قلايته لأيّ حاجةٍ كانت. وكل شيء في الحياة منظم لأجل العزلة والصلاة. يقضي المتوحد وقته في الدراسة المتأنية للكتاب المقدس وتركيز كل القوى فيها. والتأمل في نصوصه بالعمل على انشغال الفكر الشخص لمعرفة الحقيقة المخفية. ثم الصلاة هي التفات القلب التقي إلى الله للابتعاد عما هو شر في العالم. وفي المشاهد التأملية يكون العقل مرتفعًا بطريقةٍ ما نحو الله، ويبقي فوق ذاته متذوقًا لأفراح اللقاء مع الله.

دير سيتو Citeaux: إن النمو الثالث للحياة الرهبانية في العصر الوسيط، والأكثر شعبيةً، هو الرهبنة السيسترسية التي أسسها القديس إستيفان هاردينغ بمنطقة سيتو Citeaux في العام 1098. وسرعان ماجذب دير سيتو البارزين من الشباب ذى الميول الكنيسة القوية، فأنتشرت الرهبنة السيسترسية بفضل القديس برنردوس إلى أن وصلت إلى 343 ديرًا، التي وضع لها قوانين صارمة، وتغطي أوربا كلها وتصل إلى البلقان وحتى الأراضي المقدسة.

نجح السيسترسيون في تكييف الحياة الرهبانية مع احتياجات الزمن من خلال أقلمة القيم الدائمة للحياة الديرية مع الظروف المتغيرة وهذا هو سبب الأزدهار الكبير لهذه الرهبنة إلى اليوم. قلل السيسترسيون من الإضافات الليتورجيا، وحصروا النشاطات بعمليات النسخ، وعادوا إلى العمل اليدوي، وهذا ما ميزهم عن رهبان كلوني. كان الانفصال عن العالم عند السيسترسيين كاملاً مثل رهبان الشرق، لذلك فكروا في إبعاد أماكن أديرتهم أكثر عن أماكن السكن، والمحافظة الصارمة على الحصن. ولكي يحافظوا على خشوعهم التأملي، نبذوا كل أنواع الرسالة والوظائف الكهنوتية، وحافظوا على الصمت الدائم، وتفادوا تكديس الثروات. أما وصية المحبة للقريب فكانت قاصرة على الحياة الجماعية للرهبان أنفسهم. كان أسلوب حياتهم يختلف  بشكل قوى عن النموذج البندكتى فقد ارتدى الرهبان المسوح الابيض بدلا من المسوح الأسود الخاص بالبندكتيين.

أعتبر السيسترسيون أنفسهم حجاجًا على طريق السماء، ولكي يحفظوا أنفسهم على الدوام متهيئين لمجيئ المسيح، يجردون ذواتهم قدر المستطاع من الاهتمامات الدنيوية والتعلقات. توغلَ السيسترسيين في الغابات والمناطق الغير مأهولة لرغبتهم في تجنب الامتيازات التي خضعت لها الأديرة البندكتية والتخلي عن الممتلكات التي تشجع، في نظرهم، على الترف والخمول الروحي وتحول دون عيش القيم الإنجيلية عامة ونذر الفقر خاصة. لذا تخطي الفقر بالنسية إلى السيستريين التجرد الداخلي الداخلي وانتزاع روح التملك، إلى منهج حياة يُعيد الحياة الرهبانية إلى بساطتها التي كانت عليها. جعلوا من العمل اليدوي ركنًا أساسيًا للحياة، فرغبوا في أن يكونوا “رهبانًا حقًا” من خلال العمل اليدوي، الذي خفت مع الرهبنة البندكتية التي أعتمدت على النسخ والعمل الذهني كأساس للحياة.

إلا أن التاريخ قد دار دورته، فقد سقط السيسترسيان  فيما قد سبق  وأن إنتقدوه، فقد تولوا قيادة  الانسحاب الديرى من العالم، ولكن العالم تبعهم ولم يكن بمقدورهم أن يقاموا اغراءاته.  فقد تأسست الأديرة فى بادئ الأمر في الغابات والمناطق الغير مأهولة، ولكن بحلول سنة 1200 صارت تلك المناطق من أكثر بقاع أوربا ازدهارًا وأصبح الرهبان من أبرز ملاك الأراضي. لقد أصبح السيسترسيان مبدعين في إنتاج المواد الغذائية كالخبز والجبن. فكونت الكثير من الأديرة لنفسها رؤوس أموال كبيرة واستخدمه رؤساء هذه الأديرة في إقراض المال لأصحاب الأراضي ورجال الكنيسة الفقراء . فوصلوا بذلك إلى فساد المتاجرة والربا. ولم يستطيع دير سيتو التحكم فى الأمور بسبب ضخامة عدد الديرة السيسترسيّة وتباعد أماكنها فتهاوى بسرعة نظام الحياة هذا بسبب غياب الإدارة المركزية وتسرب الكثيرين صفوف الرهبان ممن خانوا المثل الديرية التى أرساها مئسسو النظام فى البداية، الأ أن هذا النظام قد فتح الطريق أمام تطور آخر في الحياة المكرسة وهو ظهور الرهبان المتجولين الذين أعلوا من شأن الفقر الإنجيلي وحياة التخلى لأجل ملكوت السموات.

القديس برنردوس: أبرز عناصر الرهبنة السيسترسية هو القديس برنردوس الذي يُعد أكثر الشخصيات تأثيرًا فى الكنيسة في ذلك العصر وأكبر عقلية دينية فى القرن الثانى عشر. ظهر القديس برنردوس في وقت تنامى فيه القلق داخل الكنيسة من تزايد حظر الإسلام على أوربا المسيحية. وكان له دور كبير فى تجديد الحياة داخل الكنيسة بصفة عامة، والحياة الرهبانية بصفة خاصة. فقد انشأ ستة وستين ديرًا وأعطى دفعة كبيرة لإصلاح أحوال الرهبان بالاهتمام  بدارسة وتأمل الكتاب المقدس. أسهم أيضاً إصلاح الاكليروس ودعا الأساقفة إلى مزيد من الفقر والإهتمام بالفقراء. ووضع حدًا للانشقاق داخل الكنيسة من خلال الدفاع عن حقوق البابا إينوقنطيوس الثاني ضد أناكليطس الثاني الذي ادّعى البابوية، وأعلن حججه ضد هرطقة أبيلار الذي أدانته الكنيسة لاحقًا، ووعظ فى الحملة الصلبية الثانية (1146). وكانت جميع تعاليمه تنصب على وحدة الكنيسة وإمكانية توحيدها فى مسيحية واحدة.

ترك لنا القديس برنردوس الكثير من المؤلفات الروحية التي استحق أن يوصف بأنه “أخر الآباء” العظام في تاريخ الحياة الرهبانية. وتمحورت عقيدته الروحية حول المسيح، فالمسيحي كامل بمقدار ما يستوعب سرّ المسيح وهذا يتم فقط بالمشاركة في حياة الكنيسة العقائدية والأسرارية والليتورجية، لأن الكتاب المقدس، الذي يكشف سرّ المسيح، يُفهم حقًا في الكنيسة ومن خلالها. كانت تعاليمه النسكية واقعية. نقطة انطلاقه هي التواضع الذي هو أساسًا ثمرة المعرفة الذاتية التي تكشف للإنسان حالته الخاطئة. ويشرح بعدها القديس برنردوس علم نفس النسك، ويبين فيه أن إرادة الإنسان الحرة هي مفتاح للاهتداء والتقدم في الكمال الروحي. فسواء تكلم على درجات التواضع التي ينبغي للنفس أن تمر منها في تغلبها على الخطيئة، أو درجات الحب التي تميل النفس إليها أخيرًا في اتحادٍ صوفيٍ مع الله، فإن الأولوية التي يتم الإلحاح عليها معطاة على الدوام لإرادة الإنسان، حتى وإن كانت لا تنفصل أبدًا عن الفكر والذاكرة[2].

قدم برنردوس لاهوتًا تصوفيًا للنمو في محبة الله عند تفسيره لنشيد الأناشيد أثر كثيرًا على اللاهوت الروحي للكنيسة فيما بعد. فقد شبه المسيح بالعريس والكنيسة أو النفس الفردية بالعروس. في البداية يكون حب المسيح حسيًا أو جسديًا، إنه يركز على إنسانية المسيح وعلى أحداث الحياة الأرضية. وعلى الرغم من أن حب المسيح في إنسانيته هو هبة عظيمة من الروح القدس، ولكنه يظل حبًا جسديًا بالمقارنة مع الحب الآخر الذي لا يرتبط كثيرًا بالكلمة الذي صار بشرًا، بالكلمة الحكمة، الكلمة العادلة والمقدسة. ثم يأتي الحب الروحي الذي يتخطى إنسانية المسيح ليركز على ألوهيته: “فمَنِ الْتَصَقَ بِالرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ” (1 كورنثوس 6: 17). وحين تتمرس النفس على الحب الروحي، تدخل في الاتحاد الصوفي، إذا دعاها الله، وتصير عروس الكلمة، إنها تعقد زواجًا روحيًا مع الكلمة وتتوافق توافقًا تامًا مع المشيئة الإلهية. فيّكفَ الإنسان عن حب ذاته تمامًا ويُحب الله وتكون صلاته الوحيدة: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. من خلال علاقة الحب هذه تنبع الرسالة، فهي ثمرة الحب وفيض من حياةٍ داخلية تُعاش في الصلاة. فمن نالوا هبة الحب الإلهي قادرون على فهم لغته، ويردون عليه بأعمال المحبة والرحمة. يلحّ برنردوس على واجب الرسول هو التركيز أولا على تقديس نفسه قبل تكريس نفسه لتقديس الآخرين وأعطى القديس ملاحظات عملية للخدمة الرعوية من هذا المنطلق.

[1] إلا إن الأمر كان سلاحً ذو حدين، فقد صار الرهبان يكرسون ساعاتٍ أكثر فأكثر للنسخ، وأهملوا أكثر فأكثر العمل اليدوي. قاد الأمر أخيرًا إلى الاستعانة بالعلمانيين الذي أوكل الرهبان إليهم العمل اليدوي وصيانة الدير.

[2] W. Yeomans, St. Bernard of Clairvaux, in «STC», 1964, p. 117.

قد يعجبك ايضا
اترك رد